بعدما عرفنا الهدف من نزول القرآن الكريم، نطرح هذا التساؤل، وهو:
هل حقق القرآن الكريم الهدف من نزول؟...
ولا ريب في أن الإجابة على هذا السؤال، واضحة، حيث أننا عندما نراجع مسيرة القرآن الكريم في عصر النبوة، نجد أنه استطاع أن يحقق هذا الهدف التغيـيري بكل أبعاده، حيث تمكن أن يوجد الأمة الإسلامية التي هي خير أمة أخرجت للناس، والتي حملت أعباء الرسالى إلى العالم أجمع.
أبعاد التغيـير في مجتمع الجزيرة العربية:
ويمكن أن نلاحظ أبعاد التغيـير الذي أحدثه القرآن الكريم في مجتمع الجزيرة العربية، لنعرف هذه الحقيقة القرآنية، وذلك من خلال مراجعة الأبعاد التالية، وملاحظتها:
تحرير القرآن للإنسان من الوثنية:
فقد كان العرب الذين نزل القرآن الكريم على النبي الأكرم محمد(ص) في حوزتهم، يعتقدون في الله سبحانه وتعالى أنه خالق، مدبر للعالم: ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)[o1] ، ولكنهم افترضوا لضعف تفكيرهم، وبعد عهدهم من النبوة والأنبياء، وجود وسطاء وهميـين بينهم وبين الله سبحانه، وزعموا لهؤلاء الوسطاء الذين تخيلوهم قدرة على النفع والضر، فجسدوهم في أصنام من الحجارة، وأشركوا هذه الأصنام مع الله في العبادة، والدعاء حتى تطورت فكرة الوساطة في أذهانهم إلى الاعتقاد بألوهية الوسطاء، ومشاركة تلك الأصنام لله في تدبير الكون، قال تعالى:- ( ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون)[o2]
وكادت تمحى بعد ذلك فكرة التميـيز بين الوسطاء والله تعالى، وسادت الوثنية بأبشع أشكالها، وانغمس العرب في الشرك وعبادة الأصنام، وتأليهها، فكان لكل قبيلة أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي، فقد قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منـزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منـزله، أن يتمسح به أيضاً[o3] .
ومثل هذه الأمور، بل أكثر منها تـتطفح بها كتب التاريخ، حين يمكن للقارئ أن يجد مثل هذا، وأزيد في الكتب التي تـتعرض للحديث حول وضع الجزيرة العرب قبل بعثة النبي الحبيب محمد(ص)، وماذا كانت عليه من تقديس وعبادة للأصنام.
ولم يقتصر العرب على عبادة الأحجار، بل كان لهم آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب، فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، واتخذوا من الجن شركاء له، وأمنوا بقدرتهم وعبدوهم:- ( ويوم نحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون* قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون)[o4] .
والمعروف أن حمير كانت تعبد الشمس، وكنانة تعبد القمر، ولخم وجذام تعبدان المشتري، وأما أسد فقد كانت تعبد عطارد، وطي فكان معبودها هو سهيل.
ومن خلال هذه الصورة العامة عن الوثنية والشرك، التي كانت في بلاد العرب، يمكننا أن نـتصور ما بلغه الإنسان الجاهلي من ضعة وميوعة، وتنازل عن الكرامة الإنسانية، حتى أصبح يدين بعبادة الحجر، ويربط وجوده وكل آماله وآلامه بكومة من تراب.
ولم يكن وضع العقيدة والعبادة في سائر أرجاء العالم بأحسن حالاً منه في بلاد العرب، لأن الوثنية بمختلف أشكالها كانت هي المسيطرة، إما بصورة صريحة، كما في بلاد الهند والصين وإيران، أو بصورة مبطنة كما كان ذلك في أوروبا المسيحية التي تسللت فيها وثنية الرومان، إلى النصرانية، بحيث شوهت معالمها.
في مثل هذا الجو الوثني المسعور، جاء القرآن الكريم ليرتفع بالإنسان من الحضيض الذي هوى إليه، ويحرره من أسر الوثنية ومهانتها، ومختلف العبوديات المزيفة التي مني بها، ويركز بدلاً منها فكرة العبودية المخلصة لله وحده لا شريك له، ويعيد للإنسان إيمانه بكرامته وربه.
فهذا القرآن الكريم يؤكد في غير آية من آياته فكرة العبادة لله وحده، ويهيب بالإنسان إلى التحرر من كل عبادة سواها، قال تعالى:- ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب* ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز)[o5] .
وقال عز من قائل:- (الله قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله)[o6] .
ويقول تعالى:- ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)[o7] .
وقد استطاع القرآن أن ينـتصر على الوثنية وألوانها المختلفة، ويصنع من المشركين أمة واحدة تؤمن بالله، لا إيماناً نظرياً فحسب، بل إيماناً يجري مع دمائها، وينعكس في كل جوانب حياتها.
