يبين القرآن الكريم من خلال آياته الكريمة - ذات الصلة - عدة مظاهر واتجاهات تستثير دفائن العقول وكوامن النفوس عند الإنسان لغرض التفكير والنظر والتأمل في الكون وبداية الخلق والإعجاز القرآني وفي ذات الإنسان روحاً وجسداً وهكذا لتظهر خصوصيته المتميزة وحدود علمه وسقف أفكاره وتطلعاته - على مستوى الفرد أو الأمة -. يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) الغاشية الآيات 17-20 (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدا الخلق) العنكبوت 29/20، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) سورة ص38/29، (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) الإسراء 17/85.
(أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ) الأعراف 7/185.
فإعمال العقل أي تشغيل الفكر في الذات الإنسانية، والتطلع نحو الحياة والكون، كل ذلك يدفع الإنسان إلى المزيد من التطور العلمي والمعرفة الحياتية، وإثارة التساؤلات والإشكاليات بشكل عام في الخلق وتجارب الإنسان وإدارة حياته الاجتماعية والسياسية مما تعكس روح الجدل والحوار والتنافس والتعارض، إنها حالة طبيعية في الإنسان، امتدادية لفطرته التي خلقها الله وأودع أسرارها وقوانينها في ذات الإنسان وكما قيل (الإسلام دين الفطرة)، يقول سبحانه وتعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الروم30/30.
إذاً، استجابةً وتتويجاً للطبيعة البشرية المتأصلة في الفطرة الإنسانية، تدعونا الآيات المباركة للحوار والنقاش والتعارض من أجل بناء أفضل لمدنية الإنسان وحضارته على مستوى مبادئه الفكرية وسلوكياته وإداراته لشؤون حياته وعلاقاته مع بني نوعه.
والملاحظ على النصوص القرآنية المقدسة التي تبين حالات الأنبياء والرسل عليهم السلام مع أقوامهم إنما تبدأ بالحوار - وفي البدء كانت الكلمة - قال سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل16/125.
من صور الحوار في القرآن:
نلاحظ أن الحوار يأخذ طابعاً خاصاً بين الرسول أو النبي المبلّغ وبين قومه في عموم قصص الأنبياء عليهم السلام لا يخلو من المحبة والوداد، يقوم على أسس الحجج العقلية والوجدانية وأحياناً النقلية، يظهر بإشراقة المعاجز الكريمة حسب الاستيعاب من المجتمع والحكمة الإلهية، فيبدأ الحوار ويتطور من حديث الحكمة والموعظة إلى مستويات الجدل والتعارض حتى تصل الأمور إلى التحدي والتصادم للمتضرّرين مصلحياً والى الإيمان والطمأنينة والاستقرار للصادقين والواعين.
ففي تجربة النبي إبراهيم عليه السلام اصطدم قومه بالحقيقة ولكنهم واجهوه بالعنف والقسوة بعد هزيمتهم فكرياً (قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) والنتيجة نسمعها من القرآن الكريم (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) سورة الأنبياء 21/ الآيات 62-70.
فالمعجزة الإلهية هزمت الأعداء وكرست الإيمان في قلوب الواعين.
وربما يأخذ الحوار طابعاً متميزاً بين الله الخالق المدبر وبين عباده عبر الرسول المبلّغ (صلى الله عليه وآله) ، يظهر من خلاله عجز الإنسان أمام إرادة الله عز وجل، كما وأنه سبحانه يترك للإنسان فرصاً لممارسة التحدي التجريبي على ضوء إمكانياته وقدراته لنستمع إلى بعض الآيات المباركة في هذا المجال، يقول سبحانه وتعالى:
(وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) البقرة 2/23-24، وفي آية أخرى في الاتجاه ذاته يقول سبحانه: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الإسراء17/ 88.
وتتجسد الحالة الموضوعية بعمق حينما نشهد من خلال القرآن الكريم معصية الشيطان لأوامر الله سبحانه حينما أمره بالسجود لآدم كيف أن الله سبحانه يسمح لهذا العاصي المتكبر أن يبدي وجهة نظره ليدافع عنها ويتطور الحديث بجواره فتظهر بواطن إبليس الاستكبارية ودواخله الشيطانية حتى يتحول إلى فتنة الحياة، يقول عز وجل: (.. ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف7/ الآيات 11-16.
