قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، ومجال الأُمور العادية المعدّة للحياة، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه، وإليك ما يدل على ذلك:
1. قال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (2)، وقال أيضاً: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ
____________
1 . بصائر الدرجات: 454.
2 . النساء: 105.
______________
(294)
مِنْ شَىْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (1)
وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت علىّ وكان للرجل الذي سرق جيران يبروَونه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون: يا رسولَ الله إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به، قال: حتى مال عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض القول فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (2)
أقول: سواء أصحت هذه الرواية أم لا، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرىَ نفسه ويتهم الآخر، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعرف المحق من المبطل.
والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو، لاَنّها موَلفة من فقرات أربع، كل يشير إلى أمر خاص :
1. (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا
____________
1 . النساء: 113.
2 . تفسير الطبري: 4|172.
(295)
_____________
يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَىْءٍ).
2. (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ).
3. (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).
4. (وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).
فالاَُولى منها: تدل على أنّ نفس النبىّ بمجردها لا تصونه من الضلال (أي من القضاء على خلاف الحق) وإنّما يصونه سبحانه عنه، ولولا فضل الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم الموَدى إلى إضلاله، وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربَّه، فلا يتعدى إضلال هوَلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم الضالون بما هموا به كما قال: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَىْءٍ) .
والفقرة الثانية: تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الاِلهي، كما قال سبحانه: (وأنزل عليك الكتاب والحكمة) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.
ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات، فلابد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل، والخائن من الاَمين، والزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة وقال: (وعلّمك ما لم تكن تعلم) ومقتضى العطف، مغائرة المعطوف، مع المعطوف عليه، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى تعرّفه على الركن الاَوّل وهو العلم بالاَُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة،
(296)
يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل، أو يسقط في هوّة الضلال.
قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ المراد من قوله سبحانه: (وعلّمك ما لم تكن تعلم) ليس علمه بالكتاب والحكمة، فإنّ مورد الآية، قضاء النبي في الحوادث الواقعة، والدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء، وإن كان متوقفاً عليهما، بل المراد رأيه ونظره الخاص. (1)ولما كان هنا موضع توهم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختص بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه: (وكان فضل الله عليك عظيماً) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى، بل مقتضى عظمة الفضل، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات، أم الأُمور العادية، فتدل الفقرة الاَخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة، أو غيره، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : (وكان فضل الله عليك عظيماً).
2. قال سبحانه: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (2)إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَوَُلاَءِ شَهِيداً) (3)، وقال تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ
____________
1 . الميزان: 5|81.
2 . البقرة: 143.
3 . النساء: 41.
__________________
(297)
كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُوَْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (1) وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدَاءِ) (2) والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الاَُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)(3) وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى: (وكُنْتُ عَلَيِهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّـا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ) (4)، وقال سبحانه: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (5) ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه، لاَنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الاَعمال والاَفعال، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والاِيمان، والرياء والاِخلاص، وبالجملة على كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين، قال تعالى: (وَلَكِن يُوََاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (6)، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الاَُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلاّ
____________
1 . النحل: 84.
2 . الزمر: 69.
3 . الاَعراف: 6.
4 . المائدة: 117.
5 . النساء: 159.
6 . البقرة: 225.
______________________
(298)
إذا تمسّك بحبل العصمة وولي أمر الله بإذنه، ولنا في الاَجزاء الآتية من هذه الموسوعة بحث حول الشهداء في القرآن، فنكتفى بهذا القدر في المقام.
ثم إنّ العلاّمة الحجّة السيد عبد الله شبر أقام دلائل عقلية ونقلية على صيانة النبي عن الخطأ ولكن أكثرها كما صرّح به نفسه ـ قدس الله سره ـ مدخولة غير واضحة، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه. (1)
أدلّة المخطّئة
إنّ بعض المخطّئة استدلّ على تطرّق الخطأ والنسيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض الآيات غافلة عن أهدافها، وإليك تحليلها:
1. قال سبحانه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ) (2)
زعمت المخطّئة أنّ الخطاب للنبي وهو المقصود منه، غير انّها غفلت عن أنّ وزان الآية وزان سائر الآيات التي تقدّمت في الاَبحاث السابقة وقلنا بأنّ الخطاب للنبي ولكن المقصود منه هو الاَُمّة، ويدل على ذلك، الآية التالية لها قال: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن شَىْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(3) ، فإنّ المراد انّه ليس على الموَمنين الذي
من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض، وهذا يدل على أنّ النهي
____________
1 . مصابيح الاَنوار في حل مشكلات الاَخبار : 2|128 ـ 140.
