عربي
Saturday 21st of December 2024
0
نفر 0

البدريون والرضوانيون

البدريون والرضوانيون

من أساليب التزييف الاُخرى التي يتّبعها أصحاب الاتجاه المحافظ المعروف، محاولة التقليل من شأن علي بن أبي طالب، بتقليل عدد الصحابة الأوائل -وبخاصة البدريين والرضوانيين- الذين شاركوه حروبه في صفين وغيرها، معتقدين أنهم يسحبون بذلك الشرعية من حروب علي، وأنه لم يكن من بين أنصاره عدد يُعتدّ به من الصحابة، لقناعتهم بأنه لم يكن مصيباً في حروبه، وبعضهم صرّح بذلك علناً، فقد قال ابن كثير:

وهاجت الفتنة وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشرات الاُلوف، فلم يحضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. وقال الإمام أحمد: حدثنا اُمية بن خلد، قال لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبدالرحمان بن أبي ليلى، قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك. فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت! وقد قيل إنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف، وكذا أبو أيوب الأنصاري، قاله شيخنا العلاّمة ابن تيمية في كتاب الرد على الرافضة، وروى ابن بطة باسناده عن بكير بن الأشج أنه قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلاّ الى قبورهم!(1)

أما أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا عشرات الاُلوف، ولم يشهد الفتنة منهم إلاّ عدد قليل، فان هذا لا يعني أنهم لم يشتركوا في الفتنة أو يسهموا فيها، فإن سكوتهم على ما كان يحدث تحت سمعهم وبصرهم، وخذلانهم

____________

1- البداية والنهاية 7: 252.

  

 


عثمان بن عفان ليدل على موقفهم السلبي من عثمان، وقد أثبت ذلك عدد كبير من الصحابة ممن شهدوا الوقائع، منهم على سبيل المثال أحد شهود العيان، معترفاً بذلك أمام معاوية بن أبي سفيان نفسه، فقد ورد أبو الطفيل عامر بن واثلة -وهو آخر الصحابة موتاً- على معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم. قال معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن ممن شهده فلم ينصره. قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار! فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقاً واجباً وفرضاً لازماً، فإذا ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله، وأصاركم الى ما رأيتم. فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين إذ تربّصت به ريب المنون أن تنصره ومعك أهل الشام! قال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟! فضحك أبو الطفيل وقال: بلى، ولكنك وإياه كما قال عبيد بن الأبرص:

 

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي(1)

 

فأبو الطفيل يعبّر عن موقفه وموقف المهاجرين والأنصار -وهم عشرات الاُلوف- قِبل عثمان وعدم تحرّجهم في خذلانه والامتناع عن نصرته.

أما الادعاء بأنه لم يكن مع علي بن أبي طالب غير نفر قليل من البدريين والرضوانيين، فإن هناك روايات عديدة تثبت عكس ذلك. فعن عبدالرحمان ابن أبزى، قال: شهدنا مع علي ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قال: قُتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر(2).

____________

1- مروج الذهب 3: 26، تاريخ دمشق 26: 116، مختصر تاريخ دمشق 11: 293، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 186.

2- تاريخ خليفة بن خياط: 145، 148، وقال الذهبي: سنده صحيح، ورجاله بين الثقة والصدوق، تاريخ الاسلام 3: 545.

 

 


وعن سعيد بن جبير قال: كان مع علي يوم الجمل ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن بايع بيعة الرضوان.

وعن الأعمش: والله تعجبت لعلي وأصحابه، إنه كان مع علي أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان مع معاوية أعاريب اليمن ولخم وجذام(1).

وقال السُدّي: شهد مع علي يوم الجمل (130) بدرياً، وسبعمائة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وقُتل بينهما ثلاثون ألفاً، لم تكن مقتلة أعظم منها. وكان الشعبي يبالغ ويقول: لم يشهدها إلاّ علي وعمار وطلحة والزبير من الصحابة!(2).

وقال الزرقاني في نهج المسالك: أتى علي(رضي الله عنه) في أهل العراق في سبعين ألفاً، فيهم تسعون بدرياً وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وخرج معاوية في أهل الشام في خمسة وثمانين ألفاً، ليس فيهم من الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد!

وقد أخرج ابن كثير عن ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده، أن قرّاء اهل العراق وقرّاء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريباً من ثلاثين ألفاً، وأن جماعة من قرّاء العراق منهم: عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر ابن عبد قيس، وعبدالله بن عقبة بن مسعود وغيرهم، جاءوا الى معاوية فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان! قالوا: فمن تطلب به؟ قال: علياً! قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم! وآوى قتلته(3).

____________

1- التاريخ الصغير: 125 بسند صحيح.

2- سير اعلام النبلاء 3: 484.

3- قال محب الدين الخطيب في الهامش (282) من كتاب العواصم من القواصم "ليس في أهل السنّة رجل واحد يتهم علياً بقتل عثمان، لا في زماننا، ولا في زمانه"!

 

 


فانصرفوا إلى علي، فذكروا له ما قال، فقال: كذب! لم أقتله، وأنتم تعلمون أني لم أقتله. فرجعوا الى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده، فقد أمر رجالا! فرجعوا إلى علي فقال: والله ما قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا، فقال معاوية: فإن كان صادقاً فليقدنا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره وجنده. فرجعوا، فقال علي: تأوّل القوم عليه القرآن في فتنة، ووقعت الفرقة لأجلها، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل، فرجعوا الى معاوية فأخبروه، فقال: إن كان الأمر على ما يقول، فماله أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممّن هاهنا؟! فرجعوا الى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، رضوا بي وبايعوني، ولستُ استحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الاُمة ويشق عصاها. فرجعوا الى معاوية فقال: ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلاّ وهو معي! وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم(1).

فها هنا أيضاً نلاحظ أن معاوية يحاول التشبث بأي عذر للتوصل الى غرضه، ومن العجيب أنه يستنكر إنفاذ أمر البيعة دون علمه ومشورته، وهو ليس من المهاجرين ولا الأنصار، ولا سابقة له، بل هو طليق من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ولا حتى إبداء الرأي فيها!(2).

أما احتجابه بمن معه من المهاجرين والأنصار فهو مدعاة للسخرية، فضلا عن أنه لم يكن معه ولا بدري واحد، إذ أكد علي بن أبي طالب على أن جميع البدريين معه! وقد وصف علي بن أبي طالب الفئة الباغية بقوله لأصحابه:

____________

1- البداية والنهاية 7: 257.

2- الاستيعاب 2: 85، اُسد الغابة 4: 387، الطبقات الكبرى 3 / 1 / 248.

 

 


قاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله، فقاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين الذين ليسوا بقرّاء قرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل من سابقة الاسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل!(1).

والعجيب بعد كل هذه الأدلة التي تكشف عن نوايا معاوية وأغراضه، أن تجد بعض المؤلفين المعاصرين يلوّحون بما يعتمل في أنفسهم، وتنضح أقلامهم بما يحاولون التستر عليه من مكنونهم دون جدوى، فالدكتور امحزون يحاول كسلفه محب الدين الخطيب وغيره من القدماء كابن كثير وغيره أن يبرئ معاوية، ويلقي التبعة على علي بن أبي طالب، إذ يقول:

وقد كان في إمكان علي(رضي الله عنه) اتخاذ وسائل اُخرى غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق، إذ لا يلزم من كونه إماماً شرعياً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين صواباً وحقاً باطلاق!!(2).

