عربي
Thursday 26th of December 2024
0
نفر 0

المستمسكون بالنص

بعد أن استعرضنا مسألة وجود نص نبوي جلي في قضية الخلافة على علي ابن أبي طالب، وسقنا الشواهد الدامغة على وجوده، وبعد أن تعرضنا لمحاولات التزييف التي تعرض لها هذا النص بسبب مخالفته لعقيدة الجمهور في مسألة الخلافة التي كانت من أهم مصادر الخلاف بين المسلمين على مرّ الزمن، وتحققنا من أن عدداً من الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين وعدداً من الأنصار كانوا يثبتون مسألة النص على علي بن أبي طالب، وهم الذين نقلوا ذلك إلى غيرهم، فظهر جيل من التابعين القائلين بوجود النص والمؤمنين به، واُولئك هم الذين التفّوا حول علي بن أبي طالب بعد توليه الخلافة، وتحملوا أعباء الدفاع عن الشرعية ضد الطامعين في سحبها مرة اُخرى من تحت أصحابها المستحقين لها، إلاّ أن دولة الباطل عادت لتنتزع الحق من أصحابه مرة اُخرى بعد أن لجأت الى كل ما في استطاعتها من أساليب المكر والخداع وشراء الذمم بالأموال، فعاد النص مرة اُخرى الى الظل، وبدأت أبواق الإعلام المضاد تروّج للخط الذي تولى قيادة المجتمع الاسلامي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وهو يعلم علم اليقين بأنه يناهض الشرعية بباطله، ولكن كان له ما يعتذر به عن ذلك، بأنه لم يكن أول من تجرأ على ذلك، فقد سبقه آخرون إليه، ويتضح ذلك من جواب معاوية على كتاب محمد بن أبي بكر الذي ذكرنا مقطعاً منه في باب الاستشهاد على وجود الوصية، وتتلخص سياسة هذا الخط في جواب معاوية الذي قال في بعض أجزائه مخاطباً محمد ابن أبي بكر:

 

 


من معاوية بن أبي سفيان، الى الزّاري على أبيه محمد بن أبي بكر... ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سابقته وقرابته من نبي الله ونصرته له، ومواساته إياه في كل خوف وهول، واحتجاجك عليَّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد إلهاً صرف ذلك الفضل عنك وجعله لغيرك، فقد كنّا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا، فلما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما عنده، وأتمّ له ما وعده وأظهر دعوته وأبلج حجّته، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه، كان أبوك وفاروقه أول من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتّسقا... (إلى أن قال): فإن يكُ ما نحن فيه صواباً، فأبوك أوّله، وإن يك جوراً فأبوك اُسُّه ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، رأينا أباك فعل ما فعل، فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله فعب أباك بما بدا لك أودَعْ...(1)

وفي مقابل هذا التيار الجارف، ظهر تيار معارض متمسك بالوصية، يراها واجبة لعلي وأبنائه من بعده، فصار هذا التيار هو المعارض للسلطة التي يقتدي بها الجمهور، بعد أن انخدع بوسائل إعلامها، وكانت حجة المتمسكين بالنص، ما جاءهم من أحاديث نبوية متكاثرة تلهج بها ألسن مئات الصحابة الذين سمعوها ورووها، ولأن هذه الأحاديث كانت متواترة لا يمكن دفعها، فقد ادعى الجمهور بأنه متمسك بها، ولكن بعد تأويلها، ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن حجر المكي، فبعد أن أورد الروايات التي تحث على التمسك بأهل البيت باعتبارها الثقل الثاني بعد القرآن، وأنهم سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وأن مثلهم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 189، وقعة صفين: 135.

 

 


له، يعود ابن حجر ليقول: ولا تتوهم الرافضة والشيعة قبّحهم الله من هذه الأحاديث إنهم يحبون أهل البيت، لأنهم أفرطوا في محبتهم حتى جرّهم ذلك إلى تكفير الصحابة وتضليل الاُمة.. وشيعته هم أهل السنة، لأنهم الذين أحبّوهم كما أمر الله ورسوله، وأما غيرهم فأعداؤه في الحقيقة!(1).

يقول ابن حجر هذا في صواعقه التي يذيّلها بكتاب يسميه (تطهير الجنان واللسان)، يقول في أول صفحة منه: فهذه ورقات ألّفتها في فضل سيّدنا أبي عبد الرحمان أمير المؤمنين معاوية بن صخر أبي سفيان...!

إن ادعاء ابن حجر بأن الجمهور هو المتمسك بأهل البيت، يكذبه قول ابن خلدون -بكل صراحة-: وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها اُصول واهية، وشذّ بمثل ذلك الخوارج، ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الانكار والقدح، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلاّ في مواطنهم، فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة...(2)

هذه هي حقيقة مذهب الجمهور، وليس كما يدعي ابن حجر، فأهل البيت في رأيهم ليسوا إلاّ شذاذاً مبتدعين، ولا يختلفون عن الخوارج، ولعمري ما الخطأ في تمسك الشيعة بأقوال أئمتهم من أهل البيت إلى درجة رفع الخلاف عن أقوالهم والقول بعصمتهم، وقد أثبت النبي (صلى الله عليه وآله) لهم ذلك، حين قرنهم بالقرآن الكريم الذي هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وأنهم لا يفترقون عن هذا الكتاب المعصوم الى يوم الورود على

____________

1- الصواعق المحرقة: 351.

