عربي
Thursday 9th of January 2025
0
نفر 0

الإحتفال بمولد النبي(ص) بدعة أم من صمیم الدین؟

الإحتفال بمولد النبي(ص) بدعة أم من صمیم الدین؟

الإحتفال بمولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) من الاحتفالات التي اعتادها المسلمون منذ قرون عديدة، ولازالت هذه الذكري ماثلة وحيّة في قلوب المسلمين جميعاً، حيث تقام الاحتفالات بهذا اليوم في المساجد والبيوت في مختلف بلدان العالم الإسلامي تخليداً لهذا اليوم المبارك، مثلهم في ذلك مثل أيّ اُمة تحترم مقدساتها، وتبجّل أيّامها الكبري وذكرياتها المجيدة. كما يُراد من هذا الإحتفال أن يتحول من مجرد الفرح والسرور والشكر للّه ، إلي عملية استيحاء واعية للذكري ومعطياتها. ورغم وضوح شرعية الإحتفال بذكري المولد النبويّ، إلاّ أنّ البعض أخذ يبحث عن اُمور تسوّغ له منع الإحتفالبهذا اليوم، إستناداً إلي فهم مغلوط لمعني البدعة، ووظّف هذا الفهم لتحريم كثير من المباحات، بذريعة أنّها لم يرد فيها نصّ بخصوصها. من هنا سوف نتناول مسألة الإحتفال بيوم المولد النبويّ ونري مدي شرعيته، ثم نناقش الرأي القائل بحرمته ضمن عدة أُمور:

الحوادث الفاضلة التي تضفي قداستها

هل الأيّام والساعات التي تحقّقت فيها مناسبات وأحداث إلٌهية مقدّسة؛ يضفي الحدث فيها قيمة علي اليوم نفسه، فيكتسب الزمان قدسيته من الحدث، كما هو الخير والبركة الذي اكتسبته ليالي القدر وأيام شهر رمضان ولياليه، أو عيد الفطر، أو عيد الأضحي، أو يوم المبعث النبويّ من أحداثها؟ والجواب: أنّنا لو لاحظنا الآيات القرآنية التي تناولت هذا المعني لتأكّد لدينا أنّ الحدث العظيم والمبارك يضفي شيئاً من عظمته علي الزمن في كثير من الأحيان. فقد جاء في بركة وفضل شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَالَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُديً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدي وَالْفُرْقَانِ)1. وكذلك البركة في ليلة القدر، حيث قال تعالي: (إِنَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَ لْفِ شَهْرٍ)2 . وهكذا الروايات فإنّها تحدّثت عن فضيلة بعض الأيّام، فقد جاء في فضل يوم الجمعة في صحيح مسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خُلِق آدم وفيه أُدخل الجنّة»3 . فخلود البركة في هذه الأيّام جاء نتيجة لحوادث إلهية مهمّة كنزول القرآن فيها، أو ميلاد نبي تستبشر به الملائكة وما إلي ذلك من حوادث جليلة لها قدسيتها. فإذا كان المنشأ في تقديس الأيّام يعود للحدث الإلهي المبارك؛ فلماذا لا يكون يوم مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، يوماً مباركاً يستحق التقديس ويكون الإحتفال به من هذا القبيل؟ هذا التخريج يصدق بخصوص المناسبات التي هيمورد النصّ، أو التي أقامها المسلمون في عصر التشريع، كالإحتفاء بعيد الفطر والأضحي أو بيوم الغدير أو يوم عرفة. وهناك اتّجاهات أفرطت في التقديس لهذه المناسبات، وتقابلها اتّجاهات حاولت إلغاء أي تقديس لأي مناسبة تَمُتّ إلي الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) والإسلام بصلة، زاعمة أنّ مثل هذا الاحترام والتبجيل بالخصوص يعد بدعة في الدين لا ينبغي السكوت عنه، فأخذت تشوّش علي المسلمين إحتفالاتهم بالمولد النّبوي، متنكّرة لعموم النصوص وخصوصها، رافعة شعار التوحيد لتلغي تحت لوائه كلّ شيء يرتبط بأوليائه، الذين هم مصاديق الهداية ومناراته المعنوية لتدلّ العباد علي معبودها الحقّ. ومن هذه المفردات التي طُرحت في عصرنا هذا قضية الإحتفال بالمولد النّبوي ومواليد سائر العظماء من أهل بيته الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