إن المشكلة تتلخص في أن بعض الباحثين وهم يتمسكون بجزء من القضية ويتشبثون بروايات معينة دون غيرها، ويحاولون أن يجعلوها هي الأساس لمتبنياتهم، لكنهم وللاشكالات المعقدة التي تطرحها هذه الروايات، سرعان ما يجدون أنفسهم مضطرين لمخالفتها دون وعي منهم، فهل نسي الدكتور امحزون أنه حتى روايات سيف بن عمر نفسها حول معركة الجمل -والتي يعتمدها الدكتور امحزون- تقول بأن علياً بذل الصلح لأهل الجمل، ولم يبدأهم بقتال، ولكن السبائية هم الذين انشبوا الحرب كما تدعي الرواية!

____________

1- الكامل لابن الاثير 3: 339.

2- تحقيق مواقف الصحابة 2: 170.

 

 


أما إذا كان الدكتور امحزون يعلم - في قرارة نفسه- أن تلك الروايات مكذوبة، فإن الروايات التي جاءت عن الثقات، والتي سبق وأن أوردناها حول معركة الجمل، تؤكد أن علياً قد بذل لهم الصلح أيضاً، ووقف ثلاثة أيام يفاوضهم ويعظهم وينصحهم، وأنه دعا طلحة والزبير ووعظهما، وأنه لم يبدأ الحرب حتى دعاهم الى كتاب الله، ولكنهم هم الذين بدأوه القتال! وهلاّ كان الدكتور امحزون يوجّه هذه الملاحظة الى موقف معاوية وينصحه بالتنازل عن بعض حقه - إن كان معه شيء من الحق أصلا- ومع ذلك فإن الدكتور امحزون يعود فيناقض نفسه حيث يقول:

وذكر يحيى بن سليمان الجعفي في (كتاب صفين) بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة; أو أنت مثله! قال: لا، وإني أعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأْتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان.

فأتوه فكلّموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية(1).

فلماذا لم يتنازل معاوية عن شرطه بدفع قتلة عثمان إليه ليقتلهم كما هي عادة الجاهلية التي نهى عنها الإسلام، ولماذا ظل يرفض طلب الخليفة المنسجم مع مبادئ الإسلام، فيدخل في الطاعة أولا، ثم يحتكم الى الخليفة في قتلة عثمان؟ إن السبب واضح تماماً، إذ أن معاوية كان يعلم أنه يراهن على جواد خاسر، ولكن لم تكن لديه ذريعة اُخرى يحقق بها مطامعه.

وأخيراً فإن هؤلاء المؤلفين لو كانوا يبتغون الحقيقة كما هي من دون ميل

____________

1- تحقيق مواقف الصحابة 2: 47 عن ابن حجر في الفتح 13: 86.

 

 


مع الهوى لوجدوها، ولكنهم غضوا أنظارهم عنها، وحاولوا أن يجعلوا معاوية محقاً في دعواه بأي ثمن، ولو بافتعال ذريعة التأول الخاطئوقد عبّر علي بن أبي طالب عن موقف هؤلاء بقوله: وحزبنا حزب الله، والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن ساوى بيننا وبين عدونا فليس منا(1).

قضية التحكيم

انتهت معركة صفين بعدما كاد جيش علي أن يسحق جيش معاوية، لولا الحيلة التي اهتدى إليها عمرو بن العاص برفع المصاحف، والادعاء بتحكيم القرآن، والتي انطلت على قسم من جيش علي، فأجبروه على الموافقة على التحكيم وإيقاف الحرب، وإرسال حكمين على أن يتحاكما الى كتاب الله.

هذا ملخص ما جرى قبل التحكيم، ولا اُريد الدخول في تفاصيل السياق التاريخي لها، إلاّ أنني أود أن أتعرض أولا الى رأي القاضي ابن العربي حولها، لأنه جاء برأي غريب فيها، حيث قال في إحدى قواصمه:

وقد تحكم الناس في التحكيم، فقالوا فيه مالا يرضي الله، وإذا لاحظتموه بعين المروءة - دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل بيّن.

والذي يصح في ذلك، ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني: أنه لما خرج الطائفة العراقية في مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً، نزلوا على الفرات بصفّين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء، فغلب أهل العراق عليه، ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين،

____________

1- كنز العمال 6: 89.

 

 


حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا الى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها الى رجل، أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص.

وكان أبو موسى رجلا تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً(1).

وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين، فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر، ولينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض-، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده، فأنكره أبو موسى، فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف.

ثم قال ابن عربي في (عاصمة):

هذا كله كذب صراح! ما جرى منه حرف قط! وإنما هو شيء اخترعته المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثته أهل المجانة والجهارة بالمعاصي والبدع، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الاثبات: أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر في عصبة كريمة من الناس، منهم ابن عمر ونحوه، عزل عمرو معاوية!

ذكر الدارقطني بسنده الى حصين بن المنذر: لما عزل عمرو معاوية، جاء حصين بن المنذر فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ ثناه معاوية،

____________

1- وماذا عن عمرو بن العاص؟!

 

 


فأرسل إليّ فقال: إنه بلغني عن هذا (أي عن عمرو) كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟

قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. قال: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه.

فأتيته فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه، فأرسل الى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدوّ الله، أين هذا الفاسق؟ قال أبو يوسف: أظنه قال: إنّما يريد حوباء نفسه، فخرج عمرو الى فرس تحت فسطاطه فجال في ظهره عرياناً فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول: إن الضجور قد تحتلب العلبة، إن الضجور قد تحتلب العلبة، فقال معاوية: أحسبه ويريد الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناؤه!(1).

إن القصة التي يوردها ابن العربي مدعياً أنها هي الصحيحة، وأنها قد جاءت عن الائمة الثقات، لتثير من التساؤلات أكثر بكثير مما تشير الرواية التي اتفق المؤرخون عليها، والتي أنكرها ابن العربي! إذ ما هو الأمر الذي قال الناس فيه ما قالوا -كما يقول عمرو بن العاص- وهل هناك مقالة تفشو بهذه السرعة بين الناس دون أن يكون لها أي أصل! وإذا كان عمرو بن العاص وأبو موسى قد اتفقا على خلع معاوية -كما يدعي عمرو- فعن أي شيء خلعاه؟ عن

____________

1- العواصم من القواصم: 175.

 

 


الخلافة وهو ليس بخليفة، أم عن إمارة الشام؟ فإن كانا قد خلعاه عن إمارة الشام، فلماذا لم يرضخ معاوية لحكمهما - وهو الذي طلب التحكيم- فيعزل نفسه نزولا عند حكم الحكمين!

وإن كان أبو موسى قد قال لعمرو: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما، فهو لم يخذل إمامه علي بن أبي طالب ويخلعه، فلماذا هرب إذاً الى مكة استحياء من علي، طالما أنه لم يقبل أو يفعل ما يستوجب غضب الخليفة عليه، ولماذا كان علي بن أبي طالب يلعنه في قنوته! وأين النتيجة في تلك القصة التي يرويها ابن العربي عن الدارقطني، والتي تبدو وكأنها هذيان محموم؟

إن محاولة تبرئة أبي موسى الأشعري من مسؤوليته في قضية التحكيم لا تجدي نفعاً، فإن لهذا الرجل سوابق غير محمودة، فهو بالأمس يخذّل الناس عن علي من على منبر الكوفة الذي جلس عليه بأمر علي نفسه حين عيّنه والياً على الكوفة، ويدَّعي انها فتنة، وأن أصحاب رسول الله أعلم بالأمر، وكأنه هو الصحابي الوحيد الذي بقي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع أنه لم يدخل الإسلام إلاّ بعد فتح خيبر، وهل نسي أن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهما من الصحابة الذين مع علي، هم أقدم منه إسلاماً وأعرف باُمور الدين، وأفهم لسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)؟!

