عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

شروط الإمام

رابعاً: شروط الإمام

اشترطت السنة في الإمام شروطاً أربعة: العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء فأما العلم، فلأنه منفذ أحكام الله، ومتى كان جاهلاً، لا يمكنه تنفيذها.

وأما العدالة، فلأن منصب الإمام منصب ديني، ينظر في سائر الأحكام التي تشترط فيها العدالة، فأولى بشروطها فيه.

وأما الكفاءة، فأن يكون جريئاً على إقامة الحدود، واقتحام الحروب، بصيراً بها، كفيلاً بحمل الناس عليها، عالماً بأحوال الدهاء، قوياً على معاندة السياسة، ليصلح له ما أسند إليه من حماية الدين، وجهاد العدو، وإقامة الأحكام، وتدبير المصالح.

وأخيراً أن يكون سليم الحواس والأعضاء، مما يؤثر فقدانه في الرأي والعمل، ويلحق بذلك العجز عن التصرف، لصغر أو شر أو غيرهما.

وهناك شرط خامس، اختلف فيه - وهو النسب القرشي (1) - وقد ناقشناه من قبل.

على أن الماوردي إنما يرى أنها سبعة، فيقول: وأما أهل الإمامة، فالشروط المعتبرة فيهم سبعة، أحدها: العدالة على شروطها الجامعة، والثاني:

العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.

____________

(1) أنظر: مقدمة ابن خلدون ص 190 - 196 (دار القلم - بيروت 1981).

 

 


والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان، ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.

والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة، وسرعة النهوض، والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير المصالح.

والسادس: النسب: وهو أن يكون من قريش، لورود النص فيه، وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار ب‍ً ضرارً حين شذ، فجوزها في جميع الناس، لأن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة، لما بايعوا سعد بن عبادة عليها، بقول النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش، فأقلعوا عن التفرد بها، ورجعوا عن المشاركة فيها، حين قالوا: منا أمير، ومنكم أمير، تسليماً لروايته، وتصديقاً لخبره ورضوا بقوله: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، قدموا قريشاً، ولا تقدموها (1).

وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة بسنده عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أبيه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: يا أيها الناس:

قدموا قريشاً ولا تقدموها، وتعلموا منها، ولا تعلموها، قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم، يا أيها الناس، أوصيكم بحب ذي أقربها، أخي وابن عمي، علي بن أبي طالب فإنه لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذبه الله عز وجل (2).

____________

(1) أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 6 (دار الكتب العلمية - بيروت 1402 هـ‍1982).

(2) الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: كتاب فضائل الصحابة الجزء الثاني - حققه وخرج أحاديثه وصي الله بن محمد عباس - ص 622 - 623 (نشر مركز البحث العلمي وإحياء والتراث الإسلامي - جامعة أم القرى - مكة المكرمة 1403 هـ‍/ 1983 م). والحديث أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، ذكره ابن حجر في المطالب العالية (4 / 139) وأخرجه الإمام الشافعي في مسنده ص 278) عن الزهري، وعبد الرازق في مصنفه (11 / 55)، وأخرجه البيهقي في مناقب

=>

 

 


ويذهب القلقشندي في مآثر الإنافة في معالم الخلافة: إلى أن أصحابه الشافعية إنما يرون في شروط عقد الإمامة، أربعة عشر شرطاً في الإمام: أولها:

الذكورة لحديث أبي بكرة، الذي رواه البخاري في صحيحه عن الحسن عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيام الجمل، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (1).

وزاد الترمذي والنسائي: فلما قدمت عائشة البصرة، ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمني الله تعالى به (2).

يقول القلقشندي: والمعنى في ذلك أن الإمام لا يستغني عن الاختلاط بالرجال، والمشاورة معهم في الأمور، والمرأة ممنوعة من ذلك، ولأن المرأة ناقصة في أمر نفسها، حتى لا تملك النكاح، فلا تجعل إليها الولاية على غيرها.

