خبز شعير ولبن حامض
عن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي بن أبي طالب العصر فوجدته جالساً بين يديه صحيفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدّة حموضته، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسر بيده أحياناً فإذا غلبه كسره بركبته وطرحه فيه، فقال×: >ادن فأصب من طعامنا هذا فقلت: إني صائم. فقال×: سمعت رسول الله’ يقول: من منعه الصوم من طعام يشتهيه كان حقاً على الله أن يطعمه من طعام الجنّة ويسقيه من شرابها.
فقلت لجاريته وهي قائمة قريب منه: ويحك يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ؟ ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة؟! فقالت: لقد تقدّم إلينا ألا نفعل له طعاماً.
فقال×: >بأبي وأمي من ينخل له طعام ولم يشبع من خبر البرّ ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز وجل<([1]).
يوم مع علي×
عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: أرفع أزارك فإنه أبقى لثوبك واتقى لك وخذ من رأسك إن كنت مسلماً، فمشيت من خلفه وهو مؤتزر بأزار ومرتد برداء ومعه الدرّة كأنه إعرابي بدوي، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريباً بهذا البلد، قلت: أجل رجل من أهل البصرة؛ قال: هذا علي أمير المؤمين.
(فمضى) حتى انتهى إلى دار بني معط وهو سوق الإبل، فقال: بيعوا ولا تحلفوا فإن اليمين (القسم) ينفق (يُفني) السلعة ويمحق البركة.
ثم أتى (جاء إلى) أصحاب التمر، فإذا خادمة تبكي، فقال ما يبكيك؟ قالت: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم فردّه مواليّ (أهلي) وأبى (صاحب التمر) أن يقبله.
فقال (علي): خذ تمرك واعطها درهماً فإنها خادمة ليس لها أمر، فدفعه (صاحب التمر). فقلت: أتدري من هذا؟ قال: لا؛ قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين فصبّ تمره واعطاها درهمها وقال: أحب أن ترضى عني، فقال×: ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم، ثم مرّ مجتازاً بأصحاب التمر فقال: يا أصحاب التمر اطعموا المساكين يربوا كسبكم، ثم مرّ مجتازاً ومعه المسلمون حتى أتى أصحاب السمك فقال: لا يباع في سوقنا طاف (الذي يموت في الماء فيعلو ويطفو) ثم أتى دار وهو سوق الكرابيس فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلما عرفه لم يشتر منه شيئاً ثم أتى آخر فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً؛ فأتى غلاماً حدثا (صغير السن) فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين (المفصل ما بين الساعة والكف أو الساق والقدم) إلى الكعبين وقال حين لبسه: الحمد الله الذي رزقني من الرياش (الثياب) ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذا شيء ترويه عن نفسك أو شيء سمعته من رسول الله’.؟ قال: >بل شيء سمعته من رسول الله’ يقول عند الكسوة.
فجاء أبو الغلام صاحب الثوب فقيل: يا فلان! قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين قميصاً بثلاثة دراهم، قال (لأبنه): أفلا أخذت منه درهمين؟! فأخذ أبوه درهماً وجاء به إلى أمير المؤمنين وهو جالس على باب الرحبة ومعه المسلمون، فقال: أمسك هذا الدرهم يا أمير المؤمنين قال×: ما شأن هذا الدرهم؟ قال: كان ثمن قميصك درهمين فقال×: باعني برضاي وأخذت برضاه<([2]).
وبعد فتح مكة بعث رسول الله’ فيما حول مكة يدعون إلى الله عز وجل ولم يأمر بقتال ... وبعث خالد بن الوليد إلى بني جذعة بن عامر، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة، وقتلوا عم خالد فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا: يا خالد إنّا لم نأخذ السلاح على الله ورسوله ونحن مسلمون، فانظر فإن كان بعثك رسول الله’ ساعياً فهذه أبلنا وغنمنا فاغد عليها، فقال (خالد): ضعوا السلاح، قالوا: إنا نخاف منك أن تأخذنا باحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله. فانصرف (خالد) عنهم بمن معه فنزلوا قريباً.
ثم شنّ عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً، ثم قال (خالد): ليقتل كل رجل منكم أسيره، فقتلوا الأسرى وجاء رسولهم إلى رسول الله’ فأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع’ يده إلى السماء وقال: اللهم أني أبرأ إليك مما فعل خالد، وبكى’ ثم دعا علياً× فقال: أخرج إليهم وأنظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب فودى علي× لهم النساء والأموال حتى أنه ليدي ميلغة (الإناء) الكلب، ففضل معه من المال فضلة فقال×: هل بقي لكم مال أو دم لم يؤد؟ قالوا: لا. قال: إنّي أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول الله’ ففعل ثم رجع إلى رسول الله’ فأخبره فقال’: أصبت وأحسنت([3]).
