يرجى الانتظار

الاخلاق في المنظور القرآنى

 لايمكن في‏هذه العجاله الا ان نعالج ‏بعض ‏المباحث ‏العامه و الاصوليه فيما يتعلق بموضوع «الاخلاق في ‏المنظور القرآني». لذلك فقد اخترنا الآيات ‏المتعلقة بالموضوع من سوره «الشمس» و التي اشرنا اليها في بحثنا السابق فيما يختص بفلسفه‏ الاخلاق.


«التقوى‏» في قبال «الفجور»

يستعمل في ‏كل نظام اخلاقي مفهومان متضادان، الاول يدل على ‏الاخلاق الممدوحه، و الآخر يدل على ‏الاخلاق المذمومه، و اللفظ المشترك بين هذه كلها هو ما يفيد الصالح و الطالح، غير ان هناك احيانا الفاظا ذوات معان اعمق و ادل من مجرد الصالح و الطالح او الحسن و السيء، ففي هذه الآيات ‏الشريفه نجد «الفجور» و «التقوى» مره، و نجد «التزكيه» و «التدسيس» 1مره اخرى للدلالة على ‏الصالح و الطالح. ان دلاله معنى «الفجور» و «التقوى» اعمق من دلاله «الشر» و «الخير» في‏ الاخلاق، فاللفظ الاول يشير الى ما يدعو الى تجنب‏ الشر، و ذلك لانه يكون ‏السبب في ضياع ‏الانسان و خروجه عن حدود الفطره، في قبال ‏القيام باعمال ‏الخير و ما لها قيم اخلاقيه ايجابيه، فان ذلك فضلا عن كونه لايضيع ‏الانسان و لايخرجه عن فطرته، فانه يحافظ عليه ايضا.

و في آيه اخرى ثمه تعبير آخر غير «الفجور» و «التقوى» اذ تقول: «قد افلح من زكيها» (الشمس/9) و مفهوم «التزكيه» هنا يحمل ‏المعنى ذاته، اقصد ان مصداقيهما واحد، على ‏الرغم من اختلاف مفهوميهما، ان ما هو «تقوى‏» يكون «تزكيه‏» ايضا، و ان من «الفجور» ما هو «تدسيه‏» النفس ايضا، الا ان لهذا المفهوم معاني اوسع تكون قادره على تحريض‏المزكي على ‏العمل، و ذلك لان‏ القيام بالاعمال الصالحه ‏الاخلاقيه فضلا عن كونه تقوى و يقي ‏النفس من ‏الاخطار و التلوث، فانه كذلك يستوجب التطور والنمو ايضا. فالتزكيه تفيد هذا المعنى اكثر من «التقوى‏». اما القيام بالاعمال ‏الطالحه السيئه فانه يؤدي الى نفوذ عنصر مضاد للفطره الى ذات ‏الانسان، و يكون كالسم ‏الذي اذا مس ‏الحلوى و نفذ فيها افسدها و تسبب في خلق ‏المشكلات.


تقديم ذكر «الفجور» على «التقوى‏»

عند قراءه الآيه «فالهمها فجورها و تقواها» يتبادر للذهن ‏السؤال ‏التالى: لماذا جاء لفظ «الفجور» قبل «التقوى‏» (الشمس/8) ثم في‏الآيه ‏التي بعدها «قد افلح من زكاها و قد خاب من دساها» (الشمس 9- 10) حيث ‏يرد ذكر «التزكيه» قبل «التدسيه‏» فلماذا؟ ان ‏السياق الذي جاء في ‏الآيه قبلها كان يقتضي ان يقال «قد خاب من دساها و قد افلح من زكاها» اذ ان ما يقابل «الفجور» هو «التدسيه‏» فلماذا لم يراع هذا الترتيب في ‏الآيه ‏الثانيه؟ لماذا استعمال ‏المشوش بدلا من اللف و النشر المنظمين؟ ما النكته الخفيه في ‏هذا الامر؟

