عربي
Sunday 22nd of December 2024
0
نفر 0

التحرر من الماضي

التحرر من الماضي

الجماعات الإسلامية دفعتني إلى نبذ الماضي

 

 


 

 

 


لم أكن راضيا عن تلك الأطروحات السلفية التي تلقتها التيارات الإسلامية بالقبول ولم أكن راض عن مثالية السلف.

إن مثل هذا التصور إنما هو ضد العقل فضلا عن كونه ضد الواقع والطبائع البشرية. وتبينه سوف يؤدي إلى جعل العقل المسلم أسير الماضي. بالإضافة إلى جعله أسيرا لتصورات وهمية من شأنها أن تنعكس على واقعه محدثة تناقضا في السلوك والمواقف وسلبية في الأداء. وهو ما يشهد به واقع العمل الإسلامي.. (1).

من هنا فقد كنت دائم الصدام مع الأطروحة السلفية منذ بداية نشأتي في الوسط الإسلامي وكانت النتيجة أن حكم علي بالزندقة وفساد العقيدة من قبل الرموز السلفية السائدة فترة معايشتي للتيارات الإسلامية. كما صدرت تحذيرات لشباب الجماعات مني وتوصيات بوجوب مقاطعتي واعتزالي ولم تكن تعنيني تلك التحذيرات والإشاعات والأحكام التي صدرت في شخصي والتي تطورت فيما بعد إلى حملات هجومية تتبنى سلاح الطعن والتشويه. فقد كان يشغلني أمر البحث عن مخرج لما أنا فيه من تيه بعد أن تيقنت أن هناك خللا ما في الأطروحة الإسلامية المعاصرة.. السائدة طوال تلك الفترة. من بداية السبعينات وحتى منتصفها تقريبا كنت قد أصدرت عدة أحكام في كثير من كتب التراث المتداولة بين أيدينا وعلى رأسها كتاب العقيدة الطحاوية الذي يعد ركيزة التأسيس العقائدي لشباب

 

 


الجماعات. وكتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي. وهذان الكتابان من أهم كتب التراث التي أسهمت في تشكيل العقل المسلم وتأسيس التصورات التي قامت على أساسها الجماعات الإسلامية فيما بعد (2).

وبالإضافة إلى هذين الكتابين كانت هناك كتب المدرسة الحنبلية وفي مقدمتها كتب ابن تيمية والتي أغرق الوسط الإسلامي بها وكانت في أغلبها توزع مجانا وخاصة على طلبة الجامعات ومعها كانت توزع كتب محمد بن عبد الوهاب (3).

ولم تكن الرموز البارزة في الوسط الإسلامي آنذاك وعلى رأسها رموز الأزهر والأخوان المسلمين على الرغم مما كانت تشكله من قدسية في نفوس شباب التيارات الإسلامية - لم تكن تملك المقدرة على التصدي لهذا الزحف الفكري القادم من الصحراء والذي كان يختطف النشأ المسلم من عالم الحاضر ليلقي به في متاهات الماضي. بل استسلمت تماما لهذا الزحف ووقفت أمامه موقف المتفرج.

تيار التكفير

وعندما برز تيار التكفير على الساحة أحدث هزة كبيرة للخط السلفي ولأطروحة الماضي وأسهم بشكل غير مباشر في تعويق مسيرة الخط الوهابي والتيارات المتحالفة معه. فقد قام هذا التيار ينادي برفض فكرة التقليد والتمسك بأقوال الرجال وبهذه الأطروحة الجريئة منح معتنقيه حرية التلقي المباشر من الكتاب والسنة أو بمعنى أدق منحهم حرية إعمال العقل في النصوص بمعزل عن الرجال...

وإن كان تيار التكفير قد اعتبر أن من قلد كفر استنادا إلى قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (التوبة: 31) ونبذ الصحابة والفقهاء الذين يراهم قد تجاوزوا النصوص واجتهدوا عليها إلا أنه استسلم استسلاما مطلقا لرجال السنة وعلى رأسهم البخاري ومسلم وأصحاب السنن وانطلق يتلقى منهم النصوص النبوية وفق مقاييسهم وقواعدهم فصحح ما صححوه وضعف ما ضعفوه ونبذ ما نبذوه. وبالتالي وقع في متاهة الرجال من طريق آخر. وأوجد في أطروحته ثغرة وشرخا أسهم فيما بعد في القضاء عليه وتمزيقه ودعم مواقف خصومه من التيارات الإسلامية الأخرى.

