المسألة: ما معنى قوله تعالى ﴿أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾
أ- السنة يقولون أن من أسس المباهلة بأن تباهل على أحب شيء عندك وأقربهم نسبًا وهذا ما جرت عليه العوائد الجاهلية، فأمره الله تعالى أن يباهل بآل بيته إزاحة لعللهم وقطعاً لحججهم لجواز أن يحتجوا عليه بعوائدهم ومألوفهم، كما احتجوا عليه صلى الله عليه وسلم في كتاب صلح الحديبية لما قال لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب في الجاهلية...
أي أن الآية لا يوجد بها تفضيل للإمام علي على غيره لأن من أسس المباهلة بالجاهلية تكون بالأقرب لا الأفضل فهل هذا صحيح وما هو الرد على هذه الشبهة؟
ب- ﴿أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾ و﴿إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ أن الرسول قصد بكلمة معنا قصد نفسه فقط و لكنه ذكرها جمعا للتعظيم.
الجواب: نبدأ الجواب على هذا السؤال بنقضين:
الأوّل: أنَّ السؤال اشتمل على الإقرار بأنَّ عليًا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام هم آل البيت عليهم السلام فهم إذن من قصدتهم الآية الشريفة وهي: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ وهم المقصودون بالمدح والثناء والتفضيل والتقديم في الكثير من الروايات الواردة عن الرسول الكريم (ص) من طرق السنَّة.
الثاني: أنَّ العمّ أقرب نسبًا فلماذا لم يكن العباس بن عبد المطَّلب عمّ رسول الله (ص) ضمن من باهل بهم رسول الله (ص) وقد كان لرسول الله (ص) أبناء عمومة غير علي بن أبي طالب مثل عقيل بن أبي طالب وأبناء العباس بن عبد المطَّلب فلماذا لم يجعلهم رسول الله (ص) ضمن من باهل بهم.
وقد كان لرسول الله (ص) بنت من غير فاطمة وهي أمام بنت زينب بنت النبي (ص) كما يقولون فلماذا لم تكن ضمن من باهل بهم رسول الله (ص) ثمَّ إنَّ فيما ذكر إقرارًا بأنَّ المتفاهم العرفي هو أنَّ الزوجات ليسوا من أهل بيت الرجل، لذلك لم يجعلهنَّ رسول الله (ص) ضمن من باهل بهم، هذا أولاً.
ثانيًا: إنَّ هنا ادِّعاء وهو أنَّ المباهلة في العوائد الجاهلية لا تكون إلا بالأقرب نسبًا، وعلى المدَّعي البيِّنة والدليل، ونحن لا نطالب بأكثر من قضيتين أو ثلاث أو نصّ صحيح يدلّ على ذلك.
ثالثًا: إنَّ التنكُّر لاعتبار آية المباهلة من الفضائل والمناقب التي اختصَّ بها عليُّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ينافي ما فهمه الصحابة بل والكثير من علماء السنَّة الذين يوردون آية المباهلة والروايات الواردة في سبب نزولها تحت عنوان مناقب علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
ونذكر لذاك نموذجًا يكشف عن إقرار الصحابة بأنَّ آية المباهلة من المناقب التي اختصَّ بها عليُّ ومَن كان معه دون سواهم، وهي رواية صحيحة بحسب الضوابط الرجالية عند السنَّة، روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب، قال: أمَّا ما ذكرت ثلاثًا قالهنَّ رسول الله (ص) فلن أسبَّه، لإنْ يكون لي واحدة منهنَّ أحبّ إليَّ من حمر النعم، سمعت رسول الله (ص) يقول حين خلَّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلَّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (ص): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبي بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطينَّ الراية غدًا رجلاً يُحبّ الله ورسوله ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، قال فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليًا فأُتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يده، ولما نزلت هذه الآية ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ دعا رسول الله عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا وقال: اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي.
فالرواية صريحة في أنَّ دعوة علي ومَن معه للمباهلة كانت منقبةً وفضيلةً بنظر سعد بن أبي وقَّاص، لذلك قال إنّها أحب إليه من حمر النعم، وهي منقبة وفضيلة عند معاوية لأنَّه أذعن ولم يُحَرْ جوابًا، وكأنَّ حجَّة سعدٍ قد ألقمته حجرًا.
