من المفاهيم الخاطئة السائدة بين بعض شباب اليوم وفتياته هي أ نّنا في عصر السرعة .
والعصر ـ والحقّ يقال ـ عصر سرعة ، في النقل والمواصلات ، والتواصل والاتصالات ، والفضائيات والمعلومات .
ولكن .. ما دخلُ ذلك في عمل أقوم به ويراد منِّي أن أنجزه على خير وجه وكما يرام ؟!
قد يكون دخله في أ نّه يهيِّئ لي مستلزمات العمل بسرعة أكبر من السابق . فبالأمس كنتُ ـ مثلاً ـ أستعين بمكتبة المدينة حتى أنجز بحثاً أو أعدّ دراسة ، الأمر الذي يتطلب مراجعات عديدة وأوقاتاً كثيرة وجهوداً طائلة ، واليوم المكتبة تقف ماثلة بين يديّ وتنتظر إشارة منِّي ، أو الضغط على أزرار معيّنة مما يمكنني من التسريع في إعداد البحث وإنجاز الدراسة .
لكنّ البحث نفسه يحتاج إلى زمن كاف حتى ينضج ويأتي مقنعاً متكاملاً ، ولا يعفي الكاتب أن يتذرّع بالسرعة إن كان بحثه أو دراسته غير مستوفية للشروط ، بل إنّ الإمكانات المتاحة ـ والمشار إليها ـ تجعل الحساب عسيراً على الباحث الذي يقصّر في بحثه ، فالإنتاج السريع غير المتأنّي كثيراً ما يكون باهتاً وعرضة للنقد وللنسيان بسرعة .
وقد تكون السيارة اختصرت لي الكثير من الوقت الذي كنت أضيّعه في الطريق إلى زيارة قريب أو صديق ، لكن طبيعة الزيارة ينبغي أن لا تقع تحت طائلة المقولة الشائعة (نحن في عصر السرعة) خاصّة إذا كانت الزيارة مما يوطّد العلاقات الاخوانية ، أو مما يعزّز صلة الرحم ، ويرطب الأجواء ويعيد ما تكدّر من مياه إلى صفائها ، أو حتى في دفع الهموم والغموم المتراكمة جرّاء اللهاث اليوميّ ، أو كانت مما يساعد في زيادة العلم والمعرفة .
لقد طالب الاسلام باختصار زيارتنا للمريض لأنّ المريض بطبيعة وضعه الصحّي والنفسي لا يتحمّل الإطالة في الحديث والإنفعال والمشاركة ، ولكنّه ـ أي الاسلام ـ لم يطالبنا باختصار زياراتنا لإخواننا وأصدقائنا الأصحّاء . نعم ، نهانا عن الإثقال عليهم واضطهادهم في البقاء لساعة متأخرة . أو البقاء عندهم رغم انشغالهم بأمور أهم .
السرعة مطلوبة في جوانب ومرفوضة في جوانب .
ففي أعمال البرّ والخير والإصلاح والإحسان ، العجلة مطلوبة ومحبوبة ولذا جاء في الحديث الشريف : «خير البرّ عاجله» .
وفي الأعمال التي تتطلب دقّة ومهارة وصبراً طويلاً وإتقاناً كبيراً ، تغدو السرعة كمن يضع المواد الغذائية في قدر يعمل بالضغط البخاريّ لأجل أن ينضج الطعام بسرعة قياسية ، والمتمتعون بذائقة جيِّدة للأطعمة يقولون إنّ الطعام حتى يكون لذيذاً شهياً فلا بدّ من أن يُطهى على مهل وليس على عجل .
لقد أصبحت السرعة طابعاً للعلاقات والصداقات والانتماءات السريعة ، وللزيجات السريعة ، والمعاملات السريعة ، والقراءات السريعة ، والمتابعات السريعة والوجبات السريعة ، ولذلك كثيراً ما انقلبت السرعة إلى ردّ فعل عكسيّ ، فالصداقة السريعة تتحول إلى عداوة مقيتة ، والزواج السريع إلى محاكم الطلاق ، والقراءة السريعة إلى الإستنتاجات الخاطئة ، والوجبات السريعة إلى المصحّات وعيادات الأطباء والصيدليات .
نعم ، لقد وصف الله تعالى الانسان بالعجلة في قوله : (خلق الانسان من عَجَل )() .
فهو يتعجّل الخير ، ويتعجّل النتائج ، ويتعجّل الصعود إلى القمّة ، ويتعجّل الوصول بسيارته إلى مقصده ، ويتعجّل قطف ثمار ما يزرع وهي فجّة ، ونسي أنّ «في العجلة الندامة وفي التأنّي السلامة» . ونسي في ظلّ عجلته وتسرّعه أنّ «من صبر ظفر ومن لجّ كفر» مثلما نسي أيضاً أنّ «مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه» .
جميلٌ أن لا نضيّع أوقاتنا هدراً .
وجميلٌ أن نوظّف كل دقيقة من دقائق حياتنا ، بل وكلّ لحظة فيما ينفع الناس وينفعنا .
جميلٌ أن لا نؤجّل عمل اليوم إلى غد .
جميلٌ أن نعجّل بالبرّ .
ولكن الأجمل :
أن لا نضحي بالجودة والإتقان والدقّة والكفاءة العالية ..
وبدلاً من أن يكون شعارنا (اسرع .. فأنت في عصر السرعة) .. ليكن شعارنا «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتمّه وأتقنه» .
source : البلاغ