 

 


ولقد ارتد كثير من الشباب عن تيار التكفير وعاد إلى أحضان التيار السلفي وازداد تمسكا وتعصبا للأطروحة السلفية بعد أن تبين له فساد خط التكفير وبطلانه بناء على نصوص نبوية قاطعة تم اكتشافها من قبل عناصر التكفير الذين أخذوا يخوضون في كتب السنة بحثا عن الأدلة التي يدعمون بها أطروحتهم (4).

إن تيار التكفير قد أسهم في دفعي نحو الاسراع في عملية التحرر من الماضي خاصة بعد ما اكتشفت أن فكر التكفير لا يخرج في محتواه ومضمونه عن فكر الخوارج الذين حاربوا الإمام عليا وانشقوا عن الخط الإسلامي السائد خاصة فرقة الأزراقة منهم (5).

وكنت قد عقدت مقارنة بين أطروحة تيار التكفير وأطروحة فرقة الأزراقة وقمت بنشرها وتوزيعها في الوسط الإسلامي وأحدثت أثرا كبيرا وكانت بمثابة مفاجأة للكثيرين الذين كانوا يتصورون أن أطروحة التكفير أطروحة اجتهادية جديدة خالية من رواسب الماضي...

وقمت أيضا بتأليف كتاب تحت عنوان: الحق. هل ينحصر في جماعة واحدة؟ ردا على إدعاء تيار التكفير أن الحق ينحصر في دائرته (6).

ورغم الهزة الشديدة التي أحدثها تيار التكفير في الواقع الإسلامي بمصر وكشفه للجانب السلبي في التراث وتشكيكه في الماضي ورجاله إلا أن ذلك لم يغير شيئا في شخصيات الذين انتموا إليه ثم ارتدوا عنه ولم يدفعهم إلى محاولة التحرر من الماضي أو فقد الثقة في أشخاص السلف بل أحدث في نفوسهم رد فعل دفعهم إلى التمسك والتشدد في أطروحة السلف وبدا وكأن هذا الموقف من قبلهم بمثابة شعور بالندم على نبذهم لخط السلف.

ومن خلال احتكاكاتي بعناصر تيار التكفير اكتشفت أن هذه العناصر ليست مجرد عناصر انتمت لتيار إسلامي حاله كحال التيارات الإسلامية الأخرى ويحمل أطروحة للنهوض بالإسلام ومواجهة الواقع. إنما كان تصور هذه العناصر أنها انتمت للحق أو للإسلام في صورته الحقيقية. فلم تكن قضية نصرة الإسلام وتمكينه تشغلهم كما تشغل التيارات الأخرى وإنما ما كان يشغلهم هو كيفية دعم ما هم عليه من حق والثبات عليه.

 

 


كانوا يقولون لي من خلال حوارات دارت بيني وبينهم: ما نحن إلا باحثون عن الحق وقد اهتدينا إليه. وإن كان لديك ما يثبت بطلان ما نحن عليه اتبعناك..

ومثل هذا التصور إنما يعكس بصورة مباشرة فقدان هؤلاء الشباب الثقة فيما بين أيديهم من أطروحات تنطق بلسان الإسلام وتتسمى بمسمياته.

ولا تزال لهذا التيار بقايا في الوسط الإسلامي بمصر وقد انتقل منها إلى بقاع أخرى من العالم العربي والإسلامي.. (7)

فكرة الحاكمية

ومثلما كان تيار التكفير أحد العوامل التي دفعتني نحو التحرر من الماضي كانت أيضا فكرة الحاكمية دافعا آخر لا يقل أهمية عن سابقه. فقد شكلت الحيرة الكبيرة التي كان يعيشها تيار الجهاد في مواجهة الحكومة وتأرجحه ما بين الخروج والطاعة. استفزازا كبيرا لي دفع بي إلى البحث في مسألة الحاكمية والمواقف من الحكومات في فقه السلف وكانت النتيجة التي خرجت بها قد بررت في نظري حيرة هذا التيار وتذبذبه بين ضرورة المنابذة ورفع راية الجهاد وبين الاستسلام للواقع.

