1- قيل انّ ما يجعل الإنسان إنساناً، ليست مجموعة الأموال، والإمكانات، والنشاطات الخاصة التي يمارسها، وإنما تركيبته الوجودية الخاصة، أي عمله وسلوكه في جميع نشاطاته الحقيقية. فالإنسان كائن له وجود من خلال العمل وبمثابة العمل. إذن غاية التربية أيضاً تحقق العمل الخيّر، من أجل أن يمارس الإنسان العمل اللائق ببساطة وعن رغبة وإيمان ذاتي.
2- العمل، شكل من أشكال الوجود، لكنه يختلف اختلافاً أساسياً عن الأشكال الوجودية الأخرى. والحرّية أحد الأجزاء الأساسية لهذا الشكل وأسلوب خاص، لأنّ العمل من دون حرّية، خطوة آلية، وجسد من دون روح. ولا وجود للحرية من دون إنسان، ولا للإنسانية من دون حرّية.
3- الحرّية جوهر الإنسان، ولكن ليس بمعنى انّ الإنسان حرّ دائماً وفي كل مكان. فالهرب من الحرّية أمر شائع في العالم المعاصر، غير انّ هذا لا ينفي النظرية القائلة: "الإنسان خالق الحرية وموضعها"، وإنما يدل على الأمر التالي فقط وهو انّ الإنسان المعاصر يقتطع نفسه عن الجوهر الإنساني.
4- ثمة أنواع، وأشكال، وجوانب مختلفة للحرّية مثل: الحريات ماوراء الطبيعية، والأخلاقية، والنفسية، والاقتصادية، والسياسية، والوطنية، والدينية، والمعنوية، والروحية، وحرّية الإرادة، والفكر، والوجدان، والنشاط، والعمل، وحرّية وسائل الإعلام، وحرّية التجمّعات، وحرّية التعبير، والتحرّر من الإستغلال، والظلم، والجوع، والحرب، والخوف، والتقاليد، والشكليات، والشرور، والعواطف، والضعف، والأحكام المسبقة، وحرّية الفن، والعلم، والتعليم، والسلوك، والحب، وحرّية أسلوب استخدام أوقات الفراغ.
غير أنّ سرد أنواع أو أشكال الحرّية لا يجيب على التساؤل الذي يقول: ما هي الحرّية؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول: ليس بالإمكان القطع بأنّ أنواع الحرّيات التي ذُكرت أعلاه، هي حرّيات أو شبه حرّيات حقاً. بتعبير آخر: هل الهدف من الحرّية إزاحة العقبات الخارجية، أم التحرّر من القيود الداخلية؟
5- إذا كانت الحرّية تُفهم على انها عدم وجود العقبات الخارجية التي تعيق العمل، فلا تُعد حينذاك خاصةً بالإنسان. إذ يمكن أن تصدق على الحيوان الوحشي، والطير، والسمك، بل وحتى على الماء والحجر. فالحرّية ليست عدم وجود العقبات الخارجية، أو بمعنى أعم، وجود بعض الظروف الخارجية التي تعين وتؤيد شيئاً ما. إنما هي شكل وأسلوب خاصان بالإنسان.
يُسعى في التربية الديمقراطية أن يتميز المتربي بفضيلة الحرّية الباطنية، لأنّ غاية التربية – لاسيما التربية الدينية – تحرير الإنسان من جميع القيود والأسوار المادية، من أجل الدخول إلى ساحة الخلود والحرّية.
6- إذا أخذنا الحرّية بمعنى معرفة وقبول المصير، والمقصد، أو الضرورات العالمية، فستكون الحرّية حينذاك عبارة عن عبودية طوعية. بينما هي ليست كذلك، كما أنها ليست استسلاماً منفعلاً أو تساوقاً مع الضرورة الداخلية أو الخارجية. فالعمل الحر هو العمل الوحيد الذي يستطيع الإنسان بواسطته أن يغيّر نفسه وعالمه. ومع أنّ العمل وفق هذه الرؤية قد يختلف مع العمل بمعناه الأوسع، ولكن يمكن أن يكون في حد ذاته جوهراً للتربية العملية.
7- لا يمكن أن تكون شدة النشاط ومقداره أو الدرجة التي يمكن أن يوصف على أساسها نشاط ما بالناجح، معياراً للحرّية. فأنجح النشاطات والممارسات وأعمقها، لا يمكن أن تكون حرّة إذا كانت تُرسم وتحدَّد من الخارج. فالجنود والعمال المطيعون ورجال الشرطة الذين يتقاضون اجوراً جيّدة، قد تكون نشاطاتهم وأعمالهم دقيقة وناجحة، لكنّ تلك النشاطات لا ينطبق عليها مفهوم الحرية، لأنّ العمل الحر هو ذلك العمل الذي يقوم فيه الإنسان بتحديد أعماله وتعيينها بنفسه.
