بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين
من إيحاءات الكلم الرباني وآياته يشرق القرآن كما وجه محمد بإشراقة سبيل الرشاد وهدى الإرشاد ، لصوغ حياة الإنسان بثقافة فاضلة هادية ، تربط بين معنى العبادة لله ومعنى الحرية وذروتها المتمثلة بإلتزام خط الإستقامة الواعية والكلمة المسؤولة عن توجيه العقل والقلب الى فراديس الأخلاق ونعمة التوحيد وعقد الإخاء وروح المحبة .
وتطلعاً الى الصورة المثلى من وعي التدين والإلتزام وتحسساً بالمسؤولية الرسالية ومصباحها المضيء في القلوب الباحثة عن الهدى والنجاة في زمن الغربة والقلق ، تطل جمعية الإرشاد العاملية بهمة جديدة وعزم أكيد ، في محاولة لملامسة أغصان الشجرة المباركة للأئمّة الأطهار (ع)، وهي تحاول إستنهاض قِيَم التوحيد والوحدة والأخلاق، ليقوم النّاس بالقسط، بكلمة طيّبة تصعد بخير نمائها من محاضن الهداية إلى ما ترجوه من دفاع عن الحق والحقيقة والحريّة والعدالة، لاسيّما في معترك الهويّات المحمومة التي تهدّد بعصبياتها وإنغلاقها، المعنى الإنساني من جوهر الإنسان وكرامته
مع هذه الإطلالة وفي مرحلة حساسة من تاريخ الأمة الإسلامية ، وما تتعرض له من إبتلاءات جسام تمسّها في صميم مشاعرها الإنسانية ومعتقداتها الدينية ومقدساتها الأصيلة ، مضافاً إلى إبتلاءاتها الداخلية من التشتت والتمزق والتسيب ومخاطر الضياع بين نزعة التكفير وتهمة الإرهاب وما ينتج عن هذه وتلك من سلبيات القطيعة مع الأمم والشعوب في العالم الغربي وما نتج من التصدع المخيف في جدار الثقة والصداقة بين الأمة الإسلامية ودول العالم الأوروبي ، ضمن هذه الملامح المعاصرة القاتمة، نحاول أن نقف للإطلالة على مكامن الخلل والخطورة في ملامح عصرنا الإستثنائي لبلورة مفهوم العلاقات الإنسانية التي حسمها القرآن الكريم بقاعدة التعارف بقوله تعالى )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) حيث أطلق القرآن الكريم لأمة محمد حريتها في التفاعل مع ذاتها في الداخل ومع الأمم في الخارج، وذلك لصالح مشروع التوحيد، بإعتبار أن هذا المشروع حقيقة كبرى تدفعنا إلى عالمية لا تستهين بخصائص الأمم والشعوب، كما لا تنكر ضرورة التنوع ولا تنكر الحق بالاختلاف(فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) سورة آل عمران، آية: 64. ومن دون أن تقطع الطريق على الآخر، وذلك لأن مساحة النهضة الفكرية والثقافية في ظل الفكر الإسلامي تتسع للجميع، ما دامت محكومة لمسؤولية الحوار والجدال بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة والقول السديد.
فالأساس القرآني لوعي هذا الجدل يقوم على احترام العقل، وشرعية دوره في عمارة الأرض وبناء الدنيا، في حركة الكدح الذي ينشد الكمال والحياة، وتلك هي حجة الله المكتملة في حجة الرسل قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) سورة الأنعام، الآية: 149، كما يقوم على مبدأ الكرامة الإنسانية، وحق الدفاع عن النفس، وتحمل المسؤولية، وحق المساواة.
فالناس جميعاً قد نبتوا من مصدر واحد ونفس واحدة (يا أيها الناس اتّقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء)سورة النساء، الآية/1
بيد أن هذه النفس البشرية الواحدة، عندما تخوض ميدان الاختبار وتواجه تحديات الفتنة والغرائز، تنتهي إلى إحدى حالتين: إما الانتصار بالسمّو والتزكية، وإما الهزيمة بالرضوخ لمطالب الهوى والاستغراق في شهوة المال والسلطة والأنا، وبذلك ينشأ التفاوت والتفاضل بين النفوس الكبيرة والنفوس الصغيرة، لترتفع نفسٌ إلى الحياة العليا، وتهبط أخرى إلى الحياة الدنيا(ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) سورة الزخرف، الآية/32]. ويمتد هذا التفاضل إلى مواقع الأنبياء والرسل كنتيجة طبيعية لاختلاف الأدوار الرسالية (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات) سورة البقرة، الآية/253].
