ماذا كان يريد رجال السلطة في تلك الأيام؟
إنهم كانوا يطلبون طاعة الناس للحاكم بما هو حاكم كأمر واقع لا أكثر من ذلك. وقد أشرنا سابقاً إلى أن الاُمويين لم تكن تحدوهم رغبة جامحة في إضفاء منـزلة دينية عليهم، لأنهم كانوا في غنى عنها ولا يستأنسون بها، وإذا كانوا ينتهزون الدوافع الدينية في بعض الأحيان فلتعزيز سلطتهم الدنيوية وليس موقعهم الديني كخلفاء للمسلمين، على عكس بني العباس الذين كانوا يطمحون إلى كسب مكانة دينية لتثبيت سلطانهم الدنيوي([1]).
والحال كهذه، ما هو العامل الذي يستطيع أن يحقّق هذا الهدف ويحثّ الاُمّة على الطاعة المطلقة غير المقيدة بشروط؟
كانت مسألة القضاء والقدر أفضل وسيلة يتشبث بها الاُمويون بلحاظ الأرضية النفسية والثقافية والسوابق التاريخية، ذلك أن عرب الجاهلية كانوا يؤمنون إيماناً راسخاً بالتقدير والمصير، ويعتقدون بأن حياة الإنسان ومصيره خارج اختياره وإرادته، وأن الأحداث التي تمر به تنشأ عما هو مقدر له مسبقاً مما لا دور له في تغيير مسارها.
وكما كانت هذه الفكرة شائعة عند البدو فإنها كانت رائجة أيضاً بين قريش وسكان مكة، بل يمكن تفسير عبادتهم للأصنام من خلال هذه الفكرة، فقد كانوا يعتقدون بآلهة متعددة ويتقربون إليها ويقدمون إليها القرابين لإيمانهم بتأثيرها في حياتهم، وأنها تتدخل مباشرة في جميع أحداث الحياة من الولادة حتى الوفاة: من تعيين جنس المولود، والجفاف والتجارة والربح والغلبة في الحروب والانكسار فيها والمرض والفقر وغيرها دون أن يكون للإنسان أية إرادة فيها([2]).
إنّ الثنوية والاعتقاد بالآلهة المتعددة يتناقض مع الإيمان بالحرية ومسؤولية الإنسان، إذ لا معنى لهذه الحرية إذا كانت قوى ماورائية اُخرى تتحكّم بكلّ مقدّرات الانسان، فلا يمكنه أن يكون حراً إلا حينما يستطيع أن يحدد مصيره بنفسه أو على الأقل أن يحدد بعض مصيره بنفسه، وإلا فسوف لم يبقَ للحرية مفهوم ومحتوى لو سارت مقدرات الإنسان وتحدّد مصيره على يد آلهة مستقلة.
على أية حال، كان الفكر الجبري شائعاً ومسيطراً على المجتمع الجاهلي، وقد هاجمه القرآن الكريم وانتقده بشدة لأنه يعمل على مسخ الإنسان، وهو انتقاد انطوى على عدة أهداف:
أولها: إبطال هذه الفكرة الخاطئة، فقد كان الوهم الجاهلي الأحمق هو الذي جعلهم بأن يعتقدوا بعدة آلهة.
وثانيها: إحياء الضمير الإنساني وحسّ المسؤولية في الإنسان الذي كان يرى في نفسه مسلوب الإرادة، مغلوب على أمره، لا يتورع عن كل دناءة، ويسعى إزاء الضغط النفسي الذي يتعرض له جرّاء ممارساته إلى التقرب من الآلهة لنيل الفلاح لا إلى إصلاح النفس، فحينما لا ترتهن سعادة الإنسان وشقاؤه بعمله وتتحقق بإرادة الآلهة والأصنام فإنّ أي امرئ سوف لا يستطيع المبادرة إلى إصلاح ذاته لنيل السعادة ولا يتشبث إلا بهذه الأصنام.
وثالثها: تحطيم الاُسس الاعتقادية والفكرية لسيادة ما يسمّون بالأشراف العتاة الذين لا تهمهم إلا المادة والهيمنة على المجتمع. فلم يكن السيف وإنما خرافات الجبر هي التي تمنح الحاكم مكانته في المجتمع الجاهلي في تلك الفترة. وكان مجتمع الجزيرة العربية يوم ذاك مجتمعاً طائفياً مشتّتاً لا تنفع معه قوة السيف في فرض الطاعة عليه، وكانت مكانة المتسلطين الفاسدين الجائرين على المجتمع تنبع من جهل الناس وعصبيتهم لا من ضعفهم وعجزهم، ولهذا كانوا وإلى اللحظة الأخيرة من أكثر الأعداء حقداً على رسول الله 9، ولم يطأطئوا له بتاتاً، وحينما أسلموا طمعاً أو خوفاً فإنهم كانوا يتحينون الفرص للأخذ بالثأر، وهكذا فعلوا تحت مظلّة الاُمويين.
الحقّ أنّ الاعتقاد بالتوحيد بالشكل الذي أبانته الأديان الإلهية وخاصة الإسلام يحتاج لإدراكه وفهمه – رغم كونه أمراً فطرياً – إلى الحد الأدنى من النضج العقلي والفكري، وإذا ما عدم المرء هذا الحد الأدنى فإنّه لا يستطيع أن يفهم بأن الله بيده ملكوت كل شيء، وما العوامل التي يتصورها الإنسان بأنها مؤثرة في حياته إلا وسائل مادية وغير مادية في هذا العالم الواسع مخلوقة لله تعالى وتحت طاعته. ولا بد من القول بأنّ عرب الجاهلية كانوا يفتقرون إلى هذا الحد الأدنى من النضج الفكري والعقلي؛ ذلك أن البيئة الحياتية والاجتماعية والخلفية التاريخية والثقافية لهم كانت بعيدة عن التغيرات التي تؤدي إلى مثل هذا النضج.
