بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
مسالة البداء في ضوء إفادات معلم الأمة الشيخ المفيد "رحمه الله"
السيد سعيد اختر الرضوي
مؤسس وعميد لجنة بلال الإسلاميّة للتبشير
دار السلام ـ تانزانيا
إنّ مسألة البداء من المسائل العويصة التي لم تزل تتجاذبها الآراء بين علماء الإسلام، فأهل الجمهور يعيبون الشيعة بسببها ويشنعون عليهم، وليس منشأ ذلك إلاّ بسبب سوء تفسير البداء، بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يتحول من عزم إلى عزم بسبب حصول العلم بشيء أو مصلحة بعد مالم يكن حاصلاً من قبل وغير خفي أن البداء بهذا المعنى مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، والشيعة براء من هذا الاعتقاد، ومن افترى ذلك عليهم فقد افترى كذباً عظيماً.
وإنا إذا أمعنا النظر لوجدنا أن الاختلاف ليس إلاّ نزاعاً لفظياً فقط؛ لأن المثبتين يثبتون أمراً، والمنكرين ينكرون أمراً آخر.
فإن البداء يستعمل في الأدب العربي لمعان شتى، ولكن الأصل فيه من حيث الوضع اللغوي هو: الظهور، والظهور يمكن أن ينسب إلى الله سبحانه، أو إلى العباد.
فكل من حمل البداء على ظهور حال الشيء لله تعالى بعدما كان خافياً عليه، فقد أنكر هذا الاعتقاد؛ لأنه يستلزم القول بجهل الله ـ سبحانه وتعالى ـ وندمه ـ تعالى ربنا
عن ذلك علوا كبيرا ـ ولا يقول أحد من المسلمين بذلك، ولذلك نرى بعض علماء الشيعة ينكرون البداء مطلقاً؛ لأنهم يفسرونه بهاذ المعنى.
ثم نلفت النظر إلى الجهة الثانية، أي: نسبة الظهور إلى العبد ويراد منه: ظهور أمر للعبد بخلاف ما كان ينتظره، فالظهور بهذا المعنى يتعلق بعلم العبد، ولا علاقة له بعلم الله سبحانه والآية الكريمة تفسر البداء بهذا المعنى: (وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون)(1) ويفسرها شيخنا المفيد رحمه الله هكذا: (أي: ظهر لهم "للعباد" من فعله "فعل الله" بهم مالم يكن في احتسابهم) (2).
وإن اعتقاد الشيعة بالبداء مبني على هذا المعنى، ويمكن دعوى إجماع الأمة على صحته، ومعناه: أن البداء هو ظهور أمر غير مترقب، أو حدوث شيء لم يكن في حسبان العبد حدوثه ووقوعه فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يمحو ما يشاء ويثبت في الأمور التكوينية، كما أنّه يمحو ما يشاء ويثبت في الأمور التشريعية، فإنه تعالى كلّ يوم هو في شأن.
وشيخنا المفيد ( يقول في أوائل المقالات: (أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء، والإمراض بعد الإعفاء، والإماتة بعد الإحياء، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منها بالأعمال)(3).
وأما إطلاق لفظ البداء على هذا الاعتقاد فمبني على السمع كما بينه شيخنا المفيد رحمه الله في نفس الكتاب: (فأما إطلاق لفظ البداء: فإنما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله عز وجل، ولو لم يرد به سمع أعلم صحته ما استجزت إطلاقه، كما أنّه لو لم يرد علي سمع بأن الله تعالى يغضب ويرضى ويحب ويعجب لما أطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنه لما جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه، وقد أوضحت من علتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام) (4) وتفصيل
الكلام في هذا الموضوع يتوقف على توضيحات:
أ ـ بعض العقائد غير الإسلاميّة حول إرادة الله وقدرته.
ب ـ العقيدة الصحيحة الإسلاميّة.
ج ـ النسخ في التشريع والبداء في التكوين.
د ـ اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات.
هـ ـ ما هو المراد من "بدا لله "؟.
و ـ بعض أمثلة البداء من القرآن.
أ ـ بعض العقائد غير الإسلاميّة حول إرادة الله وقدرته:
1 ـ إنّ اليهود يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى قد فرغ عن الأمر، فلا يحدث شيئاً غير ما قدره في التقدير الأول، والله تعالى ـ حسب عقيدتهم ـ لا يقدر على تغيير شيءٍ من ذلك، ولذا لا يقولون بنسخ الشرائع، والى هذا الاعتقاد تشير الآية الكريمة: (قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)(5).
2 ـ وفلاسفة اليونان كانوا مصرين على نظريتهم أن الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد، ولذلك قالوا: إن واجب الوجود خلق العقل الأول فقط. والعقل الأول بسبب كونه ذا جهتين خلق العقل الثاني والفلك الأول، والعقل الثاني خلق العقل الثالث والفلك الثاني، وهلم جرا، حتّى وصلوا إلى العقل التاسع الذي خلق العقل العاشر والفلك التاسع، والعقل العاشر خلق باقي الموجودات.