وتطالعنا النصوص المباركة - أيضاً - في تبيان الحوار والنقاش والتحدي بين النبي سليمان (عليه السلام) القائد الحاكم وبين عنصر من عناصره غير المنضبط أمام قراراته إنه جندي من جنوده في سلطته الحياتية الكبرى - إنه الهدهد الطائر المعروف - يحدث هذا الجدل والحوار بين النبي القائد ومتحد لمعلوماته ليس من البشر وإنما جاء هذه المرة بصورة الهدهد.
وبالفعل يكشف لنا القرآن الكريم عن لوحة فنية تاريخية رائعة تمتاز بروح رياضية هادئة وذلك في واقعة مهمة من وقائع الأنبياء عليهم السلام تبدأ بمحاسبة النبي عليه السلام للهدهد الطائر الذي تغيب عن الحضور في الساعة المحددة أمام السلطة الحاكمة، فيتقدم الطائر هذا بمسوغات تتشفع لغيابه، فيحدث النبي عليه السلام بلهجة حوارية لا تخلو من التحدي في بيان معلوماتية جديدة اكتشفها بنفسه، على كل حال يفتح هذا الحوار باباً واسعاً لفتح كبير.
يقول الله عز وجل في آياته المباركة (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلاّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) النمل 27/20-28.
حرية الاختيار تكريم إلهي:
بعد هذه المقدمة نأتي إلى واقع الرسالة والرسول والمعارضة من البشر لنعيش أجواءً من الحالات البشرية النابعة من الفطرة الداخلية بدءاً من أدب الحوار وأسبابه ومنطلقاته، وانتهاءً بالنتائج المترتبة إيجاباً وسلباً، مروراً بواقع المناقشات وأسس المعارضة وطريقة العلاج.
في البداية - وكما أشرنا - يعتبر القرآن الكريم أساليب الحوار مع المعارضة في أطرها الفكرية - الثقافية، والحركية - السياسية إنما هي صادرة عن طبيعة الإنسان وتموجاته وتنوع حالاته المزاجية وتأثيراته البيئية المتعددة إضافة إلى عوامل الوراثة والوضع النفسي الخاص.. كل ذلك يدفعه إلى الانسجام النسبي مع الوضع القائم، والاختلاف النسبي أيضاً. وكما هو معلوم، إن الإنسان بطبيعته هو مخلوق مزدوج الطاقات، مزدوج القدرات، مركب الإمكانيات (نفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها)الشمس 91/8.
ولو أراد الله سبحانه أن يجعل الإنسان في خطى الإيمان والاستقامة لسلبه حرية الاختيار كالملائكة مثلاً، بينما خلق الله الإنسان ليكون حراً مختاراً بذاته يقول عز وجل: (َلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ونس 10/99.
فهو حر في اختيار عقيدته ومبادئه وسلوكه وطريقة تفكيره وهنا تكمن ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات ليستعين بطاقاته العقلية التي منحها الله سبحانه إليه، ويستفيد قدر استيعابه من التجارب الإنسانية الميدانية وكما لا يخفى إنه يسأل عن كل ذلك.
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس 91/9-10.
ومن هنا يتميز الإنسان بأنه سيد مكرم على الأرض (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..) الإسراء 17/70.
وقد منحه الله تلك القدرات العقلية والنفسية بما يمكنه من معرفة جوانب الحق في الرسالة والحياة، يقول سبحانه وتعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة2/ 242.
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الزخرف 43/3.
ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (قوام المرء عقله ولا دين لمن لا عقل له) البحار ج1 ص86.
والإمام علي عليه السلام يقول: (العقل أقوى أساس)، (العقل رسول الحق)، (بالعقل صلاح كل آمر)، (أصل الإنسان لبّه، وعقله دينه) البحار ج1 ص82.
وفي أصول الكافي ج1 ص26 عن الباقر عليه السلام: (لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك إياك آمر وإياك أنهي وإياك أثيب وإياك أعاقب).
ولقد جاءت رسالة الله عز وجل تتويجاً لتلك القدرات والطاقات الكامنة في الإنسان، لإقامة النظام السياسي والاجتماعي العادل، (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..) الأعراف 7/157.ليحررهم من قيود المادة وترسبات الوراثة والعقد النفسية وهكذا.
