انزواء الشيعة ونتائجه:
من الضروري هنا أن ننبّه إلى ملاحظة اُخرى هي: أنّ الشيعة وخلافاً لأهل السنّة عاشوا على الدوام أقلّيّة منـزوية، إذ مثّلوا أقليّات متناثرة في مجتمعات أهل السنّة، وإذا ما كانوا أكثرية تمسك بزمام الاُمور في منطقة ما فلا يعدو كونهم كالجزيرة وسط مجتمعات الجوار من أهل السنّة، وقد أدى هذا الانطواء وخاصة بعد استلام السلاطين الشيعة للحكم في إيران إلى قطع الارتباط الفعال بين المجتمع الديني الإيراني والعالم الإسلامي، مما سبب بانغلاق هذا المجتمع على نفسه، وحينما بدأ التاريخ الجديد في البلاد الإسلامية ومنها إيران وسائر المناطق الشيعية ساعدت المقاومة السلبية للمجتمع الديني من أجل المحافظة على أصالته في تكريس ظاهرة الانكفاء على الذات([1]).
وتلاحظ هذه الظاهرة أيضاً في المجتمعات السنية ولكن ليس بعمق وجودها في المجتمعات الشيعية، ويمكن ملاحظة نتائج هذا الاختلاف بوضوح على الفكر الإسلامي والحركات السياسية والثقافية لكلا المذهبين، لا سيما على شريحة العلماء والمفكرين الذين حملوا رسالة الدفاع عن الإسلام في مناطق نفوذ المذهبين. ورغم أن الفكر الإسلامي الموجود في المناطق الشيعية أكثر أصالة ورسوخاً لدلائل عديدة إلا أنّ من اليقين بأن منهج التفكير السني أقرب إلى الواقع، فضلاً عن أن نسبة المفكرين العصريين بين صفوفهم أكثر من نسبتهم بين الشيعة.
ربما كان هذا هو السبب في الخلفية الطويلة للفكر الإصلاحي والتجديدي بين أهل السنّة، فحينما يقترن حفظ الأصالة مع الانطواء على الذات والحسرة على الماضي ونبذ كلّ ما هو جديد وغريب فلم يبق للإصلاح والتحول والتجدد مكاناً، وقد نشأت هذه الفكرة عن التجربة التاريخية للانزواء عند الشيعة والمجتمع الديني الشيعي قبل أن تكون نتيجة للمبادئ الدينية.
ثمة أسباب اُخرى لانطواء الشيعة في إيران على الأقل، فمثلاً عزّزت القطيعة بين المؤسسات والتشكيلات الدينية الشيعية والقدرة السياسية الحاكمة هذا الانزواء، هذا الانفصام الذي اقترن مع اتساع النفوذ الأجنبي والثقافة الجديدة أدّى إلى حصول المواجهة بينهما، وبالتالي إلى وقوع المواجهة بين المجتمع الديني والثقافة الجديدة التي لم تدخل إلى المجتمع بصورة مباشرة وإنما عن طريق السلطة الحاكمة وحاشيتها وأنصارها، لأن إيران لم يدخلها الاستعمار المباشر، ولمّا لم تُبدِ هذه الثقافة للإسلاميين غير وجه الاستعمار والاستغلال والفساد وسوء الظن رأوا أنّ السلامة تكمن في النأي تماماً عن هذه الثقافة، فعمدوا إلى الانغلاق والتقوقع من خلال الإعراض والابتعاد عن الضجة المحيطة بهم لحماية أنفسهم وأبنائهم، ويبدو أن أي إجراء غيره في مثل هذه الظروف لم يكن أمراً يسيراً ولا مفيداً([2]).
إلا أن العلاقة بين المجتمع السنّي والثقافة الجديدة لم تكن بهذه الصورة، فأولاً: احتكّ هذا المجتمع بالأفكار والتحولات التي واجهها النظام الحاكم للارتباط الوثيق بين الاثنين.
وثانياً: كان التعامل بين المجتمع السني والثقافة الجديدة تعاملاً مباشراً، إذ خضعت كل المناطق السنية من الهند حتى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للسلطة الاستعمارية فترة من الزمن، وبات الآباء يلاحظون خصائص المدنية الجديدة بجميع أبعادها في وجوه أبنائهم، أمّا رموز هذه المدنية في إيران فقد كانوا مبهورين بها منهزمين نفسياً أمامها لا يدرون ما هي؟ ولا يفكرون بالتعرف عليها، غاية الأمر أنهم تشبّثوا بها انهزاماً من القيود الأخلاقية والاجتماعية والدينية، وجعلوها أداة تميزهم عن عامة الناس([3]).
والخلاصة: لقد دخل المجتمع الشيعي والمجتمع السنّي التاريخ المعاصر بهيئتين مختلفتين تماماً، وتعاملا مع الفكر الجديد والمدنية الحديثة بصورتين متباينتين، وبدوره ترك هذا الفكر بصماته عليهما بصورة مختلفة، وورث كلّ منهما تجربة تختلف عن الآخر، مما يجعل من المستحيل دراسة الحالة الدينية لكلٍّ منهما، وخاصة دراسة وضع الحركات الإسلامية للمذهبين دون الاعتبار بهذه الملاحظة.
بلحاظ ما ذكرناه حول مبادئ الفكر السياسي للشيعة والسنّة حريّ بنا أن نتطرق إلى الحركات الإسلامية في كلا المجتمعين والاختلافات بينهما وأسبابها.
لم تواجه الحركة الإسلامية الشيعية مشكلة أيديولوجية، فالاُصول الاعتقادية والمبادئ الفقهية والتجربة التاريخية والتكوين النفسي والاجتماعي الناجم عن تلك الاُصول والمبادئ والتجربة لم تصطدم بإلزامات وضغوط التاريخ الجديد للبحث عن حلٍّ إسلامي للقيام بإجراءات سياسية وثورية. إذ كان بمقدور الشيعة وتحت قيادة علماء الدين الوقوف بوجه النظام الحاكم الجائر ومقاومته حتى إسقاطه بالاعتماد على اُسس أيديولوجيتهم. توافق هذا الحدث مع النتائج النفسية والثقافية والأخلاقية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتعاظمة في الدول الإسلامية المنتجة للنفط خلال العقود الأخيرة.
ولم يكن الأمر مجرد وجوب النهوض بوجه سلطة لا تهتم بالدين ولا تراعي حرمته وتعارضه، من أجل حمايته وحفظ قيمه، كما حصل قبل خمسين أو مائة عاماً مضت، فالحركات الدينية خلال القرن الأخير باستثناء العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة تأسست للوقوف بوجه السلطة الحاكمة لجرأتها على الدين وضربها بعرض الحائط المصالح الدينية والوطنية. الأهم من ذلك أن هذا الجهاد بغض النظر عن غايته النهائية انطوى على حقيقة موضوعية، فلم يكن مهماً للدفاع عن الدين الوقوف بوجه نظام الحكم الفاسد وتقويمه، هذه الحقيقة هي أن التطورات المختلفة والحضور الفعّال للفئات اليسارية واليمينية التي كانت تمارس نشاطات سياسية وثورية قد أوجدت أرضية فكرية ونفسية في نفوس الشبان المسلمين، حتى أصبح مجرد عرض اُطروحة ثورية تعتمد على المبادئ الإسلامية ضرورة لابد منها. ولم يكن بالإمكان إشباع النفوس الظامئة الميّالة إلى الدين والعدالة للشبان الذين كانوا يعانون من فراغ وجود أيديولوجية جهادية تدعو إلى تحقيق العدالة سوى عن هذا الطريق، وكان الظمأ يبلغ بهم مبلغاً يدفعهم للالتجاء إلى المدارس الاُخرى لو لم يجدوا العمل الأمثل في الإسلام، وكان الدين مضطراً لعرض أيديولوجيته الثورية والجهادية حفاظاً على أبنائه([4]).