والثاني: البلوغ فلا تنعقد إمامة الصبي، لأنه مولى عليه، والنظر في أموره إلى غيره، فكيف يجوز أن يكون ناظراً في أمور الأمة؟ على أنه ربما أخل بالأمور، قصداً لعلمه بعدم التكليف.

والثالث: العقل: فلا تنعقد إمامة ذاهب العقل بجنون أو غيره، لأن العقل آية التدبير، فإذا فات العقل فات التدبير، وقد قسم الماوردي زوال العقل إلى ما لا يرجى زواله، وما يرجى زواله، فأما ما لا يرجى زواله - كالجنون والخبل - فيمنع من عقد الإمامة - سواء أكان مطبقاً لا يتخلله إفاقة أو يتخلله إفاقة وسواء

____________

<=

الشافعي (1 / 20 - 21) وفي مجمع الزوائد (10 / 25)، وأشار إليه البخاري في المقاصد الحسنة (ص 304)، وأبو نعيم في الحلية (9 / 64)، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (2 / 431).

(1) صحيح البخاري 6 / 10.

(2) صحيح الترمذي 9 / 119، سنن النسائي 8 / 227.

 

 


كان زمن الجنون أكثر من زمن الإفاقة، أو زمن الإفاقة أكثر من زمن الجنون -.

وأما ما يرجى زواله - كالأعضاء فلا يمنع من انعقاد الإمامة، لأنه مرض قليل اللبث، سريع الزوال.

والرابع: البصر، فلا تنعقد إمامة الأعمى، لأنه منع ولاية القضاء، وجواز الشهادة، فمنعه صحة الإمامة أولى.

والخامس: السمع، فلا تنعقد إمامة الأصم، الذي لا يسمع البتة، واختلف في ثقل السمع.

والسادس: سلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة، وسرعة النهوض، فلا تنعقد من ذهبت يداه أو رجلاه، لعجزه عما يلحقه من حقوق الأمة.

والسابع: النطق، فلا تنعقد إمامة الأخرس، واختلف في تمتمة اللسان فقيل يمنع، وقيل لا يمنع.

والثامن: الحرية، فلا تنعقد إمامة من فيه رق كالقن الكامل العبودية، والمبعض، من فيه جزء حر، وجزء رقيق، والمكاتب، المفروض عليه مال، إن أداه أعتق، والمدبر من شرط عتقه بعد موت سيده، والمعلق عتقه بصفة، لأن الرقيق محجوز للسيد، فأموره تصدر عن رأي غيره، فكيف يصلح لولاية الأمة؟

والتاسع: الإسلام: فلا تنعقد أبداً إمامة الكافر، لأنه لا يراعي مصلحة الإسلام والمسلمين.

والعاشر: العدالة: فلا تنعقد إمامة الفاسق.

الحادي عشر: الشجاعة والنجدة، فلا تنعقد إمامة الجبان.

الثاني عشر: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك.

 

 


الثالث عشر: صحة الرأي والتدين، فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي، لأن الحوادث التي تكون في دار الإسلام ترفع إليه، ولا يتبين له طريق المصلحة، إلا إذا كان ذا رأي صحيح، وتدبير سائغ.

الرابع عشر: النسب: فلا تنعقد الإمامة بدونه، والمراد أن يكون من قريش، لحديث الأئمة من قريش، وقال الماوردي بالإجماع عليه، وقال الرافعي - من أئمة الشافعي - فإن لم يوجد قرشي مستجمع للشروط فكناني، فإن لم يوجد كناني، فرجل من ولد إسماعيل عليه السلام، فإن لم يكن فيهم رجل مستجمع للشروط، ففي تهذيب البغوي: أنه يولى رجل من العجم، وفي التتمة للمتولي أنه يولي جرهمي، ولا يشترط أن يكون الإمام هاشمياً، لأن أبا بكر وعمر وعثمان، لم يكونوا من بني هاشم (1).

