عربي
Sunday 19th of May 2024
0
نفر 0

الرسول محمد (ص) والسير ضد المألوف

كانت النبوة هي التي تصمّم مواقف الرسول الكريم، كانت تملي عليه، فهناك مفاصل في مواقفه وسيرته لا تخضع لسنن السيرة المألوفة في طرح الذات والرسالة والدعوة، لا تنسجم مع الظروف والمحيط والأجواء السائدة، تحث على الارتياب والسخرية لدى المعاندين، وتصدم عوامل الجذب وأمارات اليقين لدى المؤمنين، وتعمق دواعي الشك والخوف لدى المترددين.
كان أولى ـ طبقاً لطبائع الأمور ـ أن يتعاطى (ص) مع قضيته، ليس بنعومة التعامل وصرف الأخلاق وحسب، بل إضافة إلى ذلك، بمراعاة مستوى المستمعين، ومعاينة نوع الادعاء، وضرورة الحفاظ على المكسب السابق، وذلك كي يظفر بمزيد من الثقة عند أتباعه، الذين كانوا أصلاً على خطر عظيم ـ إلا مَن رحم ربي ـ ويهون ويخفف من غلوا الإنكار الذي كان الطابع السائد، والذي لم تتوفر أي دلالة على اختراقه، ويحيد من درجة التردد عند المشككين... ولكنها أصالة النبوة هي التي تملك القرار الحاكم في ضميره.
لنفترض معدماً مهملاً يدعي الالتقاء يومياً بملك جبار دونما رخصة أو استئذان، فإننا ولا ريب، نرتاب بصدق هذا المُدعي، وإذا ما ادعى أنه يلاطف هذا الملك، ويشاركه أسراره البيتية الخاصة، ويستمزج رأيه بشؤون مملكته، وإن الملك عرض عليه فكرة الزواج من أجمل وأعز بناته، ولكنه رفض عزةً ودلالاً، فإننا سنرتاب أكثر، وربما نحكم عليه بالجنون والسفه، بل قد نحكم عليه بذلك فعلاً، لعله لو اكتفى بالدعوى الأولى، وأرجعها إلى ضربة من ضربات الحظ، أو إلى صدفة عابرة، وحَصَرَها عداً مرة أو مرتين... في مثل هذه الحالات، قد يجد قولُه صدىً من قبول ضعيف عند هذا أو ذاك من الناس، ممن يعولون على فلسفة الممكن، ويبنون عليها بعض المواقف، ولكن عندما دخل الحدث المُدعى هذه المستويات الضخمة من المبالغة، وتصاعد سُلَّم الاستغراب في المضمون، فَقَدَ كل مبررات قبوله، لأن أسباب الانتصار لأصالته معدومة أو ضعيفة جداً.
لقد أنكر الناس نبوة محمد تسع سنوات متتالية ولم يهضموا صلته بالسماء، رغم ما عرف عنه من طهر في القلب والجارحة، ولم يصدقه غلا ثلة قليلة، حتى أنها لا تُحسب أقلية بالمصطلح المعروف، وقد أوذي في ذلك، وراح القوم يطاردونه في رزقه وأمنه ومستقره، وتحول إلى مثل للسخرية والتهكم والاستهزاء، ومات أعز مساعديه في حياته وصموده وكفاحه، زوجه المخلصة وعمه، وبذلك ضاقت الأرض به وبأصحابه.
هذا هو محمد، وهذه هي ظروفه، وهذه هي ممكناته!
فماذا ينتظر؟
في هذه الظروف حيث أُعدمت كل السبل، وجدب ضمير الاستجابة، وتحجر الموقف الرافض إلى حد اتهام محمد بالجنون... في مثل هذه الظروف الحرجة الحالكة، يعلن محمد بلسان عربي مبين أنه أُسري به إلى السماء! يقول تبارك وتعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}، وقال تعالى: {ولقد آه ـ يعني جبرائيل ـ نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى}.
لقد أسري به إلى السماء، ليس هذا فقط، بل إضافة إلى ذ لك رأى ما رأى من آيات الله الكبرى، كان في ضيافة الرحمن، في رعايته، والملائكة في خدمته، يطوفون به أرجاء الكون الفسيح ليستشرف الملكوت وأسراره العظيمة.
كذلك قال محمد!
ولكن في أي ظروف قال!
في ظروف هو أحوج ما يكون فيها إلى التخفيف من ضغوط التشكيك والإنكار! في ظروف تتطلب مداهنة أجوائها الحانقة، ولو في حدود يسيرة، في ظروف كانت الكلمة فيها للتكتيك وليس للمضمون، فكيف إذا كان المضمون بحجم الإسراء والمعراج؟