إذ وجدت الأطروحة السلفية منحازة بالكامل للقوى الحاكمة داعمة موقفها بكثير من النصوص النبوية التي تبرر هذا الانحياز وتضفي المشروعية عليه.. (8) وبالطبع فقد كشفت عملية البحث هذه الكثير من الأمور والقضايا التي زادتني يقينا بأن هناك أيد خفية عبثت بالإسلام وطوعت قواعده ومفاهيمه لأغراض سياسية..

وفكرة الحاكمية التي هي محل جدل بين التيارات الإسلامية حتى وقتنا الراهن وتتفاوت مواقف هذه التيارات منها ما بين رافض لها كالتيار السلفي وتيار الأخوان ومتبن لها كتيار الجهاد وتيار القطبيين. هذه الفكرة تعد المتسبب الأول في انتكاسة الحركة الإسلامية المعاصرة وفشلها في الانتشار والتمكن على ساحة الواقع. بل فشلها في ممارسة العمل السياسي (9).

وسر ذلك يكمن في اعتماد الحركة على فقه الماضي كمستند ومصدر وحيد لتفسير هذه الفكرة. فتيار السلفيين والأخوان اعتمد على رؤية فقهاء السلف المنحازة

 

 


للحاكم المتحالفة معه. وتيار الجهاد تبنى وجهة ابن تيمية المعادية لبعض الحكام الذين ارتدوا من بين التتر الذين أسلموا وهي رؤية شاذة في الفقه السني. بينما تبنى الخط القطبي رؤية انعزالية متشددة تعتمد أساسا على اجتهادات سيد قطب.. (10) ويعد تيار الأخوان هو التيار الوحيد من بين هذه التيارات الذي دخل معترك العمل السياسي حاملا فكرة الحاكمية ودخل في تحالفات مع الحكومة والأحزاب لم تحقق له نجاحا يذكر. بينما آثرت التيارات الأخرى أن تتبنى رؤية انعزالية تجاه الواقع ووصل الأمر ببعضها إلى تكفير الذين يمارسون العمل السياسي من الإسلاميين (11).

ومثل هذا التخبط في تحديد ماهية الحاكمية بين التيارات الإسلامية المعاصرة إنما يعود إلى تخبط فقهاء السلف في تحديد ماهيتها حيث وقفوا أمام قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44) موقفا تبريريا يطوع النص لغير غرضه الظاهر حيث قالوا: كفرا دون كفر ولم يجرؤ أحد منهم على توجيه هذا النص نحو حكام زمانه. وقد انتقلت هذه الرؤية إلى التيارات الإسلامية المعاصرة وتبناها تيار الأخوان والسلفيين بينما نبذها تيار الجهاد والقطبيين على أساس أن حكام اليوم غير حكام الأمس. وإذا لم يكن حكام الأمس قد تجاوزوا حدود الإسلام فإن حكام اليوم تجاوزوها ودخلوا دائرة الكفر البواح التي جعلها فقهاء الأمس شرطا أساسيا لوجوب الخروج على الحكام حسبما نص الحديث النبوي.. (12) مثل هذه المواقف التي تبناها فقهاء الأمس من الحكام والتي بنيت في مجملها على أساس مجموعة من الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وآله) والتي لا يستريح لها قلب المؤمن ولا عقله، أثارت الشك في نفسي وزكت نزعة الاعتقاد بأن السياسة تدخلت في صياغة الإسلام. وإذا كان الرسول من الممكن أن يقول هذا الكلام فما هو دور الإسلام إذن. وهل جاء ليقر الظلم ويمنح الحاكم سلطة استعباد الناس والاستيلاء على أموالهم.. (13) إن مواقف فقهاء الأمس السلبية من الحكام والمبررة لأفعالهم وممارساتهم المتناقضة مع الإسلام قد انعكست على واقع الحركة الإسلامية اليوم وعلى تصوراتها

 

 


ومواقفها تجاه الواقع والحكام. هذه المواقف والأحاديث التي استندت عليها كانت السبب المباشر في إخفاق الحركة في مواجهة الواقع وسقوطها فريسة سهلة في قبضة القوى الحاكمة المتربصة. وهي أيضا من الأسباب المباشرة في تميع فكرة الحاكمية وتذبذبها لدى التيارات الإسلامية اليوم.. (14) لقد توطن في نفسي أمر رفض هذه الأحاديث والروايات المتعلقة بالحكام وانبنى على هذا الرفض نبذ أقوال فقهاء السلف وتفسيراتهم لهذه النصوص وبالتالي نبذ مواقفهم من حكام زمانهم مما مهد الطريق لنبذهم بالكلية فيما بعد..

