يوافق 18 ذي الحجة الذكرى العطرة لتنصيب الإمام علي بن أبي طالب (ع) بالإمامة والولاية، فبهذه المناسبة الميمونة نقدم للقراء الكرام مقالا عن حديث الغدير وما يحتويه من دلائل على ولاية أمير المؤمنين (ع).
عندما نلقي هذه الألفاظ : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟! قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه » على مسامع العرب الفصحاء أو من يحسن العربية من غيرهم يتبادر إلى ذهنهم أن المعنى الذي يرمي إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو : أنّ من كنت أولى به من نفسه فالإمام علي (عليه السلام) أولى به من نفسه ، فهذه الكلمات تعني : ولاية ، إمرة ، إمامة ، خلافة ، زعامة ، تنصيب .
هكذا يفهمها المتلقي العربي ومن يحسن لغة العرب بشرط أن لا تشوب صفاء ذهنه وسليقته كلمات التائهين عن الدرب ، ومن تمكن عداء أهل البيت (عليه السلام) أو حب من نازعهم منصبهم من عقله وقلبه .
ويدل على ذلك اُمور نكتفي ببعضها :
الأول : ليكن معنى كلمة « مولى » أيّاً كان ، لكن لنا في فهم الحاضرين حجة قوية على إرادة ما قلناه في هذا الحديث ، فهم أعرف بمعاريض كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من غيرهم ; حيث أنّهم عاشوا مجلس الخطاب ورأوا من آيات التنصيب ما شاهدوه ، ولنا من فهمهم أمثلة :
1 ـ مقالة من هنّأ الإمام علياً (عليه السلام) :
وقد ورد: ولمّا سمع أبو بكر وعمر ذلك قالا : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة .
وهل التهنئة إلاّ لأمر جديد! وهل هي هنا لأمر آخر غير تنصيب الإمام (عليه السلام)أميراً على المؤمنين تنصيباً رسمياً يقطع على المعتذر اعتذاره؟!
فلك ـ بعد سماع هذه التهنئة ـ أن تعجب من قول القائل : بأن المراد من « المولى » هو المحب أو الناصر أو . . ، فهل يُهنّأ من صار محباً أو مناصراً للمؤمنين؟ وعلى ما يُهنّأ حينئذ؟!
2 ـ انتفاضة الحارث بن النعمان الفهري واستنكاره على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : ( .. ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعَي ابن عمك ففضلته علينا ، وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ) ([1]) ، فلو لم يفهم أنّ المراد هي الإمرة عليهم لمَا كان لانتفاضته معنى ، أتراه يستنكف أن يكون الإمام علي (عليه السلام) محباً لهم وناصراً؟!
3ـ ترجمة قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المعاني في شعرهم من موالين ومعادين .
وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله مخاطباً معاوية :
وأوجب لي ولايته عليكم***رسولُ الله يوم غدير خم
ومن اُولئك : أبيات حسان بن ثابت التي ألقاها في محضر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وأمام الجميع ومنها :
فقال له : قم يا علي فإنني***رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
ومن اُولئك أيضاً : الصحابي العظيم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي يقول :
وعلي إمامنا وإمام***لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبي من كنت مولا***فهذا مولاه خطب جليل
ومنهم عمرو بن العاص القائل لمعاوية في قصيدته الجلجلية :
وكم قد سمعنا من المصطفى***وصايا مخصصة في علي
وفي يوم خمٍّ رقى منبراً***وبلّغ والصحب لم ترحل
فأمنحه إمرة المؤمنين***من الله مستخلف المنحل
وفي كفِّه كفُّه معلناً***ينادي بأمر العزيز العلي
وقال فمن كنت مولىً له***علي له اليوم نعم الولي ([2])
الثاني : لتكن كلمة « مولى » وضعت لأكثر من معنى في لغة العرب منها : الأولى بالأمر ، والناصر ، والمحب ، ولكنها هنا بالمعنى الأول لا محالة ، إذ لا يعقل إرادة المعنيين الأخيرين من كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الموقف العظيم ، فهل نجيز لأنفسنا أن نقول : بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو سيد الحكماء في تصرفه ، ورب العقل والحجى في فكره ، والذي ما ينطق عن الهوى . إن هو إلاّ وحي يوحى ، أن نقول : أنه أوقف آلاف البشر في صحراء رمضاء محرقة ، وشمس حارقة ، في يوم قائظ ، وزمان حار ، ليقول لهم : ( من كنت ناصره فهذا علي ناصره ، أو من كنت محبه فهذا علي محبه )!
لا أرى من يدعي ذلك إلاّ رجلاً اتّهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تصرفه ، نعوذ بالله منه ومن سوء مقالته .
ثم أفلم يكن الإمام علي (عليه السلام) ناصراً ومحباً للمؤمنين من يوم اشتد ساعده وقوي عضده؟! أو أن المؤمنين لم يعلموا بذلك فأراد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إبراز هذا الأمر لهم !
ثم هل كانت نصرة المؤمنين ومحبتهم فريضةً خصّها الله بالإمام علي (عليه السلام) فلم تجب إلاّ عليه فأعلنها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ليعرفوها ويطالبوا بها عليا (عليه السلام) ؟!
وإذا كان المراد من كلمة « مولى » هي المحبة والنصرة فلماذا انتفض الحارث ـ كما أسلفنا ـ وطلب العقوبة فعاجله الله تعالى بها ؟ !
إذن هذه القرائن وقرائن اُخرى كثيرة يشد بعضها أزر بعض كلها تدل على أن المراد من حديث الغدير هو تنصيب الإمام علي (عليه السلام) ولياً على المسلمين .
---------------
[1] أورد هذه القصة الشيخ الأميني في كتابه الغدير 1 / 239 وما بعدها بطرق متعددة منها :
أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427 / 437 ، قال في تفسيره الكشف والبيان : إن سفيان بن عُيينة سئل عن قوله عز وجل : سَأَلَ سائِلٌ بِعَذاب واقِع فيمن نزلت؟
فقال للسائل : سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك ، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ قال : لما كان رسول الله بغدير خمٍّ نادى الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته فأناخها فقال : يا محمّد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه ، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضبَعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله عزّ وجلّ؟
فقال : « والذي لا إله إلاّ هو إن هذا من الله » . فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله عز وجل : سَأَلَ سائِلٌ بِعَذاب واقِع الآيات .
[2] ومن أراد الاطّلاع على هذه الأبيات وغيرها فليرجع إلى الكتاب المفخرة كتاب الغدير للعلامة الأميني رحمه الله 1 / 340 ، وفي غيره من الأجزاء الاُخرى فقد أسهب في الموضوع بما لا يبقي إلى طالب الضالة عذراً يعتذر به ، ولله الحجة البالغة .