وقد كان لهذا الإيمان الذي زرعه القرآن في النفوس مثل فعل السحر، فما يدخل في قلب الإنسان إلا حوله إنساناً آخر، في مشاعره وعواطفه وقوة نفسه وعظمة أهدافه وإحساسه بكرامته، وفي المثالين التاليـين نستطيع أن نـتبين ذلك بوضوح:
الأول: عن أبي موسى قال: انتهينا إلى النجاشي، وهو جالس في مجلسه، وعمرو ابن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: أنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا، بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل[o8] .
الثاني: أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وقد جلس على سرير من ذهب وعليه تاجه المزين باليواقيت واللآلئ الثمينة، ودخل ربعي بثياب صفيفة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إن تركتموني هكذا، وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه، فقال له: ما جاء بكم، فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام[o9] .
هكذا استطاع القرآن الكريم عن طريق زرع الإيمان بالله وتربية المسلمين على التوحيد والشعور بالعبودية لله وحده، أن يجعل من أولئك الذين كانوا يخضعون للحجارة، ويدينون بسيادتها أمة موحدة لا تخضع إلا لله سبحانه وتعالى، ولا تـتذلل لقوة على وجه الأرض ولا تستكين لجبروت الملك وعظمة الدنيا، ولو في أحرج اللحظات، وتمتد بأهدافها نحو تغيـير العالم، وهداية شعوب الأرض إلى التوحيد والإسلام، وإنقاذها من أسر الوثنية، ومختلف العبوديات للآلهة المزيفة، والأرباب المصطنعة.
تحرير القرآن للعقول:
إذ كانت الأساطير والخرافات شائعة بين العرب، نظراً لانخفاض مستواهم الفكري وأميتهم بصورة عامة، فكانوا يعتقدون مثلاً أن نفس الإنسان طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا ما مات أو قتل يكبر هذا الطائر حتى يصير في حجم البوم، ويـبقى أبداً يصرخ ويتوحش ويسكن في الديار المعطلة والمقابر، ويسمونه الهام.
كما كانوا يعتقدون بالغيلان ويؤمنون بأساطيرها، ويزعمون أن الغول يتغول لهم في الخلوات، ويظهر لخواصهم في أنواع من الصور، فيخاطبونها، وربما ضيفوها، وكانت لهم أبيات من الرجز يتناقلون حفظها، ويعتقدون فائدتها هي طرد الغيلان إذا اعترضتهم في طريقهم وأسفارهم، إلى غير ذلك من المعتقدات الخرافية التي كانوا يؤمنون بها.
وقد جاء القرآن الكريم برسالة الإسلام، فحارب تلك العقائد والخرافات، ومحا تلك الأوهام عن طريق تنوير عقول العرب، والدعوة إلى التفكير الأصيل، والتدبر والاعتماد على العقل، والمطالبة برفض التقليد، وعدم الجمود على تراث السلف، بدون تمحيص أو تحقيق، قال سبحانه وتعالى:- ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه اباءنا أو لو كان اباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)[o10] .
وقد أدت هذه الدعوة من القرآن إلى تعريض كل الأفكار السابقة والموروثة إلى الامتحان من جديد في ضوء المنطق، والعقل، وعلى هدى الإسلام، فأسفر ذلك عن اضمحلال تلك الخرافات، وزوال تلك العقائد الجاهلية، وتحرر العقول من قيودها، وانطلاقها في طريق التفكير السليم.
بل إننا نلحظ في القرآن الكريم حثاً خاصاً على التفكير في الكون، والتأمل في أسراره، واكتشاف آيات الله المنـتشرة فيه، ووجّه الإنسان هذه الوجهة الصالحة بدلاً من التشاغل بخرافات الماضين وأساطيرهم، قال تعالى:- ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)[o11] .
وقال تعالى:- ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير)[o12] .
وقال عز من قائل:- ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)[o13] .
ولم يكتف القرآن الكريم بدراسة الكون وما فيه من أسرار، بل ربط ذلك بالإيمان بالله، وأعلن أن العلم هو خير دليل للإيمان يتأكد كلما ازداد اكتشاف الإنسان، وتقدم في ميادين العلم لأنه يطلع على عظيم آيات الله، وحكيم صنعه وتدبيره، قال تعالى:-
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)[o14] .
وبذلك أعطى القرآن مفهوم مواكبة الإيمان للعلم، وأن العقيدة بالله تـتمشى مع العلم على خط واحد، وأن اكتشاف الأسباب والقوانين في هذا الكون يعزز هذه العقيدة، بأنه يكشف عن عظيم حكمة الصانع وتدبيره.