وكانت الأيديولوجية الشيعية وتجربتها التاريخية قادرة على الاستجابة لهذه الحاجة، دون إجراء أي تغيير أو إصلاح على مبادئها، أو أن تلجأ إلى خرق الإجماع، أو تضطر إلى التشبّث بتفسيرات وتبريرات أوسع من حجمها الحقيقي، لا سيما وأن ملحمة عاشوراء راسخة في أفكار وأذهان وعواطف الشيعة، هذه الملحمة التي تحمل في طيّاتها وكل دقائقها نداءً إلى الشيعة، وإحياؤها إحياء لمبدأ ضرورة الوقوف بوجه النظام الفاسد والجائر مهما كان قوياً ومهما كانت التضحيات، حتى أصبحت هذه الملحمة أهم مصدر إلهام للاستهداء إلى السبل المناسبة لحلّ المشكلات التي واجهها الجيل الجديد للشيعة([5]).
أمّا بالنسبة لأهل السنّة فلم تكن القضية بهذه الصورة، فقد واجهوا ضغوط العصر الجديد والنفوس الطامحة للشبان التي تبحث عن حلول دينية سياسية ثورية، الأمر الذي لا يستطيع الفقه والكلام والتجربة التاريخية لدى أهل السنّة تلبية هذه الحاجات، بل كانت عملياً في المسار المعاكس لها. لهذا فإن المشكلة أصبحت ذات شِقّين: شِقّ نظري وأيديولوجي، وآخر عملي وتاريخي واجتماعي، فالأيديولوجية السنية لم تتجاوز – وهي في أقصى درجات ثوريتها والتزامها الديني – حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً تجاه السلطان المسلم، علماً بأنّ الشخصيات الحرّة الشجاعة من بين صفوف أهل السنّة لم تركع على طول التاريخ لرغبات السلطان، ولم تشترِ سخط الخالق برضا المخلوق، ولم تبع إيمانها بدنياها، ولم تبالِ بترغيب الحاكم وترهيبه ووقفت بصلابة أمامه وأمام رغباته، ونطقت الحق رغم أنف السلطان وتحمّلت في سبيل ذلك المشكلات والصعاب([6]).
هذا هو نمط الشخصيات الثائرة من أهل السنّة، إذ كانت تمتلك تلك القدرة الأخلاقية والروحية التي تستطيع أن تقف بها بوجه طلاب الدنيا، بيد أن أجيال العصر الجديد تحتاج إلى شخصيات تقف بوجه الحكم بدوافع دينية وتدعو الاُمّة إلى أهدافها، شخصيات كالإمام الحسين D وزيد بن علي وسائر الآمرين بالمعروف من الشخصيات المقدّسة عند الشيعة، وليس إلى أفراد كابن حنبل وسعيد بن المسيب وسائر المحدثين الذي تعرضوا في أيام المحنة إلى الضرب والإهانة لكنهم ثبتوا على عقائدهم ولم ينبسوا ببنت شفة([7]).
فقد كان إنكارهم للحاكم قلبياً أو لسانياً في أقصى الحالات – وقلما كان يحصل هذا الإنكار اللساني لو كان الهدف انتقاد الحاكم – وليس إنكاراً بالعمل لعدم تجويزه. وكما قلنا آنفاً فإن عدم قيامهم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من قبيل الاعتدال، وإنما ناجم عن عقيدة، ولهذا لم تؤثر تحولات العصر في تغيير هذا الموقف، وبقي الوقوف بوجه الحاكم المسلم وإشهار السيف ضده حتى وإن كان ظالماً جائراً فاسقاً ممنوعاً عند السنّة كمبدأ أساس في فكرهم السياسي([8]), في حين يتطلب العصر الجديد شيئاً على النقيض من هذا المبدأ.
لا يكمن سبب مواجهة الشبان السنّة وتصدّيهم للحكام الحاليين في أن هؤلاء الحكام أكثر ظلماً وفسوقاً ممن سبقهم، لكنما الظروف تغيرت اليوم عما كانت عليه سابقاً، فمواجهة الحاكم الظالم والفاسق في الماضي كانت ضرورة من ضرورات إقامة العدل وتحكيم الدين في المجتمع؛ لأنّ انحراف المجتمع ينشأ من انحراف الحاكم أولاً، وعدم وجود حاجة اجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية خاصّةٍ لعرض أيديولوجية ثورية أو مسلّحة تمنع خروج الشبّان من الدين ثانياً([9]).
أمّا في العصر الحاضر فقد اتخذت هذه القضية شكلاً آخر، وأصبح الحاكم اُلعوبة بيد القوى الدولية الكبرى أو على الأقل حليفاً لها يُنفِّذ ما تمليه عليه تلك القوى ليس إلا. أي: إن الحاكم في الماضي كان يمسك بزمام السلطة ويحكم حسب ميوله ومشتهياته، أما الآن فقد أصبحت السلطة الحقيقية في مكان آخر، ولم يعد القرار بيد الحاكم([10])،فضلاً عن ذلك تغيرت الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية تماماً، وأخذت كل مدرسة تطرح حلولها للأوضاع والمشاكل المعاشة، ولا يمكن للإسلام أن يتخلّف عن الركب، وكان لابد أن يطرح حلوله بما يتناسب مع الظروف والخصوصيات المعاشة، وأهمها: سخونة الحالة الثورية ورغبة التغيير عند الشبان، وهي خصائص لا تتوفر إلا في المجتمعات المدنية الكبيرة والصناعية المليئة بالتناقضات والنـزاعات لتتبدل إلى حاجة حقيقية([11]).
في مثل هذه الظروف لو لم يقدّم الإسلام حلوله المناسبة التي تقدر على منافسة الحلول المطروحة الاُخرى، لانتهى به الأمر إلى انحسار نفوذه، إذ لا يستطيع أي دين أن يحفظ حضوره الفعّال المؤثر إلا بتلبية حاجات محيطه والتعامل مع حقائقه، بل يمكن القول: إنّ حفظ المكانة المرموقة لأي دين مرهون بتعاطيه الفعال والخلاق مع مجموع ما يحيط به. ففي ظروف تدّعى كل مدرسة – حقاً أو باطلاً – بحرصها على إصلاح الوضع الموجود أو إزالته لصالح وضع أفضل فيتحلّق عدد كبير من الشبان حولها وحول أفكارها المطروحة، في مثل هذه الظروف لا يمكن للإسلام أن يقف مكتوف الأيدي مغلق الفاه، ولا يسمح الالتزام والغيرة الدينية بمثل هذا للمؤمنين من العلماء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين([12]).
سوى هذين العاملين ثمة عامل داخلي ثالث برز خلال العقود الأخيرة من الزمن، حيث تعرضت مظاهر الحياة الفردية والاجتماعية للتغيير، وكان من الطبيعي أن تتكيف الروح والشخصية والفكر والمُثل لهذا التغيير، تبعاً لذلك عاش الشاب المسلم في المرحلة المعاصرة بيئة تختلف كلياً عن بيئة آبائه وأجداده، فقد تركت التطورات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية الجديدة أثرها على روحه وشخصيته وذهنه وفكره وحساسيته وحاجته وهدفه وفهمه ووعيه، حتى أن فهمه الديني أصبح وهو في أقصى درجات الالتزام يختلف عن الفهم الديني للسلف، وبالتالي فإنه أصبح ابن زمن آخر وتجربة اُخرى وضرورة وحاجة اُخرى([13]).
وقد تجلّى هذا الاختلاف في الشخصية والروح والهدف بشكل أساسي في المباحث السياسية الدينية لأسباب تاريخية واجتماعية وسياسية. وتركز الاختلاف في الفهم الديني بين الجيلين القديم والجديد في اختلاف فهمهما للمباحث الدينية السياسية، إزاء هذا التطور لم يستطع الفكر الكلاسيكي لأهل السنة حتى في قمة تقدميته وحداثته أن يلبي حاجات العصر، ذلك أن هذا الفكر الكلاسيكي كان ينسجم مع ظروف أكلها الدهر، خاصة وأن هذا المبحث كان ينطوي على حساسية بالغة. ويستند الجزء الأعظم من الفكر السياسي لأهل السنّة على الإجماع، ولا يستطيع هذا المسند أن يصمد أمام شكوك وانتقادات الجيل الجديد، وقد حصل هذا بالفعل وانهار عملياً الكثير من اُصوله المفروضة والموضوعة([14]).