وقد قلنا بأنهم كانوا لا يحملون تصوراً واضحاً لمفهوم العلّية، ورغم معرفتهم المجملة به لكنّهم كانوا عاجزين عن اكتشاف العلاقة بين العوامل المختلفة، ولهذا انتشرت بين صفوفهم الخرافات والطيرة والكهانة بأسْفَهِ صورها. ولا ننكر أن الخرافات تعشعش في كل قوم وشعب، لكن الذي كان سائداً بين عرب الجاهلية أكثر من مجرد خرافات ناشئة عن الحاجات الروحية والنفسية المكبوتة أو غير المكبوتة، بل كانت ناجمة عن البلاهة والسفاهة وتعطيل العقل. ومن المناسب هنا أن ننقل جانباً من الوصف الدقيق لأحمد أمين حول الحياة العقلية للعرب في الفترة الجاهلية:
«... في مثل هذا الطور الذي كانت تمر به العرب في الجاهلية يتجلى ضعف التعليل، أعني عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلّة والمعلول والسبب والمسبب فهماً تاماً. يمرض أحدهم ويألم من مرضه فيصفون له علاجاً، فيفهم نوعاً ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره؛ لهذا لا يرى عقله بأساً من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي الكلب، أو أن سبب المرض روح شرِّير حلَّ فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجّسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى، إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئاً من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول.
هذا الضعف في التعليل هو الذي يشرح لنا ما ملئت به كتب الأدب من خرافات وأساطير كانت العرب تعتقدها في جاهليتها... وهذا يعلّل لنا التجاءهم في تعرّف الحوادث الماضية والمستقبلة إلى الكهانة والعرافة وزجر الطير والعيافة...
نعم، كل اُمة فيها مخرّفوها مهما رقيت ومهما تفلسفت، ولكنّ كتب الأدب العربي تدلنا على أن هذه العقائد كانت عقائد الشعب عامة لا أفراد شواذ، وأن الكهانة وأمثالها تكاد تكون نظاماً مقرراً لكل قبيلة من قبائلهم.
قد نجد في بيت من الشعر الجاهلي أو في مَثَل من أمثالهم أو قصة من قصصهم فكرة راقية، وربطاً للأسباب والمسببات، ولكن حتى هذه يعوزها العمق في التفكير، كما يعوزها الشرح والتعليل. جاء في سيرة ابن هشام: أنّ حيّاً من ثقيف فزعوا للرمي بالنجوم، فجاؤوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن اُمية أحد بني علاج – وكان أدهى العرب وأمكرها رأياً – فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟
قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طيّ الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوماً غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراده الله بهذا الخلق، فما هو؟»([3])
الغريب أن بعض العرب المعاصرين الذين ترعرعوا في ظل تراثهم القديم وحافظوا عليه يعتقدون بمثل هذه القضايا، ويتنفسون في مثل هذه الأجواء، فقد كتبت الصحافة قبل مدة أن شيخ الإفتاء في العربية السعودية عبد العزيز بن باز أخرج شيطاناً من باطن أحد العرب ثم أسلم الشيطان على يديه!([4])
ما هو جدير بالتأمّل والملاحظة هنا هو أن أكبر عالم دين في بلد ولمذهب يعتقد بأنه المذهب الوحيد الذي يتجسد فيه الإسلام الخالص والأصيل الذي يماثل إسلام السلف الصالح البعيد عن الشوائب والخرافات والتزوير يفكر وفي هذا العصر بمثل هذه الطريقة، ويقوم بنفسه بإخراج هذا الشيطان ثم يدعوه للإسلام فيعتنقه! والأهم من ذلك أن صحافة البلد تتطرق إلى هذا الأمر دون أي تردد، وبلا أي وجل من استهزاء الآخرين وسخريتهم لإيمانهم العميق به وبأفكاره.
لأهمية الفهم الصحيح للخصائص الفكرية والذهنية لعرب الجاهلية في الإحاطة بهذا المبحث وغيره من البحوث المطروحة، فإننا سننقل فقرة اُخرى من كتاب أمين في وصف تلك المرحلة:
«فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني مثلاً، لقد ألقى اليوناني – أول ما تفلسف – نظرة عامة على العالم، فساءل نفسه: كيف برز هذا العالم إلى الوجود؟ إني أرى هذا العالم جم التغير كثير التقلب! أفَلَيس وراء هذه التغيرات أساس واحد ثابت؟ وإذا كان فما هو، الماء أم الهواء أم النار؟ وأرى العالم كله كالشيء الواحد يتصل بعضه ببعض وهو خاضع لقوانين ثابتة، فما هذا النظام؟ وكيف نشأ؟ وممَّ وجد؟
هذه الأسئلة وأمثالها وجَّهها اليوناني إلى نفسه فكانت أساس فلسفته ومبناها كلها النظرة الشاملة. أما العربي فلم يتجه نظره هذا الاتجاه، ولا بعد الإسلام، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظراً خاصاً أعجبه تحرك له وجاش صدره بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل.
فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لاُسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي، وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه. فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه (الفوتوغرافيا)، إنما يكون كالنحلة يطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كلٍّ رشفة.
هذه الخاصة في العقل العربي هي السرّ الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب – حتى في العصور الإسلامية – من نقص، وما ترى فيه من جمال»([5]).
يوضح الشهرستاني هذه المسألة بشكل آخر ويقول: «الصنف الثاني حكماء العرب وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمتهم فلتات الطبع وخطر الفكر... العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد... والمقاربة بين الاُمّتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع. وإنّ الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفية الأشياء، والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاكتساب والجهد»([6]).
يقول أحمد أمين قبل الفقرة أعلاه التي ثبَّتها في كتابه: «لاحظ بعض المستشرقين أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك».
في مثل هذه البيئة ينمو وينتشر المذهب الجبري بصورة طبيعية دون أن يستلزم الأمر إلى من يقوم بنشره وإشاعته؛ ذلك أن أي فكر سوى الفكر الجبري لا يحالفه حظ التقدم والتأثير على مثل هذه الأرضية، فقد تبلور التكوين الذهني والنفسي للناس بشكل أضحى يخضع لكل شيء منـزوع من الدليل والبرهان، وهذا هو سبب انتصار الأشاعرة وأهل الحديث وأنصار الجبر وتخطئة العقل، وعلل ذلك اجتماعية ونفسية وثقافية وتربوية قبل أن تكون سياسية، فقد حققوا انتصارهم النهائي في وقت كانت السلطة السياسية تعاني من الضعف والتشتت، ولم يأتِ هذا الانتصار بدعم من القدرة الحاكمة أو السلطة الإعلامية والدينية لها، وبالتالي فإن المجتمع الذي كان يستهويه الجبر تغلّب على أنصار العقل والإرادة والحرية وليس الحكام المروِّجين لهذه الفكرة.