ولا شك أن مثل هذا الأمر كان من الصعب بل ومن الخطورة الجهر به في تلك الفترة وكان أقل ما يمكن أن يحدث لي هو منحي رتبة كافر أو زنديق.

إلا أنني حاولت نقد هذه النصوص وضربها بصورة لا تثير الشك ولا تدفع إلى نبذي آنذاك وهذه الصورة تمثلت في معارضة هذه النصوص بنصوص أخرى واردة على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) وتقول بعكس ما تقول هذه النصوص التي تقول بوجوب طاعة الحكام وهي النصوص التي تقول بوجوب الخروج عليهم والتي لم يجد هؤلاء الفقهاء من حل في مواجهتها سوى العمل على تقييدها.. (15) ولعل أبرز صورة للتخبط والحيرة التي سببتها هذه النصوص للحركة الإسلامية تجلت في تيار الجهاد بمصر ذلك التيار الذي عجز عن اتخاذ الموقف الشرعي من نظام السادات والحكم عليه بالكفر البواح وتاه بين مقولات السلف وتفسيراتهم لهذه النصوص حتى اهتدى لفتوى ابن تيمية الخاصة بوجوب قتال معطلي الشرائع فبنى عليها موقفه من السادات وقام بتطبيقها عليه خاصة بعد أن أعلن علمانيته وهاجم الحجاب وأظهر عداءة للتيار الإسلامي في أواخر عهده.. (16) وكأن القوم كانوا ينتظرون من السادات أن يعلن الكفر البواح حتى يعلنوا الخروج عليه ويقرروا استباحة دمه. أو بمعنى أدق كانوا يريدون تطبيق قواعد السلف حول مسألة الخروج وجهاد الحاكم على السادات حتى ينفوا عن أنفسهم الحرج الشرعي..

إن القاتل الحقيقي للسادات هو ابن تيمية ولم يكن خالد الإسلامبولي سوى

 

 


أداة حملت البندقية ووجهتها إلى صدره. ولأجل ذلك فإن الحادثة لم تتجاوز حد المنصة التي كان فيها السادات مع أن الطريق كان مفتوحا نحو القصر الجمهوري.

ولكنه فقه الماضي الذي حال دون تمكن الحركة في الحاضر ولا يزال يحول.

كتب العقائد

انتشرت بين شباب التيارات الإسلامية في فترة السبعينات كتب العقائد بتوجيه من قيادات هذه التيارات وعلى رأس هذه الكتب كتاب " العقيدة الطحاوية " للطحاوي المصري. وكتاب " العقيدة الواسطية " لابن تيمية. وكتاب " التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " لمحمد بن عبد الوهاب. ومثل هذه الكتب كانت تركز على القضايا المتعلقة بالأسماء والصفات والإيمان والشرك موهمة الشباب أن عدم معرفة هذه الأمور من شأنه أن يضيع إسلامه ويحبط عمله..

وكتب العقائد هذه تحوي الكثير من الأطروحات السياسية والفكرية والاجتهادية التي لا صلة لها بمسألة العقيدة والإيمان والكفر. لكن القوم حشروها في هذه الكتب حتى يدفعوا المسلمين إلى الاعتقاد بها والذود عنها وبالتالي يتقيدون بالخط الذي رسموه لهم.. (17).

ولقد كنت أتأمل هذه الكتب وأطرح على نفسي التساؤلات التالية:

ما صلة مسألة الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بالعقيدة..؟

ولماذا يصر فقهاء السلف على ضرورة الاعتقاد بهم بهذا الترتيب الرباعي..؟

وما هو الدليل الشرعي على ذلك..؟

وما صلة الحكام بالعقيدة. وكيف يجعل أمر طاعتهم والصلاة خلفهم والحج معهم والجهاد تحت رايتهم من العقيدة؟ ولماذا يحاول الفقهاء إجبار الأمة على الاعتقاد بضرورة الصلاة وراء كل بر وفاجر..؟ ولماذا تحيز فقهاء السلف لرأي يناقص القرآن والعقل حول هذه القضية..؟ (18).

ولماذا يصر الفقهاء على تلقين الأمة مفهوما محددا عن آل البيت ويجعلونه عقيدة..؟.