مهما يكن من أمر فإن هذه العوامل في المجموع ولّدت هذه الحاجة والإلزامات الجديدة، وأصبحت المشكلة الرئيسية تكمن في تعارضها مع الفكر والتراث الماضي، فمن مجموعة فقهية وكلامية وحتى تاريخية وحديثية واسعة لا تبيح تضعيف الحاكم على الأقل يراد استخراج حلٍّ يدعو لمواجهته! حيث أراد أهل السنّة الوقوف بوجه الحاكم لأول مرة في تاريخهم مقروناً بالحجية والإلزام الديني من خلال التنقيب في أمثلة تاريخية ماضية وفتاوى الفقهاء للاستعانة بها في تسويغ هذا التحرك وإضفاء الشرعية عليه، وهو أمر مستحيل. فكانت الحاجة حقيقية وماسة في حين كانت الاُسس الاعتقادية والتجارب التاريخية تتقاطع مع هذه الحاجة، وقد أدى هذا الطريق المغلق إلى التفكير بنظريات وحلول لا سابقة لها وبعيدة عن وحدة الاعتقاد والإجماع المتفق عليه عند أهل السنّة، من النظريات المطروحة في كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" إلى الأفكار المتطرفة لجماعة مصطفى شكري "التكفير والهجرة"، ومن كتاب عبد السلام فرج "الفريضة الغائبة" حتى مصنف العتيبـي "الإمارة والطاعة والبيعة".
ومن غير المعلوم أيّ من هذه النظريات سيتمخّض عنها المستقبل؛ لأنها لا تستند على مبادئ خاصة لكي نستطيع على ضوئها التنبّؤ بمستقبلها، وما يحدد مصيرها ويبلورها نوع الظروف ومستوى الضغوط التي تمارس بحثاً عن طريق حلٍّ جهادي، وكذلك الذهنية التي ينطلق منها من يفكر بمشكلاته. فتارة يُبذل الجهد باتجاه فرض مواجهة مع المجتمع من خلال وصفه بالجاهلية، واُخرى باتجاه أسلمة المجتمع من خلال أقلية مختارة منكفئة على نفسها مهاجرة من مجتمعها عبر التمسك ببعض الحالات من تاريخ الرسول 9 والصدر الأول، وثالثة باتجاه إثبات لزوم مقارعة المجتمع الموجود من خلال التشبث بفتوى لابن تيمية، رغم كون المجتمع إسلامياً لا يمكن تكفيره لكنه يخضع لسلطة الطاغوت وقوانين النظام الطاغوتي، ورابعة باتجاه إسقاط شرعية الحاكم وضرورة مواجهته بسبب نقض شروط البيعة من قبل الحاكم([15]).
يُلاحظ هنا تعدد الاتجاهات رغم الهدف الواحد، دون أن يجمع هذه الاتجاهات أدنى تماثل، وهو أفضل دليل على ما ذهبنا إليه. فلغياب الحلّ الصريح والقاطع أمام الضغط المتزايد الذي لا يمكن امتصاصه وتعديله أخذ كلٌّ يبحث عن مفرٍّ دون أن ينظر إلى المسألة بتمامها. إن الاستناد على عدة آيات وروايات وأمثلة من التاريخ لطرح نظرية بهذا الشأن يؤدي إلى أن تُنقض هذه النظريات بنظريات اُخرى تستند أيضاً على أمثلة من القرآن والسنّة والتاريخ. إذن فأية دراسة حول الإسلام لا تأخذ بالاعتبار اُصوله ومبادئه وروحه وتمامه ولا تنسجم مع اُسسه بمجموعها فهي دراسة خاطئة لا يمكن الاطمئنان لها والاعتماد عليها ولا يكتب لها الاستمرار، الأمر الذي تعود إليه مشكلة هؤلاء المنظِّرين ونظرياتهم([16]). ولهذا تجتذب هذه النظريات لفترة من الزمن عدداً من الشبان لينفضّوا من حولها بعد مدة، ولإلقاء المزيد من الضوء على هذا الموضوع نشير إلى خلفية هذه الأفكار والاتجاهات طوال التاريخ الجديد.
تعود خلفية السعي لتأسيس الحكومة الإسلامية عند أهل السنّة إلى فترة سقوط الخلافة العثمانية، فمنذ الأيام الاُولى لانتشار الإسلام وحتى سقوط الخلافة العثمانية كانت القوانين الإسلامية هي الحاكمة عملياً في المناطق الإسلامية، والأهم من ذلك أن وجود الخليفة في العهود المختلفة طوال التاريخ الإسلامي كان يمثل سنداً دينياً ومعنوياً كبيراً يمنح المسلمين الاستقرار ويطمئنهم بأن المعايير الإسلامية حاكمة في جميع أبعاد حياتهم، وأنهم عاملون بتكليفهم.
وعلى حد تعبير السيوطي فإنه لم تمرَّ على المسلمين فترة دون خليفة سوى سنوات ثلاث([17])، وهي فترة قصيرة، أمّا التاريخ الإسلامي وإلى قبل سقوط الخلافة العثمانية فقد شهد وجود الخليفة في جميع أدواره سوى الفترة المذكورة، وهذا بدوره ينفي فكرة عدم وجود واستقرار الحكم الإسلامي لكي يُبادر إلى تأسيسها. فضلاً عن ذلك فإن وجود الخليفة يلبي حاجة الوجوب الشرعي لهذا الوجود وطاعته ومبايعته، لأن أهل السنّة يعتقدون بلزوم البيعة لخليفة أو إمام في عنق كلِّ مسلم، وإلا مات ميتة جاهلية([18]).
القضية هنا لم تكن تبعية سياسية، وإنما نوع من الطاعة والبيعة الدينية، بمعنى أن الوجوب لم يكن يمتدّ إلى السلطة السياسية للخليفة، فمنذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي دبَّ الضعف والانحطاط إلى جسد الخلافة، ولم يعد أكثر المسلمين يخضعون لسيطرة الخليفة المستقر في اسطنبول، بل لم يعد الخليفة نفسه الأقوى والأقدر الذي يمكن أن يُفتخر به، لكن انحسار السيطرة السياسية لم يتبعه انحسار في السلطة الدينية حيث ظلت مكانته الدينية مُعترف بها من قبل المسلمين الذين كانوا يعملون بفريضتهم الكبرى من خلال البيعة والطاعة له([19]).
سقوط الخلافة:
سقطت الخلافة العثمانية عام (1924م) على يد تركية الفتاة بشكل غير متوقع، وأحسّ المسلمون في كل مكان بفقدان السند وتعطيل إحدى أهم الفرائض الإلهية، ولم يكن يدور بخلدهم أنهم يستطيعون أن يجمعوا بين الالتزام الديني والعزّ مع عدم وجود الخليفة، ولمعرفة هذا الإحساس الذي أثاره سقوط العثمانيين راجع مثلاً أشعار أمير الشعراء آنذاك أحمد شوقي([20]).
ومن المناسب هنا أن نذكر جانباً من التغيرات التي طرأت على العالم الإسلامي ومصر على الخصوص جرّاء إلغاء الخلافة:
«من الأحداث المعروفة والشهيرة بمصر في ذلك التاريخ ذلك المؤتمر الدائم الذي اُقيم باسم (المؤتمر الإسلامي العام للخلافة) والذي أصدر مجلة (الخلافة الإسلامية) كي تدعو لدعوته الرامية إلى مبايعة أحد الملوك والاُمراء بخلافة المسلمين»([21]).
وغير نشاط مؤتمر الخلافة ومجلّته أخذت الكثير من الأوساط والعديد من المجلات في التركيز على الأبحاث الدينية الخاصة بالخلافة والإمامة في الإسلام، وبلغ ذلك حدَّ إصدار الفتاوى التي توحي بل تقطع بأن صفة الإسلام قد زالت عن المجتمعات الإسلامية وشعوبها بإلغاء "أتاتورك" لمنصب الخلافة العثمانية, وأنّ كلّ المسلمين آثمون حتى يبايعوا خليفة آخر، وأن آثار هذا الإثم ستحلّ بهم عقاباً في الدنيا، وذلك فضلاً عن عقاب الله لهم يوم القيامة.. وأنهم قد عادوا بسبب ذهاب منصب الخلافة اُمة "جاهلية"، من مات منها مات ميتة جاهلية.. فتنشر العديد من المجلات والمقالات والفتاوى في هذه المعاني، وبهذه الألفاظ، وتتحدث عن أن: «نصب الإمام واجب في الملّة في هذا الزمان، كغيره، وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم عليه بقدر طاقتهم، ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم، وسيعاقبون في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وحده.. إنّ الجماعة التي اُمرنا باتّباعها لا تسمّى جماعة المسلمين إلا إذا كان لهم إمام بايعته باختيارها.. إن إمام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية، ويجب عليهم أن يكونوا قوة وشوكة له بمقتضى مبايعتهم له...»([22]).