لكن هذا لا يعني بأن الجبرية كانت في الفترة الجاهلية مذهباً فلسفياً وكلامياً قائماً بحدّ ذاته ينطوي على اُسس ومبادئ منقحة ومدونة كما هو الحال في القرون التالية، بل كان عقيدة جماعية شاملة بحيث تبلور تحت تأثيرها التكوين النفسي والاعتقادي وحتى الاجتماعي والسياسي للعرب، ولابد من الإضافة هنا بأن هذه العقيدة انطمرت لفترة تحت الظروف الاجتماعية والسياسية التي جاء بها الإسلام أثناء عنفوانه وانتشاره، ولما توقفت الفتوحات الإسلامية ودخلت الشعوب والأقوام الاُخرى تحت لواء الدولة الجديدة تهيّأت الأرضية ثانية لعودة هذه العقيدة، لا سيما وأنه كانت للمسلمين الجدد في هذا المجال تجارب كثيرة وأفكار مدونة منتظمة، وتزامنت هذه العودة مع فترة سيطرة معاوية لتبدأ من هذه المرحلة بالذات بصورة جادة لوجود الأرضية اللازمة([7]).
هدأت الأوضاع وانتهت الفتوحات، ولا زالت التجربة المريرة لخلافة عثمان والإمام عليD والصراع بين المسلمين تُلقي بظلّها على الاُمّة، وفي غضون ذلك وجد أهل الكتاب والنحل المختلفة الفرصة مؤاتية لاستعادة مكانتهم في النظام الجديد والتبليغ لعقائدهم. والأهم من ذلك أن مجيء معاوية وبني اُمية إلى السلطة مَهّد لإحياء التراث الجاهلي بأفضل وجه ممكن؛ لأن طبيعتهم البدوية والجاهلية كانت تعيدهم إلى تلك الأيام فضلاً عن حاجتهم لمثل تلك العودة لفرض سلطتهم ومدِّ سلطانهم على الاُمّة، كما أن العرب في تلك الفترة كانت تتعلق بتلك المرحلة إلى حدّ العشق([8]).
أصبحت الأرضية ممهّدة ومن كل الجوانب لإحياء التراث الجاهلي، ولا سيما في مجال الفكر الجبري الذي احتلّ موقعاً متقدماً على الصعيد العملي حتى شمل كل المجتمع بمباركة من السلطة الحاكمة. وهو فكر كان سيحتلّ مكانه في تلك الفترة بلحاظ الظروف السائدة حتى وإن لم يعمد معاوية وبنو اُمية إلى تقديم الإسناد والدعم المنظم له، وحينما أصبح الإسناد ظهيراً للظرف سيطر هذا الفكر بشكل شامل، وارتدى زيّاً دينياً قرآنياً، وتحركت يد التزوير والتحريف والتفسير والتأويل لترسم من الإسلام والقرآن صورة منطبقة مع المبدأ الجبري، ولم يكن النقاش يدور حينذاك حول تأييد القرآن لهذا الفكر أو عدم تأييده، وإنما قيل: إنّه يمثل جوهر الإسلام والقرآن([9]).
فماذا ابتغى بنو اُمية من وراء ذلك؟ ولِمَ عملوا على نشر هذه الفكرة وإشاعتها؟
ذكرنا سابقاً أنهم كانوا يطمحون من الناس الطاعة والسكوت والتبعية دون أن يفتحوا فاهاً للنقد والاحتجاج والاعتراض على ممارساتهم وظلمهم، وضربهم للدين بعرض الحائط، وتجاوزهم للحدود الإلهية، واستيلائهم على بيت المال وإنفاقهم منه على أهوائهم ومجونهم وعدم وقوفهم بوجه تجاوزات ولاتهم. وكانوا يرغبون في فرض حكم مطلق دون أن يقف بوجههم حائل أو يمنعهم مانع ورادع، فقد أسكرتهم طبيعتهم البدوية وصفاتهم الجاهلية والثروة العظيمة والإمكانات الكثيرة والقدرة اللامتناهية والشهوة اللامحدودة وحقارة النفس إلى جانب الرغبة في الإشباع المطلق لها، ولم يعودوا يفكروا سوى بالاستجابة لميولهم وأهوائهم، فقد أصبحوا على رأس أكبر إمبراطورية بعد أن كان آباؤهم لا يطيقون رؤية أحمال عدد من الجمال وينظرون إليها بعين الحسد. ولم يكن هذا السلوك غير الطبيعي اللا معقول شيئاً غريباً بعيداً عن الانتظار([10]).
وكيف يتسنى للحاكم سواء كان خليفة أم قائداً أم والياً أن يحكم بمطلق الحرية مع تحديدات الضوابط الشرعية التي يعتقد بها الناس؟ فلم يكن المجتمع الإسلامي مجتمعاً جاهلياً خالياً من أي قانون وضابطة، وبالتالي فإنه لم يستطع أن ينقض الإسلام صراحة لأنه يستمد شرعيته منه، إذ كان بإمكانه أن يتجاهل القوانين دون أن يستطيع إنكارها.
وكان الحل الأفضل الذي لا يؤدي إلى إنكار الإسلام ولا يقف حجر عثرة في طريق حرية الحاكم وسلطته ونزواته هو الترويج للمذهب الجبري القائل بأن الإنسان كائن مجبور مسلوب الإرادة لا دخل له في تعيين مصيره، وأن مقدّراته بيد الله وكل ما يصيب الإنسان إنما يصيبه بمشيئة الله، أي أنه جرى الترويج لنفس الفكرة الجاهلية بلباس إسلامي واستبدال الآلهة المتعددة بإله واحد([11]).