8- كذلك ليس بالضرورة أن يكون أي عمل يتعيّن في الداخل، عملاً حرّاً. فالفعاليات التي تنطلق فيها بعض العوامل مثل الحاجات، والرغبات، والميول، والعواطف، لتعيين عمل الإنسان، تُعد نشاطات حرّة. فالإنسان في ظل هذه الفعاليات يعمل كشخصية ذات عدة وجوه، ولا يتحول إلى ستار لهذا أو ذاك، أو أن يُستغل من قبل أفكار أو مشاعر أو ميول أخرى. فالسلوك والعمل يعدان في التربية الديمقراطية، نقطة بناء ذاتي. ومن هذا المنشأ بالذات تنطلق تحريرية الإنسان. والمشكلة التي يعاني منها العالم المعاصر لاسيما التعليم والتربية، هي أن العلم أضحى ستاراً للسلطة والسياسة.
9- قد يبدو البعض أكثر الناس تحرّرية، لكنهم بعيدون جداً على صعيد الواقع عن النشاطات الحرّة. فالمستبدون الجائرون، والجبابرة المحتلون، والمستغلون الجشعون، كلهم عبيد للأفكار والميول الجامدة. لذلك تُعد ممارساتهم مدمّرة للإنسانية. فالإنسان الحر حقاً هو ذلك الذي تتعين أعماله بواسطة ضميره الإنساني. فالممارسة الإنسانية الحرّة والمستقلة، تصطبغ بصبغة المعنوية في ظل العقلانية، وتكون غايتها إنضاج الفطرة والجوهرة الربوبية عند الإنسان.
10- الفكرة التي تقول بأن العلم وإدراك الضرورة، شرط للنشاط الحر، تظل ناقصة حتى في أكمل حالاتها. فإذا كان كل شيء ضرورياً، فليس بمقدور عمل الإنسان أن يكون حراً، فالشرط الإيجابي للحرّية يتمثل في معرفة وإدراك المحدوديات الموجودة، وكذلك ما يتمتع به الإنسان من إمكانات وطاقات فاعلة. فتحطيم المحدوديات والسجون الفكرية والثقافية، يُعد نوعاً من الحرّية التي تستقي معناها من هذه الجهود والمساعي التحرّرية.
11- تعريف الحرية بأنها السيطرة على الطبيعة، على أساس معرفة وإدراك الضرورات الطبيعية، يُعد تعريفاً كافياً لذلك الإنسان الذي اتجهت أنظاره نحو موضوع السيطرة والاستغلال، غير أنّ الحرية لا تعني استثمار الطبيعة فقط، وإنما تستوعب أيضاً قدرات الإنسان وقابليته على استثمار الطبيعة بطريقة الشراكة وبأسلوب إنساني.
12- يقوم مفهوم الحرّية بمثابة تسلط وإشراف على الآخرين، على الفرضية التي تقسم الناس إلى قسمين: قسم يتسلط ويشرف على الآخرين، وقسم يقع تحت التسلط والإشراف. غير أن السلطة تمثل الوجه السلبي للحرّية. ففكرة الحرّية كتسلط على فرد آخر، غالباً ما تُفهم على أنها قناع وذريعة لقمع الرغبات التحرّرية لدى الناس، وتبرير قبول الانقياد الخارجي. ويمكن إثارة هذا الموضوع بأشكال شتى من خلال مختلف إفرازات التعليم والتربية، وإثبات أن روح التسلط والهيمنة التي لدى البعض، على صلة مباشرة بنوع التربية التي تلقوها.
13- يقوم المفهومان أعلاه والنتائج الحاصلة عنهما – أي الفكر الحر كسلطة على الطبيعة الخارجية من جهة، وسلطة الإنسان على نفسه من جهة أخرى – على الفرضية التالية وهي أن الإنسان والطبيعة كليهما على أهبة الاستعداد لاستثمارهما تحت توجيه خاصّ. لكنّ جوهرة الحرّية غير محددة بالاستخدام الصرف للمنابع والمواهب، وإنّما تتجلى في خلق الأشياء الجديدة، وتطوير القوى الإنسانية الخلّاقة، وإغناء الإنسانية.