دفع سقوط الخلافة ببعض المفكرين والعلماء المسلمين لاستنهاض الاُمّة لإحياء الخلافة بـ"قدر ما تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان"([23]). لكنها كانت مساعي فاشلة لأسباب كثيرة. فإحياء الخلافة في العهود السابقة كان يتمّ بقرار المسلمين، الأمر الذي اختلف بعد سقوط العثمانيين؛ لأن القرار لم يعد كلّه بيد الاُمّة، حيث تغلغل الأجانب في صفوفها حتى أصبحوا يشكّلون ثقلاً كبيراً في قرارها.
مضافاً لذلك فقد ظهر جيل من المثقفين على الطراز الجديد متبوّئين مراكز اجتماعية وسياسية حساسة، هذا الجيل كان يفكر على طريقة "تركيا الفتاة" فلم يكن يرغب بعودة الخلافة، بل أخذ يعارضها ما أمكن. ومن أبناء هذا الجيل السياسي والكاتب والصحفي المصري المعروف محمد حسين هيكل الذي دافع عن أفكار عبد الرازق الذي نشر كتابه بعد سقوط الخلافة مباشرة وهاجم منتقديه، وانتقد بشدة الساعين لإحيائها، يقول: «.. وماذا تقول في عالم من علماء الإسلام يريد أن لا يكون للمسلمين خليفة في وقت يطمح فيه كل ملك من ملوك المسلمين وكل أمير من أمرائهم في أن يكون خليفة؟»([24]).
ويقول اسميث في هذا الشأن وهو يبحث في العلاقة بين الإسلام وتحولات مصر في المرحلة المعاصرة على ضوء سيرة محمد حسين هيكل: «وقع الجميع تحت تأثير الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تتبلور في مصر حينذاك، وخضع الجميع بدرجات مختلفة لتأثير الإجراءات التي كانت تتمّ على يد مفكّري عقد العشرينات وتستهدف تحديد الإسلام وسلطة الشخصيات الإسلامية، وتجلّت هذه الإجراءات في كتاب عبد الرازق "الإسلام واُصول الحكم" وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"»([25]).
على أية حال فشلت الجهود الجبارة التي بذلها الكثير من المعتقدين بالوجوب الشرعي للخلافة، وانتهت الخلافة ولم تثمر المساعي لإحيائها عن نتيجة، وأذعن المسلمون رغماً عنهم بعدم إمكانية إحياء الخلافة ثانية، رغم أن حكام بعض المناطق الإسلامية آنذاك حدّثوا أنفسهم بالترشيح لهذا المنصب، لكنها أحلام سرعان ما تبددت وانتهت في عالم النسيان([26]).
إلى جانب اُفول هذا التيار ظهر تيار جديد يبشّر بفكرة الحكومة الإسلامية، وهي فكرة اعتبرها الكثير من العلماء والمثقفين الإسلاميين استمراراً للخلافة الإسلامية([27]). ولم تكن هذه الفكرة تعني شيئاً قبل سقوط الخلافة، فرغم فجور الخلفاء والسلاطين وفسقهم إلا أنهم لم يقفوا بوجه الدين بالشكل الذي كان رائجاً بين الناس، بل إنّ مصالحهم كانت تقتضي في الكثير من الحالات ترويجه وإشاعته، كما أنه لم يكن يقف بوجه الحقيقة الدينية للمجتمع أي عامل خارجي أو داخلي مهمّ، وكان كل شيء منسجم ومكيّف مع الدين والتراث الديني بشكل من الأشكال.
لكن الاُمور تغيرت تماماً في التاريخ الجديد، وحلّت ظروف جديدة كنتيجة للتحولات العلمية والفكرية والصناعية، وانفتاح المجتمع الديني المغلق، والتخلف، والهيمنة الشاملة للأجانب، وتبعية الحكام والمتسلطين وأصحاب النفوذ المباشرة أو غير المباشرة للمستعمرين، وتعرض الدين إلى هجوم وضغوط من الجهات كافة. ولم تكن القضية مجرد انهيار الخلافة العثمانية كآخر مظهر اجتماعي وسياسي ونظامي لإسلامية المجتمع الإسلامي، بل الأهم من ذلك أنّ الأوضاع تغيرت تماماً وأحسّ المسلمون بحقٍّ أنهم أصبحوا اُلعوبة بيد الأحداث([28]).
في مثل هذه الظروف اتجهت الأنظار نحو مفردة جديدة هي الحكومة الإسلامية، الجديد فيها ظهورها بالشكل الذي حصل أواسط القرن الحاضر وتجلّيها على صورة هدف ديني سياسي.
استقطب هذا الموضوع وبسرعة أنصاراً كثيرين من مختلف الفئات بالشكل الذي تحول إلى أهم شعار سياسي رفعته المجتمعات الإسلامية. في غضون ذلك وقعت أحداث كثيرة اُخرى ساعدت على انتشار هذا التيار وتعميمه([29]).
إلى جانب ظهور هذا التيار تسارعت عملية اختراق القوانين الغربية للبلدان الإسلامية دون أن تكون لذلك علاقة بإلغاء الخلافة، فإن القوانين الغربية وبفرض استمرار الخلافة العثمانية كانت ستتوغّل إلى البلدان الإسلامية بل إلى عقر دار الخلافة تركيا، كما حصل شيء من ذلك بالفعل، إذ أدت إلى هذا الاختراق مجموعة الظروف التي سادت آنذاك، وليس سقوط الخلافة العثمانية كما تصور البعض([30]).
في هذه المرحلة انكفأ المسلمون إلى داخل مجتمعاتهم الإسلامية المغلقة، وسلكوا طريق المقاومة السلبية بسبب سرعة التطورات وضغوط الزمان والتخلف الذي كانوا عليه. أما معارضو الدين ومنكروه ودعاة الثقافة الغربية وقوانينها ونظام قيمها فقد انفردوا عملياً في الميدان وأصبحوا أبطاله دون منازع ومعارض، ولم يستطع أي أحد أن يقف بوجه الموجة الجديدة وروّادها([31]).
في مثل هذه الأوضاع كان من الطبيعي أن يتأثر النظام القانوني والحقوقي للمجتمعات الإسلامية، بل وحتى دساتيرها بالقوانين الغربية. ذلك أن أول ما يحوم في الذهن في فترة دخول البلدان الإسلامية إلى التاريخ الجديد الذي اقترن بانتشار الأفكار والميول المطالبة بالتحرر هو تدوين القوانين والدساتير، وهل هناك مصدر سوى الغرب يمكن الاقتباس منه في مثل تلك الظروف؟([32])
للمزيد من التوضيح نقول: إنّ المسلمين عانوا وعلى طول تاريخهم من استبداد الحكام وجورهم، هذا الاستبداد الذي يعزّز خصّيصة مهمة ألا وهي انتهاك القانون وعدم الخضوع لأية ضابطة.. في هذا الجوّ الملبّد بدأت التحولات الجديدة وتفتحت العيون والآذان، وشعر المسلمون فجأة أنهم يعيشون أسوأ الظروف السياسية والاجتماعية وغاية الانحطاط والتخلف، وهو إحساس لعب المثقفون الجدد دوراً في إثارته. فبنتيجة المقارنة الظاهرية بين مجتمعاتهم والمجتمعات المتطورة توصلوا إلى حصيلة مفادها: أن تخلفهم يعود إلى الاستبداد السياسي الحاكم، وهذا بدوره يكمن في غياب نظام قانوني وحقوقي، ولهذا أطلقوا شعارات التحرر من الاستبداد واعتقدوا أن السبيل الوحيد المؤدي إليها هو تدوين الدستور والقوانين. إذن المشكلة برأيهم تمتدّ جذورها في السلطة الاستبدادية وفقدان الحرية، والقانون هو العلاج الوحيد لحل هذه المشكلة، وبالطبع فإن العلاج الشافي هو القانون الذي يستمد روحه من القوانين الغربية([33])!