ويقول البغدادي: وقالوا: (أي أهل السنة والجماعة): ومن شروط الإمام: العلم، والعدالة والسياسة، وأوجبوا في العلم ما يصير به من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وأوجبوا من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته، وذلك بأن يكون عدلاً في دينه، مصلحاً لما له وحاله، غير مرتكب لكبيرة، ولا مصر على صغيرة، ولا تارك للمروءة في جل أسبابه، وليس من شرطه العصمة من الذنوب كلها، خلاف قول الإمامية: أن الإمام يكون معصوماً من الذنوب كلها (2).

وأما الزيدية، فشروط الإمامة عندهم أربعة عشر شرطاً. الأول: البلوغ والعقل إجماعاً، فلا وصية لصبي ولا لمجنون، إذ لا ولاية لهما على نفسيهما، فالأولى ألا يكون على غيرهما.

____________

(1) القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة - تحقيق عبد الستار أحمد فراج - الكويت 1964 ص 31 - 39.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق ص 349 - 350 (دار المعرفة - بيروت).

 

 


والثاني: الذكورة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، - فيما يروي البخاري عن أبي بكرة - قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيام الجمل، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (1)، وذلك لأن المرأة لا تتولى بعض أمور نفسها، فكيف تتولى أمور غيرها، ولأنها ممنوعة من مخالطة الرجال.

الثالث: الحرية، إذ العبد مملوك الرقبة والتصرف.

الرابع: المنصب، إذ لا تصح الإمامة، في منصب مخصوص، أي أن يكون الإمام على صفة مخصوصة، وبإذن من الشارع، واختيار منه، وإلا لوقع الفساد.

قالت العترة وشيعتهم: الوصي والحسنان (أي الإمام علي والحسن والحسين) وذريتهما، ويجب على جميع المكلفين العلم بذلك، والعمل به، أي موالاتهم ونصرتهم.

الخامس: الاجتهاد لقوله تعالى: * (أفمن يهدي إلى الحق * أحق أن يتبع * أمن لا يهدي إلا أن يهدى * فما لكم كيف تحكمون) * (2)، والذي يهدي إلى الحق، لا يكون إلا مجتهداً، ولا يخلو الزمان من مجتهد، متمكن من استنباط الأحكام، يشترط فيه أن يجمع علوماً خمسة: علم العربية، وآيات الأحكام، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسائل الإجماع، وعلم أصول الفقه، أما علم أصول الدين فمن تمام الدين.

السادس: الورع، وحجتنا قوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (3)، فلا

____________

(1) صحيح البخاري 6 / 10.

(2) سورة يونس: آية 35.

(3) سورة البقرة: آية 124.

 

 


تصح إمامة الفاسق، وإنما يشترط في الإمام إتيان الواجبات، واجتناب المحرمات، ولا يشترط الإمام يحيى بن حمزة: بلوغ أعلى درجات الورع، وإنما مقدار ما يحصل به اجتناب الكبائر.

السابع: اجتناب الحرف الدنيئة، لأنها تخل بالعدالة، على أن هناك من يرى في العدالة أمراً خلقياً، لا صلة له بالحرفة، ما دامت حلالاً.

الثامن: الأفضلية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم من ولى رجلاً، وهو يعلم أن غيره أفضل منه، فقد خان الله في أرضه.

وهذا قول الزيدية وبعض المعتزلة والإمامية، وقد ذهب بعض المعتزلة والزيدية أن الإمامة يستحقها الأفضل، إلا أنه قد يحدث أمر، يكون نصب المفضول فيه أصلح، فيجب نصبه في الحال - على أن رأينا أن إمامة المفضول غير جائزة.

التاسع: الشجاعة، أي أن يكون من رباطة الجأش، ما يتمكن معها من تدبير الحروب عند فشل الجموع، لئلا تتحطم جيوش المسلمين.

العاشر: التدبير، فتكون آراؤه صالحة، وأنظاره ثاقبة، وسياسته حسنة، ولا يشترط أن لا يخطئ في ذلك، بل يكون أغلب أحواله السلامة.

الحادي عشر: القدرة على القيام بمهام الإمامة وأمور المسلمين، وهذا يقتضي أن لا يكون عاجزاً، ضعيفاً، ضيقاً قلبه.