رابعًا: أنَّ منشأ اعتبار آية المباهلة دليلاً قاطعًا على أفضليّة عليٍّ (ع) على مَن سواه هو أنَّ النبي (ص) نزَّل عليًا بمنزلة نفسه ولما كان رسول الله (ص) أفضل خلق الله تعالى فمَن هو بمنزلته كذلك إلا فيما اختصَّ به رسول الله (ص).
والمناقشة في ذلك بأنَّ المراد من ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ هو خصوص النبي (ص) وإنما جيء بصيغة الجمع للتعظيم خاطئ جدًا، وذلك للإجماع بأنَّ عليًا كان ضمن مَن باهل بهم النبي (ص) وهو ليس من النساء ولا من الأبناء، فما الذي حدا برسول الله (ص) أن يجعله ضمن مَن باهل بهم، فهذا لا يحتمل سوى وجهين، إما أن يكون علي (ع) هو المعنيُّ ضمنًا أوتعيينًا بقوله: ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ وهو الذي ندَّعيه، وإما أن يكون النبي (ص) قد دعاه ولم يكن مأمورًا من قبل الله تعالى بذلك، وحينئذٍ يتحتم السؤال عن منشأ دعوته إيَّاه رغم عدم أمر الله تعالى له بذاك هل هو تجاوز لله تعالى؟ فإن كان كذلك فهو القول بعدم عصمة النبي (ص) وتصحيح ارتكابه للمعصية وإنْ كان استدراكًا لما ينبغي أن يأمر به الله فلم يأمر فذلك أسوأ لاستلزامه نفي الحكمة عن الله جلَّ وعلا. وإن كان منشأ دعوته إيَّاه هو المحاباة والاستئثار نظرًا لقرابته منه فذلك ما لا يقبله مسلم على رسول الله (ص) لأنَّه لا يفعل ولا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى. فتعيَّن أن تكون دعوته إيَّاه نشأت عن أمر الله جلَّ وعلا، وبذلك يثبت المطلوب هذا أولاً وثانيًا:
أنَّ دعوى إرادة خصوص نفس النبي (ص) من قوله: ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ منافٍ لمقتضى الظهور العرفي، إذ أنَّ الإنسان لا يدعو نفسه، فتعيَّن أن يكون المدعو هو غيره لكنَّه نزَّله منزلة نفسه وإلا لما كان الكلام مستقيمًا كما هو أوضح من أن لا يخفى على متكلِّمٍ مستقيم السليقة، وإن قيل أنَّ المراد من ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ هو عموم المسلمين كما قيل ذلك فالسؤال هو أنَّه لماذا اختير علي (ع) من بينهم وهم كثيرون، ألا يكشف ذلك كشفًا قطعيًا عن امتيازه عليهم، ألم يجد رسول الله (ص) أحدًا غير علي من المسلمين يضمّه إلى من يباهل بهم حتى يتحقّق أقل الجمع؟!
خامسًا: يمكن تأييد التنزيل لنفس عليٍّ (ع) منزلةَ نفس رسول الله (ص) بروايات كثيرة وردت من طرق السنَّة.
منها: ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده عن عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول الله (ص) قال: \"...والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتون الزكاة أو لأبعثنَّ عليكم رجلاً مني أو كنفسي فليضربنَّ أعناق مقاتليهم وليسبينَّ ذراريهم، قال: فرأى الناس أنَّه يعني أبا بكر أو عمر فأخذ بيد علي فقال: هذا\".
قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
أقول ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق والحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم.
ومنها: ما رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء بسنده عن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: \"عليٌّ مني وأنا من عليّ، لا يؤدي عني إلا أنا وهو\" قال الذهبي: هذا حديث حسن غريب رواه ابن ماجة في سننه.
وفي تاريخ الإسلام للذهبي قال بعد أن ذكر الحديث: (رواه ابن ماجة عن سويد ورواه الترمذي عن إسماعيل بن موسى عن شريك وقال صحيح غريب...).
وروى الذهبي في تاريخ الإسلام بسنده عن عمران بن حصين أ،َّ رسول الله (ص) قال: (ما تريدون من علي، علي مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي)، قال أخرجه أحمد في المسند والترمذي وحسَّنه النسائي.