14- لا يكمن موضوع حرّية الإنسان في الحرّية المطلقة أو الإنقياد المطلق. فالإنسان يتمتع بالحرّية إلى حد ما دائماً، ولذلك تُعد الحرّية أمراً نسبياً، لكنّ هذه النسبية لا تشكل جوهر الحرّية.
15- هدف الحرية الإنسانية، ذلك الشخص الحر الذي يعيش في مجتمع حر، غير أنّ هذه الفكرة لا تتحقق على سبيل الإختيار. فلا يوجد مجتمع حر من دون شخصيات حرّة، ولا يوجد أي فرد حر خارج المجموعة الاجتماعية. بيد أنّ هذا لا يعني عدم وجود أي شخص حر في المجتمع الحر أو في المجتمع غير الحر.
16- قد لا يكون الفرد حرّاً في المجتمع الحر. فالمجتمع بمقدوره أن ينتظم بحيث يمهد لظهور وامتداد الشخصيات الحرّة ويشجعها. لكن الحرّية لا يمكن أن تُفرض على أحد بالقوة. فالفرد باستطاعته الظهور كإنسان حر عن طريق نشاطاته وممارسته الحرّة فقط.
الحرية وإمكانات رقي وتطوّر الإنسان وتعاليه، ليست شلالاً ينهمر من الأعلى على وجه الإنسان، وإنما هي ينبوع ينبغي أن يتفجّر من الداخل. فلابدّ من اكتشاف الحرّية واستخراجها من بين العقبات والمحدوديات، لا أن نتوقع أن تُهدى إلينا من الآخرين.
17- بمقدور الفرد أن يكون حرّاً إلى حد ما حتّى في المجتمع غير الحر. فالعقبات الخارجية التي يمكن وضعها من قبل المجتمع غير الحر، قد تعمل على عرقلة أو تحديد نشاطات الإنسان الحرّة، لكنها لا تستطيع إيقافها تماماً. فالفرد الحر الثوري الذي يعيش مقيداً وسجيناً، قد يكون أكثر حرّية من الحارس الذي وضعوه عليه، أو من الجلاد الذي يسعى لتحطيمه.
18- يسعى المجتمع غير الحر للقضاء على الأفراد الأحرار، بينما ينطلق المجتمع الحر في طريق إنضاج الشخصيات الحرّة. ومن هنا يعد نضال المجتمع الحر جزءاً من نضال الشخصيات الحرّة. ولكن لو استوعب هذا النضال الهدف المنشود بأسره، فسيتحول حينذاك إلى عاتق جادّ في طريق الحرّية. فلا قيمة للنضال من أجل مجتمع حر ما لم يتحقق من خلاله أكبر مستوى من الحرّية الفردية.
ليس عجباً أن يؤكد أكبر معارضي الديمقراطية – أي أفلاطون – وكذلك أبرز دعاتها، على أساس وركيزة هذه الديمقراطية، أي التربية. فأفلاطون يؤسس مدينته المثالية على أساس التربية، وديوي يسمي أهم كتبه التربوية "الديمقراطية والتعليم والتربية"، وينطلق ياسبرس – الممثل الأكبر لفلسفة الوجود – في هذه الفكرة إلى درجة تدفعه للقول: (الديمقراطية هي التربية).
وهكذا فالديمقراطية أكبر بكثير من أن تكون مؤسسة سياسية أو شكل من أشكال الحكم، لأنّ الحديث هنا يدور حول المجتمع المتغيّر الذي يسعى دائماً نحو إضفاء الواقعية على القيم الإنسانية، لاسيما الحرّية والعقلانية. وانطلاقاً من ذلك نرى أن الفيلسوفين المعروفين في عصرنا وهما "جون ديوي" و"كارل ياسبرس" واللذين يعيشان في عالمين متباينين ويختلفان اختلافاً أساسياً في الرؤية الفلسفية، يشتركان بالرأي في مقولة الديمقراطية ودورها في نمو وإنضاج عقلانية الإنسان.
جون ديوي يعتقد أنّ الاعتراف بالديمقراطية يعني أنّ الإنسان يمتلك قوة تمييز ومعرفة صلاحه ومنفعته، لذلك ليس صحيحاً انّه بحاجة دائماً إلى مَن يوضّح ويميّز له الخير والشر، والنفع والضرر.
العقلانية الناقدة في التربية الذاتية، هي ترجمة للتوجيه الداخلي، إذ يتحرّر في هذه الرؤية، الأفراد من الخضوع لمظلة القيمومة الثقيلة وأوامرها.