ان طبيعه الانسان العادي تستدعي ان تنمو فيه ‏الغرائز الحيوانيه اولا فتكون ‏الميول ‏الماديه و ما يمكن ان يكون مصدرا للشر و الفساد و التدسيه، بالطبع، اصل ‏الغريزه ‏الحيوانيه ليس شرا. ان الحاجة الى‏الطعام و الى‏الجنس ليست في‏حد ذاتها شرا من حيث التكوين، انما الافراط و التفريط فيها هو الشر و هو المذموم، و ان استخدامها في‏غير محلها يوجب ‏التدسيه، و هكذا نلاحظ ان ‏الدوافع ‏الماديه تظهر في ‏الانسان قبل ‏الدوافع ‏المعنويه و الالهيه. ففي ‏الطفل هذه ‏الغرائز هي ‏التى تظهر اولا، ثم تتسع شيئا فشيئا و اولى هذه ‏الغرائز هي غريزه ‏الاكل و الشرب، ثم ‏اللعب، و من ثم ‏الميل نحو الجنس ‏الآخر. في ‏هذه الفتره، التي تسمى مرحله ‏البلوغ، يظهر في ‏الانسان ‏التوجه نحو المعنويات و عباده ‏الله تعالى، الا ان هذا الميل لايتفتح ذاتيا، كالغرائز الحيوانيه، بل انها تحتاج الى‏التربيه و العنايه، في ‏الوقت الذي لاتحتاج فيه ‏الغرائز الحيوانيه الى مثل تلك ‏التربيه و العنايه، و انما هي سريعه ‏التطور قبل غيرها من الغرائز و تنشط و تنمو و تتطلب ‏الاشباع. فاذا لم تترب بالتزكيه و التطهير فانها قد تجر الانسان الى ‏الفساد.

و عليه لما كانت «الفجور» من نتائج ‏الغرائز الحيوانيه التي تظهر قبل ‏الغرائز الاخرى، فقد وردت بالترتيب نفسه في ‏القرآن ‏الكريم، على ‏الرغم من ان الغرائز الحيوانيه لاتستلزم بالضروره ان تكون هي وحدها المؤديه الى ‏الفجور، و لكنها قد تكون من اسبابها 2قد يتساءل سائل: لماذا يرد الفطري والطبيعي مترادفين، مع ان ‏الفطري يكون في ‏طريق ‏الخير؟ في ‏الجواب يمكن ‏القول ان ذلك يعود الى تعدد الاصطلاحات، فقد يستعمل ‏الفطري في ‏قبال الاكتسابى، فعندما نقول هذا امر فطري فاننا نعني بذلك انه ليس اكتسابيا. و بناء على ذلك فان ‏الغرائز كلها فطريه، سواء اكانت من ‏الامور الفطريه ‏الانسانيه ام من ‏الغرائز الحيوانيه. كما ان ‏الغرائز، او الدوافع الباطنيه، المتساميه التي تسمو على ‏الغرائز الحيوانيه، توصف بالفطريه ايضا. كثيرا ما نلاحظ ان ‏المرحوم الشهيد مرتضى المطهري (ره) يستعمل لفظ ‏الفطره بمعناها الثاني كاصطلاح خاص، و الا فان ‏المعنى ‏الاول هو الاصل في ‏الفطره. اما القول بان الميل نحو الخير و الميل نحو الشر فكلاها فطرى، انما يراد به انهما ليسا اكتسابيين، و ان ‏الله قد جعلها في ‏طبيعه ‏الانسان، الذي قد يميل نحو الخير او نحو الشر.