هل الاحتفال بالمولد النبوي بدعة أم من صمیم الدین؟

قبل أن نُجيب علي السؤال نأتي علي تعريف البدعة ليتسنّي لنا الحصول علي إجابة واضحة في خصوصالإحتفال بالمولد النّبوي. لقد صرّح العلماء في نصوص كثيرة حول معني البدعة، ومنهم السيّد المرتضي حيث قال: البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من غير إسناد الي الدين4. وقال الطريحي في مجمع البحرين: البدعة: الحدث في الدين، وما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة، وإنّما سُمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدعها هو نفسه5. وقال ابن حجر العسقلاني: والمراد بالبدعة: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة6 . وبعبارة واضحة، البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ علي الخصوص ولم يكن داخلاً في بعض العمومات، وإن شئت قلت: إحداث شيء في الشريعة لم يرد فيه نصّ كصوم عيد الفطر7 ، وإقامة صلاة التراويح جماعةً وغيرها. بعد هذا التمهيد نأتي لنجيب عن ما إذا كان الإحتفال بالمولد النّبوي بدعة أم من صميم الدين؟ ولأجل أن نعرف متي يكون الشيء جائزاً في الدين؟ نقول: إنّ الشيء يكون جائزاً ومن صميم الدين؛ إذا وقع عليه النصّ بخصوصه أو بعينه، كالاحتفال في عيدي الفطر والأضحي، والاجتماع في يوم عرفة، فهذه الموارد لا شكّ في جواز الإحتفال أو الاجتماع بها، وتخرج عن كونها من البدع، وأحياناً يكون الشيء جائزاً وأيضاً من صميم الدين، في حالة ما إذا وقع النصّ عليه علي الوجه الكلّي، وفي هذا المورد يُترك اختيار الأُسلوب والطريقة للمسلم ليعبّر كيف يشاء وبأي طريقة كانت عن إمتثاله لهذا الأمر، شريطة أن لا يدخله في المحرّمات، ومن الأمثلة علي ذلك: 1 ـ ندب الشارع إلي تعليم الأولاد وضرورة التعلّم، ولا شكّ أنّ لهذا الأمر الكلّي أشكالاً وألواناً تتغيّر حسب تبدّل وتغيّر الأزمان. والكتابة في السابق كانت متحققة بقلم القصب، أو بالكتابة بريش الطائر، أما الآن فقد تطورت أساليب الكتابة والتعليم، حيث استخدمت الأجهزة المتطورة كالتعليم بواسطة الحاسوب الآلي «الكامبيوتر» أو الأشرطة وما شاكل.. في هذا المثال نجد الشارع المقدّس قد أمر بالتعليم علي الوجه الكلّي، إلاّ أنّه ترك اختيار الأُسلوب للمكلّف نفسه. 2 ـ إنّ الصحابة ـ كما يقال ـ قاموا بجمع آيات القرآن المتفرّقة في مصحف واحد، ولم يصف أحد منهم هذا العمل بأنّه بدعة، وما هذا إلاّ لأنّ عملهم كان تطبيقاً لقوله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)8 فعملهم في الواقع كان مصداقاً عملياً لظواهر عامة شرعية من الكتاب والسنّة، وعلي ذلك جري المسلمون في مجال الاهتمام بالقرآن من كتابته وتنقيطه، وإعراب كلمه وجمله وعدّ آياته، وتمييزها بالنقاط الحمر وأخيراً طباعته ونشره، وتقدير حفّاظه وتكريمهم وتمجيدهم في المحافل والمهرجانات، إلي غير ذلـك مـن الأُمور التي كلها دعم لحفظ القرآن وتثبيته وبقائه، وإن لم يفعله رسول اللّه ولا الصحابة ولا التابعون، إذ يكفي وجود أصل له في الأدلة. 3 ـ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء، أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَااستَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ)9 وأما كيفية الدفاع ونوع السلاح ولزوم الخدمة العسكرية فالكلّ تطبيق لهذا المبدأ وتجسيد لهذا الأصل، فربما يرمي التجنيد العمومي بأنه بدعة، غفلة عن حقيقة الحال وأنّ الإسلام يتبنّي الأصل ويترك الصور والألوان والأشكال إلي مقتضيات الظروف10. هذا هو الأصل الذي به تميز «البدعة» عن «التطبيق» و«الابتداع» عن «الاتباع» وإليك تصريحات بعض العلماء مضافاً الي تصريحاتهم التي أشرنا إليها سابقاً حول موضوع البحث: أ ـ قال ابن رجب: قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «وإيّاكم ومحدّثات الأُمور فإن كلّ بدعة ضلالة»11تحذير للأُمّة من اتباع الأُمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: «كلّ بدعة ضلالة»، والمراد بالبدعة ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، وأمّا ما له أصل فليس ببدعة، وإنْ كان بدعة لغةً، وفي صحيح مسلم: عن جابر (رضي اللّه عنه) عنه أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يقول في خطبته: «إنّ خير الحديثكتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد وشرّ الأُمور محدّثاتها، وكلّ بدعة ضلالة...»12، وقوله: «كلّ بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أُصول الدين، وهو شبيه بقوله (صلّي اللّه عليه و آله): «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»13 فكلّ مَن أحدث شيئاً ونسبه إلي الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة والدين بريء منه14. ب ـ وقال ابن حجر في شرح قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «إنّ أحسن الحديث كتاب اللّه »: والمحدثات ـ بفتح الدال ـ جمع محدثة، والمراد ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمّي في عرف الشرع «بدعة» وما كان له أصل يدل عليه الشرع؛ فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث علي غير مثال يسمي بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً، وكذا القول في المُحدَثة15. ولكنّ عندما نأتي الي ما ورد في الكتاب والسنّة سنجد أن حبّ ومودّة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وتوقيره وتكريمه وتعظيمه حيّاً وميتاً من الأُمور التي حثّت عليها الشريعة، وهذا الأصل لا يمكن لمسلم إنكاره، أما كيفية التعبير عن المودّة والتوقير والتعزيز للنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) فقد ترك للمسلم حريّة التعبير والعمل بشرط أنّ لا يدخله في الحرام16 .