2- المقدمة ; الفصل السابع: في علم الفقه: ص 339.

 

 


الحوض، وأين قول الجمهور باعتبار عمل الصحابة حجة لا تُرد، حتى \"وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنّة، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي، وهذا ينسحب على كل حديث عنه (صلى الله عليه وآله) حتى ولو كان صحيحاً\"(1).

ولكن موقف مالك هذا لا ينطبق على جميع الصحابة، \"فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون علياً فيما سنّه، كما يتبعون عمر وعثمان فيما سنّاه، وآخرون من العلماء -كمالك وغيره- لا يتبعون علياً فيما سنه! وكلهم متفقون على أتباع عمر وعثمان فيما سنّاه\"(2).

إن علينا أن ننوّه الى مسألة مهمة هي أن علي بن أبي طالب لم تكن له سنّة متفردة كبقية الخلفاء، بل كان يتبع سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يقتصر الاجتهاد بالرأي في مقابل النصوص النبويّة على الصحابة وحدهم، بل تعداه الى التابعين أيضاً، وفي ذلك يقول أبو زهرة في معرض حديثه عن فقهاء المدينة: ويلاحظ أن هؤلاء الفقهاء السبعة كان أكثرهم ممن يجمع بين دقة الرواية وصدقها، والتخريج والافتاء بالرأي... وكذلك كان يكثر التخريج والافتاء بالرأي: القاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسليمان بن يسار، وخارجة... ولقد نقل علم هؤلاء وغيرهم اثنان هما: ابن شهاب الزهري - الذي كان يعدّ من صغار التابعين- وربيعة الرأي، وكلاهما تتلمذ له الامام مالك...(3).

وكانت نتيجة هذا الاتباع، تكوّن هذه المذاهب والخلاف بينها، حتى

____________

1- أبو زهرة: مالك: ص 290.

2- منهاج السنة لابن تيمية 3: 205.

3- تاريخ المذاهب الاسلامية: 462.

 

 


اضطر الجمهور في نهاية الأمر الى غلق باب الاجتهاد تضييقاً لدائرة الخلاف، بينما نجد الشيعة قد تمسكوا منذ البداية بالخط الذي رسمه النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي ذلك يقول أبو زهرة: والشيعة الإمامية يقررون أن الاجتهاد أبوابه مفتوحة عندهم، وعند النظر في اجتهادهم، نجد أنهم يقررون أن بناء الفقه عندهم على كتاب الله، والسنّة المرويّة بطريقهم... ويعدّون أقوال أئمتهم من السنّة، ولا إمامة عندهم لأحد غير الائمة الذين أقروا لهم بالخضوع، وهم اثنا عشر، فقول الإمام جعفر الصادق حجة في الاُصول والفروع معاً، وليس لهم أن يغيروا فيه، وكذلك أقوال أبيه وأجداده، وأقوال أبنائه وأحفاده من بعدهم، إلى آخر الذين اعترفوا لهم بالإمامة... وإننا لو نظرنا الى الأمر بمنطقهم -وهو اعتبار أقوال الأئمة من السنّة، وليسوا كأئمة المذاهب الاُخرى، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد - فان الاجتهاد الذي فتحوه يكون مطلقاً، أما إذا نظرنا الى ائمتهم كما ينظر الجمهور الى أئمة المذاهب، فإن اجتهادهم لا يكون مطلقاً، بل إنه لا يتجاوز أنه تخريج على أقوال الأئمة - وخصوصاً الإمام الصادق- فليس اجتهادهم على هذا إلاّ تخريجاً، لأنهم لا يخالفون الأئمة في اُصول ولا فروع...(1).

فالشيعة إذاً هم المستمسكون بالخط الأصيل الذي رسمه النبي (صلى الله عليه وآله)، ولذلك يمكننا أن نعرف السبب الذي دفع الزنادقة كسيف بن عمر الى نسبة الشيعة لعبد الله بن سبأ، ولماذا تتكاتف جهود الاُمويين والزنادقة والمستشرقين الحاقدين على الإسلام على تشويه صورة الشيعة في أذهان الناس لكي تبقى حقيقة الإسلام خافية على المسلمين إلى الأبد، وتبقى أسباب

____________

1- المصدر السابق: 333.

 

 


الفرقة والشحناء تؤجج نيران التعصب المذهبي بينهم، وبذلك يستطيع سيف ابن عمر وأمثاله أن يناموا قريري العين.

وهذا ما سوف نتناوله في كتابنا القادم \"حقيقة التشيع\" إن شاء الله تعالى.

(وَأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيماً فَا تَّبعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيلهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1).

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

هل كان للسيدة خديجة زوج قبل زواجها مع رسول الله ...
معنى سنة الرسول
قصص و کرامات العلامة الامیني (قدس سره)
الروح والحلول والتناسخ والغلو
القرآن الكريم يحقق الهدف من نزوله
بكاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحسين ...
آداب تلاوت القرآن
المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ...
سلمان الفارسي
دعاء الامام الصادق عليه السلام

 
user comment