ديوي، يعطي قيمة للأساليب الديمقراطية حتى في التعليم الفني والحرفي، ويرى في الفصل بين الطبقات وكذلك في الفصل بين نفعها وضررها، عقبةً كبرى تعترض طريق الديمقراطية، ويقول: لم يكن خطأ ارسطو انّه كان يعتبر الأعمال اليدوية والصناعة المادية أقل شأناً من الأعمال الثقافية، بل لأنه كان يرى ضرورة فصل هذين النوعين من الأعمال وإعطاء كل منهما لمجموعة خاصة، وإعتقاده بأن الإنشغال بأيّ منهما، من اختصاص طبقة معينة.
لهذا السبب يُعد المجتمع الديمقراطي مجتمعاً يلعب فيه الجميع دوراً في الأعمال المفيدة من جهة، ويحظون كذلك بالرخاء الذي يتميز بقيمة ثقافية من جهة أخرى. ففي المجتمع الذي يقوم فيه اختيار الأعمال والنشاطات الجماهيرية على أساس الربح المادي، لن تزدهر فيه الديمقراطية للطبقة الممتازة على أساس التقاليد المستورثة من الطبقة المتعلمة. لذلك يقول "ديوي" رغم كل تأكيده على تعليم الحرفة والفن: (ليس الهدف أن ترتبط المدرسة بالصناعة أو أن تنخرط في خدمة التجارة، بل الهدف هو استخدام الإمكانات الفنية في خدمة النمو في شتى الحقول والأصعدة. بتعبير آخر: ينبغي أن ينخرط التعليم في خدمة "الحياة المتعالية"، لا أن تقع الحياة ضحية للتعليمات المدرسية، ويضيع الهدف في غمرة خدمة الوسيلة).
يقول ديوي كذلك: (من المنظار العاطفي انّ أكبر عيوب النظام الراهن، ليس الفقر وإفرازاته، وإنما أفراده الذين ينهمكون في أعمال غير متعاطفين معها).
بتعبير آخر: لن يكون لعملية التعليم والتربية الديمقراطية أي معنى ما لم تلتحم تعاليم المدرسة مع متطلبات الحياة. ولكن لابدّ من اعتماد الأمن والحرّية من أجل تحقق هذا الإلتحام. فما لم يشعر أفراد المجتمع بالتآخي والتآزر والتعاون على عمل الخير، فليس بمقدور أي نصيحة أو تهديد أو تشجيع، ضمان عوامل التلاحم بين أفراد المجتمع. أي لا يمكن من خلال الإجبار أو القسر تفعيل النوازع العاطفية لدى الإنسان. ففي الحرّية والاختيار الواعي يتجلى الإيمان، والتضامن، والثقة، والاعتقاد الذاتي، على أساس حب المجتمع، والطبيعة، وخالق الوجود.
يقول برتراند راسل: (لابدّ من التغلب على الخوف، ليس في السلوك فقط وإنّما في الشعور أيضاً، وليس في العلم فقط وإنما في الجهل أيضاً. وذلك لأنّ هناك تقارباً وتماثلاً بين الخوف والغضب والعنف من الناحيتين الفسلجية والنفسية. فالشخص الذي يقع نهباً للغضب ليس بوسعه أن يتحلى بالجرأة والشجاعة بالمعنى الأسمى).
وكما إنّ التعصب نابع من الجهل، والغضب نابع من الجبن، كذلك ينبثق اللاأمن من فقدان القابلية على تحمل اللاأمن. أي أنّ الحرّية في التربية الديمقراطية عبارة عن تحرير الإنسان من الخوف، والجبن، والذلة، والغضب، والعصبية، وذلك من أجل أن يكون الإنسان قادراً على تنظيم حياته والتحرّر من نير الأهواء النفسية، والشعور بهويةٍ ثابتة وفاعلة، مع احترامه لنفسه وللآخرين. فإذا كانت للمرء الجرأة على القاء نظرة باطنية، فسيحصل على الأخلاق الباطنية التي تعد المنطلق الأساسي في التربية الذاتية.
يقول راسل أيضاً: (البعض يعيشون في باطنهم، والبعض الآخر عبارة عن مرايا تعكس ما يقوله الآخرون فيهم. وليس بوسع هؤلاء أن يكونوا شجعاناً حقيقيين، لأنهم بحاجة إلى مدح الآخرين، ويعيشون دائماً هاجس الخوف من زوال ذلك المدح).
إذن تؤلف تنمية شعور الثقة بالذات، جوهر التربية الذاتية. ففن الثقة بالذات وإن تميز بالجرأة إلّا انه فن ظريف ورقيق. ويرى "سورن كير كيغارد" انّ الثقة بالنفس في مجتمعنا المعاصر، بحاجة إلى جرأة خاصة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق ذاته، ويجدها، وينميها، ثم يعترف بها، إلّا في ظل الحرّية والتحرّر.