لزوم تکریم النبي (ص) حیا و میت

ورد بشأن الحثّ علي احترام وتعظيم ومحبة شخص رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) في القرآن الكريم عدد من الآيات منها: 1 ـ قوله تعالي: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)17. ذكر المفسّرون أنّ المراد من (التعزير) في الآية ليس مطلق النصرة، إذ أنّه أفرد عن قوله: (نصروه)، ولو كان بمعنيمطلق النصرة؛ لما كان هناك داعٍ للتكرار، فالمراد من (التعزير) هو التبجيل والتوقير والتعظيم أو النصرة مع التعظيم18. 2 ـ ومنها قوله تعالي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)19. بهذه الآية يشير القرآن إلي الأدب الخاص الذي ينبغي مراعاته حينما يتعامل المسلمون مع رسول اللّه ، مع ضرورة حفظ مكانته (صلّي اللّه عليه و آله) كرسول وهاد إلي ربّه، باعتبار وصفه بالنبوّة في الآية الكريمة. 3 ـ ومنها قوله تعالي: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي)20. فالآية تشير إلي إجلال أهل بيت النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وموالاتهم والذي يعدّ إجلالاً للرسول الأكرم،ومودّة قربي النبيّ تكون مقرباً لحبّ النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وتكريماً له . 4 ـ قوله تعالي: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً)21. وفي هذه الآية ينهي القرآن الكريم أن يُدعي النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله) باسمه، كما يُدعي سائر الناس. 5 ـ قوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)22 . في هذه الآية للمسلمين بأن يذكروا النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)؛ لهذا قال النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله): «البخيل من ذُكرتُ عنده فلم يصلّ عليّ»23. والصلاة عليه مشروعة في عبادات كثيرة كالتشهّد، والخطبة، وصلاة الجنازة، وبعد الأذان، وعند الدعاء وغيرها من المواطن24 . ولذا فالآية الكريمة تأمر بالدعاء والصلاة والتسليم له، لما له من عظيم المنزلة عند اللّه سبحانه، ولما له من المقام المحمود. وورد الحثّ علي لزوم تكريم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) وتعظيمه ومحبّته في عدد من الروايات . نذكر منها: قوله (صلّي اللّه عليه و آله) : «لا يؤمن أحدكم حتّي أكون أحبّ إليه من ماله وأهله والناس أجمعين»25. وعن ابن عبّاس عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) إنّه قال: «.. وأحبّوني بحبِّ اللّه ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي»26 . فثبت بدليل القرآن والسنّة الشريفة وجوب احترام النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وتكريمه ومحبّته. لكنّ الشريعة قد تركت كيفية إبراز هذا التكريم والاحترام والتبجيل إلي المسلمين أنفسهم، ليعبّروا عنه وفق عاداتهم وتقاليدهم الحياتية المتنوّعة والمتطوّرة، وبما تفيض به عواطفهم تجاهشخصية الرسول (صلّي اللّه عليه و آله)، شريطة أن لا يُرتكب عمل محرّم أو منافٍ للآداب الإسلامية المقرّرة في الكتاب والسُنّة.

یوم ولادة النبي (ص) من أیام الله

من المتيقّن أنّ كلّ الأيّام هي أيّام اللّه إلاّ أنّ (أيّام اللّه ) قد أُطلقت علي أيّام خاصّة، للدلالة علي عظمتها وأهميتها، فأيّام اللّه هي جميع الأيّام العظيمة في تاريخ الإنسانية. فكلّ يوم سطعت فيه الأوامر الإلهيّة وجعلت بقية الأُمور تابعة لها، هي من أيّام اللّه ، وكلّ يوم يفتح فيه فصل جديد من حياة النّاس فيه درس وعبرة، أو ظهور نبيّ فيه، أو سقوط جبّار وفرعون ـ أو كلّ طاغٍ ـ ومحوه من الموجود فهو من أيّام اللّه »27 . ومن الأدلة علي شرعية الإحتفال بذكري مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، قوله تعالي: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَي بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)28. حيث يطلب اللّه سبحانه من النبيّ موسي (عليه السلام) أن يذكّر أُمّته بأيّام اللّه ، ومعني ذلك أنّ التذكير بأيّام اللّه أمر مطلوب ومحبوب عند اللّه ، إذ لا يختصّ ذلك بموسي وأُمّته. إنّ الحوادث الكبري «أيّام اللّه » هي مصاديق لفاعلية سنن اللّه في المجتمعات البشرية، لذا يكون التذكير بها من مهمات الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) وجانباً من تبليغه وتربيته لأُمّته. ولم يكن التذكير والوعظ هنا بأيّام اللّه العظيمة كيفما اتّفق، وإنّما التذكير كان مطلوباً بأيّام معروفة في حوادثها. ومعني الآية: عِظهم يا رسول اللّه بالترغيب والترهيب، فالترغيب أن يذكّرهم بما أنعم اللّه عليهم، وعلي مَن كان قبلهم ممّن آمن بالرسل فيما سلف من الأيّام المقرونة بالحوادث العظيمة مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم. وأن أيّام اللّه في حقّ موسي منها أيّام محنة وبلاء، ومنها أيام نعمة وانتصار. وقد ذكر القرآن الكريم بأنّ العلّة من وراء التذكير بهذه الأيام لغرض كونها دروساً وآيات لكل صبار شكور29. فهي ذات نتائج إيجابية وتربوية في طريق إيجاد اُناس صابرين وشكورين، فبهم تنجح الاُمة وتنتصر علي أعدائها وتفوز بتطبيق الرسالة الإلهية بشكل صحيح. والأُمة الإسلامية في تأريخها العظيم، قد مرّت بحوادث ووقائع كبري، كانت محلاًّ للعبرة والإتّعاظ، فمنها أيّام نعمة، ومنها أيّام محنة وبلاء، ويوم ولادة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) في حياة المسلمين يُعد حدثاً عظيماً ومن الأيّام التي أنعم اللّه بها لا علي المسلمين فقط، وإنّما علي الإنسانية جمعاء، كباقي الأيّام التي تكون مورداً للتذكير، فيأتي الإحتفال كممارسة عبادية ومصداقاً لذكر النعم التي منَّ اللّه بها علينا وتطبيقاً لمضمون الآية الكريمة (... وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ)30. ويوم الولادة فيحياة الأنبياء يعدّ يوماً مهمّاً ومباركاً . فقد سلّم اللّه علي نبيّه يحيي في هذا اليوم، حيث قال: (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً)31. ونبيّنا أفضل الأنبياء، فلابدّ أن يكون يوم ولادته أشرف من يوم ولادة غيره من الأنبياء، والتذكير به يكون أكبرحجماً وعطاءً من التذكير بولادة غيره، فإنّه اليوم الذي أنعم اللّه به علي البشرية بخاتم الأنبياء علي الإطلاق.

