لايمكن في هذه العجاله الا ان نعالج بعض المباحث العامه و الاصوليه فيما يتعلق بموضوع «الاخلاق في المنظور القرآني». لذلك فقد اخترنا الآيات المتعلقة بالموضوع من سوره «الشمس» و التي اشرنا اليها في بحثنا السابق فيما يختص بفلسفه الاخلاق.
«التقوى » في قبال «الفجور»
يستعمل في كل نظام اخلاقي مفهومان متضادان، الاول يدل على الاخلاق الممدوحه، و الآخر يدل على الاخلاق المذمومه، و اللفظ المشترك بين هذه كلها هو ما يفيد الصالح و الطالح، غير ان هناك احيانا الفاظا ذوات معان اعمق و ادل من مجرد الصالح و الطالح او الحسن و السيء، ففي هذه الآيات الشريفه نجد «الفجور» و «التقوى» مره، و نجد «التزكيه» و «التدسيس» 1مره اخرى للدلالة على الصالح و الطالح. ان دلاله معنى «الفجور» و «التقوى» اعمق من دلاله «الشر» و «الخير» في الاخلاق، فاللفظ الاول يشير الى ما يدعو الى تجنب الشر، و ذلك لانه يكون السبب في ضياع الانسان و خروجه عن حدود الفطره، في قبال القيام باعمال الخير و ما لها قيم اخلاقيه ايجابيه، فان ذلك فضلا عن كونه لايضيع الانسان و لايخرجه عن فطرته، فانه يحافظ عليه ايضا.
و في آيه اخرى ثمه تعبير آخر غير «الفجور» و «التقوى» اذ تقول: «قد افلح من زكيها» (الشمس/9) و مفهوم «التزكيه» هنا يحمل المعنى ذاته، اقصد ان مصداقيهما واحد، على الرغم من اختلاف مفهوميهما، ان ما هو «تقوى » يكون «تزكيه » ايضا، و ان من «الفجور» ما هو «تدسيه » النفس ايضا، الا ان لهذا المفهوم معاني اوسع تكون قادره على تحريض المزكي على العمل، و ذلك لان القيام بالاعمال الصالحه الاخلاقيه فضلا عن كونه تقوى و يقي النفس من الاخطار و التلوث، فانه كذلك يستوجب التطور والنمو ايضا. فالتزكيه تفيد هذا المعنى اكثر من «التقوى ». اما القيام بالاعمال الطالحه السيئه فانه يؤدي الى نفوذ عنصر مضاد للفطره الى ذات الانسان، و يكون كالسم الذي اذا مس الحلوى و نفذ فيها افسدها و تسبب في خلق المشكلات.
تقديم ذكر «الفجور» على «التقوى »
عند قراءه الآيه «فالهمها فجورها و تقواها» يتبادر للذهن السؤال التالى: لماذا جاء لفظ «الفجور» قبل «التقوى » (الشمس/8) ثم في الآيه التي بعدها «قد افلح من زكاها و قد خاب من دساها» (الشمس 9- 10) حيث يرد ذكر «التزكيه» قبل «التدسيه » فلماذا؟ ان السياق الذي جاء في الآيه قبلها كان يقتضي ان يقال «قد خاب من دساها و قد افلح من زكاها» اذ ان ما يقابل «الفجور» هو «التدسيه » فلماذا لم يراع هذا الترتيب في الآيه الثانيه؟ لماذا استعمال المشوش بدلا من اللف و النشر المنظمين؟ ما النكته الخفيه في هذا الامر؟
ان طبيعه الانسان العادي تستدعي ان تنمو فيه الغرائز الحيوانيه اولا فتكون الميول الماديه و ما يمكن ان يكون مصدرا للشر و الفساد و التدسيه، بالطبع، اصل الغريزه الحيوانيه ليس شرا. ان الحاجة الى الطعام و الى الجنس ليست في حد ذاتها شرا من حيث التكوين، انما الافراط و التفريط فيها هو الشر و هو المذموم، و ان استخدامها في غير محلها يوجب التدسيه، و هكذا نلاحظ ان الدوافع الماديه تظهر في الانسان قبل الدوافع المعنويه و الالهيه. ففي الطفل هذه الغرائز هي التى تظهر اولا، ثم تتسع شيئا فشيئا و اولى هذه الغرائز هي غريزه الاكل و الشرب، ثم اللعب، و من ثم الميل نحو الجنس الآخر. في هذه الفتره، التي تسمى مرحله البلوغ، يظهر في الانسان التوجه نحو المعنويات و عباده الله تعالى، الا ان هذا الميل لايتفتح ذاتيا، كالغرائز الحيوانيه، بل انها تحتاج الى التربيه و العنايه، في الوقت الذي لاتحتاج فيه الغرائز الحيوانيه الى مثل تلك التربيه و العنايه، و انما هي سريعه التطور قبل غيرها من الغرائز و تنشط و تنمو و تتطلب الاشباع. فاذا لم تترب بالتزكيه و التطهير فانها قد تجر الانسان الى الفساد.