وعلى أساس هذا الموقف القرآني، وما رفضه من التقليد، وما شجع عليه من التفكير والتدبر، كانت الأمة التي صنعها الكتاب الكريم مصدر العلم والثقافة في العالم، بدلاً من خرافات البوم والغيلان، وقد اعترف المؤرخون الأوربيون بهذه الحقيقة.
تحرير القرآن الإنسان من عبودية الشهوة:
إذ حرر إرادته من سيطرة الشهوة، فصار الإنسان المسلم نـتيجة لتربية القرآن له، قادراً على مقاومة شهواته، وضبطها والصمود في وجه الإغراء، وألوان الهوى المتنوعة، فنرى الآيات الشريفة قد تضمنت تغذية هذا الصمود، وتركيزه في نفوس المسلمين، قال تعالى:- ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد)[o15] .
بهذا وغيره من نماذج التـربية والتـرويض استطاع القرآن والإسلام أن يحررا الإنسان من العبودية لشهواته الداخلية التي تخـتلج في نفسه، لتصبح الشهوة أداة تنبيه للإنسان إلى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر إرادة الإنسان دون أن يملك بإزائها حولاً أو طولاً، وقد أطلق الرسول الأعظم(ص) على عملية تحرير الإنسان هذه من شهواته الداخلية اسم(الجهاد الأكبر).
ولعل خير مثال على نجاح القرآن في تحرير الإنسان المسلم من أسر الشهوة وتنمية إرادته وصموده ضدها، قصة تحريم الخمر، فقد كان العرب في الجاهلية مولعين بشربه، معتادين عليه، حتى أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بحكم العادة والألفة، وشغلت الخمر جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، فنـزل قوله تعالى:- ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)[o16] .
وما إن نزلت هذه الآية الشريفة، إلا وانطلق المسلمون إلى زقاق الخمر يشقونها بالمدي والسكاكين، ويريقون ما فيها، ويفتشون في بيوتهم لعلهم يجدون بقية منه فاتهم أن يريقوه، وتحولت الأمة في لحظة إلى أمة تحارب الخمر، وتـترفع عن استعماله، وما هذا إلا لأن الأمة كانت حرة مالكة لإرادتها، في مقابل شهواتها، قادرة على الصمود أمام دوافعها الحيوانية، ولها القدرة التامة على التحكم في سلوكها.
ولو أردنا أن نـنظر لتجارب أرقى شعوب العالم الغربي مدنية وثقافة في هذا العصر، لوجدنا فشل تجربة مماثلة، فقد حاولت الولايات المتحدة الأميركية في القرن العشرين أن تخلص شعبها من مضار الخمر، فشرعت قانوناً لتحريمه، ومهدت لهذا القانون بدعاية واسعة عن طريق السينما والتمثيل والإذاعة، ونشر الكتب والرسائل، لتبيـين مضار الخمر، مدعومة بالإحصائيات الدقيقة والدراسات الطبية.
إلا أن ذلك كله لم ينجح، حتى اضطرت الحكومة بعد ثلاثة عشر سنة من تشريع التحريم، إلى إلغاء قانون التحريم، وفشلت التجربة.
والسبب في ذلك يعود لكون الحضارات الغربية بالرغم من مناداتها بالحرية، لم تستطع منح الإنسان الحرية الحقيقية، التي حققها القرآن الكريم، للإنسان المسلم، وهي حريته في مقابل شهواته، وامتلاكه لإرادته، أمام دوافعه الحيوانية، فقد ظنت الحضارات الغربية أن الحرية هي أن يسلك الإنسان ما يشاء، ويتصرف كما يريد.
وهذا جعلها تـترك عملية التحرير الداخلي للإنسان من سيطرة تلك الشهوات والدوافع، فظل الإنسان الغربي أسير شهواته، عاجزاً عن امتلاك إرادته، والتغلب على نزعاته، بالرغم من كل ما وصل إليه من علم وثقافة ومدنية.
--------------------------------------------------------------------------------
[o1]سورة الزخرف الآية رقم 87.
[o2]سورة الزمر الآية رقم 3.
[o3]الأصنام للكلبي ص 33.
[o4]سورة سبأ الآيتان رقم 40-41.
[o5]سورة الحج الآيتان رقم 73-74.
[o6]سورة آل عمران الآية رقم 64.
[o7]سورة التوبة الآية رقم 31.
[o8]البداية والنهاية ج 3 ص 89.
[o9]المصدر السابق ج 7 ص 46.
[o10]سورة البقرة الآية رقم 170.
[o11]سورة يونس الآية رقم 101.
[o12]سورة العنكبوت الآية رقم 20.
[o13]سورة الحج الآية رقم 46.
[o14]سورة فصلت الآية رقم 53.
[o15]سورة آل عمران الآية رقم 14-15.
[o16]سورة المائدة الآية رقم 90.
source : العبیدان