ولعلّ هذا الاختيار كان أحد أسوأ الاختيارات التي واجهتها المجتمعات الإسلامية وخلّف وراءه أعراضاً متعددة. ولسنا هنا بصدد بيان السبب، إنما الإشارة إلى سيل القوانين الجديدة التي انهمرت فجأة دون أن تتوفر لها الأرضية الخصبة، في حين لم يكن المسلمون يعانون نقصاً في هذا المجال ليس بشكل قوانين مدونة، وإنما مصادرها من الفقه والتعاليم الإسلامية التي كان بمقدورها أن تلبي الحاجة وتسد الثغرة كما حصل في بعض البلدان الإسلامية([34]).
على أية حال فقد بدأت أول تجربة جادة للتاريخ الجديد في الدول الإسلامية عن طريق تحديث النظام الحقوقي والقانوني، وهي حادثة حصلت – كما قلنا – في غياب المسلمين المؤمنين الملتزمين، ذلك لأن هذه الشريحة من المجتمع كانت تعيش آنذاك نوعاً من الحذر والهلع تاركة الميدان خالياً، وأدركت لمّا عاد إليها اتّزانها أنّ عليها أن تستسلم للقوانين الجديدة التي كانت تعارض في الكثير من الحالات مبادئها الدينية.
من المناسب هنا أن نقتبس جانباً من آراء ويليام شيفرد حول كيفية دخول المسلمين للتاريخ المعاصر، حيث يقول: «حلّت تغييرات على قادة المجتمعات الإسلامية لأول مرّة عن طريق الأحداث العسكرية من فتوحات الإنجليز في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في الهند وهزائم العثمانيين أمام روسيا في حروب (1768– 1774)، رغم أن معرفة العثمانيين بالتفوق العسكري الغربي دفعهم للقيام بإجراءات محدودة لتغريب مجتمعهم أوائل هذا القرن، حيث كانت القضايا العسكرية هي التي أدت إلى اُولى جهود الإصلاح في الإمبراطورية العثمانية، ولكن حيثما بدأت هذه الإصلاحات لم تستطع البقاء ضمن الحدود التي اختارها لها القادة»([35]).
ويضيف قائلاً: «لو أن الإلهيات المسيحية كانت بصدد اكتشاف طبيعة الإله وأفعاله في هذا العالم، فإن الفقهاء المسلمين كانوا بصدد فهم الإرادة الإلهية والقوانين والشريعة الإلهية التي تعرّف المسؤوليات السلوكية لكل البشر. لهذا السبب انحصرت جهود التحديث بشكل رئيسي في المجالات الحقوقية والاجتماعية والسياسية أكثر من معالجتها للقضايا المتعلقة بالإلهيات. ولا يُلاحظ في العالم الإسلامي شبيهاً لتلك الشكوك الكبيرة التي أثارتها الدارونية في العالم الغربي رغم أن التصوير الذي بيّنه القرآن حول الخلقة مشابهاً لما في الكتاب المقدس»([36]).
من هذه النقطة تحديداً تعقد نطفة أيديولوجية الحركات الإسلامية عند أهل السنّة، فقد ذكرنا سابقاً بأن التكوين الفقهي والكلامي والتجارب التاريخية لأهل السنّة لم تكن تبيح الوقوف بوجه الحاكم المسلم المتظاهر بالإسلام، وغاية ما كانت تبيحه عدم الاستسلام له قلباً، والابتعاد عنه و عدم خدمته، أو الاعتراض عليه والتنبيه على بدعه وجوره وانحرافه كحدٍّ أقصى،ولكن لم يكن مسموحاً – لأسباب مختلفة – الوقوف بوجه الحكم والحاكم واتخاذ إجراء سياسي أو عسكري ضده. من هذه الزاوية بقيت مشكلة الاعتراض على النظام الحاكم مستعصية الحلّ، وفي المرحلة الجديدة فُتح باب جديد بشأن الاعتراض على الحاكم بعد أن حلّت القوانين غير الإسلامية وحكمت في المجتمع، انتفعت منه جميع الحركات الدينية السنية المعاصرة، وفتح لها طريقاً جديداً وهبها الحياة([37]).
يرى أهل السنّة أن القوانين غير الإسلامية لا مكان لها في المجتمع الإسلامي، وعلى الجميع أن يتقبل القوانين الإسلامية التي ينبغي أن تكون الحاكمة في المجتمع، وأن السعي في هذا السبيل فريضة كبرى لا نقاش فيها ولا تخضع للتغير والتبدل، وهذا هو المفهوم الذي اتخذ فيما بعد عنوان "تطبيق الشريعة"، واستقطب أفكار الشريحة الملتزمة الثائرة من أهل السنّة، وأصبح الدافع لتأسيس الحركات وفعاليتها([38]).
لقد وُجدت الحركات الإسلامية والأصيلة السنية خلال نصف القرن الأخير بهذا الدافع والهدف، إذ ترى أن الحكومة الإسلامية تعني الحكومة التي تسري فيها القوانين الإسلامية، وعلى هذا الأساس تعني الأسلمة: تحكيم القوانين الإسلامية في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية، وهذه الفكرة إصلاحية في ذاتها وليست ثورية، أي أنها غير موجّهة ضد النظام الحاكم وإنما ضد القوانين الموجودة، تستهدف تغيير هذه القوانين وليس الحاكم الذي إن استجاب لمثل هذا الطلب أصبح مطاعاً، وإذا وقف إلى جانب هذه القوانين وأراد الدفاع عنها على حساب الاُمّة ومبادئها فمن الممكن أن تصدر الفتاوى ضده لتدعو إلى مواجهته([39]).
فالأصل إذن هو أسلمة المجتمع عن طريق أسلمة نظامه القانوني والحقوقي، وليس أسلمته بطريق تغيير السلطة السياسية، أي المهم أن يخضع الحاكم لمثل هذا التغيير، والأفضل أن يبادر بنفسه إلى ذلك. من هذا المنظور تحظى بعض الأنظمة المعاصرة بالقبول، كالسعودية، وبعض الأنظمة الاُخرى التي نادت بتطبيق الشريعة في ذروة الصحوة الإسلامية في الثمانينات، كنظام ضياء الحق في باكستان، والنميري في السودان، والسادات إلى حدٍّ ما في مصر، والكثير من دول الخليج([40]).
بالطبع فإن هذه الطريقة من التفكير كانت تُعدّ طريقة ثورية رغم كونها إصلاحية في ذاتها خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة حينما كانت القوانين غير الإسلامية تبسط نفوذها في كل مكان، إلا أن هذا الاُسلوب لم يعد يلبي حاجة الشبان في الوقت الراهن الذي تغيرت فيه الظروف كلياً كما تغيرت نفوس الشبان وأهدافهم وشعاراتهم الدينية، فهم يطالبون بالخروج من هذه الدائرة المحدودة إلى نطاق أوسع بكثير، ويدعون إلى تحكيم القيم الإسلامية في جميع الأبعاد، وليس تحكيم قوانين الإسلام في ظواهر الحياة الاجتماعية الأمر الذي تتبنّاه عملية تطبيق الشريعة. عند هذه النقطة تواجه الحركة الإسلامية السنية طريقاً مغلقاً، ولا تستطيع النافذة الوحيدة التي فتحتها الفترة المعاصرة في الفكر الفقهي والكلامي السني أن تلبي سعة حاجات الجيل الحاضر([41]).
وبسبب هذه القيود اتجه مفكّرو الحركة الإسلامية الجديدة من سيد قطب إلى العتيبـي وعبد السلام فرج نحو تفسيرات غريبة عن الاُصول والاعتقادات والإجماع المتفق عليه عند أهل السنّة، فقد سعى هؤلاء المفكرون في البحث عن شواهد من القرآن والسنّة وفتاوى بعض العلماء الماضين وعلى رأسهم ابن تيمية وابن قيّم لطرح أيديولوجية تستطيع إضفاء الشرعية على مواجهة النظام الحاكم والنظام القائم بالفعل بل وجعلها مُلزمة واجبة. ولو نظر كبار علماء السنّة إلى هذه الأفكار والنظريات من زاوية الشك وشبّهوا أصحابها وأنصارها بالخوارج فهو ليس من باب الاعتدال والركون إلى العافية، وإنما هي آراء نابعة عن الاعتقاد بالاُصول والمبادئ المتفق عليها في الفقه والكلام السنّي([42]).