ولماذا يسمون كتب العقائد بأسماء أصحابها كالعقيدة الطحاوية. والعقيدة

 

 


النسفية والعقيدة السلفية. والعقيدة الحموية. والعقيدة الواسطية..؟ (19).

أليست هذه التسميات تشبه تسميات النصارى لأناجيلهم المختلفة: إنجيل متى. وإنجيل لوقا. وإنجيل يوحنا. وإنجيل مرقس وخلافه..؟ (20).

لقد خرجت من هذه التأملات بنتيجة مفادها أن جميع هذه الأمور لا صلة لها بالعقيدة وأن العقيدة الحقيقية هي شئ آخر غير هذه المفاهيم والأطروحات التي لا تخرج عن كونها أطروحات فرضتها السياسة وباركها الفقهاء (21).

إلا أن هذه النتيجة لم ترح عقلي فقد كنت أشك أن هناك سرا أو دافعا قويا وراء حشو كتب العقائد بمثل هذه الأمور..

وهذا التفسير كما هو واضح لا يحسم الأمر ويرجح كفة أهل السنة. ففضلا عن كون هذا الحديث (22) هو الدليل الوحيد الذي يتمسكون به لإثبات هذا الادعاء.

فهو من جهة أخرى ظني الدلالة ولا يفيد معنى قطعيا من هذه المسألة.. (23) وإن صح التسليم بمنطق أهل السنة فهذا يعني كفر جميع الفرق الأخرى.

وانحصار الحق في دائرتهم. وهذا أمر يرفضه العقل فهم لا يتميزون عن الآخرين بشئ وما يطرحونه لا يخرج عن كونه اجتهادا يحتمل الخطأ والصواب.. (24) ولقد كانت كتب العقائد تزكي في نفوس الشباب مفهوم أهل السنة للفرقة الناجية مما كان يدفع بهؤلاء الشباب إلى الاستسلام المطلق لأطروحتهم وقبول محتوياتها دون قيد أو شرط وقد عشت طويلا في هذا الوهم حتى هداني عقلي إلى التحرر منه بفضل الله تعالى..

إن فكرة الفرقة الناجية لم تكن لتتوافق مع اتجاه يوالي بني أمية وبني العباس وغيرهم من الحكام أصحاب التاريخ المسطر بدماء المسلمين..

ولم تكن لتتوافق مع فقهاء يبررون مواقف وممارسات هؤلاء الحكام (25)..

لم تكن لتتوافق مع أناس يهينون الرسول ويفضحونه (26)..

وكيف يقبل العقل وتستريح النفس إلى أن شخصا مثل يزيد بن معاوية يمكن أن يكون من الفرقة الناجية..؟

إن قوما بهذه العورات يغرقون في هذه الانحرافات لا يمكن أن يكونوا من

 

 


الناجين. وهم بهذه الحالة إنما يؤكدون أن المقصودين بهذا الحديث هم سواهم من المسلمين..

إن التحرر من وهم الفرقة الناجية كان من أهم العوامل التي ساعدتني في التحرر الكامل من الماضي برموزه وأطروحاته. فهذا الوهم كان يفرض سياجا حول العقل ويحول بينه وبين أية محاولة للشك أو النظر في محتويات الأطروحة السنية. وكذلك إخضاع رجال السلف صحابة وفقهاء لدائرة النقد. وبحث مواقفهم وأقوالهم. فما دام العقل يعيش حالة من الاستسلام المطلق للماضي المقدس على أساس كونه يمثل أهل الفرقة الناجية فمن الصعب أن يصدر حكما فيه دون أن يتحرر من وهم القداسة النابع من مفهوم الفرقة الناجية..

ولقد شكل مفهوم الفرقة الناجية حالة من التعصب لدى الشباب المسلم الذي تشبع بهذه الفكرة وبني على أساسها موقفا عدائيا من الآخرين خاصة من الشيعة حال بينه وبين المرونة في مواجهة الواقع والأحداث وانعكس هذا الموقف بالتالي على واقع الحركة الإسلامية وتصوراتها..

الإتباع..

كان مما يثيرني في الوسط الإسلامي بمصر قضية حصر دائرة الإتباع في محيط مدرسة ابن تيمية وأتباعه. وكنت كلما تأملت هذا الأمر تطرأ على ذهني التساؤلات التالية: لماذا حصر الإتباع في دائرة ابن تيمية وأتباعه..؟.