اذا اخذنا (فالهمها) بالمعنى الثانى، فذلك يعني ان هذه ‏الدوافع ‏الفطريه موجوده في ‏طبيعه الانسان، اي ‏الامور التي يرى ‏الاسلام انها تسير بالانسان نحو الفجور و التحلل. و لادراك هذا المعنى في ‏الفجور يمكن الرجوع الى الآيه ‏الكريمه: ايحسب الانسان ان لن نجمع عظامه، بلى قادرين على ان نسوي بنانه، بل يريد الانسان ليفجر امامه (سورة‏القيامة/3- 4) و هو يجيب بنفسه رادا و يقول: كلا، هؤلاء لايقولون ان ‏الله ليس بقادر، اذ ان من يعرف ‏الله و يقبله، يعلم ان قدره ‏الله ليست محدوده، فلماذا اذن ينكر المعاد؟ بلى قادرين على ان نسوي بنانه نعم نحن قادرون على احياء الانسان و ان نعيد حتى ‏الخطوط في ‏انامله سويه كما كانت. اذن فسبب عدم قبول المعاد و انكاره سبب ‏نفسى. انه لايريد ان يؤمن بذلك، لان عقله ينكره، بل ان عقله يعلم ذلك، و لكن ارادته لاتريده يريد الانسان ليفجر امامه. انه يريد ان يكون حرا من دون ان تعيق حياته حدود و موانع، يريد ان يفعل ما يشاء. و هذا هو التحلل بعينه. ان من لايلتزم في‏حياته حدا و لايضع قيدا على سلوكه، يكون ادعى الى‏انكار الاسس العقائديه و ذلك لان من يؤمن بيوم ‏القيامه و الحساب لايمكن ان يتحلل من ‏الحدود و القيود، لانه يعلم انه سوف يحاسب على دقائق اعماله، و ان هناك ثوابا و عقابا على ذلك، و عليه فانه يكون حذرا و يراقب اعماله، و يلتزم ‏الحدود اكثر من غيره. اما الذي لايرغب ان يكون مقيدا ملتزما، فانه ينكر منذ البدايه اصل ‏الموضوع و يقول: ليس ثمة قيامه اطلاقا.


اما سعيد و اما شقي

ان ما يلفت ‏النظر في هذا الامر هو ان هذه ‏الآيات تلقي مزيدا من‏الضوء على اهميه تزكيه ‏النفس و تهذيب الاخلاق. اننا في ‏العاده نتصور ان مساله تهذيب ‏الاخلاق تاتي في ‏الدرجه ‏الثانيه من الاهميه، كالمستحبات تقريبا و هذا ما يتصوره ‏المسلمون و من لهم علم بالكتاب و السنه. اما غير هؤلاء فامرهم مختلف. اننا نحسب تزكيه الاخلاق و تهذيب ‏النفس تاتيان في ‏المرتبه ‏الثانيه، اى ان ‏الانسان بعد ان يعنى بشؤون حياته و معيشته، من ‏المستحسن ان ينشغل بالامور الاخلاقيه و التزكيه و التهذيب، و اما اذا لم يتح له الوقت ‏الكافي لذلك، فان له امورا اوجب، كما ان عليه ان يهتم بشؤون ‏الحياه.

بيد ان لهذه الآيه تعبيرا عجيبا لايترك امام ‏الانسان غير طريقين ‏اثنين، فهي تقول: ايها الانسان ان هذه ‏النفس تقع تحت ارادتك و اختيارك، و عليك ان تنتخب طريقا من اثنين: فاما تزكيتها و اما تدسيسها، و لا ثالث لهما. فاذا انتخبت التزكيه فانت ممن «قد افلح‏» و تلك السعادة و الفلاح. اما اذا اخترت الطريق الثانى، فانت ممن «قد خاب‏» فاقطع املك من ‏المستقبل و من ‏الوجود، اذ لاسعادة لك بهذا الاختيار.


علاقة الاخلاق بالعقيدة

اذن فتزكيه النفس ليست قضيه قليله ‏الاهميه حتى لايكون لوجودها او عدمه اهميه تذكر، بل يستفاد من هذه ‏الآيه ان «التزكيه‏» على راس اهم قضايا الانسان ‏الحياتيه، و ذلك لان ‏العلاقه بين «الاخلاق‏» و «العقيده‏» علاقه قويه لاتنفصم. عندما تكون «العقيده‏» من اهم ‏الاسس في ‏الاسلام، كذلك تكون «الاخلاق‏» من اهم الاسس الحياتيه في‏الاسلام ايضا. و الا هم من هذين هي «العقيده‏» اولا و من ثم «الاخلاق‏». و لكننا اذا تمعنا في‏الامر نلاحظ اننا اذا لم نزك اخلاقنا، فقد نفقد عقيدتنا ايضا.

