كثيراً منا نقف من المسائل اللغوية موقفاً عاطفياً ظناً منا، أن أي تساؤل ينم عن نيات خبيثة، عن مؤامرة مبيتة ضد الرباط الوحيد الذي ما زال يجمع بين عرب اليوم. لهذا الموقف مبررات كثيرة، ترجع إلى تجربة الاستعمار الذي حاول جادّاً أن يقصي اللسان العربي من حقل الحياة العامة، باعتبار أنه وعاء الوجدان القومي.
لكن في ظروفنا الحالية، لم تعد العاطفة تلعب الدور الإيجابي المعهود، بل أصبحت حاجزاً يمنع من إدراك عمق المشكلات. وجب إذاً التحرر منها، بخاصة إذا كنا قد اتخذنا قراراً مؤيداً للمشروع الوحدوي، فلم نعد نحتاج إلى واعز عاطفي نبرر به ميولنا. علاوة على هذا، ينبني الموقف العاطفي على غلط منطقي، إذ يساوي بين الظاهرة الألسنية وبين شكل معين، يعتبره مثالاً لا يمكن أن يُجاوَز. لماذا نظن أن اللسان المعرب الذي نتعلمه في المدارس. والذي يختلف اختلافاً كبيراً عن لسان سيبويه، هو الصورة الوحيدة التي أُتيحت منذ الأزل للمنظومة اللغوية العربية. لو تصورنا لساناً دون إعراب تام ولا علامة تأنيث ولا مثنى ولا جمع تكسير، وهو تطور عادي في تاريخ الألسن، لو دُرِّس في المعاهد التربوية وكُتبت به آداب رفيعة وحُرِّرت به مقالات علمية وتفاهمت به فئات مختلفة، هل يمكن أن نقول إنه ليس لساناً وليس عربياً؟ ماذا يكون إذاً، ما دام يقوم بالدور المنوط بكل مادة لغوية منسقة ومقبولة؟
ليست النظرة السكونية إلى اللسان، سوى انعكاس للفلسفة الماورائية. تظهر لنا بديهية ما بقينا متعلقين بالماورائيات. وبمجرد ما نعتنق نظرية حركية تطورية ندرك في الحين أنه من الشطط ربط منطق ثقافة بكاملها بشكل لغوي عارض. إن مسايرة اللسان للتطورات الاجتماعية والتحولات التاريخية واقع قائم بالنسبة لكل مجموعة بشرية ولكل فترة من فترات حياتها. من غير المعقول أن نتصور أن المجموعة العربية وحدها غير خاضغة لهذا القانون العام، أو نتخيل أن المشكل اللغوي قابل لحل نهائي. ما نعانيه من اختلاف اللهجات، من صعوبة في النحو، وعدم دقة في الحرف، من تناقض في المصطلحات، تعانيه أيضاً، إن كثيراً وإنْ قليلاً، إنجليزية الولايات المتحدة، ولا أحد يربط مستقبل الثقافة الأميركية بانجليزية القرون الماضية. تحاول مجامع متخصصة أن تجد لكل مشكل لغوي حلاً مرضياً مؤقتاً، لأنها تعلم أن التطور يخلق باستمرار مشكلات جديدة.
لا شك أن سبب موقفنا العاطفي من التعريب هو الإحساس العميق أنه أمر عويص، لا يحل إلا في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية غير متوافرة الآن. في الوقت نفسه يبقى اللسان المعرب، رغم ما فيه من ضعف، الرباط الوحيد بين الكيانات العربية. إذا ضعف، ولو نسبياً، فقد العرب ما يجمع بينهم دون أي مقابل لأن المشكلات الثقافية واللغوية ستبقى قائمة.
هذا اعتراض قوي في الظروف الحالية، وليس من حق أحد أن يستهزىء به. قد نقبله مضطرين، لكن الاضطرار لا يعفينا من معرفة النتائج المترتبة عنه. في الحفاظ على اللسان المعرب على حاله مزية سياسية، هذا واضح، لكن فيه أيضاً استمرار الازدواجية. بل الواقع أنه لهجة خصوصية، نلجأ إليها في المحافل العربية، عندما نريد أن نثبت انتماءنا القومي وننساها كلياً في غير ذلك: في حياتنا العائلية والمهنية وحتى في معاملات الشارع.
هنا نتساءل: هل هناك تعادل بين الربح السياسي من الابقاء على اللسان المعرب دون إصلاح وبين ما نصرف على تعلمه وما يواكبه من أمية ومن ميوعة فكر؟ نؤدي عليه تلقينه ثمناً مباشراً، هو ثمن التربية الوطنية، وثمناً غير مباشر هو تعثر انتشار الثقافة العلمية العصرية، فنلجأ إلى المساعدة الأجنبية. هذا سؤال يطرحه بالفعل مخططو الاقتصاد الوطني، ويدل على تناقض قائم في حياتنا اليومية. هو الذي يرتكز إليه، بوعي أو بغير وعي، أعداء التعريب. ما لم يتناوله بالفحص ويواجهه بجد أنصار التعريب، فإنهم لن يخاطوبوا أنفسهم أو غيرهم بخطاب عقلاني مقنع.