وإذا كانت نية الرجل سليمة حقاً، فما باله لم يخذّل الناس عن أصحاب الجمل! فلا بعث كتاباً الى عائشة يرجوها أن تقرّ في بيتها كما أمرها الله ورسوله، -وكما فعل غيره من الصحابة من ذوي البصائر- ولا حذّر طلحة والزبير من عواقب هذه الفتنة! مع العلم أن الواجب كان يحتّم عليه أن ينصر

 

 


خليفته الذي اختاره المهاجرون والأنصار ممن هم أسبق منه إسلاماً وأكثر بلاءً فيه، وأن يخرج بأهل الكوفة لنصرته. كل هذه الهنات من أبي موسى تجعله موضع شك في نياته تجاه علي بن أبي طالب، وموقفه قبل أن يبدأ التحكيم ينم عن فساد نياته، فقد روى نصر بن مزاحم قال:

وكان آخر من ودّع أبا موسى، الأحنف بن قيس، أخذه بيده ثم قال له: يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وأنك إن أضعت العراق فلا عراق. اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام، فإنها وإن كانت سنّة، إلاّ أنه ليس من أهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة، ولا تلقه إلاّ وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود. ثم أراد أن يُثوّر ما في نفسه لعلي، فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا، وليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا! فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي!

فرجع الأحنف إلى علي (عليه السلام) فقال له: أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل محضة! لا أرانا إلاّ قد بعثنا رجلا لا ينكر خلعك! فقال علي: الله غالب على أمره(1).

فأبو موسى قد كشف عن مكنون نفسه قبل أن يرحل الى المكان المتفق عليه، وبدا أنه لا ينكر خلع علي بن أبي طالب، فقد كان مائلا عنه منذ البداية، لأن هواه مع غيره، فقد روى نصر أيضاً قال:

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.

 

 


وقد كان الأجناد أبطأت على معاوية، فبعث الى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه: إن الحرب قد وضعت أوزارها، والتقى هذان الرجلان في دومة الجندل، فأقدموا عليَّ.

فأتاه عبد الله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وعبدالرحمان بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وعبدالله ابن صفوان الجمحي، وأتاه المغيرة بن شعبة -وكان مقيماً بالطائف لم يشهد الحرب- فقال له: يا مغيرة، ما ترى؟ قال: يا معاوية، لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليَّ أن آتيك بأمر الرجلين. فرحل حتى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كالزائر له! فقال: يا أبا موسى، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك خير الناس، خفّت ظهورهم من دمائهم، وخمصت بطونهم من أموالهم، ثم أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك شرار الناس! لم يعرفوا حقاً ولم ينكروا باطلا.

فرجع المغيرة الى معاوية فقال له: قد ذقتُ الرجلين، أما عبدالله بن قيس، فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر، وهواه في عبدالله بن عمر، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي تعرف، وقد ظنّ الناس أنه يرومها لنفسه، وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه!(1).

فقد كان أبو موسى قد وطّن نفسه منذ البداية على خلع علي من الخلافة، وصرفها الى عبدالله بن عمر بن الخطاب - الذي كان هواه معه- فقد روى نصر

____________

1- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.

 

 


أن أبا موسى قال غير مرة:

والله إن استطعت لأحيينّ اسم عمر بن الخطاب. قال: فقال عمرو بن العاص: إن كنت إنّما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه، فما يمنعك من ابني عبدالله وأنت تعرف فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك لرجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة(1).

فلما عجم عمرو بن العاص عود أبي موسى، وأدرك تهاونه في حق خليفته، دبّر له المكيدة التي أردته، وسأله آخر الأمر: أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا. فقال عمرو: الرأي والله ما رأيت، فأقبلا الى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله عزّوجل به أمر هذه الاُمة. فقال عمرو: صدق وبرّ; يا أبا موسى، تقدّم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت بعده، فإن عمراً رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك -وكان أبو موسى مغفلا- فقال له: إنّا قد اتفقنا.

فتقدم أبو موسى فحمد الله عزّوجل وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد اجتمع

____________

1- المصدران السابقان، تاريخ الطبري 5: 68.

 

 


رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الاُمة هذا الأمر فيولّوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحّى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه وليّ عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه! فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنّعه بالسوط، وحمل على شريح إبن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمتُ على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألاّ أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ما أتى.

والتمس أهل الشام أبا موسى، فركب راحلته ولحق بمكة.

قال ابن عباس: قبّح الله رأي أبا موسى! حذّرته وأمرته بالرأي فما عقل. فكان أبو موسى يقول: حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئاً على نصيحة الاُمة(1).

ولما جاءت الأخبار الى علي بن أبي طالب، قام فخطب الناس، فكان مما قال:

ألا أن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب، وأحييا ما أمات، واتبع كل واحد منهما هواه، وحكم بغير حجة ولا بيّنة ولا سنة

____________

1- تاريخ الطبري 5: 70، شرح نهج البلاغة 2: 255.

 

 


ماضية، واختلفا فيما حكما، فكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين..

قال نصر: فكان علي (عليه السلام) بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب، وفرغ من الصلاة وسلّم، قال: اللهم العن معاوية، وعمراً، وأبا موسى، وحبيب بن مسلمة، وعبدالرحمان بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد بن عقبة.

فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا صلى لعن علياً وحسناً وحسيناً وابن عباس وقيس بن سعد والأشتر.

وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية، أبا الأعور السلمي(1).

هذه هي قصة التحكيم كما وردت عند الطبري وتناقلها عنه المؤرخون، ولنا هنا وقفة مع القاضي ابن العربي، فلماذا أنكر هذه الرواية وقال إنها من وضع التاريخية للملوك؟ ومن هم اولئك التاريخية الذين يتهمهم؟ أليس الطبري هو المصدر الرئيسي الذي أورد الرواية، والذي اعتمده ابن العربي دون غيره في معظم الأخبار التي دوّنها في كتابه الذي بين أيدينا! أوليس هو الذي دعانا الى اعتماد الطبري دون سواه من المؤرخين! فما باله قد تنكّر له هذه المرة، بعد أن نقل عنه كل ما يوافق منحاه واتجاهه، ولكنه في هذه القضية انقلب على الطبري واتهمه! وتلك هي الحال مع معظم المؤلفين من القدامى والمعاصرين، فتراهم يمجّدون الطبري في نقل الأخبار التي توافق اتجاهاتهم، ولكنهم ينقلبون عليه إذا روى ما خالف هذه الاتجاهات، حتى أن بعضهم اتهم الطبري بالرفض!

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 259، تاريخ الطبري 5: 71 ولكنه لم يذكر أبا موسى من بينهم.

 

 

 

 


الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً"، فلما سمع ذلك الناس، جاء رجل بشراك أو شراكين الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: "شراك من نار، أو شراكان من نار"(1).