فالله سبحانه وتعالى عندهم معطل الآن، فإنه لا يستطيع أن ينبه واحداً من تلك العقول على خطاياه؛ لأن هذا التنبيه أيضاً يكون فعلاً ثانياً، وهذا محال في حق الواحد المطلق حسب مزاعمهم.
3 ـ أصحاب الكمون والظهور كانوا يعتقدون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق جميع الأشياء في آن واحد، ولا تقدم هناك ولا تأخر في خلق آدم وخلق عيسى عليهما السلام، وكل ما نراه من التقدم والتأخر فإنما هو في الظهور فقط لا في أصل الخلقة.
4 ـ والنظام من المعتزلة تابع أصحاب الكمون والظهور، ولكنه أصلحه حسب زعمه فقال: إنّ هناك حلقة وسطاً بين العدم والوجود وسماها "الثبوت"، ومراده: أن الله تعالى قد أثبت كلّ شيءٍ دفعةً واحدة في الأزل، والتقدم والتأخر إنّما يحصل في ظهور شيءٍ بعد شيءٍ على منعة الوجود.
فهؤلاء كلهم قد عطلوا الله سبحانه عن كل عمل في هذه الأيام؛ لأنه قد فرغ من شؤون الخلق كافة يوم الأزل، وقد جف القلم بما هو كائن.
ب ـ العقيدة الصحيحة الإسلاميّة :
أما الإسلام فشدد النكير على تلك النظريات الفاسدة والتي تجعل الله معطلاً، غير قادر على شيءٍ ـ فلا نسخ هنالك ولا تغير ولا تبديل حسب مزاعمهم ـ والتي تقول: إنّ الدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم وإكرام الجار ـ مثلاً ـ لا علاقة لها بالسعادة والشقاوة.
ولكن القرآن يقول: (ألا له الخلق والأمر) (6)، ويقول (يسأله من في السماوات والأرض كلّ يوم هو في شأن)(7)، ويقول: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(8)، والله تعالى يبشر عباده فيقول: (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)(9)، ويقول: (ادعوني استجب لكم ) (10).
فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قادر، قاهر، فاعل بالإرادة، وهو يحيي، ويميت، ويبسط الرزق، ويقدر، ولا تتحرك ورقة في شجرة إلاّ
بإذنه ومشيئته، فجميع تغيرات العالم في التكوين والتشريع تحدث بإرادته وقدرته ومشيئته.
ونحن نعلم أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد أجرى في العالم سلسلة العلل والمعلولات والأسباب والمسببات، وتلك العلل والأسباب قد تكون مادية، وأخرى غير مادية مثل: الدعاء والصدقة وأمثالها من أعمال الخير كما ذكر آنفا، فإذا اكتملت الشرائط وظهرت العلة التامة فهنالك يوجد المعلول بإذن الله تعالى، وإلاّ فيؤخر إلى وقتٍ آخر معلومٍ.
ولكنا لا نقول: إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان لا يعلم متى يوجد ذلك الشيء، ولا أن كلّ ذلك كان موقوفاً على أمور كانت مجهولة لله حاشاه عن ذلك، بل الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان يعلم ـ حتّى من قبل خلق العالم ـ هل تكتمل الشرائط وهل تجتمع العلة التامة في الوقت الفلاني أم لا ؟. فهذا التغير أو التقدم والتأخر لا يحدث في علم الله سبحانه بل في علم الملائكة الموكلين بتدبير العالم، وفي بعض الأحيان في علم الحجج ـ عليهم السلام ـ الّذين كان الله تعالى أخبرهم بتلك الأمور، سواء كان الخبر مقروناً بالشروط أم لا ؟
ونذكر هنا ما بينه شيخنا المفيد ( حيث يقول: (وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط، فيتغير الحال فيه، قال الله تعالى: (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده)(11) فتبين أن الآجال على ضربين: ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان. ألا ترى إلى قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب) (12)، وقوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) ؟(13).
فبين أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع بالفسوق. وقال تعالى فيما أخبربه عن نوح ـ عليه السلام ـ في خطابه لقومه: (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرار) إلى آخر الآيات (14)، فاشترط لهم في مد الأجل وسبوغ النعم الاستغفار، فلما لم يفعلوه قطع آجالهم وبتر أعمارهم واستأصلهم بالعذاب.
فالبداء من الله تعالى يختص ما كان مشترطاً في التقدير، وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة، ولا من تعقب الرأي، تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً) (15). وبتعبير آخر، البداء صادر من علم الله وليس واقعاً في علم الله وبهذا نطقت الروايات: (16).
1 ـ عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال:(( ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له.))
2 ـ وقال أيضاً:(( إنّ الله لم يبد له من جهل.))
3 ـ وقال ـ عليه السلام ـ :(( ما عبدالله بشيء مثل البداء)).