هذه حقيقه كشف ‏القرآن عنها الحجاب. اننا لانستطيع ان نصل الى ذلك من دون ‏الاستعانه بالقرآن الكريم، بل قد نتصور ان هناك حاجزا بين ‏الاخلاق و العقيده، اذ ان موضع ‏العقائد هو العقل و القلب و الروح، و للاخلاق و الصفات النفسيه و كما لاتها مكان آخر. اما السلوك فظاهر علينا. فقد نقول ان هذا القسم يخص ‏العقائد و علم ‏الكلام، و هذا القسم ‏الآخر يخص ‏الاخلاق. و هناك ‏الفقه و امثاله و نقول انها لارابط يربط بينها، و لكننا عندما نرجع الى‏القرآن و الروايات الوارده في تفسير آياته نجدان بعض ضروب‏الخلق و العادات و الطبائع تحول بين ‏المرء و الايمان. فمثلا، عندما قدم نصارى نجران للمباحثه مع ‏الرسول (ص) بلغ ‏الامر بينهم الى حد المباهله، و لكنهم امتنعوا عن ‏المباهله.

عندئذ قال ‏الرسول (ص) ما مفاده: ان ما منع هؤلاء من قبول الاسلام و نبذ المسيحيه ليس عدم ادراكهم احقيه ‏الاسلام، بل هو العلاقه التي تربطهم بشرب ‏الخمور و اكل الخنازير، لانهم اذا آمنوا بالاسلام فعليهم ان يمتنعوا عن كل ذلك. فهذه ‏العلاقه منعتهم من ‏الاقبال على ‏الايمان بالاسلام.

يتبين من كلام رسول ‏الله (ص) ان ليس ثمة حد بين ‏الاخلاق و العقائد، اي ليس الامر ان تحصل ‏العقائد عن طريق العقل و الدليل و حدهما، و تبقى ‏الاخلاق خاصه بالملكات ‏النفسيه فحسب، بل ان هناك تعاملا بينهما، فالخلق ‏الحسن يمكن ان يكون ارضيه صالحه لقبول الايمان، مثلما كان بعض ‏الناس يؤمن بمجرد رؤيه امارات الصدق على رسول ‏الله (ص)، و هذا لحسن اخلاقهم و حميد صفاتهم. يقول ‏القرآن فيما يتعلق بالمسحيين الذين كانوا يسرعون الى ‏الايمان: لتجدن اقربهم موده للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بان منهم قسيسين و رهبانا و انهم لايستكبرون. و اذا سمعوا ما ا نزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. (سوره ‏المائده/82- 83) هكذا القرآن يثني عليهم.

ان ما يجعل ‏النصارى اقرب الى ‏الاسلام و اظهار الود لهم و اسرع الى قبول ‏الحق، هو ان منهم علماء لايركبهم التكبر، بل هم متواضعون، فاذا لم يؤمنوا يومئذ فانما ذلك لان ‏الحقائق لم تنكشف لهم، و الا فانهم ليسوا معاندين، على النقيض من ‏اليهود الذين هم من اهل ‏العناد و فيهم روح ‏التكبر و الانانيه و التعاظم، فهم يحسبون انهم شعب ‏الله المختار، لذلك يقول ‏القرآن فيهم: لتجدن اشد الناس عداوه للذين آمنوا اليهود (سوره ‏المائده/82) بهذا البيان يتضح ‏التفاعل بين ‏الاخلاقيات و الاعتقادات، فقد سبق ‏القول بان ما هيا لايمان ‏النصارى هو تواضعهم، و دليل جحد اليهود الاسلام هو تكبرهم و انانيتهم.