و عليه لما كانت «الفجور» من نتائج الغرائز الحيوانيه التي تظهر قبل الغرائز الاخرى، فقد وردت بالترتيب نفسه في القرآن الكريم، على الرغم من ان الغرائز الحيوانيه لاتستلزم بالضروره ان تكون هي وحدها المؤديه الى الفجور، و لكنها قد تكون من اسبابها 2قد يتساءل سائل: لماذا يرد الفطري والطبيعي مترادفين، مع ان الفطري يكون في طريق الخير؟ في الجواب يمكن القول ان ذلك يعود الى تعدد الاصطلاحات، فقد يستعمل الفطري في قبال الاكتسابى، فعندما نقول هذا امر فطري فاننا نعني بذلك انه ليس اكتسابيا. و بناء على ذلك فان الغرائز كلها فطريه، سواء اكانت من الامور الفطريه الانسانيه ام من الغرائز الحيوانيه. كما ان الغرائز، او الدوافع الباطنيه، المتساميه التي تسمو على الغرائز الحيوانيه، توصف بالفطريه ايضا. كثيرا ما نلاحظ ان المرحوم الشهيد مرتضى المطهري (ره) يستعمل لفظ الفطره بمعناها الثاني كاصطلاح خاص، و الا فان المعنى الاول هو الاصل في الفطره. اما القول بان الميل نحو الخير و الميل نحو الشر فكلاها فطرى، انما يراد به انهما ليسا اكتسابيين، و ان الله قد جعلها في طبيعه الانسان، الذي قد يميل نحو الخير او نحو الشر.
اذا اخذنا (فالهمها) بالمعنى الثانى، فذلك يعني ان هذه الدوافع الفطريه موجوده في طبيعه الانسان، اي الامور التي يرى الاسلام انها تسير بالانسان نحو الفجور و التحلل. و لادراك هذا المعنى في الفجور يمكن الرجوع الى الآيه الكريمه: ايحسب الانسان ان لن نجمع عظامه، بلى قادرين على ان نسوي بنانه، بل يريد الانسان ليفجر امامه (سورة القيامة/3- 4) و هو يجيب بنفسه رادا و يقول: كلا، هؤلاء لايقولون ان الله ليس بقادر، اذ ان من يعرف الله و يقبله، يعلم ان قدره الله ليست محدوده، فلماذا اذن ينكر المعاد؟ بلى قادرين على ان نسوي بنانه نعم نحن قادرون على احياء الانسان و ان نعيد حتى الخطوط في انامله سويه كما كانت. اذن فسبب عدم قبول المعاد و انكاره سبب نفسى. انه لايريد ان يؤمن بذلك، لان عقله ينكره، بل ان عقله يعلم ذلك، و لكن ارادته لاتريده يريد الانسان ليفجر امامه. انه يريد ان يكون حرا من دون ان تعيق حياته حدود و موانع، يريد ان يفعل ما يشاء. و هذا هو التحلل بعينه. ان من لايلتزم في حياته حدا و لايضع قيدا على سلوكه، يكون ادعى الى انكار الاسس العقائديه و ذلك لان من يؤمن بيوم القيامه و الحساب لايمكن ان يتحلل من الحدود و القيود، لانه يعلم انه سوف يحاسب على دقائق اعماله، و ان هناك ثوابا و عقابا على ذلك، و عليه فانه يكون حذرا و يراقب اعماله، و يلتزم الحدود اكثر من غيره. اما الذي لايرغب ان يكون مقيدا ملتزما، فانه ينكر منذ البدايه اصل الموضوع و يقول: ليس ثمة قيامه اطلاقا.