ثم يجري التمايز بمقياس مغاير لموازين النزعات العرقية والقومية، فتستبدل موازين التنازع والخصومة، بإشاعة روح التنافس على العلم والتقوى والجهاد وصالح الأعمال، فيما توحي به الآيات الكريمة:
1- (ولكل درجات مما عملوا) سورة الأنعام، الآية/132
2- (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) سورة الزمر، الآية/9].
3- (فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) سورة النساء، الآية/95].
هكذا تتكون الشخصية الإسلامية في رحاب القرآن وهكذا تنمو في محضن الحرية والهداية ، ولذلك كان الإسلام والاستعباد على طرفي نقيض لا يجتمعان، فليس لمسلم أن يستعبد غيره، وليس للدولة الإسلامية أن تطغى في التحكم في رقاب الناس، ولكن لها الصلاحية أن تحكم بالحق والعدل على المفسدين في الأرض ممن يتجاوز حدود الله، أو يتنكب جادة الصراط السويّ المستقيم، والأساس في ذلك كله سيادة الإنسان بمفهوم الخلافة الربانية، وحرمة ماله ودمه، ويتضح ذلك من قول الرسول(ص) حينما وقف تجاه الكعبة وأخذ يخاطبها بقوله(ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لَحُرْمَةُ المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه).
إنَّ عقيدة التوحيد تحدّد لمهمتها هدفاً كريماً، هو إصلاح الإنسان وإصلاح المجتمع، وإصلاح الدولة التي أخذت على عاتقها إدارة المجتمع، فتخطط لتوجيه الجدل بما يصوغ العلاقات الإنسانية في أروع صيغة ينمو في أجوائها إنسان الخير، الذي تغلب على شرور نفسه وشرور هواه.
لقد كانت أوروبا إلى مطلع القرن التاسع عشر تمارس تجارة الرقيق واستعباد الإنسان، فتؤلف الشركات الرأسمالية بموافقة الحكومة والبرلمان، ويصدر بإنشائها قانون يخوّلها صراحة الحصول على الرقيق من إفريقيا وبيعه في الأسواق العالمية حينذاك، فلّما استفاقت لتحريم العبودية ومكافحة الاسترقاق، وجدت نفسها تستبيح لوناً جديداً من العبودية والتجارة، هي عبودية الاستعمار والاسترقاق السياسي والاقتصادي لسائر دول العالم وشعوبه، فكيف السبيل إلى عقد مصالحة بين الحق والباطل؟..
إن المشكلة تبدو عسيرة ومعقدة وعصيّة على الحلول، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن منطق التسوية والتراخي، واقتسام الغنائم ومناطق النفوذ والأمن، كل ذلك قد وضع الأزمة الإنسانية على مواقد النار الهادئة، التي بدأت تلتهب وتشتعل ، وأخذت تحرك فينا نوازع الشر والطغيان.
وإذن فلنمسك بالدرجة الأولى منطقة النفس لإجراء السيطرة عليها من مملكة العقل الواحد، الذي يفترض أن نعترف بشرعية إدارته وقبول أوامره ونواهيه، ولكي يكتسب هذا العقل قدرته على التحكم في الغرائز يجب أن يكون متفوقاً ومؤثراً بما يمتلك من قوة الإدراك والرشد، ولن تتيسر هذه العملية إلا على ضوء فلسفة الإيمان والتوحيد في إطار الوعي الكوني الشامل للوجود.
قد يبدو هذا التصوير ضرباً من الخيال إلا أنه خيال يستند إلى صورة مصغّره، تتحرك وتحيا في واقع الإنسان الذي نعتبر مشكلة صراعه مع نفسه مرآة تعكس عذابات الإنسانية القلقة ، فإذا صح للإنسان أن ينتصر على نفسه، وأن يطوّع غرائزه لما فيه الخير والطمأنينة، صح للإنسانية المعذبة أن تنتصر على كوابيس الحرب التي تؤرق مضاجعها منذ النشأة الأولى وحتى يومنا هذا(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيِّنات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) سورة البقرة، الآية/213].