الثاني عشر: السخاء، يوضع الحقوق في مواضيعها، فلا يمنع أهل الحقوق حقوقهم، وعليه التحري في ذلك، لأن منع المستحق حيف وميل عن الحق، تسقط به العدالة.

الثالث عشر: السلامة من المنفرات كالجذام والبرص، وغير ذلك مما ينفر، ليتمكن من مخالطة المسلمين.

 

 


الرابع عشر: سلامة الحواس والأطراف، فلا يكون أعمى، ولا أصم، ولا أشل، ولا أعرج، ولا على صفة تعجزه عن أمر تدبير أمور المسلمين، إلا الأمر اليسير، الذي لا يمنع القيام بأمور الأمانة (1).

وأما إمام الحرمين - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (2) (419 - 478 هـ‍/ 1028 - 1085 م)، فيقول: فمنها النسب، فالشرط أن الإمام قرشي، ولم يخالف في اشتراط النسب غير ضرار بن عمرو، وليس ممن يعتبر خلافه ووفاته، وقد نقل الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأئمة من قريش وذكر بعض الأئمة أن هذا الحديث في حكم المستفيض، المقطوع بثبوته، من حيث أن الأمة تقبلته بالقبول.

ثم يقول الجويني: وهذا مسلك لا أؤثره، فإن نقلة هذا الحديث معدودون، لا يبلغون مبلغ عدد التواتر، والذي يوضح الحق في ذلك، أننا لا نجد من أنفسنا ثلج الصدور، واليقين المبتوت، بصدر هذا من فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد فإذا لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة.

والوجه في إثبات ما نحاوله في ذلك: أن الماضين ما زالوا بايحين باختصاص هذا المنصب بقريش، ولم يتشوق قط أحد من غير قريش إلى الإمامة على تمادي الآماد، وتطاول الأزمان، مع العلم بأن ذلك لو كان ممكناً لطلبه ذوو النجدة والبأس (3).

____________

(1) أحمد صبحي: المذهب الزيدي - الإسكندرية 1981 ص 43 - 45.

(2) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغياثي - غياث الأمم في التياث الظلم - تحقيق عبد العظيم الدين - الدوحة - قطر - 1400 هـ‍ص 76 - 82.

(3) كان شرط النسب القرشي مرعياً كل الرعاية في سائر أحوال الدولة الإسلامية، والخلافة لم يتطلبها غير القرشيين قط، ومع كل ما انتاب الخلفاء في أواخر الدولة العباسية من الضعف، واستبداد الأمراء فيهم، حتى جردوهم من كل قوة دنيوية، وأنشأوا الدول دونهم، ولقبوا أنفسهم بالسلاطين، رغم ذلك كله، لم يخطر ببال أحد منهم أن يدعي الخلافة أو أن ينصب نفسه خليفة.

=>

 

 


على أن الإمام الجويني إنما يتردد كثيراً في إثبات شرط النسب القرشي، فيقول: ولسنا نعقل احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب، ثم يعود فيقول:

ولكن خصص الله هذا المنصب العلي، والمرقب السني بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء.

وهكذا يقف إمام الحرمين - كما يقول الدكتور عبد العظيم الديب محقق الكتاب - تجاه اشتراط النسب في الإمام، فلا يرى له مستنداً من النقل، ولا من العقل، بل إنه قد أعلن تردده صراحة في كتابه الإرشاد حيث قال: ومن شرائط الإمام عند أصحابنا (يعني الشافعية) أن يكون الإمام قرشياً، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش، وقال: قدموا قريشاً ولا تقدموها وهذا ما يختلف فيه الناس، وللاحتمال فيه عندي مجال، والله أعلم بالصواب.

فهو يحكي هذا الشرط، والاستدلال عليه عن أصحابنا - أي عن الشافعية - ثم يقول صراحة: وللاحتمال فيه عندي مجال، ونحن إذ نسجل لإمام الحرمين عدم ارتياحه لهذا الشرط، نذكر أن من القائلين به، شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ‍/ 1263 - 1328 م) (1).