اما سعيد و اما شقي
ان ما يلفت النظر في هذا الامر هو ان هذه الآيات تلقي مزيدا من الضوء على اهميه تزكيه النفس و تهذيب الاخلاق. اننا في العاده نتصور ان مساله تهذيب الاخلاق تاتي في الدرجه الثانيه من الاهميه، كالمستحبات تقريبا و هذا ما يتصوره المسلمون و من لهم علم بالكتاب و السنه. اما غير هؤلاء فامرهم مختلف. اننا نحسب تزكيه الاخلاق و تهذيب النفس تاتيان في المرتبه الثانيه، اى ان الانسان بعد ان يعنى بشؤون حياته و معيشته، من المستحسن ان ينشغل بالامور الاخلاقيه و التزكيه و التهذيب، و اما اذا لم يتح له الوقت الكافي لذلك، فان له امورا اوجب، كما ان عليه ان يهتم بشؤون الحياه.
بيد ان لهذه الآيه تعبيرا عجيبا لايترك امام الانسان غير طريقين اثنين، فهي تقول: ايها الانسان ان هذه النفس تقع تحت ارادتك و اختيارك، و عليك ان تنتخب طريقا من اثنين: فاما تزكيتها و اما تدسيسها، و لا ثالث لهما. فاذا انتخبت التزكيه فانت ممن «قد افلح » و تلك السعادة و الفلاح. اما اذا اخترت الطريق الثانى، فانت ممن «قد خاب » فاقطع املك من المستقبل و من الوجود، اذ لاسعادة لك بهذا الاختيار.
علاقة الاخلاق بالعقيدة
اذن فتزكيه النفس ليست قضيه قليله الاهميه حتى لايكون لوجودها او عدمه اهميه تذكر، بل يستفاد من هذه الآيه ان «التزكيه » على راس اهم قضايا الانسان الحياتيه، و ذلك لان العلاقه بين «الاخلاق » و «العقيده » علاقه قويه لاتنفصم. عندما تكون «العقيده » من اهم الاسس في الاسلام، كذلك تكون «الاخلاق » من اهم الاسس الحياتيه في الاسلام ايضا. و الا هم من هذين هي «العقيده » اولا و من ثم «الاخلاق ». و لكننا اذا تمعنا في الامر نلاحظ اننا اذا لم نزك اخلاقنا، فقد نفقد عقيدتنا ايضا.
هذه حقيقه كشف القرآن عنها الحجاب. اننا لانستطيع ان نصل الى ذلك من دون الاستعانه بالقرآن الكريم، بل قد نتصور ان هناك حاجزا بين الاخلاق و العقيده، اذ ان موضع العقائد هو العقل و القلب و الروح، و للاخلاق و الصفات النفسيه و كما لاتها مكان آخر. اما السلوك فظاهر علينا. فقد نقول ان هذا القسم يخص العقائد و علم الكلام، و هذا القسم الآخر يخص الاخلاق. و هناك الفقه و امثاله و نقول انها لارابط يربط بينها، و لكننا عندما نرجع الى القرآن و الروايات الوارده في تفسير آياته نجدان بعض ضروب الخلق و العادات و الطبائع تحول بين المرء و الايمان. فمثلا، عندما قدم نصارى نجران للمباحثه مع الرسول (ص) بلغ الامر بينهم الى حد المباهله، و لكنهم امتنعوا عن المباهله.