فالحياة الأولى للنوع الإنساني كانت حياة قائمة على التعارف، وكان الإنسان يحيا مع أخيه الإنسان في وحدة فطرية يظللها الاستقرار، وهي وحدة قامت على التوافق بين المصالح والحاجات، ولم يكن خارج هذه - الوحدة - قوة ناشزة تهدّد أمنها أو تفسد عليها هذه الحياة الندية على بساطتها، ولم يكن يعكر صفو تلك الأيام والتي كانت تمضي بهم على وتيرة واحدة إلا ما تثيره الطبيعة وتقلباتها في نفوسهم، من ذعر وخوف واضطراب، ولم يعهد الإنسان غلبة أو صراعاً إلا ما كان يشهده يومياً من غلبة الحيوان المفترس وفتك الأمراض، ومع تصرم الزمن وتداول الأيام نشطت حركة الحياة بالأسئلة، وانتشر النوع الإنساني بالتناسل، فصارت القبيلة الواحدة قبائل، والأمة الواحدة أمماً والشعب الواحد شعوباً، فاختلف الدم واللون وأسباب الرزق، واختلفت على ذلك العقول والمصالح والأهواء، فوجد الصراع طريقه لتقسيم الأسرة الإنسانية إلى محاور عرقية وجغرافية وسياسية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
وبذلك أضيف إلى خلافاتهم خلاف جديد فرضته ضرورات الهداية، لتقويم ما اعوّج وإصلاح ما فسد من شؤون الغابرين واللاحقين، ولا تزال الهداية صابرة تقاوم الضلالة وتصارعها، فمرة قاتلة ومرة مقتولة في وعد مكتوب(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن) سورة التوبة، الآية/111].
لقد بدأ العدوان بغياً من الكفر، ولن تهدأ هذه الحرب حتى يتخلى الكفر عن أوزاره
وبهذه المرحلة المضيئة من التاريخ ندخل عصر النبوّات، فنستبدل الغريزة بالفطرة، والانحراف بالاستقامة، والشرك بالتوحيد، والقانون الوضعي بقانون السماء، وبذلك تعود الحياة في ظل الحضارة الإلهية إلى سابق براءتها وفطرتها، ووحدة أمتها وإنسانها، فتعيد الاعتبار إلى هابيل المضطهد والمظلوم، لتشهد العلاقات الإنسانية عهداً مشرقاً لا وجود فيه للأقوياء ولا للضعفاء، وإنما للأتقياء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدّلوا تبديلاًhellip;
إنه الحلم الذي يراودنا جميعاً في آناء الليل وأطراف النهار، ولكنه حلم مشروع يقتضي منا أن نقف على مرتكزاته وقواعده، لنلفت النظر إلى أن سياق الآيات القرآنية التي تناولت موضوع الجريمة الأولى، تنطوي على تحذير مباشر وصريح لبني إسرائيل، حيث اعتبر التصوير القرآني لقصة ابني آدم بمثابة الدرس الخطير لبني إسرائيل، وهو درس يتضمن التحذير والتأنيب على مخاطر الصراع بسفك الدماء، ذلك أنه كان من دأبهم الاستهانة بالدماء، واستباحة القتل الذي أسرفوا فيه، حتى طال رؤوس الأنبياء والرسل، وإذن لا نبالغ بالقول إذا اشترطنا لمعالجة مشكلة الصراع العالمي. إلغاء الفكر الإسرائيلي، ومكافحة العنصرية من عقول الساسة وأذهان القادة والحكام في الشرق والغرب، وهي عقول تغذيها الصهيونية من قديم الزمان على مشروع التصادم وحب السيطرة وشهوة القتل والإبادة.
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه مَنْ قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومَنْ أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رُسُلُنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)سورة المائدة، الآية/32
وإذا صحّ لنا أن نصف هذا العصر وصفاً موضوعياً يحدد لنا موقفه الأساس من الإسلام كثقافة ودين وأمة، لقلنا:
إنه عصر التكتل للقضاء على حركة الإسلام، فكراً وثقافة، ديناً وأمّة . فالقضية لم تعد مجرّد عصر شاعت فيه مذاهب الإلحاد وفلسفات الكفر لينتهي نشاطها عند إنكار الإسلام كرسالةٍ سماوية وإنما هي قضية المنظمات الدولية وكيانات الهيمنة والاستكبار في أطرها المختلفة شرقية وغربية التي لم تُؤسس إلا لمقاومة هذا الدين وإلغاء دوره من مسرح الحياة وتشويه فكره وتراثه واستعمار كيانه بشراً وثروات .