ج ـ النسخ في التشريع والبداء في التكوين:
ينبغي أولاً أن نلفت النظر إلى: أن النسخ في الحقيقة نوع من البداء، كما يرى بوضوح في كتب الصدوق رحمه الله: كالاعتقادات وكتاب التوحيد، ولكنا نستعمل النسخ هنا كقسيم للبداء تبعاً للمتأخرين رضوان الله عليهم، وآثرنا هذا الاصطلاح احترازاً عن خلط المبحث، فإن النسخ متفق عليه بين المسلمين، بخلاف البداء.
فالنسخ: هو أن الله سبحانه ينزل شريعته على نبي لهداية أمته، وتلك الشريعة تناسب مستوى الارتقاء الذهني والوضع الاجتماعي الذي تمتاز به تلك الأمة وقتئذ والناس يكلفون باتباع تلك الشريعة الإلهية لإحراز سعادتهم الدنيوية، والنجاح في الآخرة بالفوز بنعيم الأبد.
والوقت يمر والقرون تمضي، والأمة تقدم في الفكر وترتقي في المجتمع، فينسخ الله تلك الشريعة بإرسال رسول جديد بشريعة جديدة لإرشاد وقيادة النوع الإنساني إلى أهداف عالية ومنازل سامية كما يقول الله سبحانه: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثله)(17).
أما اليهود والهندوس فيشنعون على المسلمين بسبب هذا القول ويقولون: )هل كان الله نسي شيئاً في الشريعة الأولى، أو أخطأ فيها فاحتاج إلى إكمالها أو إصلاحها بإرسال شريعة جديدة؟).
والحق أن الله سبحانه لا يسهو ولا ينسى ولا يخطئ ولا يندم ولكن الشريعة الأولى كانت متناسبة وحال الأمة في ذلك الوقت الخاص والبيئة الخاصة، وحينما تغيرت الأوضاع فانتهت فائدتها، وطالب النوع الإنساني بلسان الحال بشريعة أخرى كاملة لهداية الناس إلى الملأ الأعلى.
فعلى سبيل المثال: أن الخياط يخيط لباساً صغيراً لطفل صغير عمره سنتان، وهو يعلم حتّى قبل الخياطة أن الطفل سيحتاج بعد مدة قصيرة إلى لباس آخر يناسب جسمه آنذاك؛لأنه سينمو ويكبر حتّى لا يمكن له الاستفادة من هذا اللباس، و أيضاً ليمكن له الاستفادة منه حتّى بعد بلوغه عشرين سنة من عمره ؟ لأننا نعلم أن مقياس اللباس لا يزال يتغير كلّ سنة حتّى يبلغ الطفل أشده، وبعد ذلك يستمر بمقياس خاص يناسب جسمه إلى باقي عمره.
وهكذا يكون النسخ في الأمور التشريعية وكذلك يقضي الله ويقدر بالتغيير والتبدل في الأمور التكوينية، فيحيي زيداً ثم يميته، ويفقر خالداً ثم يغنيه، وهذا القضاء يكون محتوماً في بعض الأوقات، وفي آونة أخرى يكون معلقا على شرائط، وعلى أي حال فهذا التغير في حكم الله تعالى في هذه الموارد يسمى بالبداء، والله سبحانه وتعالى عالم بهذه التغيرات قبل خلق زيد وخالد، بل من قبل خلق الخلق كافة، كما يقول شيخنا المفيد قدس سره: (ليس البداء من الله تعالى تعقب رأي،ولا استدراك فائت، ولا انتقال من تدبير إلى تدبير لحدوث علم بما لم يكن في المعلوم) (18).
فمجمل القول هاهنا: أن البداء في التكوين كالنسخ في التشريع، وكلاهما يدلان على علم الله السابق، وقدرته البالغة، وحكمته الشاملة، وإرادته النافذة، واختياره
التام الكامل.
ولذا قال أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ : ((ما بدا لله في شيءٍ إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له)) (19).
وقال أيضاً: ((إنّ الله لم يبد له من جهل)) (20).
د ـ اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات:
ولمزيد التوضيح نقول: إنّ لله ـ سبحانه وتعالى ـ لوحين:
اللوح المحفوظ: الذي لا يطرأ عليه تغير أصلاً، وهذا التعبير يشير إلى علم الله سبحانه وتعالى.
ولوح المحو والإثبات: وهذا يشير إلى علم الملائكة الموكلين بتدبير العالم، وعلم الأنبياء والأئمة عليهم السلام، فاللوحان في الحقيقة مرتبتان، أو نوعان من العلم، وهذا التعبير أخذناه من صدر المتألهين والمجلسي رحمهما الله، وهما استنبطاه من قول الله سبحانه: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(21).
فهناك لوح سموه بـ "لوح المحو والإثبات" وهناك أم الكتاب، أي: أصل الكتاب، ولا يكون فيه محو ولا إثبات ولذلك عبروا عنه باللوح المحفوظ.