عندئذ قال الرسول (ص) ما مفاده: ان ما منع هؤلاء من قبول الاسلام و نبذ المسيحيه ليس عدم ادراكهم احقيه الاسلام، بل هو العلاقه التي تربطهم بشرب الخمور و اكل الخنازير، لانهم اذا آمنوا بالاسلام فعليهم ان يمتنعوا عن كل ذلك. فهذه العلاقه منعتهم من الاقبال على الايمان بالاسلام.
يتبين من كلام رسول الله (ص) ان ليس ثمة حد بين الاخلاق و العقائد، اي ليس الامر ان تحصل العقائد عن طريق العقل و الدليل و حدهما، و تبقى الاخلاق خاصه بالملكات النفسيه فحسب، بل ان هناك تعاملا بينهما، فالخلق الحسن يمكن ان يكون ارضيه صالحه لقبول الايمان، مثلما كان بعض الناس يؤمن بمجرد رؤيه امارات الصدق على رسول الله (ص)، و هذا لحسن اخلاقهم و حميد صفاتهم. يقول القرآن فيما يتعلق بالمسحيين الذين كانوا يسرعون الى الايمان: لتجدن اقربهم موده للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بان منهم قسيسين و رهبانا و انهم لايستكبرون. و اذا سمعوا ما ا نزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. (سوره المائده/82- 83) هكذا القرآن يثني عليهم.
ان ما يجعل النصارى اقرب الى الاسلام و اظهار الود لهم و اسرع الى قبول الحق، هو ان منهم علماء لايركبهم التكبر، بل هم متواضعون، فاذا لم يؤمنوا يومئذ فانما ذلك لان الحقائق لم تنكشف لهم، و الا فانهم ليسوا معاندين، على النقيض من اليهود الذين هم من اهل العناد و فيهم روح التكبر و الانانيه و التعاظم، فهم يحسبون انهم شعب الله المختار، لذلك يقول القرآن فيهم: لتجدن اشد الناس عداوه للذين آمنوا اليهود (سوره المائده/82) بهذا البيان يتضح التفاعل بين الاخلاقيات و الاعتقادات، فقد سبق القول بان ما هيا لايمان النصارى هو تواضعهم، و دليل جحد اليهود الاسلام هو تكبرهم و انانيتهم.
كما ان القرآن يرى ان سبب كفر ابليس و طرده من رحمه الله هو اخلاقه الذميمه، و ليس لانه لم يكن يدرك سبب السجود لآدم. يؤكد القرآن ان منشا كفر ابليس هو تكبره: استكبر و كان من الكافرين (سوره البقره/34) اذن، فالاخلاق الذميمه يمكن ان تحول دون حصول الايمان، بمثلما ان هذه الصفات الذميمه يمكن ان تقضي على الايمان. فثمه اناس مؤمنون عملوا الصالحات، و حضروا في ميادين الجهاد، و خاطروا بارواحهم، الا ان صفات سيئه كانت فيهم من قبل او حصلت لهم بعندئذ، سلبت منهم الايمان.
يقول الله تعالى في المنافقين: فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون (سوره التوبه/77) كان هؤلاء قد اسلموا و آمنوا و عاهدوا الله على انه اذا افاض عليهم من خيره فانهم سوف ينفقون في سبيله. فلما افاض عليهم و استغنوا، نسوا ما عاهدوا الله عليه و نقضوه، فلم ينفقوا، فكان نقضهم هذا لعهدهم سبب زوال ايمانهم و ظهور النفاق مكانه في قلوبهم، و ان يبقى هذا النفاق في قلوبهم حتى يوم القيامه، و ذلك بسبب الكذب، و خلف الوعد، و نقض العهد، مما ازال الايمان من قلوبهم و اصابهم بالنفاق.
اذن، فان تزكيه الاخلاق ليست قضيه هينه فاذا ما غفل الانسان عن رؤيه عيوبه، و لم يعن باصلاحها، فان تساهله هذا او تسامحه قد يؤدي به الى الشرك و الكفر و الالحاد.
و عليه، فان توكيد القرآن «الفلاح » الى هذا الحد و حصره في «التزكيه »: قد افلح من زكاها يدل على ان الامر اهم مما نظن، اذ ان دور الاخلاق في حياه الانسان دور حياتى، فاذا لم يهتم المرء بذلك و بازاله التلوث عن اخلاقه، فان مستقبله يكون محفوفا باشد الاخطار.