يتحدث "رين واتر" عن المراحل التالية لمفهوم "الذات":
1- "الذات" بمثابة صورة انعكاسية للنفس، يتحمل الفرد مسؤوليتها.
2- تقطع "الذات" خلال حركتها التكاملية مساراً خاصاً يمكن التنبؤ به منذ الماضي وحتى المستقبل. ويغربل الفرد ماضيه من خلال ما يتوقعه لمستقبله.
3- انعكاس "الذات"، عملية مستمرة وشاملة. وينبري الفرد في كل لحظة كي يسأل نفسه: كيف باستطاعتي استخدام اللحظة الراهنة لتغيير ذاتي؟
ويؤكد "رين واتر" انّ استجواب النفس يُعدّ لوناً من البراعة في الرؤية للذات:
ما هو الشيء الذي يحصل في هذه اللحظة؟
بأي شيء أنا أفكر الآن؟
ما هو العمل الذي أقوم به حالياً؟
ما هو شعوري الآن؟
4- كتابة سيرة الحياة كظاهرة منظمة، تبدِّل الهوية الشخصية إلى رواية معينة.
5- تحقيق الذات، يستلزم السيطرة على الزمان لاسيما تحديد المناطق الزمانية الخاصة التي تعبِّر عن الارتباطات النفسية بالأنظمة الزمانية الخارجية.
6- يمتد انعكاس "الذات" إلى حدود أجسامنا أيضاً. فيصبح الجسم جزءاً من نظام الفعل وليس مجرد شيء منفعل. فالإشراف على العمليات الجسمية – مثل: كيف أتنفس في هذه اللحظة؟ - يُعدّ جزءاً ذاتياً لنوع من الانعكاس المستمر الذي لابدّ للفرد من إبدائه إزاء سلوكه. ومن شروط هذا المستوى من النمو، الإتصاف بفضيلة الحلم، وحرّية الفكر والعمل بأعمق معنى.
إذن إذا لم يقترن الحلم في التربية الديمقراطية بالحرّية بمعناها الباطني، فمن الممكن أن يتحول إلى ذلة وايذاء للنفس. وفي مثل هذه الحال ستتحول الأخلاق السامية العليا إلى أخلاق العبودية، والرفعة إلى ذلّة.
يرفض "راسل" التواضع الذي يؤدّي إلى ذلة الإنسان ويعتقد أنّ التواضع ينبغي أن يكون مصحوباً بالشجاعة. ويصف ذلك التواضع الذي يهدف إلى الحصول على احترام الآخرين بأنه رياء ومفسدة للطبع. كما يصف التربية التي تسند إلى تعليم الطاعة العمياء، بأنها غير صحيحة، ويقول: (يقال دائماً انّ الذي يتعلم في طفولته كيف يطيع، سيعلّم في كبره كيف يُطاع. والصحيح هو أن لا يتعلم أحد كيف يطيع ولا كيف يُطاع. وهذا الكلام لا يعني أنه لا حاجة إلى القائد في الأعمال الجماعية، بل يعني ضرورة أن تكون سلطته كسلطة رئيس فريق كرة القدم التي يقرّ بها الجميع من أجل بلوغ الهدف الذي يتطلع إليه الفريق، وهو الهدف المنبثق من إرادتهم، مفروضاً عليهم من الخارج). وفي ظل مثل هذا الإدراك، تجد الحرّية هدفها في بلورة الشخصية الحرّة القوية.
يبدو أنّ كلام الإمام علي (ع): القائل: (الحلم تمام العقل)، يوحي بهذا المعنى السامي للحلم، حيث تكمن فيه شتى فضائل الحكمة، والعدالة، والثبات، والصبر الجميل.
