الصحابة
إن فهم قضية الصحبة يعد مقدمة ضرورية لفهم الإسلام وكشف حقيقة الأطروحة الإسلامية المعاصرة والتي قامت في الأساس على فقه الرجال لا فقه النصوص. فقد حكم القوم بعدالة جميع الصحابة وحشدوا الكثير من النصوص القرآنية والنبوية المتعلقة بهم وطبقوها عليهم دون تمييز معتبرين المساس بالصحابة مساسا بالدين وبغضهم أو نقدهم زندقة وردة. وحتى يضبطوا المسألة ويحولوا بين المسلمين وبين معرفة الحقيقة أدخلوا مسألة الصحابة في صلب العقيدة (1) يقول الطحاوي في عقيدته ونحب أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان. وبغضهم كفر ونفاق وطغيان (2)..
ويقول صدر الدين الحنفي معلقا على هذا الكلام: يشير الشيخ - أي الطحاوي - إلى الرد على الروافض والنواصب وقد أثنى الله على الصحابة هو ورسوله ورضي عنهم ووعدهم الحسنى.. فمن أضل ممن يكون في قلبه حقد على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين (3)..
ويقول أحمد: لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص فمن فعل ذلك أدب فإن تاب وإلا جلد في الحبس حتى يموت أو يرجع (4)..
|
|
|
وعلى هذا الكلام إجماع القوم لم يخالف منهم أحد. إلا أن هناك عدة ملاحظات تفرض نفسها على هذا الطرح:
أن موقفهم هذا موقف عائم لا تحكمه ضوابط..
أن هذا الموقف يحمل تهديدا ووعيدا لمن يخالفه..
أن الصحابة وقعوا في بعضهم وسب بعضهم بعضا..
أن هذا الموقف يتناقض مع صريح نصوص القرآن..
وينبغي لنا هنا أن نعرض مفهوم الصحبة في فقه القوم حتى يكون الأمر أكثر وضوحا..
يقول ابن حجر: أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) مؤمنا به ومات على الإسلام. فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارض كالعمى (5)..
ويقول ابن حجر: أن نفرا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم صحابة (6)..
وقال ابن حنبل والبخاري والواقدي وغيرهم نفس كلام ابن حجر فهذا التعريف للصحابي محل اتفاق القوم والمخالف له شاذ ومبتدع (7)..
ويقول ابن حجر: اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة ونقل قول بعضهم: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم. فمن ذلك قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقوله (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه) وقوله (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة (8)..
ومن الواضح أن هذا التعريف لمفهوم الصحبة من شأنه أن يدخل كل من هب ودب من الناس في زمرة الصحابة وبالتالي ينال هذه المرتبة الشريفة ويرتفع مقامه في نظر الأمة ويجوز على ثقتها فلا تجد حرجا من التلقي منه..
|
|
|
وهذا هو الهدف من وراء تقويم مفهوم الصحبة بهذا الشكل الساذج. وهو الهدف أيضا من وراء الزجر والوعيد الذي رفع شعاره القوم لإرهاب كل من يحاول المساس بهذه القاعدة أو الخروج عليها إن من الاستحالة أن يكون مجتمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مجتمعا ملائكيا. أو مجتمع أي رسول.
فالرسل ليس دورهم أن يحولوا الناس إلى ملائكة. أنما دورهم ينحصر في التبليغ والتبيين والناس أحرار في قبول دعوتهم أو رفضها. حتى الملتزمون بهذه الدعوة هم درجات من الإيمان بها والالتزام بأحكامها لقد كان الهدف من فكرة العدالة هدفا سياسيا. إذ لو كانت العدالة منحصرة في فئة محدودة ممن عاصروا الرسول. لما أمكن لأحد أن يروي عن الرسول إلا هذه الفئة. ولما أمكن اختراع هذا الكم الهائل من الروايات المنسوبة للرسول والتي اعتمد عليها الحكام في تدعيم سلطانهم. واعتمد عليها الفقهاء في دعم أطروحتهم وإلزام الأمة بالسير على نهجهم..
كان الهدف من فكرة العدالة هو إدخال هذا الكم من الرجال المشبوهين في دائرة الثقة والإيمان حتى يمكن للأمة أن تتلقى منهم دون حرج..
الهدف هو مساواة معاوية بالإمام علي. وبالتالي تضيع الحقيقة وتسير الأمة من وراء معاوية. وهو ما حدث بالفعل (9)..
وقد تحقق لهم أن نشأت أجيال التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم على الإعتقاد بعدالة جميع الصحابة ومنهم معاوية الذي استسلمت الأمة لخطه وباركه فقهاء الخديعة وأهمل تماما خط الإمام علي ودخل دائرة النسيان..
