لا يخفاكم بأن تعاليم الأئمة (عليهم السلام) تؤكد على أهمية وتعظيم هذه الملحمة التاريخية الإسلامية، كما أن صبَّ اللعن على ظالمي آل البيت (عليهم السلام) يمثل توجيهاً لهتافات الشعوب المزمجرة لتصب على الطواغيت والظلمة على مر التاريخ وإلى الأبد.
ولا يخفاكم بأن صب اللعنات وإطلاق الصرخات المستنكرة لظلم وجور بني أمية (لعنة الله عليهم) ــ رغم انقراضهم وانتهائهم إلى جهنم ــ تعد صرخةً ضد الظلمة والطواغيت الحاكمين في العالم، وإحياء وإدامة هذه الصيحة الهادرة من شأنه تحطيم الظلم ومحق الجائرين.
*****
إن البكاء على الشهيد بعد إحياءٍ للنهضة وإدامة لها، والرواية الواردة "من بكى أو أبكى واحداً فله الجنة ومن تباكى فله الجنة"[1] إنما تشير إلى أن حتى المتباكي يعمل عملاً من شأنه إدامة النهضة وحفظها، وهذا يصون نهضة الإمام الحسين (سلام الله عليه) ويديمها.
*****
لو بكينا على الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الأبد فإن ذلك لن ينفعه شيئاً، بل ينفعنا نحن، وفضلاً عن نفعه لنا في الآخرة، فإن له في الدنيا من المنافع ما ترون، فلا يخفاكم ما له من الأهمية من الناحية النفسية والدور في تأليف القلوب وانسجامها.
*****
لا تظنوا أن هدف هذه المآتم والمواكب وغاياتها تنتهي عند حدّ البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام)، فلا سيد الشهداء (عليه السلام) بحاجة إلى هذا البكاء، ولا هذا البكاء ينتج شيئاً في حد ذاته. إنما الأهم من كل هذا هو أن هذه المجالس تجمع الناس وتوجههم إلى وجهة واحدة، ففي أيام محرم وصفر وخصوصاً في أيام عاشوراء نرى كيف يتجه ثلاثون أو خمسة وثلاثون مليون شخص باتجاه واحد.
وليس عبثاً أن يطالب بعض أئمتنا (عليهم السلام) بأن تقام المراثي عليهم ــ من بعد وفاتهم ــ من على المنابر، وليس عبثاً أيضاً أن يقول أئمتنا: إن من بكى أو أبكى أحداً فله الجنة ومن تباكى فله الجنة.
القضية ليست قضية بكاء فحسب، ليست قضية تباكي فحسب ــ إنما هي قضية سياسية، فأئمتنا (عليهم السلام) يريدون ــ وعبر بصيرتهم وعمق رؤيتهم الإلهية ــ أن يوحدوا صفوف الشعب ويعبئوه بالطرق المختلفة كي يصان من الأذى.
*****
ورد في الرواية أن أحد أئمتنا (عليهم السلام) (ويبدو أنه الإمام الباقر (عليه السلام)، لا أذكر جيداً) أوصى بأن يستأجر له من يرثيه بعد وفاته في منى لمدة عشرة أعوام[2]. فهل أن الإمام الباقر (سلام الله عليه) كان بحاجة إلى ذلك؟ وماذا أراد الإمام الباقر (عليه السلام) أن يحقق من هذا البكاء؟ ولماذا في منى؟ وأي طراز من البكاء هذا؟ إن المهم في القضية هو الرثاء في منى، فحين يجتمع المسلمون في موسم الحج من كل أنحاء العالم في منى ويجلس شخص ليرثي الإمام الباقر (عليه السلام) ويوضح جرائم مخالفيه وأعدائه وقاتليه ولمدة عشر أعوام ويستمع الناس له، فإن ذلك يؤدي إلى توجيه اهتمام الناس نحو هذا المنهج وتقويته، وإثارة موجة من السخط والنقمة ضد الظالم ستؤدي إلى إضعافه.