مع كل تلك الألطاف الربانية لإنقاذ الإنسان والأمة تترك مساحة مفتوحة للاختيار دون قسر أو إجبار، ليختار الإنسان بملء الإرادة ما يؤمن به من فكر وما يروق له من نظام كل ذلك بعد تبليغه وإرشاده.
ومن هنا - بالتحديد - نفهم مهمة النبي (صلى الله عليه وآله) محصورة في تبليغ الرسالة ودعوة الناس إليها وتبيان أحكام الله سبحانه:
(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور 24/ 54.
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) الغاشية 88/ 21-22.
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاغُ) الشورى 42/ 48.
فدور الرسول، الداعية، المبلغ، المذكّر وهو في مهماته المقدسة تلك لا تمنحه أية سلطة على الناس أو أية صفة تسلطية عليهم (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) وهذا بحد ذاته مظهر من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان، واللطف بعباده، ليستقل برأيه وعمله ونظامه.
نعم إنه أمر خارج عن مهمات النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما يعود لاستعدادات الإيمان عند المتلقين (إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ ضلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل 16/125.
نعم على الرسول (صلى الله عليه وآله) تبليغ الناس ودعوتهم للإيمان (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة 5/67.
فالعلاقة بين المبلغ وعملية الهداية ليست حتمية منجزة لا تتخلف عن وقوعها بالمنحى الإيحائي شأنها شأن العمليات الرياضية، تتبع نتائجها مقدماتها حتماً فالمسألة تختلف لأنها بحاجة إلى حوار ومناقشة وإقناع ليتم الانجذاب النفسي والعقلي وتزداد بذلك الكشوفات الإيمانية التي تتصاعد أهميتها وتنمو آثارها بتبلور الرؤى وتقدم الوعي.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء 21/107.
والقرآن الكريم ليس حديثاً تراثياً - كما تعلمون - وإنما هو دستور حي يواصل عطاءاته على مر العصور.
يقول الإمام الرضا عليه السلام عن أبيه عليه السلام إن رجلاً سأل أبا عبد الله عليه السلام ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة) بحار الأنوار ج12 ص15.
هكذا يبني القرآن الكريم أسس التعامل على ضوء المفاهيم الإنسانية كمركز توحيد وقاعدة انطلاق نحو بناء الحياة، ففي سياق القرآن المجيد تبرز المعارضة الفكرية والسياسية من منطلقات إنسانية وطبيعية (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الإنسان 76/ 3.
مع كل ما يقدمه المبلغ من أساليب للتأثير، ويلح في حثه بالالتزام والإيمان - بالترغيب والترهيب - يبقي الأبواب مفتوحة أمام كل الاحتمالات - إيجاباً وسلباً - فالمتلقون يمتلكون بأيديهم القرار في الاختيار ويسألون عن قناعاتهم تلك:
(آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت 29/1-3.
من كل ما سبق نستنتج أن المسؤولية والحرية هما توأم متلازمان للوصول إلى البناء الرصين للنفس الإنسانية والمجتمع والنظام والإدارة - خصوصاً في عصرنا عصر الغيبة - لأن الحرية بلا مسؤولية لا تعني إلا الضياع والفوضى والدمار أي سيادة لغة الغاب، والمسؤولية بلا حرية لا تعني إلا التسلط والتعسف والفردية والاستبداد، فكما أن الإسلام يمنح الحرية للإنسان بعد التبيان والتوضيح:
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الإنسان 76/ 3.
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ( البقرة 2/256.
في الوقت ذاته يحمل مسؤولية التبليغ والإرشاد على المؤمنين أبناء الإسلام، انطلاقاً من فروض الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) آل عمران 3/110.