ما النفس و ما الروح؟
ثمه سؤال يقول: ما المقصود بالنفس في الآيه: «و نفس و ما سواها فالهمها فجورها و تقواها»؟ ترد لفظة «نفس » في القرآن بعده معان، فمره يقول: ان النفس لاماره بالسوء الا ما رحم ربي (سوره يوسف/53)، و في موضع آخر يقول: يا ايتها النفس المطمئنه ارجعي الى ربك (سوره الفجر/27) فهل «النفس » حسنه ام سيئه في نظر القرآن؟ و هل النفس بمعنى الروح ام هي في قبال العقل؟
في كتب الاخلاق كلام على الصراع بين النفس و العقل، فيقال ان ثمه صراعا بين النفس و العقل في الانسان، فتاره النفس هي الغالبه و تاره العقل هو الغالب. يقولون ان «النفس » شي ء في قبال «العقل ». اما المشتغلون بالفلسفة فيرون النفس في هذه الآيه و امثالها هي تلك النفس المعروفة في الفلسفه، ففي الفلسفه فصل بعنوان «علم النفس »، و بموجب المعنى الفلسفي للنفس فهي «الروح ». فهل «النفس » في هذه الآيه تعني «الروح » ايضا، و هل في المصطلح القرآني «النفس » و «الروح » شي ء واحد ام لا؟
قبل الاجابه عن هذه الاسئله لابد من الاشاره الى ان بعضهم يعتقد ان الانسان مركب من عناصر ثلاثه: الجسم، و النفس، و الروح. (هناك بالطبع العناصر الاخرى كالقلب و العقل و امثالهما اضافها بعض آخرون، الا اننا لسنا بصدد بحث ذلك) غير ان المعروف المشهور هو ان الانسان يتالف من الجسم و الروح، و ان لا شي ء غير هذين، و كل ما في وجود الانسان اما ان يكون من قوى الجسم و اما من قوى الروح، و ليس ثمه عنصر ثالث.
بيد انه لابد من القول بان المعنى الفلسفي للنفس لاينطبق على المعنى القرآني كل الانطباق، غير انه في بعض الحالات ينطبق عليه. يقول الله تعالى في الآيه: اذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكه باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون (سوره الانعام/93) هذه الآيه تجسد مشهد الفزع لدى الكافرين عندما تاتي الملائكه لقبض ارواح الكفار و الظالمين، فهو يخاطبهم بالقول: اخرجوا انفسكم و هذا ما يعني باللغه الدارجه «طلعت روحه ». فلننظر ماذا يحدث عند قبض الروح.
اننا نملك جسما و روحا. عند قبض الروح، تغادر الروح البدن. لذلك يكون تعبير الله عن ذلك بقوله: اخرجوا انفسكم على لسان الملائكه، انه لايقول: اخرجوا ارواحكم. ما هذا الذي تقبضه الملائكه و يخرج من البدن؟ هو هذه الروح التي يطلق عليها القرآن اسم «النفس ».
ثمه آيه اخرى تدل على ان المقصود بالنفس هو الروح: الله يتوفى الانفس حين موتها و التي لم تمت في منامها (سوره الزمر/42) يتوفى كما يقول المفسرون هو تسلم الشي ء كاملا. اذ اقبض شخص دينه كاملا من المدين فانه يتوفى الدين، و كذلك يعني من قبضت روحه بكاملها. الله يتوفى الانفس حين موتها، اي الارواح. «و التي لم تمت في منامها. فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الاخرى» ان من يحين حينه يموت اثناء النوم و لن تعود الروح اليه. اما الذي لم يحن وقت اجله، يعيد الله روحه الى بدنه.
