الأسباب الوجيهة التي يمكن اعتمادها ما يلي :
أولاً: عدم التوافق بين العقيدة الشخصية والنظام الذي يقنن فرض الضريبة مما يؤدي إلى فقدان الانسجام في ذلك تماماً.. ولا أخالني أبالغ إذا ما قلت أن الإنسان يندفع للعمل بنسبة خاصة تتناسب وإيمانه بذلك العمل فكلما كان الشخص المكلف مؤمن بما يجب أن يفعله وواضح لديه, نحوه بكل قوة وأقبال.. فإذا وجدنا هذا السبب موجوداً في الدول الإسلامية بسبب ما يعتقده الإنسان المسلم من دين ونظام وأسس خاصة لحياته وفكرة معينة عن الكون والحياة إلى غير ذلك, وبين النظام السياسي الذي يحكمه ويختلف عن معتقده جملة وتفصيلاً, بل لا يوجد هناك قاسم مشترك في الموضوع, مما يثير عنده عدم الرغبة في الدفع أولاً ويشعر بالإجحاف والظلم في ذلك, وربما نجد أن هذا المكلف الذي يدفع الضريبة في النظام الإسلامي ممن يجب على الدولة الإسلامية أن تزيد من دخله وتسعفه لحاجته.
إذن كيف يستطيع أن يدفع كهذا الضريبة, كما أن دفع الإنسان الضريبة في المجتمع الإسلامي لمثل هذا النظام أو عدم دفعه لها لا يترتب عليه أثر شرعي, لأنه مكلف وفق عقيدته بدفع ضرائب معينة ويعرف موارد إنفاقها, وهي موارد حقيقية ومعتبرة, لكنه في النظام الوضعي نرى هذا الإنسان يتهرب قدر المستطاع من تحمل عبء هذه الضريبة لأنها تصرف منها على مشاريع فاسدة ومشاريع مضرة, بل مشاريع يراها تخالف معتقده ومبادئه, والحالة هذه يبقى هذا الإنسان يدفع الضريبة تحت نير الخوف والإرهاب, فيدفع مبلغاً من المال بهذا العنوان ليتقي ضرراً يصيبه.
وهذا الحال وأن كان في المجتمعات الإسلامية فهو أيضاً له وجود في المجتمعات الأخرى غير الإسلامية وحتى في الدول الغربية أيضاً ترى أن المشرع يجنح في كثير من الأحيان إلى تشريع قوانين يمجها الفرد ولا تتفق وتوجهه.. ولهذا نشاهد عد الثبات في أسعار الضريبة وتشريعاتها, كذلك نلاحظ أن عند كل عملية انتخاب رئيس دولة أو عمدة, أو غير ذلك, يطرح ذلك المرشح مسألة التخفيف من الضريبة وعبئها عن المواطنين تشجيعاً لهم لإنتخابه, وإلاّ لو كان ذلك منسجماً مع وجهات نظر ذلك الشعب أو هذا, وتحقق الإنسجام لما احتيج إلى تشريع قانون يعالج التهرب, أو لما انشغل المختصون بذلك طويلاً.
ثانياً: قلة الوعي الضريبي: الوعي الضريبي له أهمية في استجابة المكلف لدفع الضريبة, وهذا بطبيعة الحال يعتمد على أسس حقيقية, واقعية, تنطلق وإيمان الشخص نفسه, وبعكسه سوف تصطدم فكرة الوعي الضريبي بالشعار, ومن ثم الكذب, وحتى إذا تأثر بها مجموعة من الأفراد, فإن هذه المجموعة ستفقد الثقة بعد حين. وحينئذ تنسلخ الفائدة ويفشل الهدف... وتبقى الحالة كما هي.
وفي التشريع المالي الإسلامي يحصل الإنسان المسلم هذا الوعي في حياته اليومية، ويعي حقيقة دفعه بصورة واضحة ويعتبرها جزءً من عبادته ومعتقده مما يشكل عليه تأخيرهُ عن دفعها فضلاً عن الامتناع عن دفعها، وأنه يشعر بأن دفع الضريبة هذه يعود بالمنفعة عليه لأنه أدّى عبادة مالية فينتظر الأجر والرضى الإلهي عنه، كما أنه لا يشعر بنوع من الغبن، بل يشعر بالارتياح والسرور لقيامه بهذا الواجب.
كما أن الوعي الضريبي يأتي بدون تكليف أو حرج يتلقاه الإنسان المسلم كما يتلقى تعاليم الصلاة والصوم والحج والجهاد وغيره من العبادات... وهذا ما لا يوجد في غير الإسلام.. وإن وجد في ملة أو منطقة فهو حالة مؤقتة منشاؤها تعصب أو غيره. لا تتميز بالثبات والدوام.
ثالثاً: العدالة الضريبية في الإسلام: أن كل التشريعات المالية والضريبة على أساس هذه الصفة بالضريبة، باعتبارها إحساس فطري لدى الإنسان وحري بالمشرع أن يتلمس هذا الشرط في فرضه للضريبة، كما أن المكلف يتوخى هذا الشيء أيضاً.. ولكن مما تحدث المشرعون ومهما أوردت التشريعات الضريبية هذا الشيء فهو شكلي.. وأن وجد من العدالة فهي عدالة ضئيلة ونسبية وهذا ربما بهذا المستوى موجود في النظرية، أما في التطبيق فتعدم.