كما ان ‏القرآن يرى ان سبب كفر ابليس و طرده من رحمه ‏الله هو اخلاقه ‏الذميمه، و ليس لانه لم يكن يدرك سبب السجود لآدم. يؤكد القرآن ان منشا كفر ابليس هو تكبره: استكبر و كان من ‏الكافرين (سوره ‏البقره/34) اذن، فالاخلاق الذميمه يمكن ان تحول دون حصول ‏الايمان، بمثلما ان هذه ‏الصفات الذميمه يمكن ان تقضي على ‏الايمان. فثمه اناس مؤمنون عملوا الصالحات، و حضروا في ‏ميادين الجهاد، و خاطروا بارواحهم، الا ان صفات سيئه كانت فيهم من قبل او حصلت لهم بعندئذ، سلبت منهم ‏الايمان.

يقول ‏الله تعالى في ‏المنافقين: فاعقبهم نفاقا في‏قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون (سوره ‏التوبه/77) كان هؤلاء قد اسلموا و آمنوا و عاهدوا الله على انه اذا افاض عليهم من خيره فانهم سوف ينفقون في‏سبيله. فلما افاض عليهم و استغنوا، نسوا ما عاهدوا الله عليه و نقضوه، فلم ينفقوا، فكان نقضهم هذا لعهدهم سبب زوال ايمانهم و ظهور النفاق مكانه في ‏قلوبهم، و ان يبقى هذا النفاق في ‏قلوبهم حتى يوم ‏القيامه، و ذلك بسبب الكذب، و خلف ‏الوعد، و نقض ‏العهد، مما ازال ‏الايمان من قلوبهم و اصابهم بالنفاق.

اذن، فان تزكيه ‏الاخلاق ليست قضيه هينه فاذا ما غفل ‏الانسان عن رؤيه عيوبه، و لم يعن باصلاحها، فان تساهله هذا او تسامحه قد يؤدي به الى ‏الشرك و الكفر و الالحاد.

و عليه، فان توكيد القرآن «الفلاح‏» الى هذا الحد و حصره في «التزكيه‏»: قد افلح من زكاها يدل على ان الامر اهم مما نظن، اذ ان دور الاخلاق في ‏حياه ‏الانسان دور حياتى، فاذا لم يهتم ‏المرء بذلك و بازاله التلوث عن اخلاقه، فان مستقبله يكون محفوفا باشد الاخطار.


ما النفس و ما الروح؟

ثمه سؤال يقول: ما المقصود بالنفس في ‏الآيه: «و نفس و ما سواها فالهمها فجورها و تقواها»؟ ترد لفظة «نفس‏» في ‏القرآن بعده معان، فمره يقول: ان ‏النفس لاماره بالسوء الا ما رحم ربي (سوره يوسف/53)، و في ‏موضع آخر يقول: يا ايتها النفس ‏المطمئنه ارجعي ‏الى ربك (سوره ‏الفجر/27) فهل «النفس‏» حسنه ام سيئه في ‏نظر القرآن؟ و هل ‏النفس بمعنى الروح ام هي في ‏قبال العقل؟

في ‏كتب الاخلاق كلام على ‏الصراع بين ‏النفس و العقل، فيقال ان ثمه صراعا بين ‏النفس و العقل في ‏الانسان، فتاره ‏النفس هي ‏الغالبه و تاره ‏العقل هو الغالب. يقولون ان «النفس‏» شي‏ء في قبال «العقل‏». اما المشتغلون بالفلسفة فيرون النفس في ‏هذه الآيه و امثالها هي تلك النفس المعروفة في ‏الفلسفه، ففي ‏الفلسفه فصل بعنوان «علم النفس‏»، و بموجب المعنى الفلسفي للنفس فهي «الروح‏». فهل «النفس‏» في ‏هذه ‏الآيه تعني «الروح‏» ايضا، و هل في ‏المصطلح ‏القرآني «النفس‏» و «الروح‏» شي‏ء واحد ام لا؟