حكاية عقيل
سأل معاوية عقيلاً& عن قصّة الحديدة المحماة المذكورة، فبكى (عقيل) وقال: >أنا أحدثك يا معاوية عنه (عن أمير المؤمنين علي×) ثم أحدثك عما سألت: نزل بالحسين ابنه ضيق فاستسلف (اقترض) درهماً اشترى به خبزاً واحتاج إلى الأدام، فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقاً من زقاق عسل جاءتهم من اليمن.
فأخذ منه رطلاً، فلما طلبها (علي) ليقسّمها قال: يا قنبر أظن أنه حدثت في هذا الفرق حدث! قال: نعم يا أمير المؤمنين وأخبره فغضب وقال: عليَّ بحسين، ورفع الدرّة؛ فقال (الحسين): بحق عمّي جعفر، وكان إذا سئل بحقّ جعفر سكن، فقال (علي) له: ما حملك إذ أخذت منه قبل القسمة؟ قال (الحسين): أن لنا فيه حقاً، فإذا أعطيناه رددناه، قال (علي): فداك أبوك وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون حقوقهم< أما لولا أني رأيت رسول الله’ يقبّل ثنيتيك لأوجعتك ضرباً، ثم دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه وقال: اشتر به خير عسل تقدر عليه قال عقيل: والله لكأني أنظر وهي على فم الزقّ وقنبر يقلّب العسل فيه ثم شدّه وجعل يبكي ويقول: اللهم اغفر للحسين فإنه لا يعلم.
فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله وأعجز من يأتي بعده، هلم حديث الحديدة. قال: نعم، أقويت (افتقرت) وأصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته([4]).
فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضرّ ظاهران عليهم، فقال: إئتني عشيّة لأدفع لك شيئاً، فجئته يقودني أحد ولدي فأمر بالتنحي ثم قال: ألا فدونك، فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع (الحرص الشديد) أظنّها صرّة، فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً، فلما قبضتها نبذتها وخرتُ كما يخور (صوت البقر) الثور تحت جزاره، فقال لي: ثكلتك أمك هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا فكيف بك وبي غداً أن سلكنا في سلاسل جهنم؟! ثم قرأ {إِذِ الأَْغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ}([5]) ثم قالك ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك (ألا ما ترى، فانصرف إلى أهلك، فجعل معاوية يتعجب ويقول: هيهات!! عقمت النساء أن تلد مثله<([6]).
وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: دخلت على علي× فإذا بين يديه لبن حامض آذاني حموضته وكسر يابسة فقلت يا أمير المؤمنين: أتأكل مثل هذا؟! فقال لي: يا أبا الحنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا وأشار إلى ثيابه فإن أنا لم آخذ به خفت ألا ألحق به<([7]).
وروى معاوية بن عمار من جعفر بن محمد× قال: ما أعتلج على علي× أمران في ذات الله تعالى إلا أخذ بأشدّهما، ولقد علمتم أنه كان يأكل يا أهل الكوفة عندكم من ماله بالمدينة، وأن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره، ومن كان أزهد في الدنيا من علي؟!([8]).
وبعد أنتصاره في معركة الجمل دخل بيت المال وألقى نظرة على الأموال فأمر أن يعطى كل شخص خمسمئة درهم فلما وزعت الأموال إذا هي لا تنقص ولا تزيد وأخذ الإمام سهمه وخاطب بيت المال قائلاً للدنيا: غرّي غيري.
وفي طريق صادفه إنسان فقال للإمام× أنني لم أشهد حرب الجمل ولكن هواي معكم فأشركني في القسمة فأعطى الإمام سهمه للرجل وعاد إلى منزله خالي الوقاض([9]).
عفوه
وروى أنه× كان جالساً في أصحابه إذ مرّت به امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال×:
>إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هَبَابِها (هياجها) فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فيلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأته فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه؟!
فوثب القوم ليقتلوه فقال×: >رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب<([10]).