وحتى بعد أن سب معاوية الإمام عليا على المنابر وهو ما يخالف اعتقاد القوم الذين يحكمون على ساب الصحابي تارة بالكفر وتارة بالجلد والحبس وتارة بالقتل.
لم يدفعهم هذا إلى نبذه ومقاطعته وهذا الأمر إن دل على شئ فإنما يدل على التواطؤ والانحياز لبني أمية..
لم يكن الهدف من فكرة العدالة هو الحفاظ على الدين وإنما كان الهدف هو ضرب أصحاب العدالة الحقيقيين والتغطية عليهم..
ونظرا لكون الأمة سارت في خط بني أمية وبني العباس فهي قد تلقت دينها من
|
|
|
أولئك الذين أدخلوا في دائرة العدالة وليس من أصحاب العدالة الحقيقيين..
ولولا فكرة العدالة وتعريف الصحبة الذي ساد الأمة ما كان هناك وجود لبني أمية ولا لبني العباس وما كان اختفى منهج آل البيت منهج الإمام علي وعزل عن الواقع. فالأمر في حقيقته ليس إلا مؤامرة على الدين صنعها الحكام واعتمدوا فيها على صحابة زائفين ثم باركها الفقهاء من بعد وغابت الحقيقة عن الأجيال المسلمة اللاحقة..
إن المتتبع لسيرة الصحابة سوف يتبين له أن هناك انحرافات كثيرة وقعت على أيديهم في حياة الرسول وبعد مماته. هذه الانحرافات تخرج الكثير منهم من دائرة العدالة ولا تبقي إلا القليل وما يدفع للشك في مسألة الصحبة والعدالة هو التركيز الواضح على أشخاص بعينهم من الذين عاصروا الرسول وحصر أكثر الروايات وأهمها وأخطرها على عقل الأمة ومستقبلها في دائرتهم فالروايات المتعلقة بطاعة الحكام ووجوب الالتزام بنهجهم رواها أبو هريرة وابن عمرو ابن العاص وغيرهم ممن تحالفوا مع معاوية..
والروايات التي تتعلق بحياة الرسول الجنسية وعلاقته بالنساء روت أغلبها عائشة وأبو هريرة وحفصة وغيرهم من أنصار الخط الأموي..
والروايات التي ترفع من قدر بني أمية رواها أناس من خطهم..
حتى أن معاوية روى عن نفسه فقبلوا روايته..
وروى البخاري عن الطائفة المنصورة من طوائف المسلمين حديثا يقول:
خطب معاوية قائلا: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وإنما أنا قاسم ويعطي الله. ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله (10)..
أما المتأمل في أحاديث حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري ومواقفهم فسوف يتبين له أن هؤلاء يطرحون طرحا آخر ويبثون علما آخر وما ذلك إلا لكون هؤلاء كانوا من خلص الصحابة وتلاميذ الإمام علي لأجل ذلك سحبت الأضواء من فوقهم وسلطت على آخرين ممن لا يوزنون بشئ..
ولقد عمد القوم إلى تشويه روايات هؤلاء والطعن فيها ليصرفوا الأمة عنها حتى أنهم طعنوا في أشخاصهم وفي شخص الإمام علي ذاته (11)..
|
|
|
وأن الباحث في كتب مثل البخاري يكتشف مثل هذا الأمر. يكتشف أن هناك تحيزا لأفراد بعينهم أكثر البخاري عنهم الرواية بينما أهمل آخرين هم أعلى مكانة وأكثر قربا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..
والبخاري إنما بنى موقفه هذا - ويشاركه في ذلك جميع كتاب السنن تقريبا - على أساس ما أسس سابقوه من قواعد للنقل والرواية. فهو لم يعمل عقله في هذه القواعد التي تفوح منها رائحة السياسة وإنما اعتبرها من المسلمات لإجماع الأمة عليها فتناولها وبنى عليها..
وأول ما يلفت النظر في كتاب البخاري أنه لم يرو لجعفر الصادق شيئا ولم يرو لفاطمة الزهراء ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)) سوى حديث واحد.
بينما روى لعائشة (242) حديثا. ولمعاوية ثمانية أحاديث..
وروى لأبي هريرة (446) حديثا..
وروى لابن عمر (270) حديثا..
وروى للإمام علي (29) حديثا..
أما أنصار الإمام علي ممن رفضوا السير في خط بني أمية فقد روى لهم أحاديث تعد على الأصابع. وعلى رأس هؤلاء عمار بن ياسر الذي روى له أربعة أحاديث. وبلال بن أبي رباح الذي روى له ثلاثة أحاديث وسلمان الفارسي الذي روى له أربعة أحاديث والمقداد الذي روى له حديثا واحدا. أما أبو ذر فقد روى له أربعة عشر حديثا وروى لعبد الله بن جعفر حديثين (12).