اننا لسنا ننوي تفسير هذه الآيات و التعبيرات، الا ان جماع الامر هو ان ما يطلق عليه اسم «النفس » فيها هو ما يسمى في الفلسفه باسم «الروح ». و «النفس » في هذه الآيه بمعنى الروح الفلسفي يتطابق تماما مع معنى النفس. الا ان الامر ليس كذلك دائما، اذ ان الاصطلاحات القرآنية اوسع نطاقا من المصطلحات الفلسفيه. فمره يكون معنى النفس الفلسفي هو نفسه المعنى المقصود في القرآن، و مره اخرى يعتور الكلمة تطور في المعنى و يقصد بها معاني اخرى. في هذه الحاله يشترك المعنيان في اللفظ. فحينما يقول: ان النفس لاماره بالسوء الا ما رحم ربي لايعني ان كل روح تتصف بهذه الصفه، فههنا حيثيه خاصه مطلوبه من الروح، و الا فان روح الانسان تميل الى الخير ايضا. ان الروح التي تربت تربيه صالحه بقيت فطرتها الاصيله طاهره، او انها منذ البدايه، كارواح الانبياء و الاولياء، متفتحه، او انها بعد التربيه تصبح كارواح الصالحين. فالامر اذن لايعني ان روح الانسان اماره بالسوء دائما.
اذن «النفس » مصطلح خاص يطلقه الاخلاقيون على ما يقابل «العقل ». مثلا يقولون ان عقله قد غلب نفسه، و لايقولون ان عقله قد تغلب على روحه، و ذلك لان العقل نفسه جزء من القوى الروحيه، و ليس شيئا ثالثا ليكون بينه و بين الروح اي عداء.
في كل انسان ميلان: الاول هو الميل الى التسامي و تجاوز الدنايا و الميول الحيوانية. و الثاني هو الميل للخلود الى الارض و الانغمار في الماديات و الانغماس في الشهوات. هذه هي الميول الدائمه الصراع بعض مع بعض. و قد اطلق علماء الاخلاق اسم «العقل » على الميول الخيره المتساميه، و اطلقوا اسم «النفس » على الميول الشريره الملتصقه بالارض، و لهذين الاصطلاحين تطبيقات في القرآن.
و على ذلك فان كلمة «نفس » تستعمل للدلاله على معان متعدده، و قد ينسجم معناها احيانا مع المعنى الفلسفي لها و قد يختلف احيانا اخرى. و الروح، بالمعنى الخاص (من حيث الميول الماديه و الحيوانيه و الرغبه في الشر فيطلق عليها اسم «النفس »)، او من حيث الاصطلاح الاخلاقي الخاص، فيطلق عليها اسم «العقل العملي ».
و لفظه «نفس » في الآيه: و نفس و ما سواها مؤنث مجازى، و تدل على الوجود الانسانى، اي الانسان بجسمه و روحه، اي الانسان ذي الهويه الانسانيه، و ليس الانسان الذي اذا جرد من هويته لم يبق منه سوى الجسم. اما اذا اخذت هويته الانسانية بنظر الاعتبار فيطلق عليه عندئذ اسم «النفس ». الله سبحانه و تعالى يريد ان يقول انه «سوى » الانسان مع هويته الانسانيه. فالتسويه هي مرتبه اكمال الخلق. اذن «سواها» تعني انه تعالى اكمل خلق هذا الكائن، فعليه، لذلك، ان يتحرك في مسيرته نحو التكامل.
هذا التعريف للنفس ينطبق على معناها الفلسفى، الا ان المعنى القرآني و المعنى الفلسفي لايتطابقان كل الانطباق، اذ ان الاصطلاح القرآني اعم و اشمل من المصطلح الفلسفى. و بعباره اخرى، ان هذه الكلمه مشتركه بينهما لفظيا، فمره تعني المعنى الاخلاقى، كما فى: ان النفس لاماره بالسوء، و مره اخرى تكون متطابقة مع المعنى الفلسفى.