على أساس هذا التفسير فإن كل ما يحصل للإنسان إنما يحصل له خارج نطاق إرادته وبمشيئة الله القادر المطلقة، سواء كان الحادث طبيعياً أم صادراً عن الحاكم والخليفة أم أي إنسان آخر، وهذا هو بيت القصيد، أي أن ما يصدر عن الحاكم هو تقدير إلهي يتحقق عن هذا الطريق لا يمكن تغييره والاعتراض عليه، كما أن وجود الحاكم نفسه هو تقدير إلهي لا يقبل التغيير والتبديل، فهو موجود لأن الله تعالى أراد ذلك، وبيده السلطة لأنه تعالى شاء ذلك([12]).
كمثال على ذلك لاحظ خطبة الخليفة العباسي الثاني المنصور في مكة في أحد أسفاره إليها: «أيّها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وتبصيره، وخازنه على فيئه أعمل فيه بمشيئته، واُقسّمه بإرادته، واُعطيه بإذنه، قد جعلني عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا إلى الله واسألوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم في كتابه، إذ يقول: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً( أن يوفقني للصواب والرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم»([13]).
وإليك مثالاً آخر من كلام لمعاوية مذكور في كتاب "أغراض السياسة في أعراض الرياسة" المشحون بمثل هذه الأمثلة: «نحن الزمان، مَن رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع». ثم يعقب المؤلف تأييداً وتوضيحاً للقول أعلاه فيقول: «تُنبئ هذه الكلمات عن علوِّ همته وكمال جلاله في ملوكيته وكمال التأييد الإلهي، والملوك في الحقيقة هم نوّاب الله وخلفاؤه وحكمهم نافذ على أموال الخلائق ورقابهم ودمائهم، ومن أراد الدرجة الشريفة والرتبة المنيفة عليه أن يرى وجوب طاعة الملك في عنقه ومطاوعته»([14]).
ويوضح محمود صبحي في كتابه "نظرية الإمامة" سياسة معاوية كالتالي:
«إن معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ولكن بأيديولوجية تمسّ العقيدة في الصميم، فلقد كان يعلن في الناس أن الخلافة بينه وبين عليٍّ قد احتكما فيها إلى الله، وقضى الله له على عليّ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خِيَرة في أمرهم، وهكذا كاد يستقر في أذهان المسلمين أن كل ما يأمر به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه قضاء من الله قد قدّر على العباد.
ولقد كان معاوية يعلن أثناء ولايته في عهد عثمان أن المال مال الله لا مال المسلمين ليحتجن هذه الأموال ويحتجزها لنفسه، كما كان يستند في إقامة ملكه إلى أيديولوجية مستمدة من نظرية التفويض الإلهي والحق الديني للملوك، وكان في ذلك تشويه، أي تشويه للسياسة الشرعية للمسلمين من حيث أراد أن يستغل الدين من أجل الملك ويخضع العقائد لأهواء الحاكم»([15]).
وقد نجح إعلام معاوية وأخلافه لأسباب كثيرة يعود أكثرها إلى توفر الأرضية الاجتماعية والفكرية والخلفية التاريخية والبنية الروحية لاُناس ذلك العهد، وأصبح الناس ينظرون إلى الاُمور والأحداث ويقيمونها حسب ما يشتهي اُولئك الحكام، ويمكن ملاحظة مثال واضح على هذه الطريقة من التفكير في رأي الحسن البصري بالحجاج بن يوسف، مع أنه (البصري) كان أكثر جرأة من فقهاء عصره ومحدّثيهم، حتى اعتبره المعتزلة منهم لأنه انتفض ضد الفكر الجبري الحاكم في زمانه، وكانت له مكاتبات مع عبد الملك والحجاج يردّ فيها على استشهادهما ببعض آيات القرآن الكريم لإثبات النظرية الجبرية([16]). وقد انتقد معاوية مراراً على أعماله([17]), لكنه رغم كل ذلك منع الناس من محاربة الحجاج الذي لم يتورع عن ارتكاب أية جريمة، باعتباره عقوبة إلهية لا يمكن دفعها بالسيف، أو بوصفه مصيبة إلهية ينبغي الصبر عليها حتى يحكم الله بينهم وبينه وهو خير الحاكمين([18])، مع أنه كان أفسق أهل زمانه حتى قال عنه: «لو جاءت كل اُمة بخبيثاتها ونحن جئنا بأبي محمد لغلبناهم»([19]).
أمثلة تاريخية:
من المناسب هنا أن نورد أمثلة تاريخية على هذا الطراز من التفكير، فبعد واقعة عاشوراء الدامية، وحينما اُدخل آل البيت كاُسارى على مجلس ابن زياد جرى حوار بين ابن زياد وبين العقيلة زينب J والإمام زين العابدين D يستحق التأمل لارتباطه بهذا البحث:
التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين وقال له: ما اسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين. فقال له: أو لم يقتل الله علياً؟
فقال السجاد D: كان لي أخ أكبر مني يسمى علياً قتله الناس.
فردّ عليه ابن زياد بأن الله قتله.
قال السجاد D: ]الله يتوفّى الأنفس حين موتها[ ]وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله.[
فكبُر على ابن زياد أن يردّ عليه فأمر أن تضرب عنقه([20]).
ولكن لم ينفذ هذا الأمر كما هو معلـوم بعد أن وقفت أمامه العقيلة زينب J.
وحصل حوار مماثل في مجلس يزيد، فقد التفت يزيد إلى السجاد D وقال: كيف رأيت صنع الله يا علي بأبيك الحسين؟ قال: رأيت ما قضاه الله عز وجلّ قبل أن يخلق السماوات والأرض! وشاور يزيد من كان حاضراً عنده في أمره فأشاروا عليه بقتله! فقال زين العابدين D: يا يزيد، لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار به جلساء فرعون عليه حين شاورهم في موسى وهارون فإنهم قالوا له: أرجِه وأخاه ولا يقتل الأدعياء أولاد الأنبياء وأبناءهم، فأمسك يزيد مطرقاً.