وروى البخاري في صحيحه في مناقب المهاجرين أنَّ النبي (ص) قال لعلي (ع): \"أنت مني وأنا منك\" ورواه غيره أيضًا.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي (ع): (يا علي الناس من شجرٍ شتَّى وأنا وأنت من شجرة واحدة، ثمَّ قرأ رسول الله (ص) ﴿وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ﴾ قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
هذا بعض ما ورد من طرق العامَّة في تنزيل النبي (ص) عليًّا (ع) منزلة نفسه وقد أهملنا الكثير خشية الإطالة.
ونختم الجواب بما أورده الفخر الرازيّ في تفسيره في بيان سبب نزول آية المباهلة قال: رُوي أنَّه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران ثمَّ أنَّهم أصرّوا على جهلهم فقال عليه السلام: \"إنَّ الله أمرني إن لم تقبلوا الحجَّة أن أُباهلكم\"... وكان رسول الله (ص) قد خرج وعليه مرط أسود وكان قد احتضن الحسين (ع) وأخذ بيد الحسن (ع) وفاطمة (ع) تمشي خلفه وعلي (ع) خلفها وهو يقول: (إذا دعوت فأمِّنوا).
قال: وروى أنَّه عليه السلام خرج في المرط الأسود فجاء الحسن (ع) فأدخله ثمَّ جاء الحسين (ع) فأدخله ثمَّ فاطمة (ع) ثمَّ علي (ع) ثمَّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
قال الفخر الرازي: (واعلم أنَّ هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث).
فأيُّ مبررٍ للتنكُّر بعد كلِّ ذلك لمثل هذه الفضيلة، وقد أفاد الزمخشري في تفسيره الكشَّاف بعد إيراد الرواية قال: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء).
() قوله في آية المباهلة ﴿نسائنا﴾ دون بناتنا
المسألة: في آيه المباهلة لماذا ذكر النّساء ولم يقل بناتنا لأنّ الزهراء بنت النبي (ص)؟
الجواب: إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
إنَّ معنى الآية المباركة هو أنَّ نصارى نجران ونظرًا لعدم قبولهم بالبراهين التي قدَّمها رسولُ الله (ص) لهم على فساد دعواهم أنَّ عيسى المسيح ابن الله تعالى، نظرًا لذلك أمره الله تعالى أنْ يدعوهم للمباهلة، فمن وقعت عليه اللعنة والعذاب الفوري فهو الكاذب والمبطل وأمره الله تعالى بأن يدعوهم للحضور للمباهلة بأنفسهم وبخاصَّتهم من الأولاد والنساء وأن يحضر هو بنفسه وخاصته من النساء والأولاد، وذلك لأنَّ الإنسان لا يعرِّض نفسه وخاصته للهلاك، فالحضور للمباهلة بالنفس وبأخصِّ أهله من النساء والأولاد تعبير عن الاطمئنان بصوابيَّة ما هو عليه من معتقد وبأنَّه وخاصته لن يُصابوا بمكروه.
فالآية لم تكن بصدد تحديد الهويّة الشخصيّة لمن يلزمه الحضور للمباهلة وإنَّما هي بصدد بيان أنَّ المباهلة إنَّما تكون بالنفس وبأخصِّ الأهل. والنبي (ص) في مقام تطبيق الآية وامتثالها اختار عليًّا (ع) ليكون مصداقًا للنفس واختار فاطمة (ع) لتكون مصداقًا لخاصته من النساء، واختار الحسنين (ع) ليكونا مصداقًا لأبنائه. وذلك ثابت بالتواتر عن الفريقين.
وأما أنَّ فاطمة (ع) بنتٌ للنبيّ (ص) فذلك لا يقتضي أنَّ عنوان النساء غير صادق عليها، فهي بنت وهي من النساء، وأمَّا لماذا لم يقل بناتنا فلأنَّ عنوان البنات داخل تحت عنوان الأبناء فلفظ الأبناء يصدق على الذكور والإناث من الأولاد، فلو قال بناتنا ولم يقل نساءنا لتُوهِّم أنَّ الدعوى للحضور للمباهلة ليس بتمام خاصة كلٍّ من الطرفين والحال أنَّ الآية كانت بصدد التعبير عن أنَّ النبي (ص) كان مطمئنًا بصوابيَّة دعوته لذلك فهو مستعد للمباهلة بتمام خاصَّته.
ولذلك ثبت من الروايات أنَّه قال عند الحضور للمباهلة مع علي وفاطمة والحسن والحسين (ع): \"اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي\"، وذلك يعبِّر أنَّهم خاصَّته من دون غيرهم.