وأين دور المدارس السلفية الأخرى..؟.

ولماذا تبرز مسألة رفض المذهبية بقوة بين أوساط الشباب المسلم..؟.

لقد بدأت أشك أن هناك قوى خفية تستدرج هذا الشباب إلى خط محدد يجعلهم صيدا سهلا لتيارات مشبوهة..

وعندما برز أمامي الدور الوهابي المشبوه وجدت الإجابة على هذه التساؤلات جاهزة. فقد تكشف لي أن هذا الخط الذي اخترق صفوف الشباب والجماعات هو منبع هذا الموقف وهو الذي يغذي مثل هذه التصورات التي تقوم على الاستخفاف

 

 


بال مذاهب الإسلامية وتقديس ابن تيمية ورفعه فوق فقهاء المسلمين والتعتيم على المدارس الإسلامية الأخرى..

وقد اكتشفت أن هؤلاء الذين ينادون برفض المذهبية من الشباب ورموز التيارات الإسلامية هم متمذهبون دون أن يعلموا. فهم إن كانوا يرفضون الالتزام بمذاهب الفقهاء الأربعة المعروفة هم في الحقيقة يتبعون مذهب الحنابلة بل ويلتزمون بالشق المتطرف منه الذي تبناه ابن تيمية وبعثه محمد بن عبد الوهاب.. (27) لقد تبين لي أن أية محاولة لنبذ الإتباع والتقليد إنما هي في حقيقتها محاولة لنقل المرء من إتباع إلى إتباع ومن تقليد إلى تقليد. فهؤلاء الذين ينادون برفض المذهبية والتقليد إنما تمذهبوا بمذهب ابن تيمية بطريق غير مباشر بل ومذهب باعث أفكاره وأطروحته محمد بن عبد الوهاب فهم قد انتقلوا من تقليد وإتباع أبي حنفية والشافعي ومالك وابن حنبل إلى اتباع وتقليد ابن تيمية وهم بهذا لم يأتوا بجديد سوى أنهم غرروا بالشباب المسلم وعزلوه عن المدارس الإسلامية المتنوعة وحصروه في دائرة مدرسة محددة شاذة عن المسلمين.. (28) وفريق التكفير عندما نادى بنبذ التقليد إنما وقع في نفس المتاهة وانتقل بأتباعه من تقليد أهل الفقه المعروفين إلى تقليد شكري مصطفى مؤسس تيار التكفير وصاحب أطروحته وبالبحث والدراسة فيما يتعلق بالمذاهب والمدارس الإسلامية المختلفة توصلت إلى الحقائق التالية:

أن هناك مدرسة منبوذة بين مدارس السلف وهي مدرسة آل البيت (ع)..

أن نبذ هذه المدرسة وعزلها كان لأغراض سياسة..

أن هذه المدرسة تتلمذ عليها الكثير من الفقهاء على رأسهم مالك وأبو حنفية والشافعي..

أن الشيعة هم الطائفة الوحيدة من بين المسلمين الذين يتقيدون بهذه المدرسة ويتلقون منها..

 

 


أن مدرسة الحنابلة وخاصة جناح ابن تيمية هم خصوم لهذه المدرسة متربصون بها..

أن ابن تيمية هو أبرز فقهاء السنة وأكثرهم عداء للشيعة ومحاربة لها.

بعد هذه النتائج بدت المسألة لي أكثر وضوحا. هناك مجموعة من الخطوط التي عبثت بها السياسة وهناك خط معادي من الجميع.. (29) الخطوط هي المذاهب..

والخط الآخر هو خط آل البيت (ع)..

والسؤال الذي فرض نفسه علي بعد هذا كله هو: لماذا يعادى خط آل البيت (ع). وما هي معالم هذا الخط. وأين هي أطروحته..؟.

وبالطبع لم أجد الجواب عند القوم. فقد محت السياسة كل شئ يتعلق بآل البيت من تراثهم ولم تبقى إلا على القشور وما يخدم مآرب وتوجهات ومصالح الحكام. فمنذ أن برز معاوية وساد الخط الأموي وبدأت الأمة تسير في خط آخر معاد لآل البيت بدأ بسب الإمام علي على المنابر وانتهى بذبح وتصفية أبناءه وأشياعهم ومحو تراثهم وعلومهم.. (30) منذ ذلك الحين برزت عائشة وابن عمر وأبو هريرة لينطقوا بلسان الرسول (صلى الله عليه وآله) ويكونوا المتحدثين الرسميين باسم الإسلام لتتبعهم الأمة وتسير على هداهم..