____________

<=

وهكذا نرى دول بني بويه والسلاجقة والغزنوية والطاهرية والأيوبية وغيرهم قد استقلوا في دولهم، بل منهم من غلب على الخلفاء، ولكنهم لم يتطاولوا إلى أكثر من لقب السلطان، بل كانوا يتزلفون إلى الخلفاء ليثبتوهم في الحكم، وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي في مصر، فقد استولى على الحكم بعد آخر خليفة فاطمي، وعندما أراد أن يستقل بمصر، دعا على المنابر للخليفة العباسي، ولم يسم نفسه خليفة، وإنما لقب بالسلطان.

وأول من تولى الخلافة الإسلامية من غير قريش السلطان سليم الفاتح العثماني عام 922 هـ‍ (1517 م) بعد أن تنازل له الخليفة محمد المتوكل على الله الثالث عن الخلافة، وبذلك جعل سليم الأول (1467 - 1521 م)، سلطان تركيا (1512 - 21521 م) نفسه خليفة للمسلمين، وورث خلفاؤه من آل عثمان هذا اللقب.

هذا ويحتج الأئمة الحنفية في صحة خلافة بني عثمان (922 - 21342 هـ‍/ 1517 - 1924 م) أن الخليفة يتولى الخلافة بخمسة حقوق (حق السيف - حق الانتخاب - حق الوصاية - حماية الحرمين - الاحتفاظ بالأمانات - وهي المخلفات النبوية الشريفة، المحفوظة في الأستانة (أنظر:

جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي 1 / 121 - 122 - مكتبة الحياة - بيروت).

(1) الجويني: الغياثي ص 82.

 

 


وعلى أية حال، فإن من الشروط اللازمة المعتبرة - عند الجويني - في الإمام، الذكورة والحرية ونحيزة العقل والبلوغ، ولا حاجة إلى الإطناب في نصب الدلالات على إثبات هذه الصفات.

وأما الصفات المكتسبة المرعية في الإمامة: فالعلم والورع.

فأما العلم: فالشرط أن يكون الإمام مجتهداً، بالغاً مبلغ المجتهدين، مستجمعاً صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف، والدليل عليه أن أمور معظم أصول الدين تتعلق بالأئمة، فأما ما يختص بالولاة وذوي الأمر، فلا شك في ارتباطه بالإمام، وأما ما عداه من أحكام الشرع، فقد يتعلق به من جهة انتدابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو لم يكن الإمام مستقلاً بعلم الشريعة لاحتاج لمراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع، وذلك يشتت رأيه، ويخرجه عن رتبة الاستقلال.

وأما التقوى والورع، فلا بد منهما، إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يولى أمور المسلمين كافة، والأب الفاسق - مع حدبه وإشفاقه على ولده - لا يعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق، لا يتقي الله، ومن لم يقاوم عقله هواه ونفسه الأمارة بالسوء، ولم ينتهض رأيه بسياسة نفسه، فأنى يصلح لسياسة خطة الإسلام (1).

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر (2).

وروى الإمام مسلم في صحيحه في حديث زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا

____________

(1) نفس المرجع السابق ص 82 - 88.

(2) ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 25 (مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1379 هـ‍/ 1960 م).

 

 


يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (1).

وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه (2).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن عياض بن حماد، رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة ثلاثة، سلطان مقسط، ورجل رحيم، رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق (3).

وروى البخاري في صحيحه بسنده عن خبيب بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلاء، ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، قال: إني أخاف، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله، ما صنعت يمينه (4).

وأما الصفة الثالثة اللازمة للإمام، فهي توقد الرأي في عظائم الأمور، والنظر في مغبات العواقب وهذه الصفة ينتجها نحيزة العقل، ويهذبها التدرب في طريق التجارب.

____________

(1) صحيح مسلم 12 / 211.

(2) صحيح مسلم 7 / 120 - 122 (دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ‍/ 1983).

(3) ابن تيمية: السياسة الشرعية ص 25.

(4) صحيح البخاري 8 / 203.