فهم يعتقدون بحقٍّ أنه لا يمكن القبول بهذه النظريات من خلال الاعتبار بالقرآن والسنّة وسيرة الصحابة والسلف الصالح بالشكل الذي فهمه وعمل به السنّة على طول التاريخ. فهذه النظريات تتجاوز كثيراً أشد التصورات المشروعة والصحيحة تطرفاً من القرآن والسنّة وسيرة الصحابة .
ومن الممكن أن يتخذ البعض هذه المواقف عن سوء نية أو عمالة كالسعوديين وعلمائهم، إلا أن هذا الكلام – وبغض النظر عن القائل والنوايا – صحيح ينطبق مع عقيدة قائليه([43]).
فضلاً عن هذه المجموعة من القضايا التي تنطوي على بُعد نظري ثمة سلسلة اُخرى من المسائل المطروحة، فقد قُلنا سابقاً: إنّ الفرق بين الحركات الشيعية والسنية وخاصة في التاريخ المعاصر لا ينحصر في الفرق الأيديولوجي، ويتعدّاه إلى التكوين الاجتماعي والنفسي لكليهما، هذا التكوين الذي يختلف حسب المختصات النظرية لهما، وبالتالي فإن الاختلاف هو ثمرة قرون من التجربة المختلفة لنظريتين متباينتين. وتقع أية حركة كبيرة وواسعة تظهر في نطاق هاتين الطائفتين تحت التأثير القوي لهذين التكوينين المختلفين، وطالما كان الأمر كذلك فينبغي أن لا نتوقع أن تتماثل مظاهر تجلّيها وبروزها لمجرد كونها حركات إسلامية. ومع عدم إنكار إسلاميتها وغاياتها في تحكيم الإسلام لكنها تحمل تصورات مختلفة عن الإسلام، فضلاً عن أنها تخضع لتربية وتأثير واقعين متباينين.
وتعود مشكلات الأيديولوجية الإسلامية والثورية السنية إلى القيود الفقهية والكلامية لهذا المذهب في مجال مجابهة السلطة الحاكمة من جهة، وإلى سرعة التحولات من جهة اُخرى، الأمر الذي جرّ الجيل الإسلامي الجديد في بعض البلدان الإسلامية إلى أفكار وأساليب تتّسِم بالمجابهة. هذه القيود وهذه السرعة حالت أمام العلماء والمفكرين من أهل السنّة في مسايرة هذه التطورات والتقدم إلى الأمام([44]).
وبطبيعة الحال فإن ضغوط الأجهزة الحاكمة على المراكز العلمية الدينية، وسلب استقلالها وتجييرها لصالحها كان له الدور الكبير في ذلك. فحكّام عامة البلدان الإسلامية السنية ولا سيما البلدان العربية التي تستقر فيها قاعدة عريضة للحركات الدينية المنبثقة من المجتمع: من تونس والمغرب إلى مصر وسورية والحجاز واليمن حاولوا خلال العقود الأخيرة السيطرة على المراكز العلمية والدينية بذريعة تحديث النظام التربوي والتعليمي، وبالفعل حالفهم النجاح في هذا المسعى. ولم تكن النتيجة الوحيدة لسلسلة التطورات هذه أن دخل العلماء في خدمة الحكام، بل كان الأهم من ذلك ضمور الأصالة الدينية والشمولية العلمية الأمر الذي عاكس الحاجة الزمنية؛ ذلك أن الحاجات الدينية والعلمية والأخلاقية الزمنية تتطلب العمق والشمولية والأصالة مثلما تتطلب إدراك الزمان ومعايشته، ولا شك في أن الغريب على التراث الإسلامي العظيم في المجالات المختلفة لن يستطيع أن يلبي الحاجات المتنوعة في العصر الراهن بما هو مناسب([45]).
برزت هذه المشكلات منذ أواسط الستينات وعزّزتها الظروف المساعدة في السبعينات، وبلغت ذروتها بانتصار الثورة الإسلامية في إيران. وكان المشكل الأساسي العثور على تفسير جديد للإسلام يرشدهم في جهادهم، ويدلّهم على طريق تأسيس المجتمع الإسلامي. فنهضوا بأنفسهم لمّا وجدوا فراغاً مع وجود مرجع علمي وديني مطّلع يمكنهم الاعتماد عليه، لكنّ مستوى معلوماتهم كان واطئاً أولاً، وثانياً: أنهم كانوا قد قرروا ماذا يريدون؟ وماذا عليهم أن يريدوا؟ واستخدموا معلوماتهم القاصرة للردّ على سؤال كان قد اُجيب عليه من قبل، وكان الهدف هو الحصول على تأييد لهذا الجواب([46]).
في مثل هذه الظروف لا يمكن للحلّ أن يكون إسلامياً بتمامه، وإنما يتخذ صبغة إسلامية أكثر من كونه ذا طبيعة إسلامية، لكن هذه الحلول استقطبت الكثير سريعاً، وجرى التصور بأنها تمثّل حلولاً إسلامية دقيقة لانسجامها مع الحاجات النفسية والفكرية والاعتقادية للشبان والطلاب، إلا أنها انطوت على مشكلتين رئيسيتين ولم تستطع أن تصمد وتستمر أمام الحوادث، فمدى صمود ومقاومة أية أيديولوجية لا سيما الثورية منها إزاء الأحداث يتوقف على مدى التزامها بالمبادئ وانسجامها الداخلي وقدرتها على حل المشكلات والعراقيل التي تواجهها، وهذه الخصوصية الأخيرة ترتهن بسابقتيها، وهي خصوصيات كانت هذه الأيديولوجيات الفتية تفتقر إليها.
(1) يمكن ملاحظة نموذج لموقف علماء الدين من مثقفي تلك البرهة الذي يكشف عن حقيقتهم في كلام السيد جمال الدين: «هؤلاء الدهريون ليسوا كالدهريين في اُروبّا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه، ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويفدي مصلحتها بروحه. أمّا أحمد خان وأصحابه فإنهم كما يدعون الناس لنبذ الدين يهوِّنون عليهم مصالح أوطانهم ويسهِّلون على النفوس تحكّم الأجنبي فيها، ويجتهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية... لا لأجر جزيل ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد. وهكذا يمتاز دهريُّ الشرق عن دهريِّ الغرب: بالخسّة والدناءة بعد الكفر والزندقة»!! الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي:43، نقلاً عن العروة الوثقى: 572 –575 . المنار: العدد13 إبريل 1925، ص31، نقلاً عن مقدمة محمد عمارة على كتاب الإسلام واُصول الحكم: 8–9، وحول تأثيرات سقوط الخلافة وتأييد المجمع المذكور راجع المصدر نفسه: 7 – 14.
(1) خلال التحولات السياسية والاجتماعية على طول التاريخ الشيعي احتلّت ملحمة عاشوراء مكانة مهمة في هذا التاريخ، وينطبق هذا الكلام على مرحلتنا المعاصرة أكثر من الفترات المنصرمة، فقد أصبحت الحاجة في التاريخ المعاصر وفي الإطار الشيعي وعلى الخصوص في إيران ماسّةً للأفكار الثورية التي تفتح الطريق لإيجاد التغيير السياسي.
فالموقف المبهم الغامض لمالك بن أنس – مثلاً – حيال محمد ذي النفس الزكية ربما كان ناجماً عن هذا الأمر، فقد أراد أهل المدينة تقديم الدعم لمحمد لكنهم كانوا قد بايعوا المنصور سابقاً، فقال مالك: بأن البيعة لا تنعقد بالإكراه، عندها التفّ أهل المدينة حول محمد، مما دعا بوالي المدينة إلى الأمر بضرب مالك حتى تكسّرت عظام كتفه، ورغم ذلك فقد أجاب عن سؤالٍ حول جواز الخروج على ا لحاكم: «إن كان على مثل عمر بن عبد العزيز لا يجوز، وإن لم يكن على مثله، فدعهم ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما».
