شعار: لقد التقيت بأناس يعدون بيضا في أمريكا، بل وتحدثت إليهم حتى تناولت طعامي معهم. ولكن موقف الرجل الأبيض كان قد تلاشى من عقولهم، بسبب هذا الدين (الإسلام).
(مالكولم إكس/ مالك الشباظ في رسالة من مكة)
لقد تم حُسبان اختفاء العنصرية نتيجة لعقلانية الحداثة، والتي لا تجتمع معها العنصرية، أمراً مفروغاً منه، وواحدا من الوعود الكثيرة التي لم تف بها الحداثة. فما نراه اليوم من تفرقة ذات تسميات مختلفة، مثل القومية والنازية وغيرها، ما هي إلا تقسيمات على لحن بدأ منذ عام 1492 متمثلاً في عنصرية دينية إثنية منظمة ضد اليهود والمسلمين. وهذه العنصرية ستصبح أحد مصادر شقائنا، وأحد الأخطار المهددة لنا في القرن الحادي والعشرين، على الأقل في صورة أساطير ذات مركزية أوروبية وتفرقة على مستوى العالم بين الحضارة الغربية والبرابرة الآخرين (ضياء الدين ساردار).
وهذا التطور لا يدعو إلى الدهشة إذا ما كان الإنسان واعياً للعاملين المؤثرين في هذا الصدد: تؤثر انتماءات الإنسان العائلية وتوجهاته تأثيرا كبيرا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتعرض الشعور القومي في الأزمنة المختلفة لتغيرات تتخذ أشكالا مختلفة في التعبير. فالشعور الوطني (الذي لم يصل إلى حد التعصب القومي البغيض) في آخر الأمر ليس إلا فكرة الانتماء العائلي ممتداً إلى القبيلة. وهذا الشعور سلوك طبيعي، لكنه يخدم عملية تأمين الفرد والحيوان. وتظهر الأمة نفسها في صورة العائلة الممتدة أو العائلة الكبيرة. والولاء للرابطة التي تتيح لي التعايش الاجتماعي وتنمي حياتي وتؤمن سبل معيشتى لهو فضيلة تحترم بلا شك.
والوجه الآخر لنفس هذه العملة مقبول ومعروف تماماً، وهو أن الخوف والرعب من الغريب _الذي لم نعرفه أو نتعرف عليه بعد _ هو في جوهره رد فعل طبيعي، بل ضروري. ويقول القرآن مشجعاً الإنسان لكي يتغلب على هذا الخوف في سورة الروم الآية: (ومن آياتهِ خَلقُ السمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكُم وألوانِكُم إنَّ في ذلك لآيات للعالمين). (إنّا خَلَقناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجَعَلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لتعارَفوا إنَّ أكرمكُم عند اللهِ أتقاكُم).
يعرض القرآن معترفاً بهذه الحقيقة صلة الدم والنسب التي تنتج عن الانتساب أو الزواج كقيمة تستحق الحماية كما جاء في الآية 54 من سورة الفرقان: (وَهُوَ الذي خلقَ من الماءِ بشراً فجعلَهُ نسباً وصهراً وكان ربُّك قديراً). وكذلك سورة النساء الآية1: (يأيُّها النّاس اتقوا رَبَكُمُ الذي خَلَقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء واتَّقوا الله الذي تساءَلُون بهِ والأرحامَ إنّ الله كان عليكُم رقيبا).
والقرآن يقر أن أفراد العائلة قريبون بعضهم من بعض بصلات القربى وبما يتعلق بحقوق الميراث وكذلك في بعض النواحي الأخرى، لذلك أمكن لداريابادى مفسر القرآن أن يقول إن علاقة القربى تُعَدّ أهم مؤسسة اجتماعية في الإسلام.