وعن خالد الجهني، قال: توفي رجل يوم حنين، وإنهم ذكروه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "صلّوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن صاحبكم قد غلَّ في سبيل الله"، قال: ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز يهود، ما تساوي درهمين(2).

ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهي عن الصلاة على المنافقين، فالذي يغل- وإن قتل بعد ذلك في سبيل الله- يصبح في زمرة المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.

قال النووي: إن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل(3).

كما جاء عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدر من حُنين وهو يريد الجعرانة، سأله الناس حتى دنت ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ردّوا علي ردائي، أتخافون أن لا أُقسم بينكم ما أفاء الله عليكم والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم سمر تهامة نَعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جباناً ولا كذاباً". فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قام في الناس فقال

____________

1- صحيح البخاري 8: 179 كتاب الايمان والنذور، باب هل يدخل في الايمان والنذور الأرض والغنم والزروع والامتعة، الموطأ 2: 459 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول، صحيح مسلم 1: 148 كتاب الايمان، باب غلظ تحريم الغلول.

2- الموطأ 2: 458، سنن ابي داود: كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، سنن النسائي: كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، سن ابن ماجة: كتاب الجهاد باب الغلول ح 2848.

3- شرح صحيح مسلم 2: 489.

 

 


"أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عارٌ ونارٌ وشنار على أهله يوم القيامة". ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئاً ثم قال: "والذي نفسي بيده، مالي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلاّ الخمس، والخمس مردود عليكم"(1).

فهذه هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في الفيء، وهذه هي تحذيراته الشديدة من الغلول مهما كان بسيطاً، ورغم ذلك فإن معاوية يضرب بهذه السيرة وهذه النواهي عرض الحائط، ويريد أن يغل ذهب المغنم وفضته كله!

3 - اسقاط الحد

روى ابن كثير عن القاضي الماوردي في (الأحكام السلطانية) قال: وحكي أن معاوية اُتي بلصوص فقطعهم، حتى بقي واحد من بينهم فقال:

 

يميني أمير المؤمنين أعيذها

بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها

يدي كانت الحسناء لو تم سترها

ولا تقدم الحسناء عيباً يشينها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة

إذا ما شمالي فارقتها يمينها

 

فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك، فقالت اُم السارق: يا أمير المؤمنين، اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها فخلى سبيله، فكان أول حدّ تُرك في الاسلام(2).

لا شك أن التهاون في إقامة حدود الله يعدّ بادرة خطيرة تؤدي الى تفشّي الفساد في أوصال المجتمع، لأنه يجرّيء الأشقياء على ارتكاب الجرائم دون خوف من عقاب، فينشأ من ذلك اختلال الأمن في المجتمع، ولهذا شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمر، فعن عائشة(رض) أن قريشاً أهمّتهم المرأة

____________

1- الموطأ 2: 457 باب ما جاء في الغلول، سنن النسائي: كتاب قسم الفيء.

2- البداية والنهاية 8: 136، الأحكام السلطانية، للماوردي 2: 228.

 

 


المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن يجترئ عليه إلاّ اُسامة حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "أتشفع في حدّ من حدود الله". ثم قام فخطب، قال: "إنما ضلّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"(1).

ولكن معاوية أعطى لنفسه هذا الحق، وبعد قول الله تعالى (ومن يتعدّ حدود الله فاُولئك هم الظالمون)(2).

4 - إستلحاق زياد

أورد الطبري خبر استلحاق معاوية زياداً ضمن أحداث سنة أربع وأربعين، قال: حدثني عمر بن شبة قال: زعموا أن رجلا من عبدالقيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه قال: نعم، فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه وابن سمية يقبّح آثاري ويعرّض بعمالي لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره. فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد، فشكا إليه ذلك فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم. فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: إجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطالا، خرج

____________

1- صحيح البخاري 8: 199 باب كراهية الشفاعة في الحد.

2- البقرة: 229.

 

 


معاوية وفي يده قضيب يضرب به الأبواب ويتمثل:

 

لنا سياقٌ ولكم سياق

قد علمت ذلكم الرفاق

 

ثم قعد فقال: يابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزّها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني الاّ عزاً، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزّز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه، فقال: يا أمير المؤمنين، نرجع الى ما يحب زياد، قال: إذاً نرجع الى ما تحب، فخرج ابن عامر الى زياد فترضّاه.

كما ونقل الطبري عن أحمد بن زهير بسنده قال: إن زياداً لما قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلاّ اليكم. قالوا: ادعنا الى ما شئت. قال: تُلحقون نسبي بمعاوية قالوا: أما بشهادة الزور، فلا. فأتى البصرة فشهد له رجل(1).

هذه هي قصة الاستلحاق برواية شيخ المؤرخين الطبري، ولا يخفى على القارئ اللبيب أن الطبري قد بتر القصة كلها، ولم يذكر منها إلاّ ذيلها، مما هو مشهور بين المؤرخين والمحدثين والعلماء والفقهاء قاطبة، والذين أخرجوا قصة الاستلحاق بتمامها في كتبهم، وقد أنكر ابن الأثير على الطبري إكتفاءه بهذا القدر من القصة، فقال -بعد أن أوردها-:

هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك وكيفيته، فإنه من الاُمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي اهمالها. وكان ابتداء حاله أن سمية اُم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر، فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي، فعالجه فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة، واسمه نفيع، فلم يُقرّ به، ثم ولدت

____________

1- تاريخ الطبري 5: 214.

 

 


نافعاً، فلم يُقرّ به أيضاً، فلما نزل أبو بكرة الى النبي (صلى الله عليه وآله) حين حصر الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدي، وكان قد زوّج سميّة من غلام له إسمه عبيد، وهو رومي، فولدت له زياداً.

وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية الى الطائف، فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السّلولي - وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي (صلى الله عليه وآله) - فقال أبو سفيان لأبي مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيّاً. فقال له: هل لك في سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها، فأتاه بها، فوقع عليها فعلقت بزياد، ثم وضعته في السنة الاولى من الهجرة، فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام فيه مقاماً مرضياً، فلما عاد إليه حضر، وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان -وهو حاضر-: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم اُمه فقال علي: يا أبا سفيان، اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً.

فلما ولي علي الخلافة استعمل زياداً على فارس، فضبطها، وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، وكتب الى زياد يتهدده ويعرّض له بولادة أبي سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المهاجرين والأنصار أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أضمر مخشيّاً ضرّاباً بالسيف.

وبلغ ذلك علياً فكتب إليه: إني وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كانت من أبي

 

 


سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً ولا تحلّ له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر والسلام.(1)

فلما قُتل علي، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه، واضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية إن زياداً قد أكل فارس براً وبحراً وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلاّ حقاً، فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان.

ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً، واستصفى مودته بالتحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر: أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلاّ سمية، فقال: ايتني بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن اسكيتها لتقطران منياً. فقال له زياد: مهلا أبا مريم، إنما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً فاستلحقه معاوية، وكان استلحاقه أول ما رُدّت أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.