ولكن بعض العلماء المتأخرين لا يقبلون هذا التعبير؛ لأن اللوح والقلم هما ملكان حسب الروايات كما قال الصدوق رحمه الله في اعتقاداته (22)، وهذا الاعتراض غير وارد على نفس التوجيه، بل إلى التسمية فقط، فإن كان إطلاق لفظ اللوح على العلم غير مرضي فيمكن أن نقول: أم الكتاب كما هو مذكور في الآية، وكتاب المحو والإثبات الذي يشير إليه القرآن في هذه الآية وآيةٍ أخرى حيث يقول: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب)(23).
وشيخنا المفيد قدس سره أيضاً أشار إليه بلفظ "الكتابة" حينما قال: (وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغير الحال فيه) (24).
وعلى هذا فنقول على سبيل المثال: إنّ الله تعالى لو أخبر ملك الموت أن عمر زيد خمسون سنة، أي: مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا فإذا وصل الرحم فيزاد في عمره عشر سنوات، وإن قطعها فينقص من عمره عشر سنوات، والله سبحانه يعلم من قبل خلق الخلق أن زيداً سيصل رحمه ويعيش إلى ستين سنة، ولكن ملك الموت لا يعلم؛ لأن علمه مشروط، فعلم الله هو اللوح المحفوظ الذي لا تغير فيه ولا تبدل، وعلم ملك الموت هو لوح المحو والإثبات:
( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب).
(قضى أجلاً وأجل مسمى عنده)(25).
فحينما بلغ زيد أربعين سنة وأخبر الله سبحانه ملك الموت أنّه سيعمر إلى ستين لأنه يصل رحمه، فيبدو للملك من قضاء الله المحتوم مالم يكن يعلمه ولم يكن يترقبه، وهذا هو البداء وهذا البداء والظهور يكون في علم الملك، لا في علم الله تعالى.
ومقتضى هذا البيان: أن الله سبحانه ـ في بعض الأحيان ـ يخبر الملائكة والحجج ـ عليهم السلام ـ بأمر محتوم، أحيانا يعطون علما غير محتوم، والذي يكون معلقا على شرطه، فهم في كلّ آن متوجهون إلى الله تعالى للزيادة في علومهم ومعارفهم، ولا يحسبون لآن واحد أنهم مستغنون عن هداية الله سبحانه وإرشاده، فالله تعالى أمر حبيبه خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بهذا الدعاء: ( وقل رب زدني علم)(26). وأعطاه العلم بكل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
كما ويستدل عليه بما روي عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ أنّه قال: ((إنّ الله ـ عز وجل ـ اخبر محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بما كان منذ كانت الدنيا، وبما يكون إلى انقضاء الدنيا، وأخبره بالمحتوم
من ذلك، واستثنى عليه فيما سواه))(27).
فهذه الرواية تدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان عالماً بكل ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وكان يعلم المحتوم منها وغير المحتوم، الذي عبر عنه الإمام ـ عليه السلام ـ "واستثنى عليه فيما سواه". وروايات كثيرة تدل على أن الأئمة ـ عليهم السلام ـ أيضاً كانوا عالمين بها بتعليم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، ونعتقد أن النبي والأئمة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ اخبروا بالمحتوم على سبيل القطع والبت، وأخبروا بما سواها على سبيل الاحتمال.
ولذا قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : ((لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(28) )) (29). ومثله مروي عن الإمام زين العابدين ـ عليه السلام ـ (30).
هـ ما هو المراد من "بدا لله"؟:
لقد ذكرنا آنفاً أن البداء معناه: الظهور، ولذا قال سبحانه وتعالى: ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) (31). ولكن الروايات لا تقول "بدا من الله" بل جلها تقول: "بدا لله"، فما هو المراد من هذا التعبير؟.
لقد فسره علماؤنا الأبرار ـ رضوان الله عليهم ـ بعبارات شتى، وأحسنها وأكملها ما قاله معلم الأمة، شيخنا المفيد قدس سره في كتابه تصحيح الاعتقاد وهو كما يلي:
(قول الإمامية بالبداء طريقه السمع دون العقل، وقد جاءت الأخبار به عن أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ، والأصل في البداء هو: الظهور، قال الله تعالى: (وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون) يعني به: ظهر لهم من أفعال الله تعالى بهم ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم. قال تعالى: (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم)(32) يعني: ظهر لهم
جزاء كسبهم وبأن لهم ذلك، وتقول العرب: قد بدا لفلان عمل حن، وبدا له كلام فصيح، كما يقولون: بدا من فلان كذا، فيجعلون اللام قائمة مقامه، فالمعنى في قول الإمامية: بدا لله في كذا، أي: ظهر له فيه،ومعنى ظهر له: أي:ظهر منه) (33).
وإذا وصل الكلام إلى معنى كلمة "بدا لله" فأرى أن ننظر في الحديث الذي ذكره وفسره الشيخ الصدوق قدس سره في اعتقاداته، فإنه يقول:
(أما قول الصادق ـ عليه السلام ـ : ((ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني))فإنه يقول: ما ظهر لله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر في شيء كما ظهر له في ابني إسماعيل إذ اخترمه قبلي؛ ليعلم أنّه ليس بإمام بعدي، والله أعلم) (34).