ولا تزال منظمات الكفر العالمي بجميع إمكاناتها تحاول تمييع ثقافتنا واستبدالها بنظرياتٍ ماديةٍ جديدة، تستهدف سلخ الإنسان المسلم عن شخصيته الرسالية المؤمنة، وإغراقه في ألوان شتى من الترف الفكري الذي لا يمتّ بأي صلةٍ لدوره القيادي في الحياة حتى بتنا نراه أمام هذه الأضواء المخادعة مبهوراً لا يكاد يلتقط أنفاسه ولا يكاد يبصر التبر من التراب والحق من الباطل وأصبح غارقاً في تسممٍ ذاتي يوشك أن يمتص منه خصائص إنسانيته فغاب تدريجياً عن واقعه، وإذا به في دوّامةٍ عنيفةٍ قاسيةٍ يود لو يخرج منها لو كان في يديه القرار فهو أينما توجه نراه محكوماً لسلطةٍ لا مرئيّة يتخبط في ظلامها الدامس خبط عشواء، تتجاذبه الولاءات الكاذبة والانتماءات المزيفة بعيداً عن الخط الإسلامي الأصيل .. .
فهو في البيت، في المدرسة، في الجامعة، في المصنع، في المتجر، في الطريق، في كل نواحي الحياة ومراكزها، محكوم لمنطق الاغتراب والتغريب عن الدين، عن الأخلاق، عن الوطن، وعن إنسانيته في غالب الأحيان .
هذه هي الحقيقة المرّة التي تشبه الكابوس، ولا نبالغ في تصويرها إلا على قدر ما نفذت إلى أعماق الإنسان المسلم لتحوّله إلى أمّعة، إلى غريب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات .
من هنا، نتطلع إلى سياسة العدو الكاسر في تحطيم الإنسان المسلم وتفريغ شخصيّته من محتواها ومعانيها الرسالية المقدّسة وترويضه على الولاية المطلقة لكل أشكال الوثنيّة والصنمية القديمة والمعاصرة، ونسأل أنفسنا، كيف أفلح هذا العدو في ذلك؟
والجواب الطبيعي .. هو أن عدونا قد حقّق نجاحه الكبير في غزوه الثقافي، يوم هُزم الإنسان المسلم نفسياً وفقد الثقة بنفسه وتحوّل إلى كتلة، إلى حطام، وإلى أشلاء ..
إنّ مجتمعاتنا مضطّرة اليوم إلى الإدلاء باعترافاتٍ مؤلمة، كل واحد منها أوهن وأمرّ من الآخر، ولعلّ أهمّها توطن النموذج الغربي في نفوس المسلمين وتسربه إلى أسواقهم وبيوتهم ومدارسهم، وهيمنته على أسلوب حياتهم ونوعية سياستهم وطريقة حكمهم على الأشياء والأحداث والمعايير، لقد تغلغل الاستعمار الثقافي في قلب العالم الإسلامي وكانت نتائجه أخطر على منهاج حياتنا من الاستعمار العسكري بما شوهه من أصالة شخصيتنا وما أوهنه من قوة كياننا .
ولا ريب في أن الاحتلال العسكري والتحكم السياسي والنهب الاقتصادي، كل ذلك يعتبر إجراءاتٍ أساسيّة في فرض السيطرة الاستعماريّة الشاملة، وذلك لأن الغرب ما كان باستطاعته أن يُحكم قبضته على بلاد العرب والمسلمين إلا من خلال العنف العسكري في البداية، ثمّ إحكام السيطرة السياسيّة والاقتصادية . إلا أنّ ذلك لم يكن كل شيء، لأنّ قادة الغرب من سياسيين ومفكّرين ومنظّرين أدركوا أنّ إحكام تلك القبضة يتطلب ما هو أبعد وأعمق .