كرامة الإنسان الخاطئ
منذ اليوم الأول لتصديه إلى المسؤولية وتحمله أعباء الحكم بدأ في مشروعه الإصلاحي الكبير، ولذا حاول على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي أن يرشد حركة الفرد باتجاه الإصلاح الذاتي، فإذا ما ارتكب إنسان خطأ أو خطيئة من دون الإقرار والمساس بحقوق المجتمع فيتعين عليه عدم الاعتراف العلني أو تسليم نفسه إلى الجهة الرسمية والقضاء بل الأفضل تدارك هذا الخطأ والتوبة لأن هدف الإسلام ليس إنزال العقاب بحق المذنب بقدر ما يطلب من الفرد أن يتوب ويعاهد نفسه بعدم ارتكاب الخطيئة وفي هذه القصّة ما يبين منهج الإمام× الإصلاحي في هذا المضمار فقد روى في كتب الحديث:
أتت امرأة مجحٌّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهرني طهّرك الله، فإنّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع، فقال لها: ممّا أُطهّرك؟ فقالت: أنّي زنيت، فقال لها: ذات بعل([11]) أنت أم غير ذلك؟ قالت: بل ذات بعل، فقال لها: انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ائتني أُطهرك، فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللهم إنّها شهادة، فلم يلبث أن أتته فقالت: قد وضعت فطهّرني قال: فتجاهل عليها، فقال: أطهّرك يا أمة الله مماذا؟ فقالت: إنّي زنيت فطهّرني، فقال: وذات بعل([12]) أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: فكان زوجك حاضراً أم غائباً قالت: بل حاضراً، قال: فانطلقي فارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله، قال: فانصرفت المرأة؛ فلمّا صارت منه حيث لا تسمع كلامه قال: اللهمَّ إنّها شهادتان، قال: فلمّا مضى حولان أتت المرأة فقالت: أنّي أرضعته حولين فطهّرني فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم، قال: وبعلك غائب إذ فعلت ما فعلت أو حاضر؟ قالت: بل حاضر، قال: انطلقي فاكفليه حتّى يعقل أن يأكل ويشرب ولا يتردّى من سطح ولا يتهوّر في بئر، قال: فانصرفت وهي تبكي فلمّا ولّت فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهمَّ إنّها ثلاث شهادات.
قال: فاستقبلها عمر وبن حريث المخزوميّ فقال لها: ما يبكيك يا أمة الله وقد رأيتك تختلفين إلى عليّ تسألينه أن يطهّرك؟ فقالت: إنّي أتيت أمير المؤمنين× فسألته أن يطهّرني قال: أكفلي ولدك حتّى يعقل أن يأكل ويشرب ولا يتردّى من سطح ولا يتهوّر في بئر، وقد خفت أن يأتي عليّ الموت ولم يطهّرني فقال لها عمرو بن حريث: ارجعي إليه فأنا أكفله، فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين× بقول عمرو، فقال لها أمير المؤمنين× وهو متجاهل عليها: ولم يكفل عمرو ولدك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني، فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: أفغائباً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم حاضراً قالت: بل حاضراً، قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمَّ إنّه ثبت لك عليها أربع شهادات، وإنّك قد قلت لنبيّك’ فيما أخبرته به من دينك: يا محمّد من عطّل حدّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادّتي اللهمَّ فإنّي غير معطّل حدودك ولا طالب مضادّتك ولا مضيّع لأحكامك بل مطيع لك ومتّبع سنّة نبيّك، قال: فنظر إلى عمرو بن حريث وكأنّما الرمّان يفقأ في وجهه فلمّا نظر إلى ذلك عمرو قال: يا أمير المؤمنين إنّني إنّما أردت أن أكفله إذ ظننت أنّك تحبُّ ذلك، فأمّا إذا كرهته فإنّي لست أفعل، فقال أمير المؤمنين×: أبعد أربع شهادات بالله؟ لتكفلنّه وأنت صاغر، فصعد أمير المؤمنين المنبر فقال: يا قنبر ناد في الناس: الصلاة جامعة، فنادى قنبر في الناس فاجتمعوا حتّى غصّ المسجد بأهله، وقام أمير المؤمنين× فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيها الناس إن إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظهر ليقيم عليها الحدّ إن شاء الله، فعزم عليكم أمير المؤمنين لمّا خرجتم وأنتم متنكّرين ومعكم أحجاركم لا يتعرّف منكم أحد إلى أحد حتّى تنصرفوا إلى منازلكم إن شاء الله قال: ثمّ نزل.