ولكن كل جماعة متماسكة "in groupe" كما يطلق عليها علماء الاجتماع تخلق "out groupe" مجموعة من الخارج لهذه المجموعة، هذا التحديد ضد الآخر الذي يمكن أن يؤدي إلى استبعاد الآخر. وهناك معايير تصلح لهذا مثل مكان السكن، والطبقة الاجتماعية، والخبرة التاريخية، والديانة، والجنس، واللغة (يكفي اختلاف اللهجة) وكذلك لون العينين، والشعر والبشرة. وكل منا عضو في جماعات متماسكة عديدة، ونستطيع أن نلحظ هذا إذا ما شاهد المرء منا مباراة كرة قدم وانحاز لفريق دون آخر. هذا السلوك البسيط والطبيعي من الممكن أن يتطور ليأخذ أشكالاً لمذابح يعجز اللسان عن وصفها، بل ويخرس بسبب وقوعها لسان أي إنسان، مثل "التطهير العرقي" الذي تعرض له المسلمون في كل من البوسنة والهرسك وكوسوفا. هذه الفظائع تشابه الأهوال والمطاردات التي لاقاها المسلمون واليهود على أيدي المسيحيين في القرن السادس عشر.
لقد فاقت أعداد اللاجئين نتيجة أسباب دينية عرقية في النصف الثاني من القرن العشرين، أي أعداد أخرى مسجلة في التاريخ.
قد تسمّى القرن العشرون بحق: قرن اللاجئين والمشردين "displaced persons" ألا يجرنا كل هذا _من منطلق المسئولية الأخلاقية _ إلى الحديث عن إبادة الهنود الحمر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأحوال العبيد من الزنوج في الولايات المتحدة وصولا إلى الحرب الأهلية هناك؟
إن مجرد ترديد مظاهر العنصرية، هو ضرب من ضروب الاستسهال وذكر حوادث معروفة، ولكنها تكتسب أهمية إذا كان ذكرها سيؤدي بنا إلى هذه النقطة: هناك عنصر واحد فقط قادر على تحييد جميع مصادر التعصب والعنصرية، ألا وهو الدين.
كمبدأ عام، أظن أن كل العقائد السماوية الحقة قادرة على التغلب على الصراعات الإثنية، حتى وإن كان التاريخ يثبت عدم قدرة المسيحية على ذلك، وكذلك لم يفلح الفكر الشيوعي العالمي المعادي للإمبريالية في تحقيق هذا.
ولذلك، فمن المهم أن نذكر أن الإسلام قادر فعلاً _وإنه كان دائماً قادراً_ على تهميش العنصرية، بل وإزاحتها تماماً. لقد تحقق هذا في بدايات الإسلام عندما عرض بعض نفر من أهل يثرب (المدينة فيما بعد) على الرسول الهجرة إلى يثرب، وعرضوا عليه الحماية فيما عرف ببيعتي العقبة الأولى والثانية عامي 621 و 622. ولم يعرض عليه أهل يثرب مجرد الملجأ، ولكن الحماية والأخوة وانضمام المسلمين تحت قيادته السياسية في مدينتهم التي تضم سكاناً من العرب واليهود، متغاضين بذلك عن الانتماء القبلي، مجتمعين فقط على الإيمان المشترك بدين واحد.
ولقد بدأ بناء أول كيان جماعي سياسي في الإسلام بحادثتي بيعة العقبة؛ لأن بعد هجرة الرسول إلى يثرب، قام بها أول كيان سياسي يضم أناسا يجمعهم دين واحد، متناسين جميع العناصر الأخرى التي تشكل انتماءات الإنسان للجماعة، من انتماء عشائري وقبلي وعائلي ورابطة الدم. ولقد ذكر القرآن الرابطة التي ربطت المهاجرين بالأنصار وسماهم أولياء بعض. كما ذكر قرب الرسول من المؤمنين على أساس الإيمان المشترك. فورد في سورة الأنفال الآية 72 عن علاقة المهاجرين بالأنصار: (إنَّ الذين آمنوا وهاجَروا وجَاهدوا بِأموالِهِم وأنفسِهم في سبيلِ اللهِ والّذينَ آووا ونصروا أولئكَ بَعضُهُم أولياءُ بعضٍ...) أما عن علاقة النبي بالمؤمنين، فتحدثنا سورة الأحزاب الآية 6: (النَّبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسِهِم...).
ولقد تخطى القرآن في وصفه صلة الإيمان وقوتها إلى أنه وضعها قبل الصلة العائلية، حيث ورد فيه في سورة التغابن الآية 14: (يأيُّها الذينَ آمنوا إنَّ من أزواجِكُم وأولادِكُم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفورٌ رحيمٌ).