قبل ‏الاجابه عن هذه الاسئله لابد من ‏الاشاره الى ان بعضهم يعتقد ان الانسان مركب من عناصر ثلاثه: الجسم، و النفس، و الروح. (هناك بالطبع ‏العناصر الاخرى كالقلب و العقل و امثالهما اضافها بعض آخرون، الا اننا لسنا بصدد بحث ذلك) غير ان ‏المعروف المشهور هو ان الانسان يتالف من ‏الجسم و الروح، و ان لا شي‏ء غير هذين، و كل ما في وجود الانسان اما ان يكون من قوى ‏الجسم و اما من قوى الروح، و ليس ثمه عنصر ثالث.

بيد انه لابد من ‏القول بان المعنى الفلسفي للنفس لاينطبق على ‏المعنى ‏القرآني كل ‏الانطباق، غير انه في بعض ‏الحالات ينطبق عليه. يقول ‏الله تعالى في ‏الآيه: اذ الظالمون في‏غمرات الموت و الملائكه باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون (سوره ‏الانعام/93) هذه ‏الآيه تجسد مشهد الفزع لدى ‏الكافرين عندما تاتي ‏الملائكه لقبض ارواح الكفار و الظالمين، فهو يخاطبهم بالقول: اخرجوا انفسكم و هذا ما يعني باللغه ‏الدارجه «طلعت روحه‏». فلننظر ماذا يحدث عند قبض ‏الروح.

اننا نملك جسما و روحا. عند قبض ‏الروح، تغادر الروح البدن. لذلك يكون تعبير الله عن ذلك بقوله: اخرجوا انفسكم على ‏لسان الملائكه، انه لايقول: اخرجوا ارواحكم. ما هذا الذي تقبضه ‏الملائكه و يخرج من البدن؟ هو هذه ‏الروح التي يطلق عليها القرآن اسم «النفس‏».

ثمه آيه اخرى تدل على ان ‏المقصود بالنفس هو الروح: الله يتوفى الانفس حين موتها و التي لم تمت في ‏منامها (سوره ‏الزمر/42) يتوفى كما يقول ‏المفسرون هو تسلم ‏الشي‏ء كاملا. اذ اقبض شخص دينه كاملا من ‏المدين فانه يتوفى ‏الدين، و كذلك يعني من قبضت روحه بكاملها. الله يتوفى ‏الانفس حين موتها، اي الارواح. «و التي لم تمت في‏منامها. فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الاخرى» ان من يحين حينه يموت اثناء النوم و لن تعود الروح اليه. اما الذي لم يحن وقت اجله، يعيد الله روحه الى بدنه.

اننا لسنا ننوي تفسير هذه ‏الآيات و التعبيرات، الا ان جماع ‏الامر هو ان ما يطلق عليه اسم «النفس‏» فيها هو ما يسمى في ‏الفلسفه باسم «الروح‏». و «النفس‏» في ‏هذه الآيه بمعنى ‏الروح الفلسفي يتطابق تماما مع معنى ‏النفس. الا ان الامر ليس كذلك دائما، اذ ان الاصطلاحات القرآنية اوسع نطاقا من ‏المصطلحات الفلسفيه. فمره يكون معنى النفس الفلسفي هو نفسه ‏المعنى المقصود في ‏القرآن، و مره اخرى يعتور الكلمة تطور في ‏المعنى و يقصد بها معاني اخرى. في ‏هذه ‏الحاله يشترك ‏المعنيان في‏اللفظ. فحينما يقول: ان ‏النفس لاماره بالسوء الا ما رحم ربي لايعني ان كل روح تتصف بهذه ‏الصفه، فههنا حيثيه خاصه مطلوبه من ‏الروح، و الا فان روح ‏الانسان تميل الى ‏الخير ايضا. ان ‏الروح التي تربت تربيه صالحه بقيت فطرتها الاصيله طاهره، او انها منذ البدايه، كارواح الانبياء و الاولياء، متفتحه، او انها بعد التربيه تصبح كارواح الصالحين. فالامر اذن لايعني ان روح ‏الانسان اماره بالسوء دائما.