إذن تأخذ الحرّية طبعها الرسمي من خلال الحلم، في التربية التحرّرية، وتتجلى عظمة الحلم في دائرة الحرّية. وحينما يقترن هذان المفهومان – أي الحرّية والحلم – يتجلى عنصر حكم الذات، الذي يُعدّ أعظم وأجمل ثمار التربية. ويقول "لاوتسو": (القوي ليس ذلك الذي يحكم الآخرين وإنّما الذي يحكم نفسه). فحكم النفس يمثل الغاية التي تسعى لها التربية الدينية. وتنمو في حكومة النفس القوة الصحيحة للتحكيم مشفوعة بالتوازن والانصاف في السلوك، وحلاوة الحديث، وجمال الأخلاق. ويتحرر المرء في هذا اللون من الحكومة، من الانقياد لحكومة أخرى، وكذلك من هيمنة الهوى، والشهوة، والحقد، والعنف، والكذب، والحسد، والخيانة، والخبائث. فالحرية هي التي توفر للإنسان إمكانية نضج استعداداته وطاقاته، وتحقق فطرته وإنسانيته. ويستطيع مثل هذا الإنسان، في ظل ذكائه الإنساني لا ذكائه الآلي، أن يزج جميع طاقاته الفطرية في الميدان، فيصطبغ الذكاء وفق ذلك، بالصبغة المعنوية والفضيلة الأخلاقية.
يقول "ديوي": (الحرية الوحيدة التي تتميز بأهمية ثابتة، هي حرية الذهن والإدراك، أي الحرية في المشاهدة والتحكيم التي تتفعّل بواسطة الأهداف القيمة). فلو تحرر الذهن من قيود البيئة، والتلقين، والقسر، وحالة الاعتياد، ولو تخلص من الخوف والاضطراب، ووجد فرصة اختراق الزوايا الخفية لوجود الإنسان من خلال التعامل الحر مع الطبيعة، لسنحت الفرصة حينذاك لظهور الإبداع، والخلق، والثقة بالنفس، وقيادة النفس والسيطرة عليها، لأنّ هدف التربية، إيجاد القابلية على توجيه النفس والتحكم فيها. وفي ظل هذه الحالة، يتحرر المرء من سيطرة الآخر.
يرى أفلاطون انّ العبد هو ذلك الذي يحقق أهداف شخص آخر. والعبد أيضاً ذلك الذي يقع أسيراً في شباك أهوائه العمياء. فالتأكيد على نشاط الذهن، يؤدّي إلى عدم التمييز بين الحرّية وبين الإنقياد السريع للأهواء والإثارات.
لا يحدد المرء ويقيده شيء كما يحدده الذهن المغلق. فالذهن المحدود يحدد الإنسان، والإنسان المحدود يحدد المجتمع ويوقف حركته. فحينما يُغلق الباب بوجه الأساليب الحديثة والأفكار الجديدة، وحينما يحل تقليد الآخرين واقتباس الأفكار محل التفكير المستقل والاختيار الواعي، تتحول العبودية الداخلية والانحباس الذهني إلى عقبة في طريق تقدم الأفكار واستقلالها.
أما التحرر من القيود والأغلال الدنيوية والانطلاق إلى عالم العقبى والحياة الطيبة، فيتضمن الإيمان بوحدانية الله وعبادته في جميع مراحل الحياة ولحظاتها. فالإنسان يتحرّر في ظل عبودية الله تعالى من المحدودية والتقيّد. وينفتح من خلال التأليه والمحورية الإلهية، بذهنه على عالم الوجود الذي لا نهاية له.
فذلك الذي يجرّب الحرية في عملية التدين، يفسّر الحياة في الكينونة لا في الامتلاك. لأنه يكون في الامتلاك عبداً لما يملك، بينما يستند في الكينونة، إلى فرديته ووجوده. ولذلك يقول "ابراهام مزلو": (يمكن أن تكون (الكينونة) بمعنى بيان الفطرة). ويمكن لهذه العبارة أن تعطي معنى أن الإنسان في كينونته، أو تكشف عن خصوصية فرديته.
"الكينونة" في التحضير الذاتي، و"التحضير الذاتي" في الكينونة، هذا الشعار يمثل السر الكبير في تربية الشخصيات الحرّة المستقلة المعتمدة على نفسها. وبما انّ "التحضير الذاتي" – بمعناه الأسمى – عملية في منتهى الصعوبة، لذلك يمكن تسمية معظم الأفراد بالأناس المزيفين. فالإنسان المزيَّف، والمزوُّق، والمدجَّن، والمبرمَج، والآلي، والممسوخ، والإنسان الذي يضحي بفرديته وهويته خوفاً من زوال ممتلكاته، ويصبغ هويته بصبغة الآخرين، ليس بوسعه تجربة الحرّية والتحرّرية.
إذن تتضمن "الكينونة"، الإتسام بفضيلة الأنيّة، والتي هي بحاجة إلى الصدق، والشجاعة، والنقاء، والثقة بالنفس، والأمن، ومن ثم التحرّرية. فتتحقق للمرء شجاعة التحرّر من جميع الممتلكات في ظل عملية الكينونة المنبعثة ذاتياً، ولن يرى آنذاك حتى في الموت أمراً مخيفاً، إذ يقول "برتراند راسل": (إنّ الذي يركز كل مخاوفه وآماله في وجوده، من الصعب جداً عليه أن ينظر إلى الموت بهدوء، لأنّ الموت مدمّر لعالمه العاطفي برمته).