ويؤكد القرآن أن الأزواج والبنين لا ينفعون المرء يوم القيامة وأنه لن ينفعه سوى عمله وإيمانه، كما تقول الآية 3 من سورة الممتحنة: (لَن تنفَعَكُم أرحامُكُم ولا أولادُكم يومَ القيامةِ يفصلُ بينكم والله بما تعملُونَ بصيرٌ).
ولذلك يُعَدُّ اختيار أفضل الناس وتحديد أفضليتهم هذه على أساس التقوى سلوكاً إسلاميا ومثالاً يحتذى، فالتقوى يتضاءل أمامها النسب والحسب والغنى وغيرها. ولذلك اختير بلال العبد الأسود لأن يكون أول مؤذن في الإسلام والعبد سلمان الفارسي أول وزير للمالية.
ولقد سار أمراء المؤمنين على نهج اختيار الأتقى والأفضل دون النظر إلى انتماءات عرقية. حتى في عهد العثمانيين لم يكن معظم وزراء الدولة من الأتراك بل من الألبان، واليونانيين والكروات والشركس. ولم يكن الانتماء العرقي يؤدي دوراً مهماً في تولي مناصب حكم أو جيش، والمثال على ذلك صلاح الدين الكردي.
كما أن المتصوف ابن عربي القادم من الأندلس عاش وعمل مكرما في دمشق حيث مات. كما شهدت دمشق كذلك حياة الصوفي ورجل الدولة المناضل عبد القادر الجزائري حيث توفي هو الآخر هناك.
لم يستطع لورانس العرب خلال الحرب العالمية الأولى أن يُذكى من نار القومية العربية إلا بسبب ظهور التعصب التركي للقومية الطورانية أولاً، التي عبر عنها شباب الأتراك الملتفون حول أنور باشا والذين لم يسلم من ظلمهم واضطهادهم غير الشعوب العثمانية.
أجمل تعبير للمساواة وانعدام التفرقة بين أفراد الأمة تصادفه سنوياً في أثناء الحج. إن وجود ملايين المسلمين في مكان واحد يجمعهم إحساس واحد بالمساواة والانتماء ووحدة الهدف، وقد أتوا من مختلف قارات العالم ليؤدوا في ظل ظروف قاسية شعائر دينهم، يصلون معاً ويدعون معاً ويعيشون ويتناقشون معاً، لهو تجربة فريدة من نوعها ذات طبيعة سامية، حتى إنها استطاعت برقيها وسموها وما تتضمنه من كل المعاني والدلالات النبيلة أن تحرر مالكولم إكس، هذا الإنسان النشط ذو البشرة السوداء، من عنصريته العنيفة البغيضة.
وهذا الفكر هو الذي جعل في إمكانية المسلمين إصلاح العلاقات والنفوس المريضة في الجيتو، أي المناطق المغلقة على السود فقط، والتي تضج بالمشكلات مثل المخدرات والعنف، وكذلك الوضع في جنوب إفريقيا.
وهناك مثال رائع في ماليزيا لتعايش الملايويين والصينيين والهنود بعضهم مع بعض في سلام، وكلٌّ محتفظ بلغته وملبسه وتقاليده وطعامه ودينه، كل هذا بفضل الإسلام الذي يحارب العنصرية.
لقد وضحت في مقدمة حديثي أن جذور العنصرية تضرب بشدة في النفس البشرية، لدرجة أن الإسلام في واقع الأمر وبالممارسة (وليس النظرية) لم يستطع إبادتها تماماً والقضاء عليها القضاء المبرم. والادعاء بعكس ذلك يعادل الادعاء بأن الإسلام تمكن من استئصال الشر كله من العالم.
فمنذ البداية، عند اختيار الخليفة الأول للمسلمين بعد وفاة الرسول عام 632، كان من الواضح أن المهاجرين يتوقعون أن يسلم الأنصار بأحقيتهم _أي المهاجرين _ في أن يكون الخليفة منهم، ولقد كان، فتم اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول.
ثم تحول أمر الخلافة منذ الأمويين إلى بقاء الحكم ضمن طبقة من النبلاء القرشيين، وصار الأمر كذلك حين توارث الأمويون الخلافة. سبق قيام الخلافة الأموية نزاع طويل بين الإمام علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين ومعاوية بن أبي سفيان الذي نازعه الخلافة. وكان وراء هذا الصراع أسباب ليست بالأسباب الفقهية، أو السياسية فقط، ولكن الصراع كان شكلاً جديداً للصراع القبلي، فلقد امتد منذ ظهرت النبوة في بني هاشم _وغيرة بني أمية وكبيرها أبي سفيان _ حتى الصراع الذي انتهى باغتيال الإمام علي، حيث لم يقبل بنو أمية أن يكون من بني هاشم الرسول والخليفة.