2 . الاَنعام: 68.
3 . الاَنعام: 69.
__________________
(299)
عن الخوض تكليف عام يشترك فيه النبي وغيره، وإنّ الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الاَُمّة.
والاَوضح منها دلالة على أنّ المقصود هو الاَُمّة قوله سبحانه: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(1)
والآية الاَخيرة مدنية، والآية المتقدمة مكية، وهي تدل على أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى الموَمنين وإنّ الخطاب وإن كان للنبي لكن المقصود منه غيره.
2. (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَ اذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِى رَبِّى لاََِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً)(2) والمراد من النسيان نسيان الاستثناء (إلاّ أن يشاء الله) ووزان هذه الآية، وزان الآية السابقة في أنّ الخطاب للنبي والمقصود هو الاَُمّة.
3. (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)(3)، ومعنى الآية سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة فلا تنسى ما تقرأه، لكن المخطّئة استدلّت بالاستثناء الوارد بعده، على إمكان النسيان، لكنّها غفلت عن نكتة الاستثناء، فإنّ الاستثناء في الآية نظير الاستثناء في قوله سبحانه (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَ الأرض إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (4)، ومن المعلوم أنّ الوارد إلى الجنّة لا يخرج منها، ولكن
____________
1 . النساء: 140.
2 . الكهف: 23 ـ 24.
3 . الاَعلى: 6 ـ 7.
4 . هود: 108.
______________
(300)
الاستثناء لاَجل بيان انّ قدرة الله سبحانه بعد باقية، فهو قادر على الاِخراج مع كونهم موَبدين في الجنّة، وأمّا الآية فالاستثناء فيها يفيد بقاء القدرة الاِلهية على إطلاقها، وإنّ عطية الله أعني "الاِقراء بحيث لا تنسى" لا ينقطع عنه سبحانه بالاِعطاء، بحيث لا يقدر بعد على إنسائك، بل هو باق على إطلاق قدرته، فلو شاء أنساك متى شاء، وإن كان لا يشاء ذلك.
وبما أنّ البحث مركّز على عصمة النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخطأ والنسيان دون سائر الأنبياء ذكرنا الآيات التي استدلّت بها المخطّئة على ما تتبنّاه في حق النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمّا بيان الآيات التي يمكن أن يستدل بها على إمكان صدور السهو والنسيان عن سائر الأنبياء وتفسيرها فمتروك إلى مجال آخر ، ونقول على وجه الاِجمال انّه يستظهر من بعض الآيات صحة نسبة النسيان إلى غير النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أعني قوله سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (1)
وقوله سبحانه في حق موسى: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيا حُوتَهُمَا)(2)
وقوله سبحانه أيضاً عنه: (فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (3)
وقوله سبحانه في حقّه أيضاً: (لا تُوَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ) (4)
لكن البحث عن مفاد هذه الآيات موكول إلى مجال آخر .
____________
1 . طه: 115.
2 . الكهف: 61.
3 . الكهف: 63.
4 . الكهف: 73.
_____________
(301)
بقي هنا أمران:
الاَوّل: ما هي النظرية السائدة بين الاِمامية في مسألة سهو النبي (ص) ؟
الثاني: كيفية معالجة المأثورات الظاهرة في صدور السهو عن النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وإليك بيان الاَمرين على نحو الاِجمال:
1. الرأي السائد بين الاِمامية حول سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يظهر من الشيخ الصدوق أنّ إنكار سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شعار الغلاة والمفوّضة، قال في كتابه "من لا يحضره الفقيه": إنّ الغلاة والمفوّضة ينكرون سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ، لاَنّ الصلاة عليه فريضة كما أنّ التبليغ عليه فريضة.