إذن الإنسان الحر، متحرر من الإلتصاق بأي شيء رغم ما لديه من انشدادات قلبية. بل إنّ الانشداد القلبي إلى أي شيء ما وراء وجود الفرد، يعمل على توسيع حياته إلى ما وراء ذاته. والحقيقة هي أن تزايد الإنشدادات إلى أشياء شتى، يؤلف نواة تحرّر الإنسان من مضيق الرغبات الفردية. لذلك تتجلى الشجاعة الكاملة، في ذلك الشخص الذي ينشدّ إلى أشياء مختلفة، ويرى في وجوده جزءاً صغيراً من العالم الكبير. وهذا لا يتحقق عن طريق استصغار نفسه وإنما عن طريق اعطاء القيمة لأشياء كثيرة تحيط به. وهذا لا يحصل إلّا إذا كان الطبع حراً والوعي قائماً. ويتحقق عن امتزاج هذين العنصرين نوع من النظرة العميقة التي يجهلها المرتاض الزاهد، وكذلك الشخص المنغمس في اللذات الحسية. ويرى "راسل" انّ هذا النمط من الشجاعة إيجابي ومنسجم مع الطبع، وليس سلبياً وقمعياً، ويؤكد على أنّ هذه الفضيلة تعد من العناصر الضرورية للشخصية الكاملة.
من جانب آخر: ليس من الضروري أن تتصف الشخصية الكاملة بعلم كامل أو معلومات غزيرة. فما يُتوقَع من الطلاب في المدارس، بلوغ الحد الأعلى من العلم والمعلومات، من دون السعي للارتفاع بمستوى شخصيتهم. وعليه فالطلاب الموفقون في دراستهم، ليسوا بالضرورة من الناجحين في حياتهم.
يقول "هاري ترومن": (الطلبة المتوسطون هم الذين يحكمون العالم. ويرى انّ الإنسان البارز بحاجة إلى شيء أكبر من الدرجات الجيّدة، بينما لا يحتاج الإنسان الناجح إلى ما هو أكثر من التسلية الجيّدة).
والأسئلة التي تطرح نفسها هي: مَن هو الإنسان الذكي؟ ومَن هو الإنسان الناجح؟ وهل يقتصر نجاح وذكاء الأفراد على المكتسبات العلمية والرقي التعليمي والجامعي؟ من أجل الإجابة على هذه التساؤلات لابدّ من قراءة بعض ما جاء في كتاب "تعليم القلوب والأفكار":
"الاختلاف بين النضج العقلي والنضج الفردي، أمر ورد في الرؤى الغربية أكثر من وروده في الرؤية اليابانية. لذلك في مقابل التفسير الأمريكي لفرد الذكي، يفهم اليابانيون ذكاء الفرد بأنه عبارة عن قابلياته الاجتماعية الواضحة".
يقاس مدى الذكاء في هذا التعريف بمعايير من قبيل التعاطف، وتحمل حضور وأفكار الآخرين، واستعداد للاعتراف بالأخطاء، والتواضع وغيرها. أيّ أنّ ما له صلة بشخصية الإنسان، يُعدّ من جنس الأخلاق وآداب الحياة، وليس علماً.
في التربية الأخلاقية يكون للذكاء وحب الآخرين، معنى سام. ويكشف الرقي العلمي عن جماله، في ظل الرقي الفكري.
من منظار علم الاجتماع، كلما انتفع إدراك الإنسان بقوة عقله والآخرين، كلما إستخدم لغة التسامح والتساهل في تعامله مع الآخرين. وبالعكس يؤدّي التحجر وعدم الاستناد إلى العقل والإدراك، إلى التكبر والغرور. إذن تُعد مستلزمات الديمقراطية كالحلم وتحمل الآخرين والتسامح مع الآخرين لتحقيق التفاهم الجمعي، من العوامل التي لابدّ من وجودها في شخصية المعلمين التربويين قبل أي شخص آخر.
مفهوم "التفاهم الجمعي" الذي أشرنا إليه، حصيلة القبول المتبادل لإرادة جميع المخاطبين والاهتمام بمطالبهم وحاجاتهم. إنّ استخدام هذه المفاهيم التي تعد من العناصر المؤثرة في التربية الديمقراطية، يستلزم تنمية السلوك المدني لدى المعلمين، والفكر العقلاني لدى المبرمجين، والمعنوية الأخلاقية في جميع الأبعاد.