وكتب زياد الى عائشة: من زياد بن أبي سفيان، وهو يريد أن يكتب له: الى زياد بن أبي سفيان، فيحتج بذلك، فكتبت: من عائشة اُم المؤمنين الى ابنها زياد وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني اُمية خاصة، وجرى بذلك

____________

1- (وفي رواية ابن عبد البر عن ابن عباس قال: فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن وربّ الكعبة) الاستيعاب 2: 99.

 

 


أقاصيص يطول ذكرها...

ثم قال ابن الاثير: ومن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت انواعاً لا حاجة الى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الاسلام حرّم هذا النكاح، إلاّ أنه أقرّ كل ولد كان ينسب الى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية والاسلام، وهذا مردود لاتفاق المسلمين على انكاره، ولأنه لم يستحلق أحد في الاسلام مثله ليكون به حجة(1).

وقال ابن عبد البر: فلما بلغ أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي بذلك، آلى يميناً لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنّى اُمه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع باُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة يهتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة عظيمة!

وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة، فأراد الدخول على اُم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك.

وقيل: إن اُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: انه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقال: جزى الله أبا بكرة خيراً، فما يدع النصيحة على حال(2).

____________

1- الكامل في التاريخ 3: 441.

2- الاستيعاب 2: 99، وانظر اسد الغابة 2: 336، تاريخ ابن عساكر 5: 406، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 187، تاريخ اليعقوبي 2: 19، مروج الذهب 3: 15 وغيرها من المصادر.

 

 


وقال ابن كثير:

قال ابن جرير، وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية اُم زياد في الجاهلية وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له: زياد بن أبي سفيان، وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(1).

هذه هي قصة الاستلحاق كما ذكرها الأئمة الأعلام، ومن المؤسف أن تجد من يعتذر لمعاوية عن هذا العمل الشنيع الذي استنكره ابن الأثير وكفانا مؤونة الرد على المعتذرين لمعاوية، ولكن أسفاً على الاسلام أن يتصدى بعض الفقهاء والعلماء لتبرير مثل هذه الجرائم التي تقصم ظهر الاسلام والمسلمين، إلاّ أن ذلك ليس غريباً على من يبيع آخرته بدنيا غيره، فإن سياسة الترغيب والترهيب التي اتّبعها معاوية قد أوجدت طبقات من المتكسّبين الذين يبيعون دينهم بالدرهم.

قال عبدالرحمن الشرقاوي: "وكان بعض المنتسبين الى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني اُمية وزيّنوا لهم الاستبداد، وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يُسألون عما يفعلون.. وفي الحق أن الحكام الاُمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين فيجزلون لهم العطاء، ويولّون بعضهم"(2).

لكن الذي يبعث على الاستغراب أكثر من ذلك، أن يتصدى بعض العلماء لتبرير أعمال معاوية وبني اُمية بعد انقضاء دولتهم بقرون متطاولة -كما يفعل

____________

1- البداية والنهاية 8:

2- أئمة الفقه التسعة: 43.

 

 


ابن العربي مثلا- فإذا كان اُولئك العلماء العملاء قد باعوا دينهم مقابل ثمن قبضوه من معاوية وبني اُمية، فممن يرتجي هؤلاء الجزاء؟! وكيف ينسون المواقف الشجاعة التي وقفها بعض الفقهاء الأتقياء الذين ندّدوا بعمل معاوية علانية رغم أنهم كانوا في ملكه ودولته، ومن هؤلاء: الحسن البصري الذي قال: أربع خصال كنّ في معاوية، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة، لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاُمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلا له من حجر وأصحاب حجر، ويلا له من حجر وأصحاب حجر"(1).

وعن ابن حرملة قال: ما سمعت سعيد بن المسيب سبَّ أحداً من الائمة قط، إلاّ أني سمعته يقول: قاتل الله فلاناً (يعني معاوية) كان أول من غيّر قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(2).

5 - أكل الربا

من الاُمور التي لا يخالج أحداً من المسلمين الشك فيها مطلقاً، حرمة الربا تحريماً قطعياً، والنهي الشديد عنه، والوعيد لآكله في الكتاب العزيز والسنّة النبوية الشريفة، وفقهاء المسلمين مجمعون بكافة طوائفهم على حرمة الربا

____________

1- الطبري 5: 279، الكامل في التاريخ 3: 487، تاريخ ابن عساكر 2: 381، البداية والنهاية 8: 139، النجوم الزاهرة 1: 141 وغيرها.

2- حلية الاولياء 2: 167، والحديث في صحيح البخاري 8: 191 كتاب الفرائض، باب الولد للفراش، حرة كانت أو أمة، صحيح مسلم كتاب الرضاع، سنن الترمذي 3: 463 ح 1157، سنن النسائي: 3: 378 ح 5676، سنن أبي داود 2: 282 ح 2273.

 

 


وأنه من الكبائر.

وقد نعت القرآن الكريم أكلة الربا بأقبح النعوت والأوصاف، وتوّعدهم بشدّة، فقال عزّ من قائل: (الذينَ يأكلونَ الرِّبا لا يقومونَ إلاّ كما يَقومُ الذي يَتخبَّطهُ الشيطانُ مِنَ المسّ ذلكَ بأنّهم قالوا إنَّما البيعُ مِثلُ الرِّبا وأَحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الربا فَمنْ جاءَهُ مَوعِظةٌ مِنْ رَبّهِ فانتهى فَلهُ ما سَلفَ وأَمرهُ الى اللهِ ومَنْ عادَ فأولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدونَ)(1)، فالذي يصر على أكل الربا هو من الخالدين في النار، مثله في ذلك كمثل الكفار والمشركين كما وتهدّد القرآن الكريم المصرّين على أكل الربا بحرب من الله ورسوله، فقال تعالى ذكره: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقيَ مِنَ الرّبا إنْ كُنتُمْ مُؤمِنينَ * فإنْ لَمْ تَفعلُوا فَأْذَنُوا بحرب مِنَ اللهِ وَرَسولِه)(2).

أما السنّة النبوية الشريفة، فالأحاديث فيها في التشديد على حرمة الربا أكثر من أن تحصى، ولا يخلو منها كتاب من كتب الحديث، والفقه، وسوف أكتفي بالاستشهاد بأمثلة قليلة جداً منها:

عن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى حجاماً، فسألته عن ذلك، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأَمَة، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا ومؤكله، ولعن الصور(3).

وعن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف

____________

1- البقرة: 275.

2- البقرة: 278 - 279.

3- صحيح البخاري 3: 78 كتاب البيوع باب مؤكل الربا، و 3: 111 باب ثمن الكلب.

 

 


وقذف المحصنات الغافلات"(1).

وعن إبن مسعود مرفوعاً: "الربا ثلاث وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل اُمّه"(2).

هذا هو حكم آكل الربا ومؤكله في القرآن والسنّة، وهذا هو عقابه الأليم، فهو خالد في النار كالكفار، وهو محارب لله ورسوله...الخ.

ومع كل هذا فإن معاوية بن أبي سفيان الصحابي الذي يفترض أنه ممن يأخذ المسلمون دينهم عنهم لا يتورع عن أكل الربا، وليس هذا من تخرصات أحد مخالفيه أو من أكاذيب أهل البدع -كما يسميهم البعض- ولا هو من تقوّلات التاريخية الذين يكتبون للملوك المناوئين لبني اُمية، بل هو بشهادة الصحابة من أولي الفضل والتُقى، أخرجها عنهم أئمة الحديث من علماء الجمهور، فعن عطاء بن يسار: أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى عن مثل هذا إلاّ مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بثمل هذا بأساً! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويخبرني عن رأيه لا أُساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلاّ مثلا بمثل، وزناً بوزن(3).