فالصدوق رحمه الله أيضاً يقول هاهنا: إنّ المراد من "بدا لله" هو: بدا أمر لله أي: ظهر أمر الله، وهذا قريب مما قاله تلميذه المفيد رحمه الله.
ولقائل أن يقول: إنّ أسلوب المفيد رحمه الله أروع وأبدع، وإنه يلقي خطابه بأحسن طريق حتّى لا يبقى غموض في مراده.
ولشيخنا المبجل المفيد رواية أخرى تدل على المراد من هذه الرواية أيضاً وهي كما يلي:
(أخبرني أبو القاسم، عن محمّد بن يعقوب، عن علي بن محمّد، عن إسحاق بن محمّد عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن ـ عليه السلام ـ بعدما مضى ابنه أبو جعفر، وإني لا فكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما، أعني: أبا جعفر وأبا محمّد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ وإسماعيل بن جعفر بن محمّد ـ عليهم السلام ـ وأن قصتهما كقصتهما، فأقبل علي أبو الحسن موسى ـ عليه السلام ـ قبل أن أنطق، فقال: ((نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي محمّد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، وهو كما
حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، أبو محمّد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة)) (35).
فهذه الرواية أيضاً تفسر البداء بظهور مالم يكن يعرف لأبي محمّد الحسن العسكري ـ عليه السلام ـ قبل ذلك. ولا بأس أن أذكرها هنا شيئاً آخر ـ بأدنى مناسبة ـ حول هذه الرواية الصادقية، إذ قد رأيت في الكتب الانجليزية لـ "إيوانوف" ( lvanov) ـ والتي تتعلق بالفرقة الإسماعيلية ـ حكاية تشبه الأساطير، ولم أجدها في مجاميع أحاديث أصحابنا، إلاّ أنّه توجد الإشارة إليها في كتب الجدل والكلام، وهي هذه:
(إنّ الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ كان قد نص على إسماعيل ليكون الإمام بعده، ثم رأوا إسماعيل يشرب الخمر، فبدل الصادق ـ عليه السلام ـ النص وحوله إلى موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ ، فسئل عن ذلك ؟ فقال: بدا لله في إسماعيل ). وان فرقة من الإسماعيلية كانوا يعتمدون على هذه الحكاية لإثبات النص على إسماعيل ويدعون أن تبديل النص كان لتمويه الأعداء وكذلك كانت هنالك فرقة انقرضت، والذين كانوا يعتقدون بمقتضى هذه الحكاية أن النص كان أولاً لإسماعيل ثم تحول إلى موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ ، ولقد أشار إليها المحقق الطوسي رحمه الله في نقد المحصل، ولكنه أخطأ في ما أخطأ في نسبة هذه الرواية إلى الشيعة بدون تعيين(36).
وفي هذا السياق يمكننا أن ندرك مؤدى إفادات شيخنا المفيد رحمه الله في جواب الإسماعيلية، وتفنيد قول تلك الفرقة المنقرضة:
1 ـ فإنه سئل مرة عن قول الصادق ـ عليه السلام ـ : ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل؟ فقال: هل يبدي الله شيئاً ينقضه قبل تمامه ؟ (37)أي: هل يعين الله إماماً ثم يميته، أو ينسخ النص عليه قبل أوان إمامته؟
وأوضح مرة معنى الرواية الصادقية في هذه الألفاظ: يعني: ما ظهر له تعالى فعل في أحد من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ما ظهر له في إسماعيل، وذلك أنّه كان الخوف عليه من القتل مشتداً، والظن به غالباً فصرف الله عنه ذلك بدعاء الصادق ـ عليه السلام ـ ومناجاته لله، وبهذا جاء الأثر عن الرضا علي بن موسى ـ عليهم السلام ـ وليس الأمر في هذا الخبر على ما ظنه قوم من الشيعة في: أن النص قد استقر في إسماعيل فقبضه الله إليه وجعل الإمامة من بعده في موسى ـ عليه السلام ـ ، وقد جاءت الرواية بضد ذلك عن أئمة آل الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فروي أنهم قالوا: ((مهما بدا لله في شيء فإن لا يبدو له في نقل نبي عن نبوته ولا إمام عن إمامته، ولا مؤمن قد أخذ عهده بالإيمان عن إيمانه))(38).
3 ـ وعلى ذلك إجماع فقهاء الإمامية ـ ومعهم ـ في هذا الخصوص أثر عنهم ـ عليهم السلام ـ أنهم قالوا: ((مهما بدالله في شيء فلا يبدو له في نقل نبي عن نبوته، ولا إمام عن إمامته، لا مؤمن قد أخذ عهد بالإيمان عن إيمانه)) وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فقد بطل أيضاً هذا الفصل الذي اعتمدوه وجعلوه دلالة على نص أبي عبدالله على إسماعيل (39).