ومما دار بينهما من الكلام أن قال يزيد لعلي بن الحسين: )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (. قال علي بن الحسين: ما هذه فينا نزلت إنما نزل فينا: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ(، فنحن لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا([21]).
لقد أراد يزيد وابن زياد أن يوحيا بأن ما جرى على الإمام الحسين D وأصحابه كان مقدراً له من قبل الله وليس من قبل الحاكم الذي لم يكن إلا وسيلة لتحقيق المشيئة الإلهية! فلم يكن ليزيد وابن زياد وجيشه يد في استشهاد الإمام الحسين D، وإنما هو الله الذي قتلهم، ولكن لماذا؟ لسبب أعماله التي استحق عليها هذا الجزاء!
المهم في كل ذلك أن تبرأ ساحة الحاكم تماماً وتُلقى المسؤولية كلها على الله تعالى. وبهذا يحصل الحاكم على القدرة والحصانة المطلقة؛ لأن كل أعماله وسلوكه إنما هو تجَلٍّ للإرادة الإلهية الحقة، ولا يمكن تغييرها ونقدها. وكان هذا هو التفسير المثالي الذي يتبناه الحاكم الاُموي والذي يجعله غير مضطرٍّ إلى إنكار أصل الدين، كما أن عدم الإنكار هذا أن لا يقيد حركته، وبالتالي فهو كان يطمح إلى السلطة وحرية العمل والصلاحيات المطلقة لا إلى الوجهة الدينية، الأمر الذي يتيسر في مثل هذا التفسير.
وقد كان الحكم الاُموي يفكر ويحكم على هذا الأساس ويبلّغ له، وثمة أمثلة كثيرة من هذا القبيل تجدها في التاريخ الاُموي، فلما مات معاوية كتب يزيد إلى عامل المدينة: «أمّا بعد، فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً استخلفه الله على العباد، ومكّن له في البلاد، وكان من حادث قضاء الله جل ثناؤه...»([22]). وقال معاوية لمن اعترض على استخلافه ولده يزيد: «فإنما هو الملك يؤتيه الله من يشاء..»([23]).
واتبع الولاة أيضاً هذا الاُسلوب في الكلام والتبليغ، فقد خطب زياد بالناس يوماً فقال: «أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما وُلّينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم»([24]).
ويمكن ملاحظة مثال متكامل لهذا الطراز من التفكير في وصية يزيد بن عبد الملك التي كتبها في ولاية عهد ولديه([25]).
تزوير الحديث:
على أساس هذا الطور من التفكير وُضع عدد كبير من الأحاديث التي تصور ما يصدر عن الحاكم تقديراً إلهياً، وتدعو إلى عدم محاسبة الحاكم على عمله، فإن كان حسناً اكتسب الأجر وعلى الاُمّة الشكر، وإن كان سيئاً فعليه الوزر وعليها الصبر، وكذلك تدعو إلى عدم نقض البيعة للأمير من رأى منه مكروهاً، وإلا مات ميتة جاهلية، حتى نُسب إلى الرسول 9 قوله: ستكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنّون بسنتي، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب رجال شياطين في جُسمان إنسان. قال حذيفة: كيف أصنع إن أدركني ذلك؟ قال: اسمع الأمير الأعظم وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك. ونُسب إليه 9 أيضاً أنه قال: من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني. ومن أراد المزيد فليراجع كتاب الإمارة في كنـز العمال، حيث تدور معظم الأحاديث المنقولة في هذا الباب حول هذا الموضوع([26]).
وقد قلنا: إنّ الهدف الرئيسي لتزوير مثل هذه الأحاديث هو إشاعة الفكر الجبري الذي يبرر للحاكم وجوده وممارساته باعتبارها تقديراً إلهياً مكتوباً، إلا أنّ هذا القدر لم يقنع الحكام على ما يبدو لتعزيز سلطانهم، لهذا جرى وضع أحاديث كثيرة تؤكد على أن نقض البيعة حرام بأية صورة من الصور، وأن من لا توجد في عنقه بيعة لأمير مات ميتة جاهلية، وتدعو إلى الصلاة خلف كل أمير والانصياع لأوامره عادلاً كان أم فاجراً، وتمنع التعرض له بكلام سوء، وتحث على الاقتداء به في الصلاة حتى وإن تأخرت عن موعدها، وتكفّر من يفكر الوقوف بوجه الحاكم، وتأمر بضرب عنقه وقتل كل من يشق عصا المسلمين، وتطلب طاعة الأمير في كل الأحوال وعدم منازعته على سلطانه، وتشير إلى أن الله تعالى يذل أي قوم في الدنيا يريدون أن يذلوا سلطانهم، وأن من يدعو إلى نفسه بوجود الأمير يلعنه الله وتلعنه الملائكة والناس ويستحق القتل([27])!
لقد أراد الاُمويون بترويج فكرة الجبر إحاطة الحاكم بنوع من الحصانة ضد أي انتقاد أو تعرّض، والحق أنهم أفلحوا في هذا المسعى بعد أن بذلوا جهداً واسعاً في هذا السبيل، حتى قيل: «الجبر والتشبيه اُمويان، والعدل والتوحيد علويان». وقد وقف الأئمة الأطهار E ما استطاعوا بوجه الاتجاه الجبري الذي يشلّ المجتمع ويجمّد حركته، بيد أن هذا الاتجاه احتل مكانه لأسباب أشرنا إلى بعضها سلفاً، واصبح له دوراً أساسياً في بلورة نظرة أهل السنّة للحاكم، وهذا لا يعني بأنهم آمنوا فيما بعد بالتفسير الجبري، ولكن بما لا ينكر أن هذه النظرة ترعرعت تحت تأثير هذه الفكرة([28]).
وبالرغم من أن سلسلة الأحاديث هذه لا ترتبط مباشرة بموضوع الفكر الجبري الذي أشاعه الاُمويون إلا أنها تعتبر من تبعاته؛ لأنها ساعدت على انتشار هذا الفكر وتعزيزه، فالأحاديث التي تطرقت إلى المشيئة الإلهية في ممارسات الحاكم وأوامره وضعت الحاكم في موقع محصّن من الانتقاد دون الحاجة إلى إحاطته بمنـزلة دينية تمنحه مثل هذه الحصانة. ولم توضع الأحاديث التي تناولت وجوب طاعة الحاكم وحرمة نقض بيعته والخروج عليه إلا لتثبيت هذا الموقع.