الواقع التاریخي لیوم المولد النبوي(ص)

يقول المؤرخون: كان إزدياد التعظيم للنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) بين أهل الصلاح والورع سبباً في أن صار يحتفل بمولده عام (300ه)32 أي أن الإحتفال كان أسبق من هذا التاريخ، وفي هذه الفترة الزمنية قد انتقل من صورته الفردية إلي الإحتفال بصورته الجماعية، والسبب يعود للإهتمام المتزايد الذي كان يبديه أهل الصلاح والورع من أبناء الأُمة الإسلامية بهذا اليوم. ولذا يُنقل عن الكرجي ـ المتوفّي عام 343 ه ـ وكان من الزُهّاد المتعبدين، أنه كان لا يفطر إلاّ في العيدين، وفي يوم مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)33. وقال القسطلاني: ولازال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (صلّي اللّه عليه و آله) ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور ويزيدون فيالمبرّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم ـ إلي أن قال ـ : فرحم اللّه امرئً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً34 . ثم يثني القسطلاني علي موقف ابن الحاج بقوله: ولقد أطنب ابن الحاج في المدخل في الإنكار علي ما أحدثه النّاس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرّمة عند عمل المولد الشريف، فاللّه تعالي يثيبه علي قصده الجميل35. قال السخاوي: لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقّون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم36. وقال ابن عباد في رسائله الكبري: وأمّا المولد فالذي يظهر لي أنّه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم وكلّ ما يفعل فيه ممّا يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزيّن بلباس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب، أمر مباحلا ينكر عليه أحد37. وعن ابن حجر أنّه قال: وأمّا ما يعمل فيه، فينبغي الإقتصار علي ما يُفهم منه الشكر للّه تعالي من التلاوة، والإطعام، والصدقة، وإنشاء شيءٍ من المدائح النبويّة والزهدية... وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو، وغير ذلك، فما كان من ذلك مباحاً، بحيث لا ينقض السرور بذلك اليوم، لا بأس بإلحاقه به، وأما ما كان حراماً أو مكروهاً، فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأَولي38.

الاحتفال بالمولد النبوي عند الحکّام و الساسة

يُذكر أنّ أوّل من احتفل بمولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) من الحكّام، هو الأمير أبو سعيد مظفر الدين الإربلي، المتوفي (630 ه )39. وكان يفد إلي هذا العيد، طوائف من النّاس من بغداد، والموصل، والجزيرة، وسنجار، ونصيبين، بل ومن فارس. منهم العلماء والمتصوّفون، والوعّاظ،والقرّاء، والشعراء، وهناك يقضون في إربلا من المحرّم إلي أوائل ربيع الأوّل. وكان الأمير يُقيم في الشارع الأعظم مناضد عظيمة من الخشب، ذات طبقات كثيرة، بعضها فوق بعض، تبلغ الأربع والخمس، ويزيّنها، ويجلس عليها المغنّون، والموسيقيون، ولاعبو الخيال حتّي أعلاها... الخ40. ويقول السيّد رشيد رضا: إنّ أوّل من أبدع الاجتماع لقراءة قصّة المولد النّبوي، أحد ملوك الشراكسة في مصر41. كما قد اُلّف العديد من المصنّفات من الكتب والرسائل ونشرت بحوث كثيرة تتحدّث عن مشروعية الإحتفال بالمولد النّبوي وسائر المواسم والمراسم، هذا عدا البحوث المبثوثة في الكتب المختلفة، المؤلّفة لأغراض أُخري فمن هذه الكتب والرسائل: 1 ـ كتاب (التنوير في مولد السراج المنير) لابن دحيةالذي ألّفه للأمير مظفر الدين حيث أعطاه الأمير ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته42. 2 ـ رسالة السيوطي المسمّاة بـ (حسن المقصد). 3 ـ كتاب (المولد) لابن الربيع. 4 ـ كتاب (النعمة الكبري علي العالم في مولد سيّد وُلد آدم) لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي، صاحب كتاب الصواعق المحرقة43.