و ـ بعض أمثلة البداء من القرآن:
والآن: ينبغي التوجه إلى تعريف البداء المتقدم، ومؤداه: أن البداء لا يطلق على كلّ تغير في التكوين، بل يطلقا على ظهور أمر غير مترقب الذي لم يكن بحسبان العبد حدوثه، كما يقول شيخنا المفيد:
(وإنّما يوصف منها بالبداء مالم يكن في الإحتساب ظهوره، ولا في غالب الظن وقوعه... فهو خاص فيما يظهر من الفعل الذي كان وقوعه يبعد في النظر دون المعتاد، إذ لو كان في كلّ واقع من أفعال الله تعالى موصوفاً بالبداء في كلّ أفعاله، وذلك باطل بالاتفاق) (40).
وإن أحببنا الاطلاع على المصداق الأكمل والمظهر الأتم للبداء فينبغي النظر إلى بعض أمثلته في كتاب الله العزيز:
(1) ذبح إسماعيل ـ عليه السلام ـ
فنذكر أوّلاً قصة ذبح إسماعيل ـ عليه السلام ـ ، فالقرآن يقول: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إنّ شاء الله من الصابرين* فلما أسلما وتله للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين*إنّ هذا لهو البلاء المبين*وفديناه بذبح
عظيم) (41).
فالآيات والروايات تدل على أن إبراهيم الخليل رأى في المنام مرة بعد أخرى أنّه يذبح ولده إسماعيل ـ عليه السلام ـ لمرضات الله سبحانه، ولان رؤيا النبي تكون وحياً من الله، فشمر عن ساعديه لتنفيذ أمر مولاه، واستشار إسماعيل فأجابه بثبات القلب:(يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إنّ شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين) وانحنى إليه بالسكين، قلب جبرائيل السكين وجاء بكبش ووضعه مكان إسماعيل أما إبراهيم فهو لا يعلم شيئاً من هذه التحولات؛ لأنه كان قد شد عصابة على عينيه، فذبح بقوة العزم وصلابة الإيمان واطمئنان القلب ما كان يحسب أنّه ابنه الوحيد، ولكنه لما حل العصابة رأى عند قدميه كبشاً مذبوحاً، ووجد إسماعيل قائماً عنده صحيحاً سالماً بدون أي جراحة، وحينئذ نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وهذه الواقعة تشير إلى حقائق:
الأولى: أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان يرى في المنام أنّه يذبح إسماعيل، وتبعاً رأى كيفية ذبحه أيضاً، فنحن نستيقن أنّه أتبع تلك الكيفية حينما أراد ذبح ولده؛ لأن تلك الرؤيا كان وحياً من ربه، ومعناه: أنّه حينما شد العصابة على عينيه فإنما فعل ذلك إتباعاً لما رأى
نفسه يفعل في الرؤيا.
وهذا يستلزم أنّه لم يكن رأى في الرؤيا نتيجة عمله والمرحلة النهائية لاستسلامه وانقياده بسبب إغماض عينيه في تلك المرحلة من الرؤيا أيضاً. ولعله للسبب المذكور قال لولده: "إني أذبحك" ولم يقل إني ذبحتك فحينما ناداه الله سبحانه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فإنما كان هذا على سبيل الحقيقة لا المجاز، وأن إبراهيم الخليل قد أنجز حقاً كلّ ما كان رآه وعمله في الرؤيا.
الثانية: وبهذا يتضح لماذا أمره الله ـ سبحانه وتعالى ـ بواسطة الرؤيا ولم يرسل إليه ملكاً، أو لم يلهمه بذبح ولده لأن الوحي الكلامي كان مستلزماً أن يقال لإبراهيم: اذبح ولدك إسماعيل، ولكن المطلوب لم يكن ذبحه بل تهيؤ إبراهيم الخليل للذبح فقط، كان الأمر بذلك للامتحان والابتلاء، فلما استسلما لحكم الله فقد ظهرت مدارج انقيادهما وتسليمهما لأمر الله (كذلك نجزي المحسنين * إنّ هذا لهو البلاء المبين)(42).
الثالثة: أن الله ـ عز وجل ـ لم يظهر علمه المكنون لإبراهيم ـ عليه السلام ـ ، ولم يشاهد إبراهيم المرحلة النهائية لسعيه في ذبح إسماعيل؛ لأنه كان منافياً لمصلحة الاختبار والابتلاء، ومضاداً لما كان المقصود من هذا الأمر، أي: ازدياد مراتب إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ففي هذه الواقعة ستر الله المرحلة النهائية للعمل المطلوب، وبهذا وقع البداء في علم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وظهرت النتيجة بخلاف ما كانا يتوقعانها.
(2) إعطاء التوراة لموسى ـ عليه السلام ـ
والقصة الثانية تتعلق بموسى ـ عليه السلام ـ حينما دعاه ربه إلى الطور لإعطاء التوراة، فأمر الله أن يصوم ثلاثين يوماً، ثم يجيء إلى الطور. واستاك موسى ـ عليه السلام ـ في اليوم الثلاثين قبل ذهابه
إلى الطور، فأمره الله سبحانه بصيام عشرة أيام أخر، وأن يجيء في اليوم الأربعين بدون استياك ويذكر القرآن الكريم هذه المواعدة بهذه الألفاظ: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة)(43).