من هذه الزاوية نظر عامة كبار فقهاء أهل السنّة ومحدّثيهم ومتكلميهم إلى الحاكم، وعلى هذا الأساس استندت آراؤهم بوجوب طاعته وحرمة مخالفته وحدود صلاحياته، ومنحوا الحاكم بما هو حاكم الشرعية، وأوجبوا طاعته دون أن يأخذوا بعين الاعتبار من يكون هذا الحاكم؟ وكيف استلم السلطة؟ وما هي عقائده؟ ونوع سلوكه؟ لأن وجوده وسلطانه هو أمر واقع بمشيئة الله([29]).
ووجد من بين كبار الفقهاء والعلماء والمتكلمين من سار على غير هذا المنحى، واشترطت نظرته إلى الحاكم بكونه متديناً وعادلاً وشجاعاً وسياسياً وكيِّساً وقرشياً ومجتهداً، إلا أن عدد هؤلاء العلماء كان قليلاً جداً انتهوا بمرور الأيام وانتهت معهم أفكارهم، مثلما انتهى المعتزلة وانطمرت أفكارهم وعقائدهم تحت الأفكار المتحجرة للأشاعرة والسلفية. وقد سطع هؤلاء الفقهاء والمتكلمون شأنهم شأن أقرانهم من المعتزلة في القرون الاُولى وفي خضمِّ فترة انفتاح الحضارة الإسلامية وعقلانيتها، لكنهم سرعان ما أفلوا إلى الأبد، ولم تلقَ أفكارهم أيّ اهتمام أثناء حياتهم وبعدها، ولم تتبدل إلى تيار فقهي وكلامي أو سياسي واجتماعي مستقل، ولم تؤثر في البنية الفكرية الدينية السياسية لأهل السنّة. أما الذي أمسك بزمام الاُمور وفرض سيطرته فهو الفكر العام الذي شكّل التاريخ الإسلامي، ولا يزال يمارس دوره بنشاط رغم كل التغييرات والتطورات التي طرأت على المجتمع.
العامل الآخر هو الفكر الذي ظهر أواسط الحكم الاُموي وانتشر بسرعة، ذلك هو الفكر الذي آمن به المرجئة. وتحتاج أية دراسة حول أسباب ظهور هذا الفكر وانتشاره إلى بحث مستقل بذاته، غير أن مما لاشك فيه هو أنّ ترحيب الاُمويين بهذا الفكر وسعيهم لنشره واستغلاله لصالح مطامعهم كان شديداً([30]).
يعتبر فكر الإرجاء ردّ فعل إزاء الفكر الخارجي المتشدد الذي كان يحاسب على كل صغيرة، ويكفِّر من يرتكبها، ويوجب عليه القتل، إذ انتهى هذا التشدد إلى نوع من الإباحية والاعتقاد بأن العمل لا يضر بالإيمان([31])، ولا يمكن تمييز الصالح من الطالح على أساس السلوك والعمل، فالمهم هو إيمان المرء وليس عمله الذي لا يمكن أن يُتخذ معياراً لتقويمه، وقد حملت هذه العقيدة في مطاويها محملاً دينياً لتسويغ أي نوع من التحلل والخلاف، ولهذا انسجمت مع التراث الجاهلي الذي كان باقياً على قوته ومسيطراً على الأذهان دون منازع ومع أهواء شريحة كبيرة من الناس في تلك الفترة([32]).
فمن خصائص الفترة الجاهلية: كراهية الناس لأي نوع من القيود والقوانين والضوابط، إذ كانت الثقافة الجاهلية ثقافة حرة غير مقيدة بقانون، وثقافة إباحية شهوانية متحللة. وكانت الظروف حينذاك تقتضي مثل هذه الثقافة التي ناقضها الإسلام من جميع جهاتها كما تدلّ على ذلك الدلائل والشواهد الموجودة. فرغم أن الدين الإسلامي استطاع أن يعمل على إجراء تغييرات مهمة، لكن الثقافة التي ربّت أبناءها على قيمها وخصوصياتها أقوى من أن تتراجع بهذه السرعة وتنسحب لصالح ندّها، إلا أنها لم تكن بتلك القوة التي تستطيع أن تفرض هيمنتها ثانية وتقضي على عدوها، وإنما استطاعت – على الأقل – أن تواصل حياتها متستّرة بلباس من الدين نفسه([33]).
إنّ الطبيعة الشهوية للأعراب، ورفضهم لأية حدود أو قيود، والإمكانيات الواسعة والثروة الطائلة التي انهمرت عليهم من الأراضي المفتوحة، والجواري الحسان والغلمان([34]) الذين وقعوا في أسرهم، وتعرّفهم على وسائل الترف واللهو التي كانت لا تخطر لهم على بال، كل هذه العوامل خلقت ظروفاً دفعت الناس للالتجاء إلى مستمسك يخفف عنهم وطأة ضغوط الباطن وتأنيب الضمير ويوفر لهم الغطاء الشرعي في ارتكاب ما يشتهون. والحق أن رغبة الناس في التحلل واتّباع الهوى في العهد الاُموي لم تكن أقل من بني اُمية أنفسهم (راجع كتاب الأغاني)([35]).