ثم أجاب عنه بقوله: وهذا لا يلزمنا، وذلك لاَنّ جميع الاَحوال المشتركة يقع على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها ما يقع على غيره ... فالحالة التي اختص بها هي النبوة، والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة، لاَنّها عبادة مخصوصة، والصلاة عبادة مشتركة، وبها تثبت له العبودية، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجلّ من غير إرادة له وقصد منه إليه، نفي الربوبية عنه، لاَنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحي القيّوم، وليس سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كسهونا، لاَنّ سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا عن الشيطان، وليس للشيطان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاَئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ سلطان (إنّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَولَّوْنَهُ و الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشركون) (1)وعلى من تبعه من الغاوين.
____________
1 . النحل: 100.
_______________
(302)
ثم نقل عن شيخه محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (المتوفّـى 343 هـ) انّه كان يقول: أوّل درجة في الغلو نفى السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). (1)
وحاصل كلامه: انّ السهو الصادر عن النبي إسهاء من الله إليه لمصلحة، كنفي وهم الربوبية عنه، وإثبات انّه بشر مخلوق، وإعلام الناس حكم سهوهم في العبادات وأمثالها وأمّا السهو الذي يعترينا من الشيطان فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) منه برىء، وهو منزّه عنه، وليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل.
ومع ذلك كلّه، فهذه النظرية مختصة به، وبشيخه ابن الوليد، ومن تبعهما كالطبرسي في "مجمعه" على ما سيأتى؛ والمحقّقون من الاِمامية متفقون على نفي السهو عنه في أُمور الدين حتى مثل الصلاة.
قال المفيد: أقول إنّ الاَئمّة القائمين مقام الأنبياء :في تنفيذ الاَحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الاَنام معصومون كعصمة الأنبياء، وانّه لا يجوز منهم سهو في شىء في الدين، ولا ينسون شيئاً من الاَحكام، وعلى هذا مذهب سائر الاِمامية إلاّ من شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الاَئمة وقوع الكبائر والردّة عن الإسلام. (2)
وقال في شرحه على عقائد الصدوق: فأمّا نص أبى جعفر ـ رحمه الله ـ بالغلو على من نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم (الذين جوّزوا السهو على النبي) إلى التقصير، فليس نسبة هوَلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً، وانّما يجب الحكم بالغلو
____________
1 . من لا يحضره الفقيه: 1|232.
2 . أوائل المقالات: 35.
____________
(303)
على من نسب المحقّقين إلى التقصير سواء أكانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد ومن سائر الناس، وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد ـ رحمه الله ـ لم نجد لها دافعاً وهي ما حُكى عنه انّه قال: أوّل درجة في الغلو نفى السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاِمام (عليه السلام).
ثم إنّ الشيخ المفيد لم يكتف بهذا القدر من الرد بل ألّف رسالة مفردة في ردّه، وقد أدرجها العلاّمة المجلسي في "بحاره" .(1)
وعلى هذا الرأي استقر رأي الاِمامية، فقال المحقّق الطوسي: وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق ... وعدم السهو .
وقال العلاّمة الحلّي في شرحه: وان لا يصح عليه السهو لئلاّ يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه. (2) وقال المحقّق الحلّي في "النافع": والحق رفع منصب الاِمامة عن السهو في العبادة. (3)
وقال العلاّمة في "المنتهى" في مسألة التكبير في سجدتى السهو: احتج المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : قال: ثم كبّر وسجد .
والجواب: هذا الحديث عندنا باطل، لاستحالة السهو على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقال في مسألة أُخرى: قال الشيخ : وقول مالك باطل، لاستحالة السهو على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . (4)
____________
1 . راجع البحار: 17|122 ـ 129.
2 . كشف المراد: 195.
3 . النافع: 45.
4 . منتهى المطلب: 418 ـ 419.
_________________
(304)
وقال الشهيد في "الذكرى" : وخبر ذي اليدين متروك بين الاِمامية، لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السهو ، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه. (1)
هذا هو الرأي السائد بين الاِمامية، ولم يشذّ عنهم أحد من المتأخّرين سوى أمين الإسلام الطبرسي في "تفسيره" حيث قال: وأمّا النسيان والسهو فلم يُجْوّزوهما عليهم فيما يوَدّونه عن الله تعالى، وأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يوَدّ ذلك إلى إخلال بالعقل. (2)
وأمّا غيره، فلم نجد من يوافقه، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش. (3)
وقد قام العلاّمة المجلسي بإيفاء حق المقام في "بحاره" .(4)
2. كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
روى الفريقان أحاديث حول سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
روى البخاري في كتاب الصلاة، باب "من يكبر في سجدتى السهو" عن أبي هريرة قال: صلّـى النبي إحدى صلاتي العشية ... ركعتين، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي ذو اليدين، فقال: أنسيت الصلاة أم قصرت؟ فقال:
____________
1 . الذكرى: 215.