الفرصة الذهبية:
وحينما تتاح فرصة إقامة السلطة على أسس الإسلام إنما هي الفرصة الذهبية للمؤمنين، إنها ليست هي الغاية في بلوغها وإنما ستبدأ مسؤولية متقابلة معها في دعم المسيرة وتسديد المشروع، وبمعنى آخر تبرز أمام سلطة الداعين إلى الله، أي سلطة الدولة القائمة تبرز سلطة المجتمع المؤمن، هذه السلطة المشروعة هي التي تدفع بالدولة والمجتمع نحو التكامل ضمن خطة مشتركة ومتكاملة، إنها منهجية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم إنها المعارضة المشروعة لأجل البناء الأفضل، فالمفاهيم القرآنية التي عشنا مع بعضها في الحوار والاختلاف وأدب المعارضة تمنح داخل المجتمع الإسلامي نوعاً من توزيع السلطة والتعاون على إقامتها من قبل الجميع السلطة والناس، والكل يتحمل مسؤولياته من موقعه في ممارسة السلطة للوصول إلى حياة أفضل.
يقول سبحانه وتعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) الحج12/40.
يقول العلامة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير هذه الآية المباركة (والمعنى ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض لهدم في كل شريعة بناء المكان الذي يصلى فيه..) مجمع البيان المجلد الرابع ح17 ص112.
فالسلطة المؤمنة تقيم أحكام الله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) الحج 12/41.
يقول العلامة الطبرسي: (فالمعنى الذين أعطيناهم ما به يصح الفعل منهم وسلطناهم في الأرض أدوا الصلاة بحقوقها وأعطوا ما افترض الله عليهم من الزكاة..) مجمع البيان المرجع ذاته ص113.
وبالمقابل يتوجه المسلمون لتطبيق فروض الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقويم السلطة وانحراف المجتمع إن وجد من باب (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
يقول سبحانه وتعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران 3/104.
يقول العلامة الطبرسي، وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظم موقعهما ومحلهما في الدين لأنه تعالى علق الفلاح بهما.. ويروى عن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه.. جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو على المنبر فقال يا رسول الله من خير الناس؟ قال: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم) مجمع البيان، المجلد 2 ح4 ص160.
فإذاً كل مسلم - فرداً كان أو جماعة - يمتلك حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي هو عضو في دائرة السلطة الإسلامية العامة، هذه العضوية تخوّله ممارسة حق النقد الداخلي والاعتراض وتبيان الرأي بحرية، كما هو من حقه أن يجتهد لإبرازها هذا من جانب ومن جانب آخر إن من حقه أيضاً أن يمارس في ظروف معينة حقه في شورى الإدارة والحكم، (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ..) آل عمران 3/140.
حينذاك يكون مسؤولاً أمام الله والأمة سواء كان في صف الموالاة للحكم أو المعارضة، وأي مصادرة أو إلغاء لهذا الحق من قبل السلطة القائمة صاحبة القوة والنفوذ إنما هو عبث بتعاليم القرآن المتوجّه للفطرة الإنسانية - كما أشرنا لذلك - .
فلكلِّ حقه ولكل حدوده، والمعارضة الحقة ترتفع عنها إشكالية الاحتراف وإنما هي واجب وحق من أجل الأمة والنظام والإنسان. ولا يمكن لأية سلطة مهما بلغت قوتها أن تقضي على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعليه فالمفروض أن تسير الأمة بكاملها مسيرة متوازنة ضمن أجواء تكريس الأسس الشرعية للسلطة والناس معاً فالأسس الشرعية هي التي تمنح الأمة أي الرعية، سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي هي تقع موازية للسلطة الحاكمة أي الدولة التي هي بدورها تسعى لإقامة حكم الله، والمحصلة من ذلك نقول:
إن السلطتين المتوازيتين وبروح استقلالية كلٌّ يأخذ شرعيته من القرآن الكريم ضمن المسؤوليات والصلاحيات لتتكامل عملية البناء والنهوض.
إنّ آلية المشاركة في السلطة على مستوى الإجماع السياسي الإسلامي تشكل الفرصة الذهبية حقاً في تحمل المسؤوليات ضمن أطر الحرية المشروعة على ضوء موازين الشورى أو ما يصطلح عليه بالديمقراطية.
