أن الموضوعية في تفسير القرآن شرط أساسي وليس شرطاً إحترازياً، فهو أساسي لتلقي معاني القرآن كما أرادها الله تعالى، وهو إحترازي من النزوع الى الهوى، والاغراق في الخيال، والتعرض لشطحات الميول، فالملتقي يريد معرفة هذا النص على حقيقته والغوص الى أعماقه، والمفسر الحق هو الباحث الذي يحقق هذه الرغبة الملحة، وينهض بهذه المهمة الصعبة، متطلعاً الى الاسرار القرآنية ناصعة أنيقة، ليحوز رضا الله تعالى، ويظفر بإقبال الناس، ويبلغ هدفه الأسنى.
وقد يبدو هذا الملحظ - أول الأمر- تعجيزياً وليس الأمر كذلك، فان قيل ما السبيل في تفسير الايات التي يستفيد منها أهل المذاهب أدلتهم وأصول عقائدهم فيجاب: إن سرد ذلك مجرداً عن نزعة التعصب لا يعتبر من هذا الباب، وعرض جميع ذلك باعتباره منبعاً ثراً من منابع التشريع الاسلامي، لايعني جرّ القرآن الى ما ليس منه، بل هو أمر يدعو الى الأعتزاز كونه ثروة علمية تضاف الى التراث،ولكن الأمر يختلف جذرياً اذا سردت الصفحات وسودت الأوراق على أن المراد هذا دون ذاك تنكيلاً بمذهب، أو إعتداداً برأي دون برهان، فهذا ما لا يسمح به أدبياً وموضوعياً في تفسير القرآن العظيم، لأن هذا الملحظ كشف عن مراد نفسه، وتفسير القرآن كشف عن مراد الله تعالى، وهذا لايمانع أن يختار رأياً يمثل وجهة نظره بعد التمحيص وإعمال الفكر والاجتهاد، يؤكد فيه ما يستفيده بالذات دون قطع على الله أن هذا هو المراد دون غيره من كلام الله، واذا تحرج المفسر في هذا الاطار، والتحرج هنا ضرورة قائمة كان ما يتوصل اليه من التفسير دليلاً على الكشف والعرض والبيان، وليس مجالاً للهوى والمذهبية، وبذلك فلا يعد متعدياً لحدود التفسير الموضوعي، وانما يعتبر عارضاً لبعض الوجوه المحتملة دون قطع بأحدها، إذ قد يكون المراد الحقيقي غيرها، الا أنه قد اجتهد ضمن الضوابط والموازين العقلية أو الفنية او اللغوية بإختيار الأفضل، أو بإثبات الأظهر.
وقد تكون هذه المهمة عسيرة لاتتهيأ، وأداؤها صعباً لايركب، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن نظرة فاحصية الى ما أصاب المسلمين من الخور والأنهيار تدعو الى ضرورة تعبيد هذا المنهج، وتخفف من وطأة مشاقه ومتاعبه، فقد شجعت لغة الأختلاف المتعمد والهوى المتبع ألسنة المستشرقين وأعداء الاسلام للنيل من كرامة الاسلام وعظمة القرآن، وكان الطريق أمامهم سهلاً وميسراً، إذ إستغلوا هذا الخلاف لنفث سمومهم، ونشر دعاواهم الباطلة ضد الاسلام والمسلمين من جهة، وضد القرآن الكريم من جهة ثانية حتى تجرأ بعضهم فذهب الى القول بتحريف القرآن نتيجة نقطة الضعف هذه في عدم الموضوعية الفكرية للتفسير، وعلى هذا فالالتزام بالموضوعية تنفي هذه الشبه من جهة، وتجعل المفسر خالص العمل لوجهه تعالى من جهة أخرى، وتلخص تفسير القرآن من التبعية من جهة ثالثة، وعند ذاك يجزم المتلقي للتفسير بسلامة قصد المفسر ونبل غايته، فيستقبل ذلك استقبالا تلقائياً يحبب إلى ذائقته القرآن، ويعنيه على الاستجابة الهادفة لأغراضه ومراميه.
إن لغة التهجم والأتهام التي نلمسها في كثير من أقوال المفسرين مع القطع بأنها لا تجدي نفعاً، ولا تغير معتقداً، ولا تثني إنساناً عن رأي يتبناه: فإنها لا تمثل القرآن، وأخلاق القرآن، ولغة القرآن، بل القرآن نفسه يشن حرباً شعواء على هذا النوع من الاسفاف واللامبالاة بشعور الاخرين مخطئين كانوا أو مصيبين، فضلاً عن كونه يدفع بالشباب الى الهروب من حضيرة الدين، والتنكر لمبادئ القرآن، فتحتضنه البدع، وتتلاقفه الضلالات.
ومزية التفسير الموضوعي: أن يلتقي الهدف الديني بالهدف الفني، ففي الوقت الذي نحافظ فيه على جوهر القرآن من التمحل، نحافظ أيضاً على حقيقة اللغة من الضياع، فتتجمع من هذا وذاك قوة متجانسة ترعى القرآن واللغة معاً، وتحوطهما بسياج من التحرز والحفاظ.
لقد سبق في علم الله تعالى شرف اللغة العربية، فشرّف بها نزول القرآن بلغتها، فبقاء العربية منوط ببقاء القرآن، وبقاء القرآن منوط بسلامة تفسيره، وسلامة تفسيره مقترنة بآداب المفسر، وآداب المفسر كما تقتضي الاحاطة والحذر واليقظة والعلم، فكذلك تقتضي الموضوعية، والموضوعية أساس التفسير، وما سوى ذلك فأهواء تتبع، ومذاهب تبتدع.
أن ما يكون بهذا السبيل يمكن إجمال معالجة بالمؤشرات الآتية على سبيل المثال والنموذج لا الحصر والاستقصاء.
source : محمد حسين الصغير