يقول العلماء ان الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام سبّاق عصره في كل ماكان يطرحه من علوم و معارف و نظم تتلائم و طبيعة البشر و حاجات المجتمع و قيام الدولة من افاق افكار حكمته الواسعة المستوعبة لقضايا المجتمع و المعالجة لها و الملبية للطموحات بروح الاحترام الالفة و العدالة .
فقد عبّر رجال القانون عن المواطنة الحقيقية قائلين انها تعبر عن منظومة الحقوق المتكاملة في ظل واجبات وطنية محددة و المواطنة بهذا المعنى تعني عدم التميييز بين ابناء الوطن الواحد رجلا كان او امرأة كبيرا او صغيرا .. ابيض ام اسود .. غنيا او فقيرا مسلما ام مسيحيا عربيا ام اعجميا .
فالمعيار الاساسي ان هذا المواطن او ذاك يحمل الهوية الفلانية وله الحق في الحياة الكريمة المتساوية المتكافئة على كافة المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية كما تعبر عن التزامات و واجبات في الانتماء والولاء ولهذا الوطن وهو يترجم عمليا من خلال الدفاع عن البلد في الازمات ودفع الضرائب والالتزام بالنظام والقانون . و بابتالي فإن اعتراضا ينصب على (تديين) المواطنة ..لان هذا امر يعني مصادرة مفهوم المواطنة لصالح دين محدد و هو ما يعد تمييزا ترفضه مباديء المواطنة و قيمها كما يمثل ذلك (اختطافا ) المباديء وقيم إنسانية عامة لا يجوز تخصيصها لصالح فئة او دين او مصلحة شخصية او تعصبات عرقية . كما يؤكد علماء القانون والاحوال الشخصية في ان الاسس النظرية الحديثة لبناء ثقافة المواطنة تنطبق من عملية بناء الدولة العصرية من خلال منظور حقوق الانسان بمعزل عن الانقسام الجنسي او التمايز الطبقي واختلاف العرق واللون وللغة ةالدين ايضا ..فالمواطنة ليست منحة من أحد بمقدار ما ترتبط بالتقدم الحضاري و الحفاظ على منظومة حقوق المواطن والاصرار عليها والثبات على مكتسباتها . و يذهب الغرب بان الفضل يعود بشكل مباشر الى قيام الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قامت بتأصيل المواطنة الحديثة من خلال الفصل بين المؤمن (في إيجاد للانتماء الديني) والمواطن ( في إيجاد للانتماء الوطنى) وهذه الحالة حدثت عبر مسار طويل ومعقد من الثورات القومية والديمقراطية والتطورات الفكرية والعلمية على مستوى العديد من الدول والحضارات وهو ما أدى الى التاكيد على حقوق المواطنة من خلال بناء الدولة المدنية الحديثة والوعي بأن الديمقراطية لاتتحقق بمجرد وجود دولة مدنية بل بوجود ضمانات لحفظ التوازن بين المصلحة الخاصة للمواطن والمصلحة العامة لوطنه و تتجاوز المواطنة بهذا الشكل روابط الدم (القبيلة) والقرابة(العائلة) الى الاهتمام بالتكوين السياسي للمواطنين بوجه عام ..بمعنى إنها تجعل من السياسة موضوع مشاركة عامة للمواطنين في تقرير مايخص مصيرهم .. و في هذا الصدد لا يمكن ان نتجاهل مفهوم (المواطنة) في ادبيات التيار الاسلامي فكلمة (مسلم) تعني مواطنا له حقوق وعليه واجبات لان كلمة (مواطن) و (مواطنة) هي ابتكار حديث ..غير ان تتمتع المسلمين بحقوق المواطنة كان مسألة نظرية لانه –في الواقع- تم حرمان أغلبيتهم من المشاركة السياسية الاسباب سياسية ومذهبية ودينية ولعل اهمها سيادة النظم السلطوية السياسية في العديد من الاقطار الاسلامية . بعد هذه المقدمة نقول : اولا : ان الامام علي عليه السلام في زمانه كان قائد لاعظم دولة و اوسعها ثانيا : عندما اقدم الامام في خلافته على تلك الاصلاحات بل الانقلاب على كل تلك النظم والتطبيقات التي انتهجها من كان قبله من الخلفاء ما كانت صادرة عن هواجس او خوف او ضعف لمحابات جهة او ماشاكلها من المصالح واغايات بل كانت نابعة من جوهر الرسالة وطبيعته ورحه الانسانية السامية في اقامت العدالة وتطبيقها على جميع الموطنين دون استثناء . ثالثا : اقدم الامام منذ اليوم الاول لتوليه الخلافة بألغاء (العطاء الطبقي )الذي ابتدعه عمر في بداية خلافته حسب السابقة في الاسلام ووفق المنزلة الاجتماعية والذي استمر حتى خلافة عثمان ..