من هنا فقد تكشف لي أن عملية حصر دائرة الإتباع في مدرسة محددة إنما هي وليدة مراحل سابقة لمرحلة ظهور المذاهب. أنها وليدة عصر ما بعد وفاة الرسول.

وبرزت بصورة أكبر على يد الأمويين بقيادة معاوية الذي وجه الأمة نحو صحابة ورموز تدعم شرعيته ولا تتناقض مع خطه وقام بنبذ الصحابة والرموز الذين يوالون خط آل البيت بقيادة الإمام علي والتعتيم عليهم.. (31) وهكذا تبين لي أن الإتباع والتلقي قد قام على أساس الانحياز لخط معين من الحكام. وأن الأمة سارت في ذلك الخط على حساب مدرسة آل البيت وخطهم.

وأن هذا الانحياز كان بتخطيط وتوجيه من الحكام. وأن الأمة سارت على هذا

 

 


النهج دون أن تدري شيئا عن حقيقة هذه المؤامرة. ثم وقعت الحركة الإسلامية المعاصرة في هذا الفخ الذي نصبه لها بعض الحكام..

وكان علي بعد هذا كله وبعد أن تبين لي هذا الخلل وتكشف لي هذا التناقص وأفاق عقلي من وهم الفرقة الناجية ودخل الشك نفسي في مسألة الإتباع والتلقي من مدرسة أهل السنة، كان علي أن أتحرر من هذا الماضي وأرفع أغلاله عن عنقي لأتمكن من البحث في حرية عن دائرة الإتباع والتلقي الشرعية متبنيا منهج الشك فيما بين يدي من أطروحات سلفية على ما سوف أبين في الفصل القادم..

____________

(1) - أنظر كتابنا العقل المسلم بين أغلال السلف وأوهام الخلف.

(2) - أنظر مناقشة هذه الكتب في كتابنا فقه الهزيمة وأنظر المرجع السابق. وكتاب العقيدة الطحاوية هدفه إلزام المسلم بعقيدة تخدم الخط السائد. والعواصم كتاب هدفه منع المسلم من الخوض في الأحداث المتعلقة بالصحابة حتى لا يزيغ بزعمهم وهو يحقق الهدف أيضا..

(3) - كان شباب الجامعات في مصر ركيزة الحركة الإسلامية في مصر. وكانت الكتب السلفية والوهابية تطبع في مصر عن طريق دور نشر سلفية وإخوانية. أنظر كتابنا الحركة الإسلامية في مصر.

(4) - كان كثيرا ما يكتشف عناصر التكفير الكثير من النصوص النبوية التي تشكل حرجا لأفكارهم وتكون بمثابة مشكل لهم. وكانوا في مواجهتها بين أمرين: إما أن يؤولوها وهذا يجعلهم متساوين مع رجال السلف الذين كفروا مقلديهم. وإما أن يرفضوا هذه النصوص وهذا يوقعهم في حرج أكبر وقد اضطروا لتبني نهج التأويل في مواجهة حملات الخصوم مما دفع بالكثير من عناصر التيار إلى التململ والارتداد عن التيار.. أنظر كتابنا الحركة الإسلامية..

(5) - أنظر تاريخ فرقة الخوارج.

(6) - هذا الكتاب كان يتداول مخطوطا وقد فقد مني بعد انقطاع صلتي بالوسط السني.

(7) - وقد أنتقل تيار التكفير إلى اليمن والأردن والسعودية والجزائر وحتى أوروبا.

(8) - سوف نعرض لهذه النصوص في باب رحلة الشك.

(9) - أنظر هذا الأمر بتوسع في كتابنا عقائد السنة وعقائد الشيعة. وكتابنا الإسلام والعمل السياسي.