أما العباسيون الذين أزاحوا الأمويين عن الخلافة وأقاموا خلافتهم، فلم يختلفوا كثيراً عن الأمويين في أمر من يتولى الخلافة؛ لأنهم وإن بدت حركتهم حركة دينية ثورية، إلا أنهم تمسكوا بأن يكون الخليفة من قريش، وعلى وجه التحديد من بني العباس. ولقد امتد هذا التقليد حتى قيام سليم الأول باحتلال القاهرة وإن ادعى لنفسه لقب الخليفة بالإضافة إلى احتفاظه بلقب السلطان.
ولقد حدث في واقع الأمر في تاريخ الإسلام أن تعرضت مسألة مساواة البشر لتساؤلات عديدة، خاصة بعد التوسعات الهائلة التي شهدتها الدولة الإسلامية، ودخول العديد من غير العرب في دين الإسلام. ولقد سمى هؤلاء بالموالي. ولقد عانى هؤلاء كثيراً من كونهم مسلمين درجة ثانية، أي درجة أدنى من المسلمين العرب، ولقد ظهر هذا في تقسيم الغنائم وتحديد دفع الضرائب. ولقد ثار الموالي على هذا الظلم الواقع عليهم والذي يتعارض تماماً مع تعاليم الإسلام، وقاموا في القرنين التاسع والعاشر بحركات تمرد معادية للعرب عرفت بالشعوبية.
ولا نستطيع أن ندعي بطبيعة الحال عدم وجود مشكلات طبقية بين السكان الأصليين لشبه الجزيرة العربية في المنطقة الواقعة بين الخليج والبحر الأحمر وبين العاملين في هذه البلاد من الجنسيات المختلفة.
وكثيراً ما تستمع لشكوى مسلمين أوروبيين وأمريكيين حديثي الإسلام من عدم الثقة التي يتعامل بها المسلمون بالميلاد معهم، سواء كان هذا داخل الوطن العربي أو خارجه، ولكن هذا السلوك يرجع لتخوفهم من عدم إلمام المسلمين الجدد بالعربية، وبالتالي ألا يكونوا على دراية وافية بالإسلام، وليس تعبيراً عن العنصرية.
ومن الجدير بالذكر أنه لم يسلم من هذا الشك محمد أسد نفسه (بسبب جذوره الأوروبية _ اليهودية) وهو علاّمة في اللغة العربية ولكنه كان مضطراً برغم إنجازاته العلمية في سبيل خدمة الإسلام، للكفاح الشاق حتى يحصل على الاعتراف به.
فقُدِّر على بعض المسلمين الغربيين أن يكونوا كالموالي في عهود الإسلام الأولى.
ومن هذا العرض نرى أن العنصرية تحاول دائماً التسلل من الأبواب الخلفية، خاصة إذا كان الرفض لها قويّاً في الواجهة.
بالنظر إلى الطبيعة البشرية والتي تميل إلى الضعف، لم يكن من الممكن تفادي تلطيخ ثوب العالم الإسلامي ببعض البقع العنصرية. ولكن هذا العالم الإسلامي يوفر _من منطلق النظرية وبنسبة كبيرة من خلال الممارسة _ صورة ممكنة للحياة الرافضة للعنصرية. وإنني هنا أردد قول Jeffrey Lang المسلم الأمريكي الشهير: "إن الإسلام وإن لم يستطع استئصال شأفة الأحكام المسبقة ذات الطبيعة العنصرية، إلا أنه لا يقرها. وعندما يمارس المسلمون العنصرية أو يقرونها، فإنهم يعلمون علم اليقين أنهم يرتكبون إثماً كبيراً، ويخرجون بذلك عن تعاليم دينهم. إنني أعتقد أن النجاح لم يحالف أيّاً من الديانات العالمية الكبرى في حربها ضد الأحكام العنصرية المسبقة مثلما حالف الإسلام.
------------------------------
source : البلاغ