إن اليونسكو تضع الأقطار العربية في مؤخرة لوائحها: معدل الأمية فيها مرتفع، معدل العلماء والباحثين والاختصاصيين منخفض. وهذا بالمقارنة، لا إلى مجتمعات بعيدة، بل إلى مجتمعات تشاركها الدين أو محنة الاستعمار أو التخلف الاقتصادي.
لابد هنا من شدّ الانتباه إلى نقطة مهمة: لا أحد يجزم، أن العملية ممتنعة تماماً. بل نقول فقط إن ثمنها مرتفع، علماً بأننا نعيش في عالم يتحكم فيه منطق الاقتصاد، منطق الموازنة المتسمرة بين المصروفات والعوائد. قد نحتفظ باللسان المعرب على حاله ونصل مع ذلك إلى مستوى رفيع، لكن بأي ثمن؟ بأي مصروف مالي؟ بأي جهد جسماني؟ في أي مدة زمنية؟ قد نقبل أن نصرف أضعاف الإنجليزي أو الروسي لتخريج مهندس أو طبيب، قد نقبل أن يقضي الطفل عشر سنين ليتقن لسانه القومي، عوض خمس في فرنسا أو أميركا، قد نصل إلى تكوين القدر الكافي من الاختصاصيين بالاعتماد على لسان غير قومي... لكن هذه كلها حلول مؤقتة لمشكل اقتصادي لا تمس في شيء المشكل الثقافي، مشكل العبء الذي يثقل كاهل العرب في منافستهم للمجتمعات الأخرى، ثم إذا كانت الكيانات العربية الصغيرة والغنية قادرة على تطبيق هذه الحلول، فالأمر ممتنع على الباقي الذي يمثل غالبية العرب.
أمام هذه الحقائق يعارض البعض فيسألون: وما القول في تجربة اليابان التي احتفظت بلسانها وثقافتها، ومع ذلك بزّت الغرب في ميدان العلم والتكنولوجيا؟
أعترف أني غير متخصص في الدراسات اليابانية، الكن المعترضين لا يأتون بشيء سوى ما ينشر من حين الى حين في الصحف السيارة، وهو لا يكفي لتكوين فكرة دقيقة عن أحوال اللسان الياباني وعلاقته بالنهضة الثقافية والعلمية الحديثة. لكى نناقش الموضوع نقاشاً مجدياً، لابد في نظري من الإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما هي الإصطلاحات التي أُدخلت على اللسان الياباني منذ ثورة الميجي؟
- ما هو قدر الازدواجية الموجودة فعلاً في الحياة الثقافية اليابانية؟ بالضبط ما هو دور اللسان الإنجليزي في البحث العلمي الياباني وفي تيسير المؤسسات التي لها فروع في الخارج؟
الهدف من هذه الأسئلة التحقق من أشياء أولية قبل اتخاذ اليابان كمثال يُحتذى. قد تكون التجربة اليابانية خاصة لا يمكن أن تعمم. وقد يكون مظهرها لا يوافق حقيقتها الداخلية، فنظن أن اليابان قد حلّت بنجاح مشكلاً اقتصادياً، وذلك بثمن لم تؤدّه هي بل أدّاه جيرانها تحت القهر والاحتلال العسكري.
ينحلّ إذاً مشكل التعريب في الخيار التالي: إما أن نعتبر اللسان الحالي الضامن الوحيد لخصوصية العرب فيجب أن نحافظ عليه مهما كان الثمن، والثمن هو الازدواجية من جهة والأمية من جهة ثانية، وإما أن ندرك أن خصوصية العرب تكمن في نوعية تحركهم في العالم المعاصر، وأن اللسان في صورته الحالية لا يمثل سوى مرحلة من مراحل مسيرة لغوية لا نهاية لها، فيجوز لنا أن ندخل عليه إصلاحات في الحرف والصرف والنحو والمعجم قد يتحول معها إلى لسان يختلف عن اللسان الحالي اختلاف هذا الأخير عن لغة الشعر الجاهلي.
بهذه الطريقة نقضي تدريجياً على الازدواجية، نفنّد عملياً الاعتراضات، المغرضة وغير المغرضة، على التعريب، ونبدع وسيلة للتفاهم سهلة وطيّعة قادرة على ترويج ثقافة جماهيرية وعصرية أي حاملة في كنهها فكرة الإصلاح الضروري المتواصل.
-----------------------------------
source : البلاغ