ولابد أن نشير هنا إلى سلطة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) العامة يجب أن تكون بعيدة عن محاولات التعطيل أو الاحتواء من قبل السلطة - في عصر الغيبة - بل المفروض قرآنياً - مع رعاية الظروف الموضوعية في مصلحة الأمة - أن تستمر الحالة العامة بالطريقة المفتوحة عبر قنواتها الطبيعية التي هي أساساً تخدم الحاكم أولاً والمجتمع ثانياً، فهي إذ تقوّم سياسة الحاكم والسلطة السياسية القائمة إنما هي تفجر طاقات الأمة الكامنة وتخرج الحالة الاحتكارية والانفرادية والتسلطية من طرف واحد، بل ما نستفيده مما سبق من الحريات والمسؤوليات أن لا تبقى مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محدودة في أطر الوعظ والإرشاد فقط وإنما تنزل بمشروعها المتكامل وتتداخل في العمق التنفيذي الموازي لعمق سلطة الحكومة. وههنا يتحقق الطموح في تنشيط تداولية السلطة وإصلاحها وسد ثغراتها باستمرار، لتتوحد الطاقات في مسيرة تصاعدية تجديدية.
أما إشكالية تفاوت القوة والغلبة لأقوى السلطتين فهي خارجة بالضرورة لأن ذلك يدعو إلى العنف والاقتتال والتكفير مما يبعد العناية الإلهية عن المسلمين عامة.
بينما يكمن الحل في فتح الحوار والجدال بالتي هي أحسن والمناقشة وتبادل الآراء واحترامها وهذا الحل هو الجهاد بعينه في ظروف معينة، وهنا يأتي فضل المجاهدين على القاعدين في تحمل المسؤولية وخوض الغمار وتقديم التضحيات إن استوجب ذلك دفاعاً عن حقوق الأمة وسلطة الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول الإمام الحسين عليه السلام: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..).
ولإدامة هذه السلطة الشرعية وتكريسها في الأمة وقف بتلك التضحيات الجسام يوم عاشوراء. ومن قال إن الإصلاح في الأمة يمرّ دون تضحيات.
أما الاختلاف والتعارض الذين يوصلنا إلى المنازعة والضعف فهو منهي عنه (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..) الأنفال 8/46.
والاختلاف والمعارضة أمران ذاتيان قلبيان طبيعيان كما قلنا لكنه محدد في أطر المسؤولية إنها الإشارة الحمراء الفاصلة بين الحالة الإيمانية وغيرها.
وليكن الهدف من الاختلاف والمعارضة في أجواء الإيمان والإسلام إنما لإيجاد المزيد من الوعي والتطور بينما النزاع يخلق الضعف والخسارة والتقهقر.
لذلك يركز علينا القرآن الكريم تعاليمه في هذا المجال بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل16/125..
وقصص الأنبياء مع أقوامهم مليئة بالعبر والمواقف ولكي يتوصل الإنسان إلى القناعة التامة بدينه وفكره ونظامه لابد أن يتحاور ويناقش ويعارض تحت سقف الحرية والمسؤولية.
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) البقرة 2/256.
يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان (لا إكراه في الدين نفي الدين الإجباري لما أن الدين هو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القبلية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية.. [ثم يقول] وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يُبتنَ على السيف والدم.. على خلاف ما زعم عدة من الباحثين... واستدلوا بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين -. [ويضيف] إن القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه) الطباطبائي، العلامة سيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن ج2 ص342-343.
يذكر الإمام الشيرازي الراحل قدس سره في فقه الجهاد، بأن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لما ظفر بالمشركين المقاتلين في بدر لم يأمر بقتلهم بل أخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم ولم يجبرهم على اعتناق دين الإسلام. فقه الجهاد ص19.
وهكذا فرض الإسلام الجزية على أولئك الذين لم يدخلوا في دولة الرسول (صلى الله عليه وآله) والجزية مرسوم مالي يعبر عن حق المواطنة يدفعها أهل الذمة لحماية حقوقهم ورعايتها ضمن دولة الإسلام (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس/99. والإمام علي عليه السلام عبر عن أولئك الذين حاربوه في معركة الجمل بانهم اخواننا بغوا علينا كما يلاحظ ذلك في سيرة الإمام علي عليه السلام وحتى الخوارج الذين عارضوه واتهموه لم يمنع عن العطاء ولم يبادلهم بما اتهموه وهذه الشواهد التاريخية تطبيقات حية لتعاليم القرآن الكريم.
وهكذا نفهم من السياق القرآني أنه يوظف طاقات الأمة بالسلطة القائمة وعموم المسلمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر نحو البناء والتكامل عبر الحوار الدائم بين السلطتين المشروعيتين.