خواص المولد و احکامه

وليوم المولد بعض الأحكام الشرعية الخاصة به، كما أنّ له بركات ومواهب يَمنّ بها اللّه سبحانه علي عباده. 1 ـ يُفهم من أقوال العلماء ـ سابقي الذكر ـ علي أنّ يوم المولد يعتبر عيداً كباقي الأعياد، مثل القسطلاني، وابن الحاج، وابن عباد، وابن حجر44. 2 ـ قال سبط ابن الجوزي: ومن خواصّه، أنّه أمان في ذلك العام وبشري عاجلة بنيل البغية والمرام45. 3 ـ استحباب القيام ووجوب الصلاة عليه، وقد ذكروا: أنّهم كانوا يقومون وقوفاً احتراماً وإجلالاً، وقد تكلّموا فيحكم هذا القيام. قال الصفوري الشافعي: مسألة القيام عند ولادته، لا إنكار فيه فإنّه من البدع المستحسنة. وقد أفتي جماعة باستحبابه عند ذكر ولادته. وقال جماعة بوجوب الصلاة عليه عند ذكره، وذلك من الإكرام والتعظيم له (صلّي اللّه عليه و آله) ...46.

مناقشة القائلین بحرمة الاحتفال بمولد النبوي

رغم وضوح شرعية الإحتفال بمولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وارتباطه بأصل الدين، إلاّ أنّ المتسمّين بالسلفيةمازالوا يصرّون علي أنّ الإحتفال يندرج ضمن دائرة الابتداع. يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض النّاس، إمّا مضاهاةً للنصاري في ميلاد عيسي (عليه السلام) ، وإمّا محبّة للنبي (صلّي اللّه عليه و آله)، واللّه قد يُثيبهم علي هذه المحبّة والاجتهاد، لا علي البدع من إتّخاذ مولد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) عيداً، مع اختلاف النّاس في مولده، فإنّ هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحقّ به منّا، فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول اللّه وتعظيماً له منّا... ويضيف القول: كما أنّ ابن الحاج رغم اعترافه ليوم مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) من الفضل، لا يوافق علي الإحتفال بالمولد لما فيه من المنكرات، ولأنّ النبيّ أراد التخفيف عن أُمّته، ولم يرد في ذلك شيء بخصوصه فيكون بدعة47. فالذي نلاحظه من خلال كلّ هذه المقولة المتقدّمة، أنّ الذين حظروا علي النّاس الإحتفال بيوم المولد والمناسبات الإسلامية الأُخري، وعدّوا هذا الأمر عملاً محرّماً، قد بنوااستدلالهم هذا علي فهم مغلوط لمعني (الابتداع)، فقد تصوّروا أنّ معني عدم الإرتباط بالدين، هو عدم وجود الأمر في الصدر الأوّل للتشريع، أو عدم ورود الدليل الخاص الذي يذكره بشخصه وعنوانه، ومعني الإرتباط بالدين هو وجود ذلك الأمر فيعصر التشريع الأوّل، أو ورود أمرٍ فيه بخصوصه. والمدار في الابتداع ليس هو ورود الدليل الخاصّ، أو عدم وروده فحسب؛ وإنّما يجب النظر في عموميات التشريع والأدلة الكلّية التي تخرج العمل عن حيّز (الابتداع)، كما أنّ عدم وجود العمل في العصر الأوّل للتشريع لا يساوق عدم مطلوبية الشريعة له، ووجوده لا يساوق مطلوبيته، لأنّ المدار في الابتداع ليس هو وجود العمل أو عدم وجوده في عصر التشريع. وقد حاول البعض أن يُضيف دليلاً آخر لتحريم الإحتفال بالمولد النّبوي، وهو اشتمال هذه الاحتفالات علي الأُمور المحرّمة غالباً كالموسيقي، والغناء، واختلاط النساء بالرجال... وغير ذلك. إنّ أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يرفضون الاحتفالات المشتملة علي الأُمور المحرّمة رفضاً قاطعاً،ويقيمون الاحتفالات التي فيها تبجيل لشخص الرسول الأعظم فهم يعزروه بذلك. علي أنّ اقتران الأُمور المحرّمة بمناسبات المولد النّبوي لا يشكّل إلغاءً لأصل العمل، ولا يؤدّي إلي القول بتحريمه، إذ أنّ القول بذلك يستلزم القول ببطلان أُصول العبادات المسلّمة فيما لو اقترنت بأيّ عنوان تحريمي، وهذا ما لا يتفوّه به أحد، فلو اقترنت الصلاة الواجبة بالنظر إلي المرأة الأجنبية مثلاً الذي هو عمل محرّم قطعاً؛ فهل يُقال هنا بأنّ الصلاة الواجبة أصبحت (بدعة) يحرم الإتيان بها ـ والعياذ باللّه ـ؟ وهل يسري التحريم بطريقة تصاعدية إلي أصل تشريعها وإيجابها بمجرد هذا الاقتران؟ والذي يهمّنا ذكره هنا هو أنّ النصوص الشرعية العامّة الواردة في مقام التأكيد علي ضرورة احترام شخصية الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله)، وتبجيله، وتوقيره، حيّاً وميّتاً، ممّا لا يسع أحد إنكارها، أو التشكيك فيها لكثرتها وتواترها، وهي كافية لأن تصحّح عمل المولد، وتضفي عليه طابع الشرعية، وتجعله من مظاهرها البارزة، ومصاديقها الواضحة والجليّة. من هنا فقد أدرك بعض علماء الجمهور، عمق انتسابهذا الأمر إلي الشريعة، عن طريق الأدلّة الكلّية المتسالمة، فعبّر البعض عنه بـ (البدعة الحسنة)، فيقول (ابن حجر) بهذا الشأن: عمل المولد بدعة، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنّها مع ذلك قد اشتملت علي محاسن وضدّها، فمن تحرّي في عملها المحاسن، وتجنّب ضدّها كان بدعةً حسنةً، وإلاّ فلا48. ويقول الإمام (أبو شامة): ومن أحسن ما أُبتدع في زماننا، ما يُفعل كلّ عام في اليوم الموافق ليوم مولده (صلّي اللّه عليه و آله) من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة، والسرور، فإنّ ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مُشعر بمحبّته (صلّي اللّه عليه و آله) وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر اللّه علي ما منَّ به من إيجاد رسوله (صلّي اللّه عليه و آله) الذي أرسله رحمةً للعالمين49. ويقول السيوطي في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد): عندي أنّ أصل عمل المولد، الذي هو اجتماعالنّاس، وقراءة ما تيسّر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمدّ لهم سماطاً يأكلونه وينصرفون من غير زيادة علي ذلك، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف50. وينقل (ابن تيمية) أقوالاً عديدة تدلّ علي مشروعية الاجتماع والإحتفال بيوم المولد النّبوي الشريف، علي الرغم من أنّه من المتشدّدين علي مَن يتّخذه عيداً كما يزعم. ويقول: قال المروزي: سألت أبا عبداللّه عن القوم يبيتون، فيقرأ قارئ ويدعون حتّي يصبحو قال: أرجو أن لا يكون به بأس... وقال أبو السري الحربي: قال أبو عبداللّه : وأي شيء أحسن من أن يجتمع النّاس يصلّون ويذكرون ما أنعم اللّه عليهم، كما قالت الأنصار؟. وأضاف: وهذا إشارة إلي ما رواه أحمد: حدّثنا إسماعيل، أنبأنا أيّوب، عن محمّد بن سيرين، قال: نبئت أنّ الأنصار قبلقدوم رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) المدينة، قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم اللّه به علينا، فقالوا يوم السبت، ثم قالوا لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا فيوم الأحد، قالوا لا نجامع النصاري في يومهم، قالوا فيوم العروبة، وكانوا يسمّون يوم الجمعة يوم العروبة فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن زرارة، فذُبحت لهم شاة فكفتهم51. إذاً فمشروعية الاجتماع للاحتفال والابتهاج، بالذكريات الدينية المهمّة نزعة إنسانية، تسير جنباً إلي جنب مع الفطرة البشرية، وتنبعث طبيعيّاً ما دام الإنسان يحيي في جوِّ الجماعة الإنسانية، ولذا نري أنَّ المسلمين لم يتخلّفوا عن مجاراة هذا السلوك الإنساني في مناسباتهم الدينية المختلفة، وهذا الذي ينقله لنا (ابن تيمية) واحد من عشرات المظاهر التي كانت تعبّر عن هذا الواقع، وتعكسه في حياة المسلمين، بما يتناسب وينسجم مع طبيعة الأعراف والتقاليدوالاهتمامات التي كانت تحكم المجتمع آنذاك، الأمر الذي يدلّل علي أنّ جذور إقامة الإحتفال، والاجتماع لإحياء الذكريات الإسلامية كانت ممتدّة إلي بدايات عصر ظهور الدعوة الإسلامية المباركة. ولقد كان رأي (سعيد حوّي) أكثر تحرّراً واعتدالاً من آراء الآخرين في هذه المسألة، حين دعم القول بجواز إحياء الذكريات الإسلامية عموماً، وذكري مولد النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله) علي نحو الخصوص، بالأدلّة المقنعة، وحمل علي المتشدّدين الذين لم يحسنوا فهم معني (الابتداع)، علي الرغم من أنّه لم يبرح عاكفاً علي الإيمان بأنّ (البدعة) تنقسم إلي مذمومة وممدوحة. فيقول: والذي نقوله أن يعتمد شهر المولد، كمناسبة يُذكّر بها المسلمون بسيرة رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) وشمائله فذلك لا حرج، وأن يعتمد شهر المولد، كشهر تهيج فيه عواطف المحبّة نحو رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) فذلك لا حرج فيه، وأن يعتمد شهر المولد، كشهر يكثر فيه الحديث عن شريعة رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله)، فذلك لا حرج فيه، وأنّ ممّا أُلِّف في بعض الجهات، أن يكون الاجتماع علي محاضرة وشعر، أو إنشادٍ في مسجد، أو فيبيتٍ بمناسبة شهر المولد، فذلك ممّا لا أري حرجاً فيه، علي شرط أن يكون المعني الذي يُقال صحيحاً. إنّ أصل الاجتماع علي صفحةٍ من السيرة، أو علي قصيدة في مدح رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) جائز، ونرجو أن يكون أهله مأجورين، فإن يُخصص للسيرة شهر يُتحدث عنها فيه بلغة الشعر والحبّ فلا حرج. ألا تري لو أنّ مدرسة فيها طلاّب، خصصت لكلّ نوعٍ من أنواع الثقافة شهراً بعينه، فهل هي آثمة؟ ما نظنّ أن الأمر يخرج عن ذلك. ويضيف إلي ذلك القول: لقد كان الاُستاذ حسن البنّا رجل صدق، وثاقب نظر، وإماماً في العلم، وكان يري إحياء المناسبات الإسلامية في عصر مضطرب مظلم، قد غفل فيه المسلمون وجهلوا فيه كثيراً من أُمور دينهم. ومن كلامه (ره) في مذكراته: إحياء جميع اللّيالي الواجب الإحتفال بها بين المسلمين، سواء بتلاوة الذكر الحكيم، وبالخطب، والمحاضرات المناسبة... ثم يحمل علي المتشدّدين قائلاً: والمتشدّدون في مثل هذه الشؤون تشدّدهم في غير محلّه، فليس الأصل في الأشياء الحرمة، بل الأصل فيها الإباحة، حتّي يردّ النصّ بالتحريم، وفهمهم لحديث: «كلّ ماليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» فهم خاطئ...52 . ففي الحقيقة إنّ التعبير الاجتماعي عن المشاعر والعواطف الدينية، التي تختزن فينفوس المسلمين أمر متروك لأعراف النّاس، وطرقهم المختلفة، وعاداتهم الاجتماعية الخاصة، ونظير هذا الأمر ما تفعله أغلب الدول، أو كلّها بالاحتفال في يوم استقلالها، إلاّ أنّ الفرق بين هذه الاحتفالات العامّة، وبين الإحتفال بذكري يوم المولد النّبوي الشريف، أو بقيّة المناسبات الإسلامية المهمّة، هو أنّ تلك الاحتفالات العامّة خاضعة إلي الرسوم والآداب، والأعراف التي تحكم حياة النّاس، من دون أن تكون مشمولة بعموميّات التشريع التي تُدخلها في دائرة الندب والمطلوبية، وأمّا الإحتفال بالذكريات الإسلامية، ولا سيّما بمولد النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله) فهو مشمول بأوامر الشريعة الإسلامية، ومأثور عنها كما تقدّم الكلام فيه. وختاماً، لابدّ من القول بأ نّا إذا نظرنا إلي دوافع ومنطلقات هذا اللون من السلوك الذي يتمسّك به أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ويصرّون علي ممارسته،والمواظبة عليه في مختلف الذكريات الإسلامية المفرحة، والمحزنة، ولا سيّما إصرارهم علي الإحتفال بيوم المولد النّبوي الشريف، فإنّا نجد الحرص الأكيد من قبل هؤلاء علي إبقاء معالم شخصية الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله) متألقةً، وحيّةً في ضمائر المسلمين حيناً بعد حين، والاعتزاز بتعاليم الرسالة الإسلامية، وتجديد الإنبعاث نحوها، والتمسك بها، إذ أنّ المطّلع علي برامج هذه الاحتفالات، يلاحظ أنّها تستهدف أوّل ما تستهدف تجلية مكانة الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله)، وإبراز آثارها ومعطياتها الخالدة، من خلال الكلمات، والقصائد، والخطب والخواطر، والمقالات الإسلامية الهادفة، بل وقد يتضمّن البعض منها تقديم الدراسات المتنوّعة، حول الجوانب المختلفة من حياته الكريمة، وجهاده الكبير، في إعلاء كلمة اللّه علي وجه الأرض، وغير ذلك من الأُمور التي ترتبط به (صلّي اللّه عليه و آله)، وتشدّ المسلمين نحو سيرته، وتحثّهم علي الاقتداء به، والسير علي هداه. ولمزيد من توضيح القول نطالع قول السيّد محسن الأمين العاملي : وأمّا جعل التذكار لمواليد الأنبياء والأولياء الذي يسمّيهالوهابية بالأعياد والمواسم بإظهار الفرح والزينة في مثل يوم ولادتهم التي كانت نعمة من اللّه علي خلقه. وقراءة حديث ولادتهم كما يتعارف قراءة حديث مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، وطلب المنزلة والرفعة من اللّه لهم وتكرار الصلوات والتسليم علي الأنبياء، والترحّم علي الصلحاء، فليس فيه مانع عقلي ولا شرعي، إذا لم يشتمل علي محرّم خارجي، كغناء أو فساد أو استعمال آلات اللهو أو غير ذلك، كما يفعل جميع العقلاء وأهل الملل في مثل أيّام ولادة عظمائهم وأنبيائهم، وتبوئ ملوكهم عروش الملك وكلّ ذلك نوع من التعظيم، فإن كان صاحبه أهلاً للتعظيم؛ كان طاعة وعبادة للّه تعالي، ولكن ليس كلّ تعظيم عبادة للمعظم. فقياس ذلك بفعل المشركين مع أصنامهم قياس فاسد53.