فالآية تقول صريحاً: إنّ ميقات ربه كان أربعين ليلة، ومع ذلك أخبر الله سبحانه موسى بذلك الميقات الإلهي في مرحلتين:
الأولى: أمره بصيام ثلاثين يوماً ثم أتمه بعشر، ولكن الميقات في العلم الإلهي كان أربعين ليلة من أول الأمر ولذا نرى القرآن يستعمل أسلوبين لذكر الميقات. فإذا نظر إلى موسى ـ عليه السلام ـ وعلمه فيخبره في مرحلتين: (ثلاثين ليلة،) (أتممناها بعشر) وإذا نظر إلى علم الله ـ عز وجل ـ فيقول (أربعين ليلة)وكذلك يقول في سورة البقرة: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العمل من بعده وأنتم ظالمون)(44)
وهذه الآية تشير إلى المصلحة التي كانت ملحوظة في إخبار موسى ـ عليه السلام ـ في مرحلتين كما يقول أبو جعفر ـ عليه السلام ـ : ((إنّ موسى ـ عليه السلام ـ لما خرج وافداً إلى ربه واعدهم ثلاثين يوماً، فلما زاد الله إلى الثلاثين عشراً قال قومه: قد أخلفنا موسى، فصنعوا ما صنعوا )) (45).
والله ـ سبحانه وتعالى ـ يذكر هذه الواقعة في سورة "طه" هكذا: (وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فاخرج لهم عجلاً جيداً له حوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفع)(46).
فظهرت المصلحة لماذا لم يأمر الله ـ عز وجل ـ موسى ـ عليه السلام ـ بصيام أربعين يوماً من أول الأمر ؟ لأنه لو كان كذلك لم يبق مجال لابتلاء بني إسرائيل وامتحان قلوبهم بالإيمان فهذه القصة ترشدنا إلى حقائق تالية:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى في بعض الأحيان لا يظهر الملائكة ولا النفوس القدسية على علمه المكنون وقضائه الحتم في أول وهلة، بل يخبرهم بذلك في مراحل، وهذا يبتني على مصالح العباد: كامتحانهم وابتلائهم، أو عوناً على هدايتهم وغير ذلك.
الثانية: أن أمة موسى ـ عليه السلام ـ ارتدت على دين الحق، واتخذت عبادة العمل وأشركت لما تأخر موسى ـ عليه السلام ـ عنهم لعشرة أيام فقط، مع أنّه كان حياً وكانوا ينتظرون رجوعه إليهم، فظهر: أن ضلال الأمة وطغيانها وغوايتها في غيبة النبي أو بعد موته في أقصر مدة ليس بشيء غريب يتعجب منه.
الثالثة: ويظهر من آيات سورة "طه" : أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن أخبرهم على سبيل القطع والحتم أنّه سيرجع بعد ثلاثين يوماً البتة، فإنه يقول: (يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فاخلفتم موعدي)(47).
لأنه لو كان واعدهم أنّه سيأتي بالتوراة في اليوم الثلاثين قطعاً وحتماً لكان لهم أن يجيبوا: نعم، لقد طال علينا العهد وأنت أخلفت موعدنا، فأخلفنا موعدك، فيعلم من هذا، أن الأنبياء والأئمة عليهم السلام حينما يخبرون الناس عن مثل هذه الأمور غير المحتومة فلا يخبرونهم على سبيل البت والقطع، بل على سبيل الاحتمال القوي، كما دلت الآية المتقدمة أن موسى ـ عليه السلام ـ كان قد واعد قومه أنّه يرجع إليهم بعد شهر واحد، ولكن لا على سبيل القطع وكذلك أفاد الشيخ الطوسي رحمه الله كما نقلوا عنه: (أن الحجج عليهم السلام لم يخبروا قط
بشيءٍ يقع فيه البداء على البت).
(3) كشف العذاب عن قوم يونس ـ عليه السلام ـ
قال الله سبحانه وتعالى: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)(48).
ويظهر من الروايات التفسيرية: أن النبي يونس ـ عليه السلام ـ أنذر قومه وهددهم بنزول العذاب في مدة ثلاثة أيام، ثم تركهم وخرج من بينهم، وخرج معه صحابي له، عابد، ولكن صحابيا آخر ـ الذي كان عالماً ـ بقي فيما بينهم، وكان هو بنفسه بين الخوف والرجاء، فبدأ بتوبيخهم وتهديدهم وقال لهم: إنّ عذاب الله لآت لا محالة، إلاّ أن ينيبوا أو يتوبوا إلى الله ويؤمنوا به وبنبيه يونس ـ عليه السلام ـ فآمنوا بصميم قلوبهم وحسن إسلامهم وبدأوا بالتضرع والابتهال والإستكانة لله تعالى، فجاءت سحابة العذاب واستقرت على رؤوسهم ثم كشفها الله عنهم كما تدل عليه الآية الكريمة.