وممّن ذكرهم المؤلف في هذا الكتاب: سعيد بن المسيب الذي رفض طلب عبد الملك في أخذ البيعة منه لولديه وليد وسليمان قائلاً: بأن الرسول نهى عن بيعتين، وتعرض لشتى أصناف التعذيب دون أن يستسلم. إن اتخاذ مثل هذه المواقف أمام السلطان تختلف تماماً عن موقف الإمام الحسين D من يزيد، أو موقف زيد بن علي من هشام. فلم يُفْتِ أيّ من علماء السنّة تقريباً بلا شرعية الحكام الذين يقاومون رغباتهم، غاية الأمر أنهم كانوا يرفضون تنفيذ طلباتهم.
(1) كنموذجٍ انظر: الإسلام بين العلماء والحكام: 115–132. لكن المهم هو أن الرأي في مسؤولية عالم الدين يختلف بين الشيعة والسنّة، ويعود هذا الاختلاف إلى موقف الطرفين من الحكام والوقوف بوجه الظلم والجور والفسق والفجور، فمثلاً قارن بين مسؤوليات عالم الدين عند الإمام الحسين D في تحف العقول: 171–172، وعند ابن حنبل في أعلام الموقّعين: 1/9، نقلاً عن كتاب: الردّ على الزنادقة والجهمية لابن حنبل.
(1) ذهب الجمهور إلى وجوب الصبر على جور الحاكم وعدم جواز الخروج عليه ، ونسبوا القول بذلك لكلٍّ من الفقهاء الثلاثة: الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل. الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ: 98. ونسب النسفي في كتاب "شرح العقائد" إلى أبي حنيفة مثل هذا الرأي، ومضى يقول: «لقد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمة والاُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا ينقادون إليهم ويقيمون الجُمَع والأعياد معهم ولا يخرجون عليهم». المصدر نفسه: 99. وقد تمسّك بهذا الاستدلال جميع القائلين بعدم جواز الخروج، للمزيد من الاطلاع راجع المصدر نفسه: 97–107، وطبقات الحنابلة: 2/22.
(2) لمعرفة شدة حاجة الشبان المسلمين إلى أيديولوجية ثورية إسلامية راجع أعداد بعض المجلات الإسلامية: كالنذير والثورة الإسلامية والمنطلق والدعوة وغيرها الصادرة عن الفئات الجهادية.
(1) حول موقف الشبان المتحمسين من أهل السنّة إزاء الأنظمة الحاكمة راجع انتقادات العتيبـي الذي احتل الكعبة في الأول من محرم (عام 1400ق) لحكام آل سعود وعبد العزيز بن باز الذي توسط عام (1978م) في إطلاق سراحه، في:
Faith and Power, pp. 180-185.
(2) لمعرفة تأثيرات تحديث المجتمعات الإسلامية لا سيما في المدن الكبيرة على أفكار الشبان انظر: بيامبر وفرعون: 273–295، وأيضاً بحوث سعد الدين إبراهيم في هذا المجال، و إيدئولوجي وانقلاب: 169– 178.
(3) لمعرفة مقدار ما تعرض له الإسلام من ضغوط وخصوصاً في العالم العربي ومصر في الخمسينات والستينات، راجع الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي.
(1) عن اختلاف هاتين المرحلتين والتجربتين طالع كنموذج مسار التحولات الفكرية والعقائدية لأحد المثقفين المسلمين المعاصرين الذي أفصح عنه بكل صراحة وصدق في: من العقيدة إلى الثورة: 46– 48.
(2) راجع بحوث عبد الرازق واستدلالاته في "الإسلام واُصول الحكم" حينما يتحدث عن أبطال الخلافة كأصل من اُصول الدين، أو حتى كأمر من اُموره. فهو ينفي إجماع العلماء عليها، بل وينفي بصورة غير مباشرة أصل الإجماع، وقد تمسّك منتقدوه بهذه النقطة وعمدوا على ردّ آرائه من هذه الزاوية. انظر كمثال إلى الإشكاليات السبعة التي أوردها عليه مجلس علماء الأزهر وحاكمه بها، ليخرجه في النهاية من الأزهر. مقدمة محمد عمارة على الإسلام واُصول الحكم:21. انظر أيضاً: سدّ باب الاجتهاد وما ترتب عليه لعبد الكريم الخطيب الذي وجّه انتقادات مماثلة لعلي عبد الرازق، وكان هدفه الأساس فتح باب الاجتهاد لرفع الأزمة الدينية، والمساعدة على بثّ الوعي الديني في المسلمين والعمل على أسلمة المجتمع، المصدر نفسه: 7.
(2) كنموذج انظر إلى النصائح الأبوية التي يقدمها يوسف القرضاوي في كتابه: الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، والتي يطلب فيها من الشبان نبذ الأساليب والتفسيرات المتطرفة للدين والالتزام بالضوابط الدينية.
(2) الإسلام واُصول الحكم، مقدمة محمد عمارة:9، نقلاً عن المنار: العدد 23 نيسان 1925م/ 9 رمضان 1343 ق، ص31.
(2) كان لأمير الشعراء أحمد شوقي ودّ خالص نحو العثمانيين وحتى الأتراك باعتبارهم حمَلَة الإسلام، إذ يمكن ملاحظة أشعار كثيرة في ديوانه الشوقيات مليئة بالحماسة والأحاسيس الجياشة تجاه العثمانيين والأتراك، على سبيل المثال فهو يمتدح الأتراك في بعض أشعاره ويصفهم بأنهم أشرف الاُمم، ويطلب منهم أن لا يتبعوا أفكار تركيا الفتاة ولا أن يتخلفوا، بل يكونوا اُمة ثابتة فعّالة متحركة: 206–207. وفي أبيات اُخرى تراه ينشرح لمشاهدة الاُسطول البحري العثماني يرفرف عليه العلم الإسلامي:208–211، ويمجّد حرب الأتراك ضد اليونان ويصف قائدها مصطفى كمال بخالد الأتراك: ص44و258، وحينما يدّعي الشريف حسين الخلافة يبعث شوقي بقصيدة إلى السلطان عبد المجيد سنة يعتبره فيها القيّم على مكة والمدينة ويدعوه للقضاء على الشريف حسين:194. وتعتبر القصيدة التي نظمها بعد إلغاء الخلافة من قبل أتاتورك من أكثر قصائده عاطفة، يطلب فيها من المسلمين تنبيه أتاتورك وردعه:90–93.
قارن هذه الأشعار مع الأشعار التي قيلت في مدح الشريف حسين وانتقاد العثمانيين والأتراك. ثورة العرب ضد الأتراك:354 فما بعد.
(1) الإسلام واُصول الحكم:9، نقلاً عن صحيفة الأهرام: العدد12 مايس 1925م، مجلة المنار، العدد 23 نيسان 1925، ص31. وحول الضجّة التي أثارها سقوط الخلافة والتأييد الذي لقيه المؤتمر المذكور راجع المصدر نفسه:7–14.
(2) فكّر البعض في تلك الفترة بنيل منصب الخلافة، ومنهم الملك فؤاد ملك مصر، مقدمة الإسلام واُصول الحكم: 8. لاحظ التفاصيل في: الإسلام والخلافة في العصر الحديث:135–145. والآخر الشريف حسين في مكة. ثورة العرب ضد الأتراك: 312–353. والطريف أن رشيد رضا وآخرين رشحوا إمام اليمن للخلافة لاجتماع المؤهلات الدينية والسياسية فيه. انديشه هاي سياسي در اسلام معاصر (الأفكار السياسية في الإسلام المعاصر): 137.
(3) يفهم من إطلاق لفظ "الخلافة" رئاسة الدولة الإسلامية، ولابد من القول بأنّ الخلافة تعني الدولة الإسلامية، وقد اُجمع على إمكانية تسمية رئيس الدولة بالخليفة. انظر هذا المفهوم في: معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي: 30.
(2) لاحظ جواب حسن البنّا في: من اُصول الفكر السياسي الإسلامي:11. ويمكن من خلال هذا الجواب استشراف علامات أولية لتبلور مفهوم الحكومة الإسلامية.