فلقد أدركوا أنّ الأمر يتطلب تحطيم أسس المقاومة الداخلية، وإقامة أسسٍ متينةٍ لتبعيةٍ دائمةٍ مقيمة، بمعنى تحطيم المكوّنات العقيدية والفكريّة والحضاريّة والأنماط المعيشيّة والإنتاجيّة لتلك البلاد العربيّة والإسلاميّة، وإحلال مكوناتٍ أخرى موازية تشكّل أساساً للتبعيّة الدائمة والاستفادة من قطار العولمة الكاسح في هذا المجال، وذلك يعني تحطيم الأسس الإسلاميّة في عقيدة الشعب وفكره وحضارته وأنماطه المعيشيّة ونهج حياته ونمط سياسته، ثمّ ترويضه بما يجعله يرى في أحد نماذج الغرب قدوته فيمضي لاهثاً وراءه أبداً .
ويمتد هذا الأسلوب مستمراً حتى اليوم فيما يتصل بكثير من القضايا والمفاهيم ، فأنت عندما تخالف الدول الغربية العظمى تصبح خطراً وعندما توافقهم فأنت ديمقراطيا متحرراً ، أما حرية الرأي فهي خدعة من الخدع الكبيرة ، ما دام أن الفرد لا يمتلك أن يكون حراً في رأيه ومتبنياته.
فأن يقول أحدهم إن المحرقة اليهودية كذبة ، تقوم الدنيا ولا تقعد، ولكن أن تنشر صحيفة دنماركية رسوماً مسيئة لمقام نبي الإسلام محمد (ص) فذلك حرية تعبير وحرية صحافة .
أن تقاص الحرية بمقاييس رغبة الظالم وميولاته فهذه مصيبة . وأن تخنق إرادات الناس تحت شعار الحزم والإدارة الناجحة فتلك جريمة . وأن تخترق الأخلاق والقيم الإنسانية تحت شعار الحرية فتلك الجريمة الأخطر بحق الإنسان والعلاقات الإنسانية .
نعم إن الإنسان المؤمن يواجه في هذا العصر مشكلة التوفيق بين مفهوم حرية المعتقد على ضوء ما يدعو إليه القرآن الكريم بقوله تعالى(ولو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاس حتى يكونوا مؤمنين) سورة يونس، الآية/99. وقوله تعالى(لا إكراه في لدين قد تبين الرشد من الغيّ)سورة البقرة، الآية/256. وبين مفهوم الصراع بأشكاله الفكرية والسياسية والعسكرية، على ضوء قوله سبحانه(وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرْهِبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) سورة الأنفال، الآية/60
فالإنسان المؤمن إذ يواجه هذه المشكلة ومخاطرها على مشروعه العالمي للحضارة، يجد نفسه محاصراً بالغزو الثقافي الحديث ، فقد عمدت الحضارة الغربية على تصدير أفكارها وفلسفاتها القائمة على بذر روح التعصب والعنصرية والطائفية والقومية، وأشاعت في العالم لغة النزاع والصراع بمنطق القوة والغلبة، على أساس أن الغالب والمسيطر، هو الأصلح للعيش والأصلح للبقاء، وقد واجه القرآن هذا المنطق بلغته الإنسانية، فاعتبر أن العلاقة بين الناس في دستور القرآن هي علاقة سلم حتى يضطروا إلى الحرب دفاعاً عن أنفسهم، أو اتقاء لهجوم تكون المبادرة فيه ضرباً من الدفاع، فالحرب يومئذ واجبة على المسلم وجوباً لا هوادة فيه، وهو مع وجوبها مأمور بأن يكتفي من الحرب بالقدر الذي يكفل له دفع الأذى، ومأمور بتأخيرها ما بقيت له وسيلة إلى الصبر والمسالمة.
لقد شرع الإسلام القتال على درجات محددة ووفق ضوابط محددة . فلم يشرع حالة إلا وضع لها حدودها وبيّن للمسلمين ما يجب عليهم فيها، وقد تم له في نحو عشرين سنة قانون دولي كامل لأحوال الحرب مع المقاتلين على اختلافهم، فأتم في القرن السادس ما بدأت فيه أوروبا في القرن السابع عشر، ورغم ذلك فقد تقهقرت دول الغرب في بعض أحكام القانون الدولي إلى ظلمات القرون الوسطى، وأسقطت حرمته في أخطر الحقوق وهو حق المفاتحة بالحرب أو حق الإغارة على الأمم بغير إعلان. ويمكن لنا في هذه العجالة أن نقدّم شرحاً مختصراً لأبعاد هذه الأزمة وحوافزها المادية النفعية، التي جردت الإنسان الأوروبي من أخلاقياته وذلك ضمن الإشارة التالية وهي :
أن العقل الغربي ذاتي أناني من الوجهة الأخلاقية، فالفضيلة الغربية لا وجود لها بالنسبة للعالم، لأنها لا تشع على عالم الآخرين، والغربي لا يحمل فضائله خارج عالمه هو، فخارج حدوده الأوروبية لا يكون إنساناً بل أوروبياً. وهو لا يرى بعد ذلك أناساً بل مستعمَرين.