2 . مجمع البيان: 2|317.
3 . حق اليقين في معرفة أُصول الدين: للسيد عبد الله شبر: 1|124؛ مصابيح الاَنوار في حل مشكلات الاَخبار، له أيضاً: 2|134 ـ 142؛ تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى؛ منهج الصادقين: 3|393، و 5|346.
4 . لاحظ البحار: 17|97 ـ 129.
_____________________
(305)
لم أنس ولم تقصر ، قال: بلى قد نسيت . فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبّـر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبّـر، ثم وضع رأسه فكبّـر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبّـر . (1)هذا ما رواه أهل السنّة كما رووا غيره أيضاً.
أمّا الشيعة فقد رووا أحاديث حول الموضوع نقلها العلاّمة المجلسي في "بحاره". (2) ولا يتجاوز مجموع ما ورد في هذا الموضوع عن اثنى عشر حديثاً، كما أنّ أخبار نوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الصبح لا تتجاوز عن ستة أحاديث.(3)
لكن الجواب عن هذه الروايات بأحد أمرين:
الاَوّل: ما ذكره المفيد في الرسالة المومأ إليها من أنّها أخبار آحاد لا تثمر علماً، ولا توجب عملاً، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين. (4)
الثاني: ما ذكره الصدوق من التفريق بين سهو النبي وسهو الآخرين بما عرفت، والله العالم بالحقائق.
ثم الظاهر من السيد المرتضى، تجويز النسيان على الأنبياء حيث قال في تفسير قوله سبحانه: (لاَ تُوََاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) (5): إنّ النبي إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يوَدّيه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضى التنفير عنه، فأمّا فيما هو خارج عمّـا ذكرناه، فلا مانع من النسيان.(6)
____________
1 . صحيح البخاري: 2|68.
2 . راجع البحار: 17|97 ـ 129.
3 . راجع البحار: 17|100 ـ 106.
4 . البحار: 17|123.
5 . الكهف: 73.
6 . تنزيه الأنبياء: 87.
______________
(306)
وممّن وافق الصدوق من المتأخّرين، شيخنا المجيز: الشيخ محمد تقي التستري، فقد ألّف رسالة في الموضوع نصر فيها الشيخ الصدوق وأُستاذه ابن الوليد، وطبعها في ملحقات الجزء الحادي عشر من رجاله "قاموس الرجال" والرسالة تقع في 24 صفحة.
وأمّا العلاّمة المجلسي، فالظاهر منه التوقّف في المسألة قال: إعلم أنّ هذه المسألة في غاية الاِشكال، لدلالة كثير من الآيات (الآيات التي يُستظهر منها نسبة النسيان إلى بعض الأنبياء غير النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قدّمناها) والاَخبار على صدور السهو عنهم، وإطباق الاَصحاب إلاّ ما شذّ على عدم جواز السهو عليهم مع دلالة بعض الآيات والاَخبار عليه في الجملة وشهادة بعض الدلائل الكلامية والاَُصول المبرهنة عليه، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطراب وقبول الآيات للتأويل، والله يهدي إلى سواء السبيل. (1)
ثم إنّ الشيخ المفيد وصف القائل بصدور السهو منه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشيعة بالمقلّدة، وأراد: الصدوق وشيخه ابن الوليد. ولكن التعبير عنهما بالمقلّدة غير مرضي عندنا، كيف؟! ويصف الاَوّل الرجالي النقّاد النجاشي بقوله: أبو جعفر، شيخنا وفقيهنا، ووجه الطائفة بخراسان، وكان ورد بغداد سنة 355 هـ ، وسمع منه شيوخ الطائفة، وهو حدث السن. (2)
ويقول في حق شيخه: أبو جعفر، شيخ القمّيين، وفقيههم، ومتقدّمهم، ووجههم، ويقال: إنّه نزيل قم، وما كان أصله منها، ثقة، ثقة، عين مسكون إليه. (3)
____________
1 . البحار: 17|118 ـ 119.
2 . رجال النجاشي: 2|311 برقم 1050.
3 . رجال النجاشي: 2|301 برقم 1043.