(10) - أنظر كتابنا الحركة الإسلامية في مصر. ولابن تيمية فتوى شهيرة تجيز مقاتلة معطلي الشرائع من الحكام وقد بناها على أساس حكام التتر الذين أسلموا وحكموا فيما بينهم كتاب " الياثق " وهو كتاب من وضع جنكيز خان ويحوي أحكاما من التوراة والإنجيل والقرآن ومن عنده. وقد اعتمد تيار الجهاد على هذه الفتوى في تبرير صدامه مع الحكومة المصرية. أنظر فتاوى ابن تيمية. وكتاب الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج أحد الخمسة الذين أعدموا في قضية اغتيال السادات..

 

 


____________

(11) - أنظر الحركة الإسلامية. والإسلام والعمل السياسي. وقد صدرت عدة منشورات من التيار السلفي والتيار الجهادي تهاجم الذين يمارسون العمل السياسي من الإسلاميين. منشور صدر عن التيار السلفي تحت عنوان: القول السديد من أن دخول مجلس الشعب مناف للتوحيد. وأصدر تيار الجهاد منشورا تحت عنوان: أإله مع الله. إعلان الحرب على مجلس الشعب..

(12) - ربط الحديث في إباحة الخروج على الحكام بقيد: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان. وهذا يعني استحالة الخروج وقطع السبيل على الخارجين. أنظر مسلم..

(13) - أنظر باب رحلة الشك.

(14) - أدت هذه الروايات إلى حدوث انشقاقات وصدامات فكرية بين التيارات الإسلامية وبعضها خاصة بين تيار الجهاد وتيار الأخوان والسلفيين.

(15) - أنظر باب رحلة الشك.

(16) - القاتل الحقيقي للسادات هو ابن تيمية فلولا فتواه ما وجد هؤلاء الفتية مبررا لقتله.

(17) - أنظر باب رحلة الشك.

(18) - يتبنى فقهاء السنة الكثير من الروايات والآراء التي تفيد التجسيم والتشبيه. أنظر عقائد السنة وعقائد الشيعة..

(19) - أنظر مناقشة هذه الكتب في كتابنا فقه الهزيمة. وهذه الكتب عدا كتاب العقيدة النسفية. تقوم بطبعها وتوزيعها بعض الدول مجانا على المسلمين في كل مكان..

(20) - أنظر عرض هذه النصوص في باب رحلة الشك.

(21) - من هذه الكتب كتاب الفرق بين الفرق للبغدادي. وكتاب الملل والنحل للشهرستاني. وكتاب مقالات الإسلاميين للأشعري.

(22) - رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة. والحديث من رواية معاوية.. تأمل. وقد انتقد الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الراحل هذا الحديث في كتابه التفكير الفلسفي في الإسلام. كما انتقده الشيخ الغزالي في كتابه المستشرقون.

(23) - أنظر مناقشة هذا الحديث في كتابنا فقه الهزيمة. وأنظر المراجع السابقة.

(24) - أنظر عقائد السنة وعقائد الشيعة.

(25) - أنظر فصل التبرير والتأويل من الكتاب.

(26) - أنظر فصل الرسول والنساء.

(27) - غرر بالحركة الإسلامية والرموز الإسلامية المعاصرة الذي توهموا بأن الخط الوهابي يمثل أطروحة السلف بينما هو في الحقيقة يمثل خط ابن تيمية المنبثق عن الحنابلة الذين كانوا في شقاق وصدام دائم مع المسلمين المخالفين.

(28) - يعتبر طرح ابن تيمية شاذا في الفقه السني وقد عودي من علماء عصره وحكم بكفره وحبس بتحريض من الفقهاء حتى مات في الحبس. أنظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (ج 1 / 152).

(29) - دعم العباسيون المذاهب وكذلك صلاح الدين والظاهر بيبرس. وكان الهدف من دعم هذه الخطوط هو ضرب خط آل البيت المتمثل في الشيعة.

 

 


____________

(30) - أنظر كتابنا السيف والسياسة في الإسلام.

(31) - أنظر باب تضخيم الرجال من هذا الكتاب..

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

هل لله جسماً
هل المهديّ المنتظر هو المسيح عليهما السلام
أضواء على سيرة وشخصية السيدة أم البنين عليها ...
الشبهة حول المكي والمدني
الاحاديث عن الصلاة و الصلاة في المسجد
الاحجار الكريمة
محمد .. الرحمة الإلهية
أعمال أيام مطلق الشهر و لياليه و أدعيتهما
نصائح صحية للمرأة الحامل في شهر رمضان
انعكاس المفاهيم القرآنية على الشعائر الحسينية

 
user comment