ونلفت هنا إلى واحدة من عشرات الألعاب البهلوانية التي يتقنها الغرب في إدارة الأفكار والشعوب، فالاستعمار يتبع في ذلك طريقة تطبق في بعض الألعاب الإسبانية: إنهم يلوحون بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع فيزداد هيجانه بذلك، فبدلاً من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر الذي يلوح به حتى تنهك قواه. فالاستعمار يلوح في مناسبات معينة، بشيء يستفزّ به الشعب المُسّتَعمر حتى يثير غضبه، وبغرقه في حالة شبيهة بالحالة التنويمية، حيث يفقد شعوره ويصبح عاجزاً عن إدراك موقفه وعن الحكم عليه حكماً صحيحاً، فيوجه ضرباته وإمكانياته توجيهياً أعمى، ويسرف من قواه دون أن يصيب بضربة صادقة المصارع الذي يلوح بالمنديل الأحمر..والذي هو الاستعمار بطل الألعاب الإسبانية في المجال السياسي، ويمضي الشعب الباسل في هذا الوضع الدرامي كأنما تضحياته ذاتها من النفس والنفيس. جمدته وقضت عليه بالبقاء فيما هو فيه.
وهكذا نصل إلى استنتاج جد غريب في السيكولوجية السياسية، وهو أن السياسة العاطفية لا تجد مبرراتها في كسبها ولكن في خسارتها، فكلما تقطّعت أنفاس الثور ونزف دمه في حلبة الصراع، يزداد هجومه على المنديل الأحمر، والاستعمار يجيد تشغيل هذا الجهاز حيث إنه هو الذي ابتكره وركّبه، أو ركّب فيه بعض محركاته، فهو يعلم أن هذه المحركات ليست من مواهب ضمير ولكن من خصائص أمعاء، فهو يستمر إذاً في التلويح بالمنديل الأحمر حتى لا تكون للشعب المضطهد فرصة يتدارك فيها ويفكر في أمره، وأن ينظر إلى مشكلاته بمنطق الفعالية، أي أن يضعها طبقاً للأسس السياسية العلمية، هكذا يجمد الاستعمار القوات التي تناضل ضده، يجمّدها عند نقطة معينة وتحت راية معينة.
وبعد، لقد تعلم المسلمون أصول القانون الدولي قبل ظهوره في الغرب بأكثر من عشرة قرون، فلما تجاورت دول الإسلام ودول الغرب حول البحر الأبيض المتوسط، كانت شريعة الدولة الغربية في القانون الدولي هي الشريعة التي خلفتها لها دولة الرومان والتي تنص على مبدأ من جاورك فهو عدوك: تُخْضِعُه أو يُخْضِعُك، وتبدأ بالحرب متى استطعت، ويبدأك بالحرب متى استطاع، وكانت هذه الشريعة على أشدها في معاملتهم لبلاد المسلمين لأنهم أفردوها بعداء واحد فوق كلّ عداء، بينما ظلّت شريعة الإسلام تنادي بأنفاس النبي (ص) ووصيته في الجيران وحسن الجوار، حتى قال أصحابه - رض - ظل رسول الله (ص) يوصينا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه.
إنها ملامح العصر الإستثنائي الذي تقف فيه أمة القرآن في مواجهة القوى الصهيونية الحاكمة في الغرب التي بات من الواضح أن مشروعها هو التصادم لا التعارف .. والآن ومع تطلعات شعوبنا العربية الإسلامية في أن تحيا بسلام في عالم أقل ظلماً وأكثر عدلاً وأكثر انسانية فإن الشرط الموضوعي لتفسير هذا التطلع على أرضنا المحاصرة من جميع الجهات يجب أن ينطلق من قدراتنا الذاتية على ممارسة مشروعنا الحضاري وفق منظومة التعارف الانساني في معنى المحبة والتسامح والإخاء وهي قيم منسوجة من عقليات الإمام علي بن أبي طالب حث يقول : \" فإن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق \" .