اذن «النفس‏» مصطلح خاص يطلقه الاخلاقيون على ما يقابل «العقل‏». مثلا يقولون ان عقله قد غلب نفسه، و لايقولون ان عقله قد تغلب على روحه، و ذلك لان ‏العقل نفسه جزء من ‏القوى الروحيه، و ليس شيئا ثالثا ليكون بينه و بين ‏الروح اي عداء.

في ‏كل انسان ميلان: الاول هو الميل الى التسامي و تجاوز الدنايا و الميول الحيوانية. و الثاني هو الميل للخلود الى ‏الارض و الانغمار في ‏الماديات و الانغماس في ‏الشهوات. هذه هي ‏الميول الدائمه الصراع بعض مع بعض. و قد اطلق علماء الاخلاق اسم «العقل‏» على ‏الميول الخيره المتساميه، و اطلقوا اسم «النفس‏» على‏الميول الشريره الملتصقه بالارض، و لهذين ‏الاصطلاحين تطبيقات في ‏القرآن.

و على ذلك فان كلمة «نفس‏» تستعمل للدلاله على معان متعدده، و قد ينسجم معناها احيانا مع ‏المعنى الفلسفي لها و قد يختلف احيانا اخرى. و الروح، بالمعنى ‏الخاص (من حيث ‏الميول ‏الماديه و الحيوانيه و الرغبه في ‏الشر فيطلق عليها اسم «النفس‏»)، او من حيث ‏الاصطلاح الاخلاقي الخاص، فيطلق عليها اسم «العقل ‏العملي‏».

و لفظه «نفس‏» في‏الآيه: و نفس و ما سواها مؤنث مجازى، و تدل على ‏الوجود الانسانى، اي الانسان بجسمه و روحه، اي الانسان ذي ‏الهويه ‏الانسانيه، و ليس ‏الانسان الذي اذا جرد من هويته لم يبق منه سوى ‏الجسم. اما اذا اخذت هويته الانسانية بنظر الاعتبار فيطلق عليه عندئذ اسم «النفس‏». الله سبحانه و تعالى يريد ان يقول انه «سوى‏» الانسان مع هويته ‏الانسانيه. فالتسويه هي مرتبه ‏اكمال الخلق. اذن «سواها» تعني انه تعالى اكمل خلق هذا الكائن، فعليه، لذلك، ان يتحرك في ‏مسيرته نحو التكامل.

هذا التعريف للنفس ينطبق على معناها الفلسفى، الا ان ‏المعنى ‏القرآني و المعنى الفلسفي لايتطابقان كل ‏الانطباق، اذ ان الاصطلاح القرآني اعم و اشمل من ‏المصطلح الفلسفى. و بعباره اخرى، ان هذه الكلمه مشتركه بينهما لفظيا، فمره تعني ‏المعنى الاخلاقى، كما فى: ان ‏النفس لاماره بالسوء، و مره اخرى تكون متطابقة مع ‏المعنى الفلسفى.


الحكمة في وجود الفجور

ثمه نكته اخرى تطرح في ‏هذا المضمار، و هي ‏ان القرآن، بعد ان يقسم: «و نفس و ما سواها» يقول: «فالهمها فجورها و تقواها» فيقدم ذكر الفجور على ‏التقوى، و ذلك لان ‏الانسان، باستثناء الانبياء و الاولياء، تظهر فيه ‏الميول الشهوانيه اسرع من غيرها. و عليه فان دوافع الفجور تظهر فيه اسرع تبعا لذلك، و ان يكن تدريجيا. ثم بعد ان يتطور العقل و ينمو و تظهر في ‏الانسان الميول الفطريه نحو التسامى، يظهر فيه ميل ‏التوجه نحو الكمالات المعنويه و التقرب الى الله، حينذاك يقبل على ‏التقوى و تجنب ‏الشهوات، اذن فالآيه تتبع ‏الترتيب الطبيعي لظهور هذه ‏الميول و الاتجاهات.