وعن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو

____________

1- صحيح مسلم 1: 64، صحيح البخاري 3: 195، سنن أبي داود ح 3333، سنن البيهقي 5: 275، سنن الترمذي 3: 12 ح 1206، سنن ابن ماجة 2: 764 ح 2277.

2- المستدرك على الصحيحين 2: 43 ح 2259، شعب الايمان للبيهقي 4: 394 ح 55199.

3- الموطأ 2: 634 باب بيع الذهب بالفضة تبراً وعيناً. السنن الكبرى للبيهقي 5: 280 كتاب البيوع، باب تحريم التفاضل في الجنس الواحد. السنن الكبرى للنسائي 4: 30 كتاب البيوع: بيع الذهب بالذهب ح 6164.

 

 


الأشعث، قال: قالوا: أبو الاشعث، أبو الاشعث; فجلس، فقلت له: حدّث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا: آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في اُعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، إلاّ سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فردّ الناس ما أخذوا، فبلغ معاوية فقام خطيباً فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم)، ما اُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء(1).

وفي رواية لابن عساكر عن الحسن، وفيها: فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره فقال له: بلى وإن رغم أنف معاوية، ثم قام فقال له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) من الصفح عنهم(2).

إن الملاحظ أن معاوية يريد أن يقرن نفسه بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) الذين سارعوا الى الإيمان به منذ البداية، ورافقوه وشهدوا معه المشاهد، فيستنكر عليهم أن يرووا عنه أحاديث لم يسمع معاوية بها ولا أدري ما الغريب في

____________

1- صحيح مسلم 3: 398 كتاب المساقاة: باب صرف وبيع الذهب بالورق نقداً، وسنن ابن ماجة 1: 22 ح 18 باب اتباع سنة رسول الله(ص)، والسنن الكبرى للنسائي 4: 27 كتاب البيوع: بيع الشعير بالشعير ح 6154، 6155، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 277 كتاب البيوع وتاريخ ابن عساكر 26: 176.

2- تاريخ دمشق 8: 866.

 

 


ذلك فعبادة بن الصامت ممن بايع النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة، وهو من النقباء، وهو بدري، وقد شهد مع النبي مشاهده(1).

بينما معاوية لم يُسلم إلاّ بعد فتح مكة، ولم يصحب النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ فترة وجيزة، فأنّى له الاحاطة بحديث النبي وسنته، حتى ينكر على عبادة وأمثاله من السبّاقين ولو أن معاوية اعترف بجهله بذلك، وارتدع عما يفعل، لكان له بعض العذر، لكننا نراه يصرّ على التمسك برأيه وينعى على الآخرين تبصيره بالحقيقة - إن كان يجهلها- مع العلم أن معاوية لابد وأن يكون قد سمع النبي (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، في السنة العاشرة من الهجرة وهو يخطب قائلا: "أيها الناس. اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وكل رباً موضوع، لكم رؤوس أموالكم، وإن ربا العباس بن عبدالمطلب موضوع كله..."(2).

ولا يكتفي معاوية بكل ذلك، بل يمنّ على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك بالصفح عنهم وكأنهم هم المذنبون بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو المصيب باصراره على المنكر والمحرّم!.

6 - بيع الأصنام

قال السرخسي: وذُكر عن مسروق(رحمه الله) قال: بعث معاوية(رض) بتماثيل من صفر تُباع بأرض الهند، فمرّ بها على مسروق رحمه الله، قال: والله

____________

1- روى ابن سعد عن خالد بن معدان قال: لم يبق من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشام أحد أوثق ولا أفقه ولا أرضى من عباد بن الصامت وشداد بن أومى، الطبقات: 374.

2- تاريخ الطبري 3: 148، الكامل لابن الاثير 2: 302 ذكر حجة الوداع، تاريخ الإسلام 1: 704، مغازي الواقدي 3: 1088، السيرة النبوية لابن هشام 4: 230، الطبقات الكبرى 2: 172، تاريخ خليفة بن خياط: 94، نهاية الإرب 17: 371، عيون الأثر 2: 272.

 

 


لو أني أعلم أنه يقتلني لغرّقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، والله لا أدري أي الرجلين معاوية، رجل قد زُيّن له سوء عمله، أو رجل يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا.

وقيل: هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة، فأمر معاوية(رض) ببيعها بأرض الهند بها الاسلحة والكراع للغزاة، فيكون دليلا لأبي حنيفة في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده، كما هو طريقة القياس، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله، كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك.

ومسروق من علماء التابعين، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى، وقد رجع ابن عباس الى قوله في مسألة النذر بذبح الولد، ولكن مع هذا، قول معاوية (رض) مقدّم على قوله وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض، كما قال علي(رضي الله عنه): من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد، يعني بقول زيد(رض). وإنما قلنا هذا لأنه لا يُظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية(رض) ما قال عن اعتقاد، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين، وقد أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالملك بعده فقال له (عليه السلام) يوماً: "إذا ملكت أمر اُمتي فأحسن إليهم"، فكان هو مخطئاً في مزاحمة علي(رضي الله عنه)، تاركاً لما هو واجب عليه من الانقياد له، لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا(1).

لقد أوردت كلام السرخسي كله في هذه القضية للتذكير بأن بعض فقهاء العصر الاُموي قد قبلوا أن يبيعوا دينهم بدراهم معاوية، إلاّ أننا نجد في الفقهاء

____________

1- المبسوط: 24: 46 كتاب الاكراه.

 

 


المتأخرين عن عصر بني اُمية -كأمثال السرخسي هذا- من يبيع دينه لمعاوية دون مقابل، بعد أن أضلته أساليب الدعاية الاُموية على مرّ القرون، فيستميت في الدفاع عن معاوية متأولا كلام التابعي مسروق بن الأجدع الواضح الذي لا لبس فيه ولانكارة - من باب حسن الظن بالصحابة كما درجوا على القول- ثم يفتعل لمعاوية مناقب عظيمة من كتابته الوحي وبشارة النبي المزعومة له بالملك وغيرها، وسوف اُؤجل البحث في مناقب معاوية ورأي الحفاظ والعلماء فيها إلى مباحث قادمة، إلاّ أنني اُريد فقط أن أذكر هذا الفقيه وأمثاله بقول النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة بيع الأصنام، مكتفياً بما أخرجه أعظم المحدثين، محمد بن اسماعيل البخاري، عن جابر بن عبدالله، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عام الفتح وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك: "قاتل الله اليهود، إن الله لمّا حرّم شحومها، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه"(1).

7 ـ شرب الخمر

لا يخامر أحداً من المسلمين شك في حرمة الخمر، وتحذير النبي (صلى الله عليه وآله) منها، فهي اُم الخبائث، وهي التي تفتح الباب للكثير من الشرور والمفاسد، وقد تسببت في تهديم الكيان الاُسري، ومفاسدها أكثر من أن تحصى، لذا حاربها الإسلام، ونظراً لآثارها العميقة على المدمن عليها، وصعوبة تخلصه منها

____________

1- صحيح البخاري 3: 110 باب بيع الميتة والأصنام.