لقد ضحينا بشبابنا، وضحت كربلاء بالشبان، وعلينا أن نحافظ على تلك التضحيات، ولا تظنوا أن الأمر مجرد بكاء وحسب، أبداً فالقضية سياسية اجتماعية، ولو كان الأمر مجرد بكاءٍ فقط فَلِمَ التباكي؟
وأساساً ما حاجة سيد الشهداء (عليه السلام) إلى البكاء؟ إن تأكيد الأئمة على أن تقام التجمعات والبكاء إنما يستند إلى ما لذلك من شأن في حفظ كيان الدين وصيانة المذهب.
*****
إن قيمة مجالس العزاء لم تدرك إلاّ قليلاً، ولربما أنها لم تدرك تماماً من قِبَلْ البعض، فالروايات التي تقول: إن كل دمعة تذرف لمصاب الحسين المظلوم (عليه السلام) لها من الثواب كذا وكذا[3]، وتلك الروايات التي تؤكد على عظم ثواب من بكى أو تباكى لم تكن من باب أن سيد المظلومين (عليه السلام) بحاجة إلى مثل هذا العمل، ولا لغرض إعطاء هذا الأجر والثواب للمسلمين بالرغم من أنه محرز و لاشك فيه، ولكن لِمَ جُعِلَ كل هذا الثواب العظيم لمجالس العزاء، ولماذا يجزي الله ــ تبارك وتعالى ــ من بكى أو تباكى بمثل هذا الثواب والجزاء العظيم؟
الجواب على ذلك يتضح تدريجياً من خلال النظر إليها من الناحية السياسية وسيعرف ذلك شيئاً فشيئاً فيما بعد إن شاء الله. إن هذا الثواب المعطى للقيام بهذه الأعمال مبعثه ــ وعلاوة على البعد العبادي والمعنوي لها ــ البعد السياسي، وهذه القضية تتضح وتتبلور أكثر حينما ندرس الظرف السياسي الذي صدرت فيه.
فقد كانت هذه الفرقة الناجية ــ حينذاك ــ مبتلاة بالحكم الأموي وبالحكم العباسي الأسوأ، وكانت فئة قليلة مستضعفة تواجه القوى الكبرى والسلطات الحاكمة.
وطوال التاريخ، كانت مجالس العزاء هذه وسائل تنظيمية منتشرة في أرجاء البلدان الإسلامية وفي إيران التي صارت مَهْداً للإسلام والتشيُّع وأخذت تتحول تدريجياً إلى وسائل لتحقيق الوقوف بوجه الحكومات التي كانت تجيء آنذاك هادفةً القضاء على الإسلام، وعلى أسسه الروحانية، وقد أضافت هذه المجالس والمواكب تلك الحكومات وأرعبتها.
*****
قد يسمينا المتغربون بــ (الشعب البكّاء) ولربــما يقتنع البعض منا بتحقق هذا من أن الثواب المعطى لمن يذرف دمعةً من عينه، والثواب المترتب على إقامة مجلس للعزاء، ولا يستطيعون أن يتعقلوا الجزاء المعد لقراءة الأدعية والثواب المعد لمن يقرأ دعاءً ذا سطرين مثلاً.
إن المهم في كل هذه الأمور، إنما هو البعد السياسي لهذه الأدعية وهذا التوجه إلى الله وتمركز أنظار الناس إلى نقطة واحدة وهدف واحد، وهذا هو الذي يعبئ الشعب باتجاه هدف أو غاية إسلامية معينة، فمجلس العزاء لا يهدف إلى تحقيق البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) والحصول على الأجر، وطبعاً إنّ هذا حاصل وقائم، ولكن الأهم من ذلك هو البعد السياسي للأمر، وهو ما خطط له أئمتنا (عليهم السلام) في صدر الإسلام كي يدوم حتى النهاية، وهو الاجتماع تحت لواء واحد وبفكر واحد، ولا يمكن لأي شيء آخر أن يحقق ذلك بالقدر الذي يفعله عزاء سيد الشهداء (عليه السلام).