لكن الامام ألغى ذلك النظام و جعله عطاء يتساوى فيه السابق و اللاحق بالاسلام و الزعيم والوضيع والمسلم وغيره والكل سواء والكل مواطن فلا فرق بين زيد و لا عمر . رابعا : اصدر قرارا و في بداية خلافته ايضا بان كتب الى ولاة الامصار ان ينفقوا ما يحصل لديهم من الاموال على ولاياتهم واوطانهم اولا ليتمتع المواطن بثروته و بناء وطنه ولا ينقلوها الى المركز الا ما فاض و زاد عن حاجاتهم و هذا مخالف وعكس ما كان يفعله من سابقه من الخلفاء حيث كانت ترسل اليهم اكداس الاموال و هذا ما تعسف به بعد ذلك خلفاء بني امية حيث يقول الخليفة (الوليد) لعماله احلبهم فاذا انتهى الحليب فاحلبلي (الدم ) !! خامسا : اعطاؤه الحقوق لكافة الاديان في حرية مباشرت طقوسها وعباداتها في بيعها وكنائسها وصوامعها واديرتها ظمانا لحقوق المواطنة سادسا : اطلاقه العنان لحرية الفكر و الرأي شرط ان لا يتعارض و القانون و يمس بالمجتمع فالجميع سواء سابعا : ان مفهوم المواطنة الحديثة هو تكافىء دماء كل المواطنين فلافرق بين سيد ووضيع ولا كبير وصغير وهذا ما طبقه الامام علي بحذافيره عندما وصله نبأ غارة الغامدي –احدقواد معاوية الذين كان يرسلهم الى حواضر الدولة الاسلامية للنهب والذبح والرعب والارهاب – بأنهم ذبحوا النصارى واليهود وسلبوا الحلي والاموال فتنهد الصعداء و قال : لو مات الانسان كمدا و حسرة ما كان عندي ملوما انهم اخواننا (دمائهم دمائنا ) انظر الغارات للثقفي وشرح النهج للمعتزلي وتاريخ الطبري ثامنا : فقد حوت وثيقة عهده الى مالك الاشتر واليه على مصر كثيرا من النظم المدنية والمساوات والعدالة بين الناس في مصر وعلى الوالي يجب مراعات التنوع في النسيج الاجتماعي لمصر تاسعا : ان ما بشر به الامام علي ( ع) نابع من طبيعته الانسانية المثالية في نشر قيم العدالة والمساوات في المجتمع و التسوية في الحقوق والواجبات ويصرح بها في موضوعية وشفافية تامة حيث يؤكد ومن منظومة قيمه الاخلاقية الرسالية كقوله كلكم ابناء ادم وادم من تراب عاشرا : تبقى نظرية الامام سبّاقة لعصره بآلاف السنين و هي مقولته المشهورة (الوطن ما حملك) حيث لم يجعله مؤطرا بمكان معين بل المتعين الاساسي للانسان ان يتوفر ما يكفل حقوقك فيه فذاك هو الوطن فما دمت في اي مكان و انت محترم وامن ولك كرامتك ومصونة حقوقك فتلك الارض (وطنك)وطبعا مع مراعاة الواجبات وكذلك قوله ( لا وطن مع فقر ولا غربة مع غنى)..هذا المبدأ العلوي الكبير الذي تجاوز نظرية المواطنة حتى في قمة مفهومها القومي الذي كان يعطي الأولوية للتراب والأرض أو حتى للإنسان المتميز بصفات عنصرية معينة تجاوزها إلى قمة عصر العولمة حينما بدأ الإنسان بذاته يتحول إلى قيمة مقدسة من هنا كان وصفه الذي جعل الوطن يتلازم مع الغنى ـ والغنى هنا يتجاوز المال والثروة ليعمّ حتى الحياة الاجتماعية التي لا تحرمه أي من رغبات الإنسان المشروعة بدءا من الاستقرار الجنسي النفسي والسكن وما إلى ذلك ـ كما أن الوطن ينتفي وجوده بمجرد أن يتحول الإنسان إلى مخلوق مستباح عديم القيمة وتكون شعارات أخرى دينية وقومية و آيديولوجية هي مقياسا لكل شيء دون الإنسان. و مرة أخرى حينما يُعلمنا علي ( ع ) أن القرآن (حمّــال أوجه( وأن الإنسان يرتكب جريمة حينما يقوم بتفسير القرآن ليتطابق مع اهوائه واطماعه ونزعاته وأنانيته لا مع ما جاء من اجله لاحقاق الحقوق والغاء العبوديات وتقرير حرية الإنسان و حقه في البحث والتفكير الحر وإذا ما كان البعض فهم كلماته خطأ فنفى نسبتها إليه فإنني أعتبر كلماته هذه اختصارا لكل الخلافات المذهبية الإسلامية والتي تشربت بالدم والحروب فلو نظرنا إلى القرآن على أنه كتاب يتعامل مع عقول وفهوم متعددة الأنواع والمستويات الثقافية والاستيعابية فمن الطبيعي إذا أن تتعدد معانيه . حقا أن المسلمين ـ سنة و شيعة ـ والاديان –مسيحية ويهودية وغيرها -مقصرون تماما لأنهم لم يستطيعوا استخلاص فلسفة شاملة كاملة تقوم على مبدأ أن الإنسان هو محور الكون و القدسية و أن في هذا الفلك تدور كواكب الحرية والواقعية وقبول تعدد الرأي، وأعذرني أيها الامام العظيم يا علي بن أبي طالب .. فلطالما تاه بلجج فكرك العظماء و حارت في كنهك الايات فقد كنت المؤسس الحقيقي للحرية و سيبقى فكرك املا للبشرية جمعاء تتمنى صياغته ليخرج للناس كتابا يوصلهم إلى رحاب الحرية و كرامة الإنسان بفضل كلماتك الفلسفية التي تمثل الأساس الديمقراطي السليم والحوار القويم والاحترام لكافة مكونات المجتمع وجعل التسامح ركيزة سامية للتلاقح والانفتاح الحضاري لاثراء الفكر الانساني وبناء المواطن الصالح . |