الحكمة في وجود الفجور
ثمه نكته اخرى تطرح في هذا المضمار، و هي ان القرآن، بعد ان يقسم: «و نفس و ما سواها» يقول: «فالهمها فجورها و تقواها» فيقدم ذكر الفجور على التقوى، و ذلك لان الانسان، باستثناء الانبياء و الاولياء، تظهر فيه الميول الشهوانيه اسرع من غيرها. و عليه فان دوافع الفجور تظهر فيه اسرع تبعا لذلك، و ان يكن تدريجيا. ثم بعد ان يتطور العقل و ينمو و تظهر في الانسان الميول الفطريه نحو التسامى، يظهر فيه ميل التوجه نحو الكمالات المعنويه و التقرب الى الله، حينذاك يقبل على التقوى و تجنب الشهوات، اذن فالآيه تتبع الترتيب الطبيعي لظهور هذه الميول و الاتجاهات.
و هناك تساؤل عما يجب الاستناد اليه في مقام التربيه. صحيح ان الانسان خلق و معه حق الاختيار في اتخاذ طريق الخير او طريق الشر: «انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا» (الانسان/3)، فهل المقصود ان يتوجه الانسان للوصول الى الكمال و الى الجنه، ام ان الجنه و النار مطلوبان على حد سواء في نظر الله؟ الجواب هو ان الخلق كان للرحمه حتى يطوي الانسان طريق التكامل. و لكن بما ان التكامل اختياري فلابد من وجود الشر لكي يتمكن الانسان من اختيار الذهاب الى الجنه. كما لابد من وجود النار حتى يتمكن الانسان من ان يختار واحدا منهما، و الا فلا يكون للاختيار معنى. التفكير الفلسفي يقول ان الوصول الى الكمال و الجنه و القرب من الله و رحمته هي الهدف بالاصاله، و الذهاب الى النار هو المقصود بالتبعيه، لذلك يجب في التربيه توجيه الانسان نحو الهدف المقصود بالاصاله، و كذلك نحو الهدف بالتبعيه، و الدليل على ذلك هو ان القرآن يقول ابتداء «قد افلح من زكاها»، و ذلك لان الهدف هو الفلاح، و لذلك خلقهم، اي ان الله خلق الناس للرحمه و الكمال.
التزكيه طريق السعاده
النكته الاخيره الجديره بالذكر هي ما يتعلق بعباره: «قد افلح». ان من الطبيعي و الفطري في الانسان ان يطلب الفلاح و السعاده، فما من انسان يطلب العذاب و التعاسه، لان هذا الطلب يكون مخالفا للفطره. اما القول بان الانسان، فطريا، كائن انانى، فذلك بحث ليس هذا مكانه، لانه يستوجب الاستدلال و البراهين العقليه. و لكن خلاصه الامر هي ان كل مساعينا في الحياه تتجه نحو السعاده و الرفاه، و ما من احد يسعى للحصول على التعاسه والشقاء، بل على العكس من ذلك، اذ يسعى الجميع لكي يكونوا بمناى عن الشقاء و التعاسه. اذن فطلب السعاده امر فطري و اذا تصور احد ان الانسان مجبور على طلب السعاده فلايكون قد اخطا، بل الافضل ان نقول ان الانسان مجبول على ذلك، على الرغم من ان تعبير «مجبول » مجازى. و لكن الانسان، على وجه العموم يطلب السعاده، و هي الاصل في طلبه، و لكنه يبحث عن طريق الوصول اليها.
ماذا نفعل لكي نكون سعداء؟ يقول القرآن: ايها الانسان الذي هو بطبيعته يطلب الفلاح و السعاده، اعلم ان طريق السعاده هو طريق تزكيه الاخلاق و تزكيه النفس: قد افلح من زكاها. اذن فان تعبير قد افلح عامل يحمل الانسان على ان يعنى بتزكيه الاخلاق.
--------------------------------------------------------------------------------
1. التدسيه من «التدسيس » من ماده «دس » و تعني خلط الاشياء مما يؤدي الى فساد شي ء آخر.
2. خاصه وفق التفسير الوارد بشان «فالهمها» و القائل بوجود وجوه عديده لتفسيرها، و منها القول بان المقصود من «فالهمها» انما هو ايقاظ هذه الغرائز و الميول و الجاذبيات الفطريه و الطبيعيه.
source : الاستاذ محمد تقي المصباح اليزدى