إن تلك الفئة من رواد المساجد ممن يسمعون الخطابة ثم يغادرون المجلس بمجرد وصول الخطيب إلى ذكر المصيبة، إنما يفعلون ذلك لأنهم لا يدركون أهميتها. فذكر المصيبة والمراثي هو الذي صان المحراب وحفظ المنبر، ولولاها لما تسنى للخطيب أن يطرح ما يريده من المواضيع، ولولاها لما بقي للمنبر وجود يذكر.
ينبغي لنا أن نبكي على شهيدنا ونصرخ ونعبئ الناس بالوعي واليقظة. وعلينا أن نُذَكِّرَ الناس بهذه النقطة وهي أن الثواب هو ليس كل ما نريده ونرجوه فقط، وإنما نريد أن نتقدم ونتطور.
وحتى سيد الشهداء (عليه السلام) لم يكن كل هدفه ــ عندما نهض وقُتِلْ ــ أن يحصل على الثواب فحسب، إنما أراد إنقاذ الدين واستهدف إحياء الإسلام وإنقاذه.
وأنتم أيضاً عندما تقرؤون المراثي وتطرحون المواضيع وتذكرون المصائب وتدفعون الناس للبكاء، اجعلوا هدفكم صيانة الإسلام والدفاع عن هيبته ومجده. إننا نريد أن نحافظ على الإسلام بهذه المراثي وبهذا البكاء وتلاوة الشعر والنــثر، نريد أن نصونه كما حفظه لنا الآخرون حتى الآن. ينبغي أن تقال هذه النقطة للناس كي يفهموها وهي أن قراءة المراثي وذكر المصائب ليس هدفه الإبكاء فحسب، وإنما البكاء وسيلة حُفِظَ بها الدين، بل حتى التباكي يثاب المرء عليه، لماذا؟ لأنّه هو الآخر يساعد على صون الدين.
*****
ولو كان هؤلاء يعلمون حقيقة الأمر ويدركون أهمية هذه المجالس والمواكب وقيمة هذا البكاء على الحسين (عليه السلام) والأجر المعدّ له عند الله لما قالوا عنّا: الشعب البكّاء، بل لقالوا: شعب الملاحم.
لو فهموا الآثار التي تركتها أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) الذي كان يعيش تحت ظل حكومةٍ مستبدةٍ جائرةٍ، تفرض سلطتها على كل مناحي الحياة، والذي كان قد فقد لتوّه كل أهل بيته وكيف تمكنت من القيام بدور المعبئ للشعب، لو فهموا ذلك لما قالوا لنا ما هي جدوى هذه الأدعية.
ولو كان مثقفونا يدركون الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذه المجالس وهذه الأدعية والأذكار والنوائح لما قالوا لنا لِمَ تفعلون كل هذه الأمور وتتمسكون بها.
*****
إن أولئك الذين يلقنون شبابنا الآن بالقول: (إلى متى البكاء ومجالس التعزية والرثاء تعالوا ننظم التظاهرات والمسيرات) لم يفهموا ما هي التعزية وكيف أنها ساهمت في إبقاء هذا الأساس وهذا الكيان قائماً حتى الآن، لا يعلمون ولا يمكن إفهامهم بذلك.
إنهم لا يدركون أن هذه التعزية والمراثي تصنع الإنسان وتبني شخصيته، ولا يَعُونَ أنها تبليغ ضد الظالم وضد الطاغوت وما يجب أن يجري فيها هو تبيان الذي لحق بالمظلوم، وإنما ينبغي أن تبقى هكذا حتى النهاية.
____________________________________________________________________________________
[1] بحار الأنوار: ج44، ص288.
[2] روي أن الإمام محمد الباقر (ع) أوصى بــ 800 درهم لإقامة المآتم ومجالس العزاء. وقال الإمام الصادق (ع): ما معناه (لقد قال لي أبي يا جعفر ليوقف من مالي ويؤجر به من يرثني عشر سنوات في منى في مواسم الحج ويبكي عليَّ ويجدد المآتم لإظهار مظلوميتي). راجع جلاء العيون للمجلسي: ص692.
[3] ورد عن الإمام الحسين (ع) قوله: "ومن بكى أو أبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة". راجع بحار الأنوار: ج44، ص288.
source : اهل بیت