كما أن المكلف تنتابه أفكار وتفسيرات بعدم تحقق هذا الأمر مما يجعله ينظر إلى عدم عدالة الضريبة.. أضف إلى ذلك الجانب الحسي لدى مشروع الضريبة والعامل على جبايتها، حيث تتأثر نفسيته بمختلف المؤثرات مما يضفي على الضريبة عدم عدالتها وهذا ما لا نجده في الإسلام.. لأن المشرع هو الله تعالى.. العادل المطلق الكامل الذي يعرف مخلوقه وحاجته وإحساسه ومشاعره... وحينئذ نستبعد عنصر الانحياز أو العاطفة أو المؤثرات الأخرى. بل أن التشريع الضريبي هذا يتسم بروح العدالة والانسجام مع الفطرة الإنسانية كما أن الفطرة الإنسانية الخالصة تتقبلها بعين الرضى والقبول وتقر بعبادتها وشرعيتها.. وبالتالي فإن العدالة الضريبية في الإسلام متحققة بشكل كلي وحقيقي وأن طرق جبايتها ومواصفات الجابي لها أيضاً مقننة مما يحقق العدالة التامة.
رابعاً: انعدام الثغرات في التشريع المالي والإسلامي: النظام الضريبي في الإسلام مشرعاً من قبل الله سبحانه وتعالى مما يصعب على الإنسان أن ينفلذ منه أو يتحايل عليه وهذا يرجع إلى عاملين:
1 _ أن النظام الضريبي الإسلامي، نظام متكامل وواقعي وثابت غير متغير وواضح المعالم تماماً، مما يؤدي إلى عدم وجود مجال للاعتراض عليه، أو الحجة فيه أي ليس فيه مستمسك يستطيع المكلف من التمسك فيه أو التحجج بواسطته ليتخلص من الدفع.
2 _ أن التحايل من قبل المكلف ينبع من عدم إيمانه أولاً وكذلك من التأكد من عدم معرفة المسؤول أو السلطة المالية به عند التهرب، أما في الإسلام فإن المكلف لا يمكنه ذلك لأنه لا يستطيع إخفاء تهربه على الله جل وعلا.
خامساً: الجانب الأخلاقي في الإدارة والمكلف: من الأمور المهمة جداً والواجب توفرها في كل مجال هو الجانب الأخلاقي الذي يساعد إلى حد بعيد في تكييف التشريع مع المكلف... والنظام المالي الإسلامي امتاز بهذه الميزة دون غيره من الأنظمة الأخرى ونرى ذلك في:
1 _ الإدارة: حيث أن الشريعة السمحاء تشددت كثيراً في مسألة الموظف، والوسيلة التي تجبى بها الضريبة بحيث لا تعمل ضغطاً أو إحراجاً.. ففي كتاب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض) إلى عماله على الخراج يقول فيه:
"... فأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فأنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة. ولا تحسموا أحداً عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته... الخ" وفي كتاب آخر وجهه إلى واليه على مصر "مالك الأشتر" حينما ولاه على مصر بعد اضطراب أمر محمد بن أبي بكر، قال فيه:
"ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثره، فإنهم جِماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أغراضاً، وأقل في المطامع أشر افاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً. ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن في ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم، أن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك".
لذا فإن الإدارة وموظفيها تمتاز بامتيازات أخلاقية خاصة تكون هي الشرط الأول لقبولهم هذا العمل والتي يجب أن تتوفر في المشرح.
2 _ المكلف: وهو القسم الثاني من هذا الجانب، حيث أن المكلف نفسه في التشريع المالي الإسلامي يجب أن يتقيد بآداب الضريبة في الإسلام وأخلاقها، وأن في ذلك رقابة للعاصين في أول الأمر، ولكن سرعان ما تزول، وتصبح طبيعة خاصة بالإنسان المسلم الملتزم بحيث يمتثل المسلم الأوامر، ويصبح أداؤه للضريبة جزءً من عبادته، فكما أنه لا يستطيع أن يترك فرضاً من الصلاة، بل ركعة واحدة، كذلك بالنسبة للضريبة المالية سواء كانت ضريبة ثابتة، أو ضريبة متغيرة "غير ثابتة" يفرضها "ولي الأمر" والمسلم الحقيقي يتميز بأخلاقه العالية وسلوكه الحق، وآدابه فتراه لا يزيغ، ويعطي هذه الضريبة الواجبة عليه، وحال الحاجة أيضاً يبادر لإعطاء ما يتمكن.
هذه الأمور من الأخلاقية الجيدة التي يؤكد عليها التشريع الإسلامي يقابلها الخلق الماديفي الشرائع الأخرى, لأن التربية المادية للأفراد تحجم تفكيرهم وفق ذلك. وحيث كما نعلم أن الضريبة هي عبارة عن استقطاع الزامي من دخول وثروات الأفراد، فإن الكثير يحاولون التخلص من أدائها، وعند ذلك يتحقق معنى التهرب الضريبي سواء ما كان مشروعاً في عرفهم كما بينا أو عن طريق الغش الضريبي Fiscal fraud،.... أو الخيانة Fraud كما تسمى أيضاً.
----------------------------
source : البلاغ