--------------------------
1. سورة البقرة: الآية 185.

2. سورة القدر: الآيات 1 ـ 3 .

3. صحيح مسلم 3: 6، كتاب يوم الجمعة، باب فضل يوم الجمعة.

4. الرسائل، السيّد المرتضي 2: 264.

5. مجمع البحرين 1: 163 مادة بدع.

6. فتح الباري13: 212 (كتاب الاعتصام بالكتاب، باب الاقتداء بالسنن).

7. البدعة، مفهومها، حدّها، آثارها، الشيخ جعفر السبحاني: ص39.

8. سورة الحجر: الآية 9 .

9. الأنفال: 60.

10. انظر: البدعة، مفهومها، حدّها، آثارها: ص39 ـ 41 .

11. سنن الدارمي 1: 45 باب اتباع السنّة، سنن ابن ماجة 1: 16 ح42، مستدرك الحاكم 1: 96 (فصل عليكم بسنّتي).

12. صحيح مسلم 3: 11 (كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة).

13. مسند أحمد 6: 240 ما أُسند عن عائشة، صحيح البخاري 3: 167 (كتاب الصلح)، صحيح مسلم 5: 132 (كتاب الأقضية، باب خير الشهود).

14. جوامع العلوم والحكم: ص252.

15. فتح الباري 13: 212 (كتاب الاعتصام بالكتاب، باب الاقتداء بالسنن).

16. انظر: في ظلّ أُصول الإسلام: ص55.

17. سورة الأعراف: الآية 157.

18. مجمع البيان 4: 604، تفسير القرطبي 7: 301، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 9: 265، تفسير الميزان 8: 282.