 

 


وهناك النجدة والكفاية، ذلك لأن الغرض الأعظم من الإمامة، إنما هو جمع شتات الرأي، واستتباع رجل... فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء، فإذا لم يكن الناس مجمعين على رأي واحد، لم ينتظم تدبير، ولم يستتب من إيالة الملك قليل ولا كثير....

وإذا تبين الغرض من نصب الإمام، لاح أن المقصود لا يحصل، إلا بذي كفاية ودراية، وهداية إلى الأمور، واستقلال بالمهمات، وجر الجيوش، على ترك الرقة والإشفاق، ثم لا يكفي أن يسمى كافياً، فرب مستقل بأمر قريب، لا يستقل بأمر فوقه، فلتعتبر مقاصد الإمامة، وليشترط استقلال الإمام بها، فهذا معنى النجدة والكفاية (1).

وسئل الإمام أحمد بن حنبل (164 - 240 هـ‍/ 780 - 805 م) عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزي؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر - وروي: بأقوام لا خلاق لهم، فإذا لم يكن فاجراً، كان أولى بإمارة الحرب، ممن هو أصلح منه في الدين، إذا لم يسد مسده، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم، وقال: إن خالداً سيف سله الله على المشركين، مع أنه كان قد يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وروى البخاري في صحيحه بسنده عن الزهري عن سالم عن أبيه قال:

بعث النبي صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فلم يحسنوا أن يقولوا:

____________

(1) الجويني: الغياثي ص 88 - 91.

(2) ابن تيمية: السياسة الشرعية ص 18 - 19.

 

 


أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين (1).

ولعل سيدنا ومولانا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدرك أن فعل خالد هذا، لم يكن من الإسلام، ولعله رأى أنه بقية من بقايا الجاهلية، ومن ثم فقد أسرع إلى رأب الصدع، ومداواة القلوب بالديات، روى ابن إسحاق بسنده عن الإمام محمد الباقر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، فقال: يا علي، أخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي، حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شئ من دم ولا مال، إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي، رضوان الله عليه، حين فرغ منهم، هل بقي لكم بقية من دم أو مال، لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت، قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل القبلة قائماً، شاهراً يديه، حتى إنه ليرى مما تحت منكبيه، يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات (2).

____________

(1) صحيح البخاري 9 / 91 - 92.

(2) سيرة ابن هشام 4 / 326، مغازي الواقدي 3 / 875 - 884 (تحقيق مارسدن جونس - عالم الكتب - بيروت 1404 هـ‍/ 1984).

ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد 3 / 415 - 416 (تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط - ط مؤسسة الرسالة - بيروت 1405 هـ‍/ 1985 م)، ابن سعد: الطبقات الكبرى 2 / 110 (دار التحرير - القاهرة 1968)، محمد أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 1018 - 1021 (دار الفكر العربي.

 

 

 

 


ويختم الجويني حديثه في صفات الإمام القوام على أهل الإسلام، بأنه الرجل، الحر، القرشي، المجتهد، الورع، ذو النجدة والكفاية.

ثم يقول: ويمكن رد هذه الصفات إلى شيئين، فيقال: الورع الاستقلال والنسب، ويدخل تحت الاستقلال الكفاية، والعلم، والورع، والحرية، والذكورة تدخل أيضاً، فإن المرأة مأمورة بإن تلزم جدرها، ومعظم أحكام الإمام تستدعي الظهور والبروز، فلا تستقل المرأة إذن (1).

____________

(1) الجويني: المرجع السابق ص 90 - 91.

 

 


0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الدفاعٌ عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم
أهل البيت النور المطلق
حديث الغدير ودلالته على ولاية أمير المؤمنين (ع)
عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي (عليه ...
عليٌ لا يحبّه منافق
سيرة الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)
خطيب جمعة بغداد: ما احوجنا اليوم لفهم مشروع ...
أربعينية الامام الحسين (ع) في كربلاء
وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)
أهل البيت^ الطريق إلى الله

 
user comment