يقول التاريخ: إن رسول الله كان جالساً يفكر ملياً بالصدمة التي ستفاجئ الناس وما يمكن أن يترتب على ذلك من معانات مضاعفة، أعلن عن الحديث الجديد، فمر به أبو جهل (فقال كالمستهزئ: هل استفدت شيئاً في هذه الليلة؟ قال: نعم، أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ فقال: نعم... فقال أبو جهل: أتخبر قومك بذلك؟ فقال: نعم، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فأقبلوا فحدثهم النبي، فمن بين مُصدق ومُكذب ومُصفق وواضع يده على رأسه، وارتد ناس ممن كان آمن به وصَدَّقه).
إن محمداً الخارق يدرك حجم العواقب، التي سوف تترتب على هذا الإعلان الميتافيزيقي الخطير، ومن أخطر هذه العواقب المنتظرة، انهيار الثقة به لدى أتباعه، وهم قلة نادرة جداً، وكان قد كسبهم بعد جهاد مرير، دام سنوات طويلة وقاسية، وهو ما حصل فعلاً، كما أن إمكانات التكذيب نالت حظها أكثر من القوة والمتانة، ولكن محمداً النبي مدعو إلى الإفصاح. إن أصالة النبوة وثقته بهذه النبوة، لهما أسبقية الحضور والإمضاء، وقد تكلم بلغة مستحكمة، وبعقل راجح وقصد واضح، يجادل وينافح عن هذه القضية، ولم يبال بتساقط بعض المؤمنين، ولم يلتفت إلى توافر المزيد من عوامل الاستهانة والاستنكار، ومن السخف بمكان أن نقارن هذا الحدث، بما يشهده التاريخ من إصرار هنا وهناك على رأي أو فكرة، رغم المواجهة المكلفة والتي قد تصل ـ أحياناً ـ إلى الاستئصال، ذلك أن ادعاء محمد بن عبدالله موضوع خاص وحساس، لا يقاس به أي موضوع آخر، وان الاستحقاقات المعاكسة التي يمكن أن تترشح عن هذا الموقف الجريء، قد تطوح بأُس القضية وجوهر الادعاء، الذي هو النبوة.
إن دعوى محمد في إسرائه ومعراجه كانت بمثابة هزة عميقة في ضمير الأتباع من جهة، وإسفينا جديداً وحاداً بين محمد والناس الذين جاء أصلاً لهدايتهم...
فما الداعي إليها إذن؟
لماذا لا يؤجل محمد الإفصاح عن هذا الحدث الكوني المدهش، بعد أن يجمع ويحشد أكبر عدد ممكن من الأنصار؟
لماذا لا يؤخره بعد أن تنتصر نبوته في ضوء إنجازات عملية ملموسة؟ وذلك حتى يكون التعاطي مع الحدث الخارق الجديد بشيء من الارتياح، ومن خلال الارتكان إلى أمارات سابقة من شأنها المساعدة على هضم المفاجأة المدهشة.
إذن وبكل وضوح، كانت هناك (النبوة)، أصالتها النابتة في كل ذرة من ذرات إرادته ووجدانه وروحه.
ان أصالة النبوة في المفردة الجديدة، ليس المضمون وحسب، بل في الوعاء الزمني، مع علم صاحبها بالنتائج العكسية التي ستؤدي إليها، فيما هو في أشد الحاجة إلى الزمن المريح، وفي غاية الحاجة إلى المزيد من الأنصار، وفي أقصى حاجة إلى تقريب المهمة إلى مستوى الفهم العادي المألوف، إن طرح المفردة بكل هذه المقتربات وغيرها، يهدد النبوة فيما هو يسعى لإثباتها.
إن مسألة جوهرية يجب أن تتقدم على كل اعتبار هنا، إنها النبوة، فإن تكذيبها بالنسبة لمدعيها، ليس مثل تكذيب رأي علمي أو فكرة فلسفية أو اتجاه إصلاحي.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الصحابة وتحريم متعة الحج
العتبتان الحسينية والعباسية تستعدان لإقامة ...
لماذا فرض الله صيام 30 يوما على الامه؟؟
المعايير البلاغية عند الامام الصادق(عليه السلام)
لماذا لابدّ من صب اللعن على أعداء الإمام الحسين ...
في قلع الأصنام عن الكعبة
أسماء بنت عميس
البكاء على أهل البيت‏
في الورع و الترغيب منه
لماذا نزل القرآن في ليلة القدر ؟

 
user comment