19. الحجرات: 2 ـ 3.

20. سورة النور: الآية 63.

21. الأحزاب: 56.

22. سورة الأحزاب: الآية 56 .

23. مسند أحمد 1: 201، سنن الترمذي 5: 551 ح 3546.

24. وقد أوصلها ابن القيّم الجوزية إلي واحد وأربعين موطناً. انظر: جلاء الأفهام: 463 ـ 611.

25. مسند أحمد 3: 177 و275 و278: (وفيه ولده ووالده ـ ما أُسند عن أنس)، صحيح البخاري 1: 9 (كتاب الإيمان ـ وفيه ولده ووالده)، صحيح مسلم 1: 49 (كتاب الإيمان، باب الحثّ علي الجنّة)، سنن النسائي 8: 115 (كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان).

26. سنن الترمذي 5: 329، ح3878، أُسد الغابة 2: 13 ذكر ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، كنز العمّال 12: 95، ح34150.

27. انظر: الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزّل 7: 458 ـ 459 و16: 201.

28. سورة إبراهيم: الآية 5.

29. التبيان 6: 274، الكشّاف للزمخشري 2: 367، تفسير الثعالبي 3: 375، الدرّ المنثور 4: 70، التفسير الكبير للفخر الرازي 19: 84، مجمع البيان 6: 59 ـ 60، الميزان للطباطبائي 12: 18، الجامع الكبير لأحكام القرآن 9: 342.

30. سورة إبراهيم: الآية 5.

31. سورة مريم: الآية 15 .

32. المواسم والمراسم، جعفر مرتضي العاملي: ص21.

33. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 2:298، المواسم والمراسم: 21 .

34. المواهب اللدنية 1: 27 .

35. المصدر السابق .

36. السيرة الحلبية 1: 137 (ذكر مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وفضائله).

37. عنه في: مواهب الجليل للرعيني 3: 319، أضواء البيان للشنقيطي 7: 373 ـ 374.

38. حكاه عنه الصالحي في سُبل الهدي والرشاد 1: 366 جماع أبواب مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله، باب 23)، حواشي الشراني 7: 423.

39. البداية والنهاية 13: 159 ـ 160، سبل الهدي والرشاد 1: 362 جماع أبواب مولده (صلّي اللّه عليه و آله، باب 13).

40. سير أعلام النبلاء 22: 335 ـ 336، رقم الترجمة 205، البداية والنهاية 13: 159 ـ 160، سُبل الهدي والرشاد 1: 362 جماع أبواب مولده (صلّي اللّه عليه و آله، باب 13)، التوسل بالنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وجهلة الوهابيين: 116 .

41. راجع: المواسم والمراسم: 20 .

42. وفيات الأعيان 4: 119، ترجمة رقم 547، البداية والنهاية 13: 169 .

43. راجع المواسم والمراسم، جعفر مرتضي العاملي: 25.

44. المواهب اللدنية 1:27، سُبل الهدي والرشاد 1: 362 ـ 364 جماع أبواب مولده (صلّي اللّه عليه و آله، باب 13)، السيرة الحلبية 1: 137 (ذكر مولده (صلّي اللّه عليه و آله)) .

45. المواهب اللدنية 1:27، سُبل الهدي والرشاد 1: 362 جماع أبواب مولده (صلّي اللّه عليه و آله، باب 13)، السيرة الحلبية 1: 137 (ذكر مولده (صلّي اللّه عليه و آله) ).

46. نزهة المجالس 2:80 ، وعنه في المواسم والمراسم: 25 .

47. اقتضاء الصراط المستقيم: 276 .

48. المواسم والمراسم، جعفر مرتضي العاملي: 62، عن رسالة المقصد المطبوعة مع النعمة الكبري علي العالم، والتوسّل بالنبيّ وجهلة الوهابيين: 114.

49. السيرة الحلبية 1: 137 (فصل في ذكر مولده (صلّي اللّه عليه و آله)) .

50. سُبل الهدي والرشاد 1: 367 (جماع أبواب مولده (صلّي اللّه عليه و آله)، باب 13)، حواشي الشراني 7: 422 (كتاب الصداق، فضل في وليمة العرس).

51. اقتضاء الصراط المستقيم: 304، وروي الحديث الصنعاني في المصنف 3: 159، ح 5144، والثعلبي في تفسيره 9: 309 سورة الجمعة، والزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار 4: 12 ـ 13، والصالحي في سُبل الهدي والرشاد 3: 334 (جماع أبواب بعض الحوادث من السنة الأُولي للهجرة، باب 1) .

52. كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر، سعيد حوّي: 6 ، السيرة بلغة الحبّ والشعر: 36 ـ 39 .

53. كشف الإرتياب، السيّد محسن الأمين العاملي: 450.
------

کتاب في رحاب أهل البیت(ع) : الاحتفال بذکری مولد النبي(ص)

 


source : www.abna.ir
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التوسل بأُم البنين عليها‌السلام
السرّ الثامن - زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) ...
المتظاهرون بالدين في كلمات الإمام الحسين (ع)
دراسة في أسباب الفشل وعوامل النجاح
جزاء مخالفة الوجدان
أ يبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ، فلو أتيته ...
الإعجاز في ولادة الإمام المهدي (عج)
مفهوم‌ البيعة‌
17 ربيع الأول ذكرى ولادة النبي الأعظم "ص" وحفيده ...
لماذا نزل القرآن في ليلة القدر ؟

 
user comment