 

 


والفكاك من شراكها، ولأنها كانت من الاُمور التي اعتاد عليها أبناء المجتمع الجاهلي، فقد تدرجت أحكام الشريعة الإسلامية في النهي عنها، حتى جاء الوقت المناسب، فأعلن الكتاب العزيز تحريمها بشكل قطعي، وذلك في قوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا إنّما الخَمرُ والميسرُ وا

والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجسٌ منْ عَملِ الشيطانِ فاجتَنبوهُ لعلَّكم تُفلحونَ)(1).

ثم جاء دور السنّة النبوية الشريفة في التشديد على النهي عنها واجتنابها، والوعيد لمن أصرّ على شربها، أو حتى بيعها أو حملها...الخ.

فعن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله): "لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر"(2).

وعن أبي بكر بن عبدالرحمان بن الحرث عن أبيه قال: سمعت عثمان(رضي الله عنه)يقول: اجتنبوا الخمر فإنها اُم الخبائث، أنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبّد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى الى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمرة كأساً، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذا الخمر كأساً، فسقته كأساً. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلاّ ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه(3).

____________

1- المائدة: 90.

2- سنن ابن ماجة 2: 311 كتاب الأشربة: باب الخمر مفتاح كل شر.

3- سنن النسائي 8: 315.

 

 


وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مدمن الخمر كعابد وثن"(1).

وعن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر"(2).

وعن أبي علقمة مولاهم، وعبدالرحمان بن عبدالله الغافقي، أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه"(3).

وعن عبدالله بن عمر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال". قيل: يا أبا عبدالرحمان، وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار(4).

وعن مسروق، قال: القاضي إذا أكل الهدية فقد أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر، وقال مسروق: من شرب الخمر فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة(5).

فبعد هذه الروايات التي أخرجها الأئمة المحدّثون -وهي غيض من فيض- في موقف الشريعة الإسلامية من الخمر وشاربها، نعود لنسائل اولئك الأئمة عما أخرجوا عن موقف معاوية بن أبي سفيان من الخمر:

أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على

____________

1- سنن ابن ماجة: كتاب الأشربة.

2- المصدر السابق.

3- سنن أبي داود 3: 324 كتاب الأشربة.

4- جامع الترمذي 3: 44 وقال: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبدالله بن عمرو وابن عباس عن النبي(ص)، وانظر مسند أبي داود الطيالسي ح 1901، ومصنف عبد الرزاق ح 10758، ومسند أبي يعلى ح 5686، ومعجم الطبراني الكبير ح 13441، ومصابيح السنة للبغوي ح 3016، وتحفة الاشراف ح 7318، ومسند احمد 2: 35، وشعب الإيمان للبيهقي ح 5580.

5- سنن النسائي 8: 314.

 

معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم اُتينا بطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب; فشرب معاوية ثم ناول أبي قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم قال معاوية: كنت أجمل شباب قريش وأجودهم ثغراً، وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثني(1).

وعن عبيد بن رفاعة قال: مرّ على عبادة بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر، فقال: ما هذه، أزيت؟ قيل: لا، بل خمر تباع لفلان فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان الى أبي هريرة يقول له: أما تمسك عنّا أخاك عبادة! أما بالغدوات فيغدو الى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا، فأمسك عنا أخاك، فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال له: يا عبادة، ما لك ولمعاوية ذره وما حمل، فإن الله يقول: (تِلكَ اُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لها ما كسبتْ وَلكمْ ما كسبتُمْ)(2).

قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي بايعناه عليها، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفى الله له بما بايع عليه نبيّه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء(3).

____________

1- مسند أحمد 6: 476، ولاشك أن الراوي قد أبدل كلمة الخمر باللبن.

2- البقرة: 134.

3- تاريخ دمشق 26: 197، مختصر تاريخ دمشق 11: 306

 

 


مرة اُخرى يتصدى الصحابي عبادة بن الصامت لمعاوية السادر في غيّه وكأنه لم يسمع نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن الخمر، أو أن أحداً من ذلك الجم الغفير من الصحابة لم ينبهه الى ذلك إن كان هو قد صُمَّ عن السماع، ولا يكتفي بالاستمرار في إصراره على المعصية، بل يلوم الصحابي الذي ينصحه أو يمنعه من ارتكاب ذلك الاثم، والأغرب من ذلك موقف أبي هريرة، فهو بدلا من أن ينكر على معاوية أفعاله تلك، نجده ينكر على عبادة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! وكأنه لم يسمع شيئاً هو الآخر عن كل ذلك، رغم أنه أكثر من روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة، والعجب منه أن يحاول إقناع عبادة بالآية الكريمة التي استشهد بها، وكأن معاوية من قوم عاد وثمود أو من بني إسرائيل ويفوته قوله تعالى (وأَنَّ هذهِ اُمّتكُمْ اُمةً واحدةً وأنا ربُّكمْ فاعبُدونِ)(1).

ولكن عبادة ألقمه حجراً حين عرّض بتأخر إسلام أبي هريرة، وعدم شهادته العهد بين أصحاب العقبة وبين النبي (صلى الله عليه وآله).

وليس عبادة بن الصامت وحده الذي فعل ذلك بروايا الخمر المحمولة لمعاوية، فإن صحابياً آخر قد فعل مثل ذلك، مما يدل على تكرر هذه الحالة عند معاوية واصراره عليها، فعن محمد بن كعب القرضي، قال: غزا عبدالرحمان بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ومعاوية أمير على الشام، فمرّت به روايا خمر، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية، فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله.

فقال: كذب والله ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت

____________

1- الأنبياء: 92.

 

 


من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابقرنّ بطنه أو لأموتن دونه(1).

ويبدو أن الصحابي عبدالرحمان بن سهل الأنصاري قد سمع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثاً في معاوية لم يكشف النقاب عنه، وتعهد بقتل معاوية إذا رأى مصداق الحديث بعينه، ولكن يبدو أن القدر لم يمهله ليبر بيمينه، وسوف يأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فهذه حال معاوية عندما كان أميراً على الشام، ولعل هذه التصرفات كانت من الأسباب القوية التي جعلت علي بن أبي طالب يبادر الى عزل معاوية بعد ما تولى الخلافة مباشرة، ولم يقرّه على عمله، وتحمل في سبيل ذلك خوض غمار الحروب الطاحنة لمنع معاوية من نشر الفساد، لكن من المؤسف أن عثمان بن عفان لم يأخذ على يد معاوية، بل تركه مطلق اليدين، بل وتولى الدفاع عنه وعن تصرفاته أحياناً عندما كتب إليه معاوية: إن عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله، فأما أن تكفّه إليك، وإما أن اُخلّي بينه وبين الشام، فكتب إليه عثمان: أن أرحل عبادة حتى ترجعه الى داره من المدينة، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جنب الدار، فالتفت إليه وقال: مالنا ولك ياعبادة. فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا القاسم يقول: "إنه سيلي اُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تضلّوا بربكم". فوالذي نفس عبادة بيده، إن فلاناً لمن اولئك. فما راجعه

____________

1- الاستيعاب 2: 401، اُسد الغابة 3: 299، الاصابة في معرفة الصحابة 2: 401، تهذيب التهذيب 6: 173، تاريخ دمشق 34: 419، مختصر تاريخ دمشق 14: 263.

 

 


عثمان بحرف(1).