وإذا ما نظرنا في مسند أحمد فسوف نجد أنه أسند إلى الإمام علي (818) حديثا معظمها صحيحة (13)..
وإذا ما تبين لنا أن الأحاديث التي رويت على لسان الإمام علي وفاطمة وسلمان وعمار وبلال وغيرهم من شيعة الإمام - لا تخرج عن دائرة الأخلاق والوعظ وبعضها ضد الإمام وفي صالح خصومه تبين لنا لماذا قدم البخاري على جميع كتب الأحاديث وسلطت الأضواء عليه من دونها؟..
إن تتبع النصوص سوف يكشف لنا أن العدالة إنما تنحصر في دائرة آل البيت
|
|
|
وحدهم. فهم الذين وجه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمة لتتلقى الدين منهم بعد وفاته (14)..
وعندما تمنح العدالة لسواهم فإن هذا يعني أن الأجيال المسلمة سوف تلتبس عليها حقيقة الدين وسط هذا الكم من الصحابة المختلفين الذين يتحدثون بلسان الرسول والذين هم عدول في نظرها وبالتالي يسهل على الحكام خصوم آل البيت وفقهاؤهم أن يستقطبوهم. وهو ما حدث على مر التاريخ الإسلامي..
لقد نشأت أجيال لا تعرف من هم آل البيت. ولا تعرف سوى الصحابة وأنهم عدول ومصدر تلقي الدين. وما كان ذلك إلا نتيجة لاختراع فكرة العدالة..
ومن هنا تبرز لنا أهمية هذه الفكرة وخطورتها على الدين إذ انبنى عليها دينا آخر يقوم على أساس روايات رجال مشبوهين. وأن التحرر من هذه الفكرة مقدمة ضرورية لمعرفة الدين الحق الذي يقوم على النصوص..
وعلى الرغم من محاولات القوم المستميتة للدفاع عن الصحابة وإظهارهم بمظهر العدول فقد أفلتت بعض الروايات في كتب القوم التي تناقص هذا المفهوم وتكشف أن هناك انحرافا بل وردة وقعت من قبلهم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..
يروي البخاري: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يرد على الحوض رجال من أصحابي فيحالون عنه. فأقول يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (15)..
وفي رواية: فأقول سحقا. سحقا لمن غير بعدي (16).
ويقول القسطلاني: أي غير دينه. لأنه لا يقول في العصاة بغير الكفر سحقا سحقا. بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم كما لا يخفى (17)..
ويروي البخاري أنه قيل للبراء بن عازب: طوبى لك صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا ابن أخي أنت لا تدري ما أحدثنا بعده (18)..
|
|
|
____________
(1) - أنظر كتاب العقيدة الواسطية لابن تيمية وهو من الكتب المنتشرة في مصر وكانت توزع مجانا.
وانظر لنا باب الرجال من كتاب عقائد السنة وعقائد الشيعة.
(2) - شرح العقيدة الطحاوية ط القاهرة. وهذا الكتاب من أشهر كتب العقائد المنتشرة في الوسط الإسلامي بمصر.
(3) - المرجع السابق.
(4) - أنظر كتاب السنة لأحمد بن حنبل وعقيدة أهل السنة له أيضا. ط القاهرة.
(5) - الإصابة في تمييز الصحابة المجلد الأول.
(6) - المرجع السابق.
(7) - المرجع السابق.
(8) - المرجع السابق.
(9) - أنظر باب تضخيم الرجال من هذا الكتاب. وانظر كتابنا السيف والسياسة.
(10) - أنظر البخاري كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم. ومن الواضح من هذه الرواية أن معاوية حدد الخط الفقهي والسياسي للأمة. كما حدد أن الطائفة الظاهرة المنصورة هي أهل العلم كما ذكر البخاري وكان إجماعهم هذا في العصر العباسي. فهل كانوا يقصدون أهل العلم في العصر الأموي أم أهل العلم في العصر العباسي؟ ومعنى حصرهم الطائفة المنصورة في أهل العلم كما حصروا أيضا الفرقة الناجية أنهم وجدوا مخرجا من هذا الحرج باختراع روايات تدخل معاوية في زمرة الفقهاء.
(11) - أنظر باب تضخيم الرجال.
(12) - أنظر هدي الساري مقدمة فتح الباري.
(13) - أنظر مسند أحمد. والقوم يشككون في روايات المسند.
(14) - أنظر فصل تضخيم الرجال.
(15) - البخاري كتاب الفتن وباب الحوض.
(16) - المرجع السابق.
(17) - أنظر هامش صحيح مسلم طبعة استنبول.
(18) - كتاب الفتن.