(1) حول كيفية نفوذ القوانين الغربية في البلاد الإسلامية لا سيما في حدود الدولة العثمانية والهند وتاريخه راجع:
Islam Surveys, A History of Islamic Law, pp.149-162.
(2) يوضّح عبد العزيز البدري كيفية نفوذ القوانين الجديدة إلى الدولة العثمانية كالتالي: «حتى أن القوانين التي بدأت تدخل بلاد المسلمين في سنة (1857م) كقانون الجزاء وقانون التجارة وقانون الحقوق فإنها لم توضع موضع التطبيق إلا بعد أن نالت موافقة شيخ الإسلام – كبير العلماء – وأفتى بجوازها بأنها لا تخالف الأحكام الشرعية، حتى أن العلماء لم يروا أي مبرر لإدخال القانون المدني إلى البلاد الإسلامية، ولذلك وضعت (المجلة) كمواد قانونية في المعاملات مستندة على الأحكام الشرعية حسب فهم واضعيها». الإسلام بين العلماء والحكام:17. انظر أيضاً مقدمة تحرير المجلة، الجزء الأول.
(2) يعتبر حسن البنا مؤسّس حركة الإخوان المسلمين من الأوائل الذين تحركوا على الصعيد السياسي والثوري نوعاً ما بين أهل السنّة، فقد كان يُعلم أنصاره ويقول: «إذا قيل لكم: إلمَ تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي أتى به محمد 9، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه. فإذا قيل لكم: هذه سياسة، فقولوا: هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام. وإن قيل لكم: أنتم دعاة ثورة، فقولوا: نحن دعاة حقٍّ وسلام نعتقده ونعتزّ به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم أنتم الثائرين الظالمين». من اُصول الفكر السياسي الإسلامي:11، نقلاً عن كتاب حسن البنا "بين الأمس واليوم".
(2) حتى مؤلف كتاب "معالم الخلافة الإسلامية" وهو العالم الملتزم المستقل الذي انتقد في كتابه هذا آراء الكثير من السلف حول الخلافة وشروط انعقادها وضرورة مخالفتها أم عدم ضرورة ذلك، تراه غير ميّال كثيراً للرأي الداعي للوقوف بوجه النظام الحاكم، رغم أنه فاق أسلافه وحتى معاصريه في تعريفه للخلافة تعريفاً منطقياً على أنها الرئاسة العامة على كل المسلمين لإقامة أحكام الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. راجع المصدر المذكور: ص30.
ويؤكد مؤلف الكتاب بأن الاُمة هي صاحبة القدرة، وحينما تبايع الخليفة لرئاسة الدولة وتطبيق الإسلام في الميدان الحياتي فسيكون نائباً للاُمة، لأن الاُمة تطالب بتطبيق أحكام الإسلام، والخليفة يتحمل هذه المسؤولية نيابة عنها؛ ولهذا فإن الخليفة لا ينال هذا المنصب إلا برضا الاُمة واختيارها وبيعتها له، والبيعة دليل على كون الخليفة نائباً عن الاُمة. راجع المصدر نفسه: 38.
ويحرِّم مؤلف الكتاب المذكور الخروج على الحاكم لو أدى الأمر إلى وقوع فتنة دموية بين المسلمين، لأن إيجاد الفتنة في البلاد محرّم في الشرع، وكل ما يؤدي إليها حرام أيضاً. بناء على هذا يوجب المؤلف إطاعة الحاكم والجهاد معه لدفع الفتنة، لكن الحاكم سيكون في هذه الحالة أميراً وليس خليفة، إلا أن يبايعه المسلمون دون إكراه. انظر: نفس المصدر:126.
(1) يقول أسعد بيوض التميمي – أحد العلماء البارزين والملتزمين المعاصرين من أهل السنّة – بأن المقصود من الحكومة الإسلامية تطبيق الشريعة، وقد نقل عنه هذا الكلام مراراً. انظر أيضاً: تحول وثبات: 120–121.
(2) ردّ أحد علماء السنّة المتقين – محمد ضياء الدين الريس – وبتواضع على الكثير من هذه الانتقادات التي جاءت كنتيجة للتوقعات الجديدة التي أوجدتها التطورات الاجتماعية والاقتصادية والضرورات الفكرية والسياسية، وقبل أن تبلغ الانتقادات هذا المستوى من الشدة بسنوات. وبالطبع فقد وجّه خطابه إلى المنتقدين من غير المسلمين أو من المسلمين بالاسم فقط، لكنه – على أية حال – ردّ على كل الذين انتقدوا علماء السنّة على مواقفهم السياسية طوال التاريخ، سواء كانوا مسلمين ملتزمين أم لا، فقد ذكر: أنّ بعض الكتّاب وخاصة المستشرقين يتهمون علماء أهل السنّة ويعرضون صوراً غير حقيقية لا تطابق الواقع، فيقولون: إنهم يميلون إلى الحكام ويوافقون سياساتهم ويعينوهم عليها. ويؤكد المؤلف أن أمثال الحسن البصري والشعبي وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب في العهد الاُموي، وأبو حنيفة ومالك وأحمد في العهد العباسي عارضوا سياسات حكام واُمراء أزمانهم، ورفضوا اُسلوب وصولهم إلى السلطة. راجع النظريات السياسية الإسلامية:71.
ويشير المؤلف على نفس الصفحة إلى أسباب اعتزال السنّة للقضايا السياسية ويقول: إنّ أهل السنّة والجماعة كانوا يعتقدون بأن الخروج والثورة التي لا ينتظر منها النصر تؤدي إلى الفتنة والفوضى وإراقة الدماء والجريمة، لهذا فإن السنّة فضّلوا اعتزال السياسة وانصرفوا إلى الجانب العلمي. ويستطرد موضحاً بأن البحث في مسائل الإمامة وما يتعلق بها تركه أهل السنّة للخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة، ولم يبادروا إلى تدوين وتحديد آرائهم في هذا المضمار إلا بعد مدة، وهذا لا يعني أنهم كانوا لا يمتلكون نظريات سياسية، أو أنهم كانوا راضين بالسياسة الحاكمة سواء الاُموية أم العباسية. (لاحظ: المصدر السابق:70، وللمزيد من الاطلاع راجع الصفحات 69–75).
(1) يوضح جب هذه النقطة بل هذه المشكلة جيداً ويقول: «..تظهر تبعاً لذلك الملاحظة التالية: أنه في الوقت الذي يمكن إقالة الخليفة قانونياً، لا توجد وسيلة قانونية لعزله. وهذه ليست مشكلة الماوردي وحده وإنما مشكلة الفكر السياسي السني حتى زمانه. وهذا يعزز القول بأن النظرية السياسية السنية تعمل على عقلنة تاريخ الاُمة الإسلامية..». للمزيد من الاطّلاع راجع: نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية: 149–163، والفكر السياسي الشيعي: 116–266.
(1) انظر: سدّ باب الاجتهاد وما ترتب عليه: 5–8. ويتطرق مؤلفه ببيان صادق ينمّ عن إخلاص إلى عدم التحرك الفكري والاجتهادي لعلماء الدين والمشاكل الناجمة عن ذلك.
وانظر أيضاً آراء أمين في باب ضرورة فتح باب الاجتهاد:
William Sheperd, The Faith of a Modern Muslim Intellectual.
(1) حول تحديث نظام التعليم الديني ونتائجه لاحظ آراء محمد عبدة في: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: 176– 181. وفيه وصف طريف لذهنية علماء الأزهر (ص171) يقول: «إذا وصل إلى أيدي هؤلاء العلماء كتاب فيه غير ما يعلمون: لا يعقلون المراد منه!! وإذا عقلوا منه شيئاً: يردونه ولا يقبلونه!! وإذا قبلوه: حرّفوه إلى ما يوافق علمهم وحزبهم..». وآراء خالد محمد خالد في: الشيعة في الميزان: 375–378، ووعاظ السلاطين: 291–302، وحول النتائج راجع بالخصوص: بيامبر وفرعون: 102–115، وكذلك:
Charles D. Smith, Islam and the Search for Social Order in Modern Egypt, pp.109-113.
Fazlur Rahman, Islam and Modernity, pp. 63-70