وفِكر كفكر الإرجاء كان مرغوباً به بسبب الظروف الاجتماعية والثقافية والعطش النفسي والطبيعة الجاهلية، ولهذا انهال عليه الكثير من الناس متلهّفين حينما دخل معترك الميدان الاجتماعي، وبالطبع فإن السلطة الاُموية لم يَسؤْها دخول هذا التيار لسببين : الأول: لانسجامه مع أهوائها وميولها، وحينما تتجه الاُمّة نحو الإباحية والتحلل واللهو تجاوز القيود الأخلاقية والدينية فلن يعد بإمكانها أن تتعرض للسلطة بالنقد. الثاني: أن انتشار فكرة تجزئة العمل عن الإيمان وعدم الإضرار به يمنح السلطة الاُموية الحصانة التي تطلبها، فلا ضير أن يتصف الحاكم أو ولاته بالفسق والفجور ويتعدى الحدود ويعاقر الخمر طالما لم يتضرر إيمانه من عمله، هذا العمل الذي لا يخرجه عن دينه ولا يؤثر في منـزلته الإيمانية والمعنوية! فيستطيع الحاكم وبسهولة أن يرد على منتقديه ويكمّ أفواههم أمام الرأي العام؛ لأن غاية ما يتوسل به المنتقدون هو الطعن في إيمان الحاكم وتقواه بسبب الممارسات التي يرتكبها مما يسلبه صلاحية خلافة الاُمّة([36]).
مهما يكن من أمر فقد حظي هذا الفكر بتأييد الاُمويين وتشجيعهم، ولعب دوراً مهماً في إضفاء الشرعية على الحاكم ومنحه الحصانة من الانتقادات ولا سيما في المرحلة الثانية للعهد الاُموي. وبطبيعة الحال هناك –كما ذكرنا – عوامل اُخرى نتجاوز عن الخوض فيها.
(3) يوضح غولدتسيهر تأثيرات إجراءات العباسيين في بلورة التكوين الفقهي والكلامي والحديثي للمسلمين، وتعزيز مواقعهم:
Goldziher, Muslim Studies, Vol II,pp.75-77.
(2) السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث:95. يعتبر هذا المصنف الذي كتبه أحد أكبر العلماء المتفتحين وأشهرهم (محمد الغزالي) أفضل مثال لتوضيح الاختلاف بين فهم الكاتب ومن يفكر على نمطه للإسلام وفهم العلماء السلفيين والوهابيين له، وهذه الملاحظة تضفي على الكتاب أهمية خاصة أكثر مما تضفيه بقية محتوياته، وضمّن المؤلف كتابه حواراً جرى بينه وبين أحد الطلبة السعوديين عندما كان يُدرّس في جامعة عبد العزيز بمكة حول حِلّية الغناء وحرمته:«... ثم أقبلت عليه بجدٍّ أقول له: إن الإسلام ليس ديناً إقليمياً لكم وحدكم، إنّ لكم فقهاً بدوياً ضيق النطاق! وعندما تضعونه مع الإسلام في كفة واحدة وتقولون: هذه الصفقة لا ينفصل أحدها عن الآخر فستطيش كفة الإسلام وينصرف الناس عنه. وهذا ظلم كبير لرسالات الله وهداياته!!»: ص75–76.
(1) حول التغلغل المؤثر لعلماء اليهود والنصارى لا سيما من قبل اُولئك الذين أعلنوا إسلامهم في أفكار ومعتقدات مسلمي الصدر الأول، راجع: الملل والنحل للاُستاذ السبحاني: 71–96. وعن اُسطورة حب معاوية وإشاعتها انظر مروج الذهب: 3/39.
حقيقة الأمر أن الذهنية البسيطة والثقافة الواطئة لعرب الصدر الأول، والأسئلة الكثيرة التي اُثيرت في أذهانهم بمجيء الإسلام وتماسهم مع مختلف الأقوام والشعوب، والطبيعة الحساسة لعلماء أهل الكتاب وهالة الاحترام التي تحيطهم منذ العصر الجاهلي، كل هذه العوامل وفّرت أفضل أرضية لتغلغلهم بين المسلمين. ينتبه ابن خلدون إلى هذا الأمر ويشير إليه بذكاء وهو يتحدث عن تفاسير القرآن، ويقول: «...وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يُعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين، وقد جمع المتقدمون في ذلك واوعوا، إلا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسمين والمقبول والمردود، والسبب في ذلك: أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والاُميّة، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء ما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حِميَر الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبارٌ موقوفة عليهم وليست مما يرجع على الأحكام فتتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعُد صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتُلُقِّيت بالقبول من يومئذ...». مقدمة ابن خلدون :440.
انظر أيضاً: Goldziher, Muslim Studies, vol II,pp.152-159.
(1) حينما سُئل بعض الصحابة عما يدور بينهم في بعض مجالسهم، أجاب بأنهم ينشدون الشعر، ويسردون قصص الجاهلية. انظر: فجر الإسلام:95 وفي هذا دلالة على ارتباط مسلمي الصدر الأول العميق بتراثهم الجاهلي، وثمة أمثلة كثيرة يمكن الاستشهاد بها في هذا المضمار.
(2) أشار الإمام علي D في خطب عديدة إلى الظروف المعاشية العسيرة التي مرّ بها عرب الجاهلية، انظر كمثال خطبته بعد انتخاب عثمان برواية كنـز العمال: 5/718، وصف فيها معاشر العرب أضيق الاُمم معاشاً وأهشّهم رياشاً أي لباساً. وانظر خطبة اُخرى له D في كتاب الغارات: 1/302.
(2) يوضح علي عبد الرازق هذه القضية بصورة جلية ويقول: «إن الذي يستقرئ عبارات القوم المتصلة بهذا الموضوع يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج أن للمسلمين في ذلك مذهبين: المذهب الأول: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته. ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضاً. وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة. وقد رأيت فيما نقلنا لك آنفاً أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبا جعفر المنصور زعم أنما هو سلطان الله في أرضه. وكذلك شاع هذا الرأي وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الاُولى. فتراهم يذهبون دائماً إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة... ولقد كان في شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة مما سهّل على الشعراء أن يصلوا في مبالغتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية أو قريباً منها، حتى قال قائلهم:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار»
الإسلام واُصول الحكم: 117–118، انظر من :113–120. وراجع البحث الجيد لحسن حنفي في هذا الموضوع في كتاب من العقيدة إلى الثورة: 1/21–29.
(2) عن رأي المعتزلة في الحسن البصري واعتباره منهم انظر كتاب: باب ذكر المعتزلة لأحمد بن يحيى بن مرتضى: 12-15، وعن رسائله لعبد الملك والحجاج راجع: نفسه:12-14، وكذلك : الاُمويون والخلافة:36.