ورغم صعوبة نقل هذه القيم إلى سائر الأجزاء المؤثرة للمجتمع والمؤسسات غير الرسمية المهتمة بموضوع التعليم والتربية، ولكن لابدّ أن نعلم أنّ التربية لن يُكتب لها النجاح والشمول، من دون التنسيق مع المؤسسات الاجتماعية والمدنية.
لاشك في أنّ الاهتمام بإرادة الأفراد وحاجاتهم لا يعني أن تقوم عملية التعليم والتربية على الفوضى والأهواء النفسية والحاجات الكاذبة للمتعلمين والمخاطبين.
يقول "كمنيوس"، الفيلسوف الكبير في التعليم والتربية: (لا ينبغي أن يحقق الفرد كل آماله ومراميه، ويبدد حواسه وقواه، ويستسلم لأهواء الآخرين، ويجعل مشاعره تابعة لمشاعر الآخرين، وألا يرضى أبداً بفرض شيء عليه من الخارج. فعلى الجميع إدراك طريقة العيش بسعادة والتي هي كامنة في وجودهم).
يرى كمنيوس ضرورة التعامل مع الحرّية، والعمل، والحياة، والسعادة كحالة طبيعية مشروعة، وهدف ينبغي توجيه التعليم والتربية باتجاهه. ولاشك في أنّ تحسين أوضاع الناس بغية هدايتهم نحو تلك الحالة من الحرّية، والعمل، والسعادة، يمثل فكرة أساسية كانت تشغل ذهنه حين الكتابة. وبما أنّ الناس على وجه الكرة الأرضية ليسوا متفرجين بسطاء وإنما هم لاعبون مؤثرون، لذلك ينبغي أن تنتهي جهودنا إلى تأسيس منظمة بحيث لا يتعامل فيها أي أحد مع أي شيء إذا كان مجهولاً مطلقاً، أو لا يستطيع أن يستفيد منه، من دون أن يقع في فخ الخطأ مهما كان صغيراً.
إذن ينبغي أن يُعَلَّم كل شيء للطفل عن طريق العمل: "الكلام بالكلام، والكتابة بالكتابة، والاستدلال بالاستدلال"، وبذلك ستتوفر أسس التعليم والتربية التي تهدف إلى السيطرة تجريبياً على قيمة المعلومات.
هذا المبدأ سيفرز تلقائياً النتيجة التالية، وهي: إنّ الهدف من التعليم والتربية ليس تكديس المفاهيم والمعلومات في ذهن الطالب، وإنما تربية وتنمية عقله وذكائه وتحكيمه، بحيث يستطيع أن يفكر بذاته.
من الملامح المهمة للتربية الديمقراطية: الاعتراف بالتباينات الفردية، واحترام شتى الأذواق، ومراعاة حقوق مطالب الآخرين، والاعتراف بالكثرة والتنوع في الأفكار، والرؤى، والرغبات. وقد قال "أندريه لالانه":
(العالم يتألف من اناس ذوي هويات مختلفة، ومنفردة، ومستقلة).
في التربية الديمقراطية، لا يكون عمل التعليم والتربية، تعليم الأفكار، وإنما توفير المحفزات والأرضيات لتربية التفكير. والتعليم الذي يقدم التفكير، يمتلك نوعاً من الروح الباحثة عن المعنى، والتي تخلق "الحيرة المقدسة" لدى المتعلم، وتضفي صبغة العبادة على التعليم.
العبادة تعني التفكير في معنى الحياة. لهذا باستطاعتنا معرفة معنى الله عن هذا الطريق. وكان "فتغنشتاين" – الفيلسوف المعاصر ذو الفكر العميق – يفهم العبادة على أنها طلب لمعنى الحياة بواسطة التفكير. فما أن يمهد التعليم والتربية للتفكير والرقي الفكري، حتى تزداد قوة حب الاستطلاع والحيرة لدى الإنسان. غير انّ هذه الحالة لا تُعد عملاً رسمياً وقسرياً، وإنما ينبغي أن تنبعث ذاتياً، لأنّ التربية العاطفية والمعنوية عبارة عن عملية داخلية ووجودية لا تقبل القاعدة، ومنبثقة من جوهرة حرّية الإنسان وتحرّريته. ولهذا السبب تتبلور العلاقة بين الحرّية والتربية، في دورة تربية الذات والارتباط الهادف بعالم الوجود.
source : البلاغ