و هناك تساؤل عما يجب ‏الاستناد اليه في ‏مقام ‏التربيه. صحيح ان الانسان خلق و معه حق ‏الاختيار في ‏اتخاذ طريق ‏الخير او طريق الشر: «انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا» (الانسان/3)، فهل المقصود ان يتوجه ‏الانسان للوصول الى الكمال و الى الجنه، ام ان ‏الجنه و النار مطلوبان على حد سواء في ‏نظر الله؟ الجواب هو ان الخلق كان للرحمه حتى يطوي الانسان طريق ‏التكامل. و لكن بما ان التكامل اختياري فلابد من وجود الشر لكي يتمكن الانسان من اختيار الذهاب الى الجنه. كما لابد من وجود النار حتى يتمكن ‏الانسان من ان يختار واحدا منهما، و الا فلا يكون للاختيار معنى. التفكير الفلسفي يقول ان الوصول الى الكمال و الجنه و القرب من الله و رحمته هي‏الهدف بالاصاله، و الذهاب الى ‏النار هو المقصود بالتبعيه، لذلك يجب في ‏التربيه توجيه الانسان نحو الهدف المقصود بالاصاله، و كذلك نحو الهدف بالتبعيه، و الدليل على ذلك هو ان القرآن يقول ابتداء «قد افلح من زكاها»، و ذلك لان الهدف هو الفلاح، و لذلك خلقهم، اي ان ‏الله خلق ‏الناس للرحمه ‏و الكمال.


التزكيه طريق السعاده

النكته الاخيره الجديره ‏بالذكر هي ما يتعلق بعباره: «قد افلح». ان من الطبيعي و الفطري في ‏الانسان ان يطلب الفلاح و السعاده، فما من انسان يطلب العذاب و التعاسه، لان هذا الطلب يكون مخالفا للفطره. اما القول بان الانسان، فطريا، كائن انانى، فذلك بحث ليس هذا مكانه، لانه يستوجب الاستدلال و البراهين العقليه. و لكن خلاصه الامر هي ان كل مساعينا في ‏الحياه تتجه نحو السعاده و الرفاه، و ما من احد يسعى للحصول على ‏التعاسه والشقاء، بل على ‏العكس من ذلك، اذ يسعى ‏الجميع لكي يكونوا بمناى عن ‏الشقاء و التعاسه. اذن فطلب السعاده امر فطري و اذا تصور احد ان الانسان مجبور على طلب السعاده فلايكون قد اخطا، بل الافضل ان نقول ان ‏الانسان مجبول على ذلك، على ‏الرغم من ان تعبير «مجبول‏» مجازى. و لكن ‏الانسان، على وجه ‏العموم يطلب السعاده، و هي ‏الاصل في ‏طلبه، و لكنه يبحث عن طريق الوصول اليها.

ماذا نفعل لكي نكون سعداء؟ يقول القرآن: ايها الانسان الذي هو بطبيعته يطلب الفلاح و السعاده، اعلم ان طريق السعاده هو طريق تزكيه الاخلاق و تزكيه ‏النفس: قد افلح من زكاها. اذن فان تعبير قد افلح عامل يحمل الانسان على ان يعنى بتزكيه ‏الاخلاق.

www.e-resaneh.com

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

1. التدسيه من «التدسيس‏» من ماده «دس‏» و تعني خلط الاشياء مما يؤدي الى فساد شي‏ء آخر.

2. خاصه وفق ‏التفسير الوارد بشان «فالهمها» و القائل بوجود وجوه عديده لتفسيرها، و منها القول بان المقصود من «فالهمها» انما هو ايقاظ هذه الغرائز و الميول و الجاذبيات الفطريه و الطبيعيه.

 

المصدر :
العلامات :
آراء المستخدمين (0)
إرسال الرأي