ويستنبط من هذه القصة: أن النبي يونس ـ عليه السلام ـ كان توعدهم بنزول العذاب إنّ لم يؤمنوا لانه لو كان أخبرهم بقضاء حتم لم يبق مجال لصاحبه أن يحثهم على الإسلام ويدعوهم إلى التوبة والإنابة والتضرع والإبتهال، وكذلك لو كان هذا القضاء حتماً لم يكن لإيمانهم نفع ولا أثر، ولكانوا من الهالكين ولكنهم آمنوا فنجاهم الله من العذاب ولو لم يؤمنوا لنزل عليهم العذاب لا محالة.
فظهر من هذا: أن العذاب كان مشروطاً بعدم أيمانهم، ولما فات الشرط فات المشروط وبهذا وقع البداء في علم يونس ـ عليه السلام ـ ؛ لأنه كان لا يظن أن قومه سيؤمنون.
فهذه من المصاديق الكاملة للبداء بالمعنى الذي أفادنا به شيخنا المفيد رحمه الله، ويرى فيها جهات عديدة لوقوع البداء
وفي الختام نذكر روايات أبدى فيها الإمام أبو عبدالله والرضا عليهما السلام أهمية هذه العقيدة:
1 ـ عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ انه قال:(( ما عظم الله بمثل البداء)) (49).
2 ـ عن مالك الجهني قال سمعت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ يقول:(( لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه )) (50).
3 ـ عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال:(( أن الله لم يبد له من جهل)) (51).
4 ـ عن الريان الصلت قال: سمعت الرضا ـ عليه السلام ـ يقول:(( ما بعث الله نبياً قط إلاّ بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء)) (52).
وينبغي أن نلفت النظر إلى: أن إخواننا أهل الجمهور أيضاً يعتقدون بهذه الأمور، ولكنهم لا يسمونها البداء، ولا يسعنا ذكر أقوالهم هنا، ـ فمن أراد الاطلاع فعليه مراجعة تفاسير: فخر الدين الرازي، والزمخشري والبيضاوي تحت الآية الكريمة (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(53).
___________________
1 ـ الزمر: 47.
2 ـ المسائل العكبرية للشيخ المفيد قدس سره: 224.
3 ـ أوائل المقالات للشيخ المفيد قدس سره: 53.
4 ـ أوائل المقلات للشيخ المفيد قدس سره: 53.
5 ـ المائدة: 64.
6 ـ الأعراف: 54.
7 ـ الرحمن: 29.
8 ـ الرعد: 39.
9 ـ البقرة: 186.
10 ـ غافر: 60.
11 ـ الأنعام: 2.
12 ـ فاطر: 11.
13 ـ الأعراف: 96.
14 ـ نوح: 10 ـ 11.
15 ـ تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد قدس سره: 67، م 5، تحقيق حسين الديحاهي.
16 ـ راجع الكافي: ج1 باب البداء ص 146.
17 ـ البقرة: 106.
18 ـ المسائل العكبرية للشيخ المفيد قدس سره: 224.
19 ـ الكافي ـ كتاب التوحيد / باب البداء الحديث 9 ص 148.
20 ـ نفس المصدر، الحديث 9 ص 148.
21 ـ الرعد: 39.
22 ـ الاعتقادات للصدوق رحمه الله باب الاعتقاد في اللوح.
23 ـ فاطر: 11.
24 ـ تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد قدس سره.
25 ـ الأنعام: 2.
26 ـ طه: 114.
27 ـ الكافي كتاب التوحيد، باب البداء.
28 ـ الرعد: 39.
29 ـ بحار الأنوار (الطبعة الجديدة) 4: 97.
30 ـ نفس المصدر: 118.
31 ـ الزمر: 47.
32 ـ الزمر: 48.
33 ـ تصحيح الاعتقاد للمفيد قدس سره.
34 ـ الاعتقادات ـ باب الاعتقاد في البداء ـ للصدوق قدس سره.
35 ـ الارشاد للمفيد قدس سره 2: 337.
36 ـ بحار الأنوار 4: 123.
37 ـ المسائل العكبرية للمفيد قدس سره 2: 337.
38 ـ المسائل العكبرية للمفيد قدس سره: 224 ـ 225.
39 ـ الفصول المختارة للمفيد قدس سره: 251.
40 ـ تصحيح الاعتقاد للمفيد قدس سره: 251.
41 ـ الصافات: 102 ـ 107.
42 ـ الصافات 103.
43 ـ الأعراف 142.
44 ـ البقرة: 51.
45 ـ بحار الأنوار 4: 132، وتفسير الميزان 8: 266 نقلاً عن تفسير العياشي.
46 ـ طه: 83 ـ 89: وانظر أيضاً الأعراف: 148 ـ 152.
47 ـ طه: 86.
48 ـ يونس: 98.
49 ـ الكافي كتاب التوحيد، باب البداء.
50 ـ الكافي كتاب التوحيد، باب البداء.
51 ـ الكافي كتاب التوحيد، باب البداء
52 ـ الكافي كتاب التوحيد، باب البداء.
53 ـ الرعد: 39.
source : http://www.alhassanain.com