(4) لاحظ تفصيل القضية في: مقتل الحسين لعبد الرزاق المقرم: 422–423، وأيضاً: منتهى الآمال، الطبعة الحجرية: 1/362.
(1) لم تقتصر مواجهة الفكر الجبري في العهد الاُموي على الأئمة الطاهرين والمذهب الشيعي وحسب، إنما كانت هناك أيضاً أصوات احتجاجية تنطلق متفرقة من بعض الأحرار المستقلين الذين وقفوا بوجه النظام الحاكم لأسباب فكرية وسياسية ودينية وعارضوه أيديولوجيا، ومنهم: غيلان الدمشقي الذي قتله هشام مع اثنين من أنصاره، وغيره، انظر كتاب: باب ذكر المعتزلة: 5–23.
«كان غيلان كثير النقد لبني اُميّة، إذ كان ينكر نظريتهم في الخلافة، ويناهض استبدادهم بأمر المسلمين، ويجهر بمخالفتهم للكتاب والسنّة، ويُشهِّر باستعمالهم لأهل السوء والفساد، ويهتف بظلم عُمّالهم للناس. ويقال: إنّ هشام بن عبد الملك أمر بقتله وقطّعه تقطيعاً لأنه رفض قوله باستخلاف الله له، وندد بتصرفه في أموال المسلمين، ودعا الناس بأرمينة إلى الثورة عليه». الاُمويون والخلافة: 179.
حول غيلان وشخصيته وأفكاره وعاقبته انظر: الملل والنحل:127، وباب ذكر المعتزلة: 15-17، وفيه ذكر احتجاجه الجريء على إسراف الاُمويين حينما طلب من عمر بن عبد العزيز أن يجعله مسؤولاً عن بيع الخزائن وردّ المظالم. نفسه: 16.
وكان غيلان معروفاً في زمانه، إذ قال عنه الحسن البصري لمّا رآه في الحج: إنّه حجّة الله على أهل الشام. انظر: باب ذكر المعتزلة: 15.
(1) كمثال انظر عقائد ابن حنبل في هذا الباب في: الأئمة الأربعة: 4/119و120، وكذلك مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي: 429–462.
(1) تقول المرجئة: «لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وذهبت بعض فرقهم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له، والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن لا يضره ترك الطاعات وارتكاب المعاصي، ولا يعاقب عليها». راجع: الفكر السياسي الشيعي: 61، نقلاً من الجزء الثامن من شرح المواقف.
(3) للمزيد من الاطّلاع عن المرجئة والممهدات الاجتماعية والثقافية لظهور هذه الفرقة انظر: النظم الإسلامية: 143–149، و:فجر الإسلام: 279–282. وراجع الأحاديث في ذمها والقدرية في: السنّة لأحمد بن حنبل.
(2) قال رجل من أبناء المهاجرين: «أبناء هذه الأعاجم كأنهم نقبوا الجنة وخرجوا منها، وأولادنا كأنهم مساجر التنانير»، والمساجر جمع مسجرة، وهي الخشبة التي يقلّب بها الوقود في التنور فتسودُّ من كثرة الدخان. عيون الأخبار: 4/40.
(3) غير كتاب الأغاني، انظر مثلاً: ديوان أبي نؤاس. الغريب أن الغناء شاع في المدينة بشكل كبير، بحيث أخذ الكوفيون يصفونها بأنها مدينة الغناء والموسيقى في مقام الطعن بها، ولزوم تعلم الفقه في الكوفة وعند الحنفيين. كمثال راجع أشعار الهجاء الكوفية في: الأئمة الأربعة: 2و9و10. وقد انتشر الغناء في مكة والمدينة زمن يزيد. فجر الإسلام: 81. الطريف أن فرداً كالبربهاري – وهو من أعلام الحنابلة – ينقل عن عبد الله بن مبارك ويوصي بما ينقله عبارة يصف بها كل قوم بوصف معين يفهم منها انتشار التشيع في أهل الكوفة، والقدرية في أهل البصرة، والإرجاء في أهل خراسان، والصرف في أهل مكة، والغناء عند أهل المدينة. انظر طبقات الحنابلة:7.
(1) الحقّ أن الفسق والفجور والفساد انتشر بين الاُمويين وولاتهم بصورة فاحشة، بحيث أصبح من المتعذر استمرار حكمهم إلا باللجوء إلى السبل التي تبرِّئ ساحتهم وتبرر سلوكياتهم كإشاعة فكر الإرجاء مثلاً، وفيما يلي نذكر مثالين على ذلك:
كان يزيد بن عبد الملك بن مروان واُمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صاحب لهو ولذة، وقد تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز، وهو صاحب حبابة وسلاّمة، وهما جاريتان كان مشغوفاً بهما، وماتت حبابة فمات بعدها بيسير – قيل: بسبعة عشر يوماً– أسفاً عليها، وكان قد تركها أياماً لم يدفنها؛ لعدم استطاعته فراقها، فعوتب على ذلك فدفنها، ويقال: إنّه نبشها بعد الدفن حتى شاهدها. مآثر الإناقة في معالم الخلافة: 1/145–146.
وروى صاحب الأغاني «أن الحارث بن خالد المخزومي ولاه عبد الله بن مروان مكة، وكان الحارث يهوى عائشة بنت طلحة، فأرسلت إليه: أخِّر الصلاة حتى أفرغ من طوافي! فأمر المؤذِّنين فأخّروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه، فعزله». فجر الإسلام: 82، نقلاً عن الأغاني: 3/103. انظر أيضاً وصف أبي حمزة الخارجي ليزيد بن عبد الملك في خطبة له بمكة، فقد كشف عن فساده وإسرافه وعلاقته بحبابة وسلامة، في البيان والتبيين: 2/101.
وقد اضطرّ المتطرفون من أهل السنّة إلى تخطئة الكتاب والمؤلف لما فيه من فضح لفسق الخلفاء الاُمويين والعباسيين وفجورهم. من القدماء، انظر: العواصم من القواصم: 49–251، ومن المعاصرين: مؤلفات في الميزان: 100–103.