لقد كانت سيرة معاوية هي التخلص من أي صحابي يعترض على مفاسده، فقبل عبادة كان هناك أبو ذر الغفاري الذي اعترض على تصرفات معاوية، فبعثه معاوية الى عثمان بعد أن كتب إليه بأن أبا ذر قد أنغل عليه الشام، ثم أرسله على بعير بلا وطاء حتى كاد يهلك في الطريق. وكان هدف معاوية واضحاً، وهو إبقاء الشام وأهله في حالة استلاب فكري لا يرون منه الحقيقة أبداً إلاّ كما يريدها معاوية، وقد استطاع معاوية بدهائه وعلى مدى عشرين عاماً من إمارته على الشام أن ينشيء جيلا منفصلا عن الأحداث الحقيقية التي تدور حوله، جيل لا يكاد يعرف من شرائع الإسلام إلاّ مظهرها الشكلي فقط، بينما هو لا يرى ما يجري حوله إلاّ بالشكل الزائف الذي توحيه وسائل إعلام معاوية له، فقد ذكر المؤرخون الذين ارّخوا لحرب صفين - مثلا على ما ندّعي- "ان هاشم بن عتبة"(2). استصرخ الناس عند المساء: ألا من كان له الى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل، فأقبل إليه ناس كثير شدّ بهم على أهل

____________

1- مسند أحمد 6: 444، المستدرك على الصحيحين 3: 357 وصححه على شرط الشيخين، تاريخ دمشق 26: 198، مختصر تاريخ دمشق 11: 307.

2- يكنى أبا عمرو، ويعرف بالمرقال. نزل الكوفة، أسلم يوم الفتح، وكان من الشجعان الأبطال والفضلاء الأخيار، فقئت عينه يوم اليرموك بالشام، وهو الذي فتح جلولاء من بلاد الفرس وهزم الفرس، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح... شهد صفين مع علي(رض)، وكانت معه الراية، وهو على الرجالة، وقتل يومئذ... وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة:

 

يا هاشم الخير جزيت الجنة

قاتلتَ في الله عدّو السُّنة

 

قال ابن الكلبي وابن حيان: له صحبة. وقال المرزباني: لما جاء قتل عثمان الى أهل الكوفة، قال هاشم لأبي موسى الأشعري: تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الاُمة علي، فقال: لا تعجل فوضع هاشم يده على الاُخرى فقال: هذه لعلي وهذه لي، وقد بايعت علياً، وأنشد:

 

اُبايع غير مكترث علياً

ولا أخشى أميراً أشعرياً

اُبايعه وأعلم أن ساُرضي

بذاك الله حقاً والنبيّا

 

الاصابة 6: 515، أسد الغابة 5: 353.

 

 


الشام مراراً، ليس من وجه يحمل عليه إلاّ صبروا له! فقاتل قتالا شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما ترون منهم إلاّ حميّة العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها، وإنهم لعلى ضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا الى عدونا على تؤدة رويداً، واذكروا الله، ولا يسلمنّ رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.

قال أبو سلمة: فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ طلع عليهم فتىً شاب وهو يقول:

 

أنا ابن أرباب ملوك غسان

والدائن اليوم بدين عثمان

أنبأنا قراؤنا بما كان

أن علياً قتل ابن عفّان

 

ثم شدّ لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم بن عقبة: يا هذا إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيّد الأبرار بعده عقاب النار، فاتق الله فإنك راجع الى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال.

قال الفتى: إذا سألني ربي قلت: قاتلتُ أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلّي كما ذُكر لي وإنهم لا يصلّون، وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم: يا بني، وما أنت وعثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في اُمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما قولك إنه لا يصلّي، فهو أول من صلّى مع رسول الله، وأول من آمن به، وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه قرّاء الكتاب. لا ينامون الليل

 

 


تهجداً، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك الأشقياء الضالّون.

فقال الفتى: يا عبدالله، لقد دخل قلبي وجلٌ من كلامك، وإني لأظنك صادقاً صالحاً، وأظنني مخطئاً آثماً، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ارجع إلى ربك وتب إليه فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويحب التوابين ويحب المتطهرين.

فرجع الفتى الى صفه منكسراً نادماً، فقال له قوم من أهل الشام: خدعك العراقي قال: لا، ولكن نصحني العراقي"(1).

فمعاوية بن أبي سفيان قد "عمل دائباً منذ كان والياً على سورية زمن عمر بن الخطاب وعثمان، على إيجاد جيش مخلص له شخصياً، يستطيع الاعتماد عليه، وقد استثمر أفضل استثمار ضعف عثمان، ثم بقتله للحصول على الخلافة..."(2).

معاوية وشرائع الإسلام

قال الخضري بك: كان حكام الدولة الاُموية اُمراء للمؤمنين، وخلفاء، وليسوا أئمة كأئمة الشيعة، فهم يؤمون الناس في الصلاة، ولكنهم ليسوا مجتهدين ولا مشرّعين في الدين، فموقفهم في هذا مخالف للشيعة، فلم يضعوا لهم مذهباً دينياً معيناً يختلف عن مذهب أهل السلف، بل تقيدوا بمذهب أهل السلف من حيث العقيدة والتشريع(3).

____________

1- تاريخ الطبري 5: 42، كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 402، الكامل لابن الأثير 3: 313 حوادث سنة 37، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 35.

2- عمر ماهر حمادة: دراسة وتقيّة للتاريخ الاسلامي: 23.

3- محاضرات في التاريخ الاسلامي: 94.

 

 


ليس من شأننا الآن المقارنة بين عقائد الشيعة وعقائد الاُمويين، بل هدفنا هو الكشف عن مدى تمسّك الاُمويين بعقيدة السلف -كما يدعي الخضري بك- وتبيين ما إذا كان خلفاء بني اُمية مشرّعين أم لا، وهل كان اجتهادهم وتشريعهم لمصلحة الإسلام، أم كان بهدف محقه وتبديل السنّة النبوية خدمة لأغراضهم!

إن الكلام في أحداث بني اُمية يستغرق الكثير من الجهد والوقت، لذا فسوف اُحاول ذكرها بشيء من الاختصار - إظهاراً للحقيقة فحسب- معتمداً على أقوال العلماء والمحدثين الذين يعتدُّ بأقوالهم، حتى لا يظن أحد ان مصدر هذه الأخبار هو أعداء بني اُمية من الشيعة أو من العباسيين أو الخوارج أو غيرهم، بل سأذكر الأخبار التي جاءت -وكما قلنا سابقاً- عن العلماء والمحدثين الذين ليسوا بمتهمين على معاوية، بل هم يعتقدون بعدالته - كونه صحابياً- ويحملون كل أعماله على التأول والاجتهاد، ويحاول بعضهم إلتماس الأعذار له -كما مرّ عن السرخسي سابقاً- وسوف نرى مدى التناقض أحياناً بين الأخبار والآراء.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العدل في القرآن الكريم
واقعة الغدير و أهميتها (1)
ثالث النواب الأربعة الحسين بن روح النوبختي
برامج الرعاية الاجتماعية في ضوء مقاصد الشريعة
بَينَ يَدَيّ الخِطاب العظيم لِسَيّدَةِ نِسَاءِ ...
أين يقع غدير خُمّ؟
الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الفقه الإسلامي
العلاقة بين القضاء والقدر، وإختيار الإنسان
جهاد النفس في فكر الإمام الخميني (قدس سره)
وصايا رمضانية ( ضرورة صلة الرحم)

 
user comment