فلمّا أصبح الناس بكرة خرج بالمرأة وخرج الناس متنكّرين متلثّمين بعمائمهم وبأرديتهم، والحجارة في أرديتهم وفي أكمامهم حتّى انتهى بها، والناس معه إلى الظهر بالكوفة، فأمر أن يحفر لها حفيرة، ثمّ دفنها فيه، ثمّ ركب بغلته وأثبت رجله في غرز الركاب، ثمّ وضع إصبعيه السبّابتين في أُذنيه، ثمّ نادى بأعلى صوته: يا أيّها الناس إنّ الله تبارك وتعالى عهد إلى نبيه’ عهداً عهده محمد’ إليَّ بأنّه لا يقيم الحدّ من لله عليه حدّ، فمن كان له عليه مثل ماله عليها فلا يقيم عليها الحدّ قال: فانصرف الناس يومئذ كلّهم ما خلا أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحدّ يومئذ وما معهم غيرهم.
قصة أخرى
وعن أحمد بن محمد بن خالد قال: أتاه (أتى علياً) رجل بالكوفة فقال له: يا أمير المؤمنين أني زنيت فطهرني قال: ممن أنت؟ قال: من مزينة. قال أتقرأ القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال×: فاقرأ، فقرأ فأجاد، فقال: أبك جنّة؟ قال: لا، قال: فاذهب حتّى نسأل عنك فذهب الرجل ثمّ رجع إليه بعد. فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني، فقال: ألك زوجة؟ قال: بلى،قال: فمقيمة معك في البلد؟ قال: نعم. قال: فأمره أمير المؤمنين× فذهب، وقال: حتّى نسأل عنك: فبعث إلى قومه فسأل عن خبره، فقالوا يا أمير المؤمنين صحيح العقل، فرجع إليه الثالثة فقال: مثل مقالته، فقال له: اذهب حتّى نسأل عنك، فرجع إليه الرابعة. فلمّا أقرّ قال أمير المؤمنين صلوات عليه لقنبر: احتفظ به، ثم غضب ثمَّ قال: ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملأ: أفلا تاب في بيته؟ فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ، ثمّ أخرجه ونادى في الناس: يا معشر الناس أخرجوا ليقام على هذا الرجل الحدّ ولا يعرفنَّ أحدكم صاحبه، فأخرجه إلى الجبّان (الصحراء) فقال: يا أمير المؤمنين أُصلّي ركعتين [فصلّى ركعتين] ثمّ وضعه في حفرته، واستقبل الناس بوجهه فقال: يا معاشر المسلمين إنّ هذه حقوق الله فمن كان لله في عنقه حقّ فلينصرف، ولا يقيم حدود الله من في عنقه حدٌّ؛ فانصرف الناس وبقي وهو والحسن والحسين‘، وأخذ حجراً فكبّر ثلاث تكبيرات ثمّ رماه بثلاثة أحجار في كلّ حجر ثلاث تكبيرات، ثمّ رماه الحسن مثل ما رماه أمير المؤمنين، ثمّ رماه الحسين فمات الرجل، فأخرجه أمير المؤمنين× فأمر فحفر له وصلّى عليه ودفنه، فقيل: يا أمير المؤمنين ألا تغسّله؟ فقال: قد اغتسل بما هو طاهر إلى يوم القيامة لقد صبر على أمر عظيم([13]).
وكانت زوج النبي’ ابنة الخليفة الأول في طليعة خصوم الإمام والمناوئين له وبلغ من حقدها أن الإمام وصفها بقوله: أوضعن غلا في صدرها كمرجل القين<([14]).
وقد قادت هذه المرأة الجموع والحشود العسكرية إلى البصرة كما أرسلت إلى حفصة رسالة تهزأ فيها بالإمام ولما انتهت حرب الجمل وسحقت قوات التمرّد إذا بالإمام× يعامل عائشة باحترام كامل وتكريم وحفظ لها حرمة النبي’ إكراماً للرسول يقول ابن أبي الحديد في هذا المضمار: >وأما عائشة فأي ذنب لأمير المؤمنين× في ذلك ولو أقامت في منزلها لم تبتذل بين الأعراب وأهل الكوفة. على أن علياً× أكرمها وصانها وعظم من شأنها ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به ثم ظفر بها لقتلها ومزقها إرباً ولكن علياً× كان حليماً كريماً<([15]).
كرامة الإنسان
جاء علياً× إعرابي، فقال: يا أمير المؤمنين إني مأخوذ بثلاث علل: علّة النفس وعلّة الفقر وعلّة الجهل، فأجاب أمير المؤمنين× وقال: يا أخا العرب علّة النفس تعرض على الطبيب وعلّة الجهل تعرض على العالم وعلّة الفقر تعرض على الكريم، فقال الإعرابي: أنت الكريم وأنت العالم وأنت الطبيب. فأمر أمير المؤمنين× بأن يعطى له من بيت المال ثلاثة آلاف درهم وقال: >تنفق ألفاً بعلّة النفس وألفاً بعلة الجهل وألفاً بعلة الفقر<([16]).