يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد وفقاً لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي:
1 ـ مبدأ الملكية المزدوجة.
2 ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
3 ـ مبدأ العدالة الاجتماعية.
1 ـ مبدأ الملكية المزدوجة
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية، في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.
فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالمكية الخاصة، كقاعدة عامة، فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم. ولا يعترف بالملكية العامة إلا حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك.
والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك، فإن الملكية الإشتراكية فيه هي المبدأ العام، الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد. وليت الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءاً، قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة.
وأما المجتمع الإسلامي فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكل من المجتمعين. لأن المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول: بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأ عاماً، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة.
وليس هناك أدل على صحة الموقف الإسلامي من الملكية، القائم على أساس مبدأ الملكية المزدوجة. من واقع التجربتين الرأسمالية والاشتراكية.
فان كلتا التجربتين اضطرتا الى الاعتراف بالشكل الآخر للملكية، الذي يتعارض مع القاعدة العامة فيهما؛ لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكية. فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ بفكرة التأميم، ويتزع عن بعض المرافق إطار الملكية الخاصة.
كما أن المجتمع الاشتراكي من الناحية الأخرى، وجد نفسه ـ بالرغم من حداثته ـ مضطراً أيضاً الى الاعتراف بالملكية الخاصة، قانونياً حيناً وبشكل غير قانوني أحياناً أخرى. فمن اعترافه القانوني بذلك، ما تضمنته المادة السابعة في الدستور السوفياتي، من النص على أن لكل عائلة من عوائل المزرعة التعاونية، بالاضافة الى دخلها الأساسي الذي يأتيها من اقتصاد المزرعة التعاونية المشترك قطعة من الأرض خاصة بها، وملحقة بمحل السكن، ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكنى وماشية منتجة وطيور وأدوات زراعية بسيطة.. كملكية خاصة. وكذلك سمحت المادة التاسعة بتملك الفلاحين الفرديين والحرفيين، لمشاريع اقتصادية صغيرة، وقيام هذه الملكيات الصغيرة الى جانب النظام الاشتراكي السائد.
2 ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
والثاني من أركان الاقتصاد الإسلامي، السماح للأفراد على الصعيد الاقتصادي بحرية محدودة، بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن بها الإسلام.
وفي هذا الركن نجد أيضاً الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي، والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي، فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع.. يقف الإسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعته العامة، فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل، التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها.
والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
أحدهما: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والآخر: التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحدد السلوك الاجتماعي وتضبطه.
أما التحديد الذاتي: فهو يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة، التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق حياته (المجتمع الإسلامي)، فإن للاطارات الفكرية والروحية التي يصوغ الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها، حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه.. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة، وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتياً وطبيعياً من الحرية، الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي، وتوجيهها توجيهاً مهذباً صالحاً، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم.
وأما التحديد الموضوعي للحرية، فنعني به: التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج، بقوة الشرع، ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحرية في الإسلام، على المبدأ القائل: إنه لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة، من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها.
وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية:
أولاً: كفلت الشرعية في مصادرها العامة، النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، المعيقة ـ في نظر الإسلام. عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا والاحتكار وغير ذلك.
وثانياً: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضرورياً لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن.
والأصل التشريعي لمبدأ الإشراف والتدخل هو القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. فإن هذا النص دل بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر. ولا خلاف بين المسلمين، في أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم. فللسلطة الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة.
فلا يجوز للدولة أو لولي الأمر أن يحلل الربا، أو يجيز الغش، أو يعطل قانون الإرث، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي.. وإنما يسمح لولي الأمر في الإسلام، بالنسبة الى التصرفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقاً للمثل الإسلامي للمجتمع. فإحياء الأرض، واستخراج المعادن، وشق الأنهار، وغير ذلك من ألوان النشاط والاتجار.. أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً عاماً ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات أو يأمر به، في حدود صلاحياته.. كان له ذلك، وفقاً للمبدأ الآنف الذكر.
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يطبق مبدأ التدخل هذان، حين تقضي الحاجة ويتطلب الموقف شيئاً من التدخل والتوجيه. ومن أمثلة ذلك ما جاء في الحديث الصحيح ـ عنه صلى الله عليه وآله ـ من أنه قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل: إنه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين أهل البادية: إنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال لا ضرر ولا ضرار. فإن من الواضح لدى الفقهاء: أن منع نفع الشيء أو فضل الماء، ليس محرماً بصورة عامة في الشريعة المقدسة. وفي هذا الضوء نعرف: أن النبي لم يحرم على أهل المدينة منع نفع الشيء، أو منع فضل الماء بصفته رسولاً مبلغاً للأحكام الشرعية العامة وإنما حرم ذلك بوصفه ولي الأمر.
المسؤول عن تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع وتوجيهها توجيهاً لا يتعارض مع المصلحة العامة التي يقدرها. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الرواية تعبّر عن تحريم النبي (ص): بالقضاء لا بالنهي، نظراً الى أن القضاء لون من الحكم.
3 ـ مبدأ العدالة الاجتماعية
والركن الثالث في الاقتصاد الإسلامي. هو مبدأ العدالة الاجتماعية التي جسدها الإسلام، فيما زود به نظام توزيع الثورة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات، تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية، وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها. فإن الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية، التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أو كله الى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية، باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة.. وإنما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين، واستطاع ـ بعد ذلك ـ أن يجسد هذا التصميم في رافع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.
فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية، وإنما يجب أن نعرف أيضاً تصوراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الإسلامي الخاص.
والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدئين عامين، لكل منهما خطوطه وتفصيلاته: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي.
وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنساني الأفضل، عبر تجربته التاريخية المشعة، كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن الرئيسي من اقتصاده.
وقد انعكس هذا الاهتمام ـ بوضوح ـ في الخطاب الأول الذي ألقاه النبي (ص)، وفي أول عمل سياسي باشره في دولته الجديد'.
فإن الرسول الأعظم دشن بياناته التوجيهية ـ كما في الرواية ـ بخطابه هذا:
«أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟! فما قدمت لنفسك؟! فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ـ ولو بشق تمرة ـ فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزي الحسنة عشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
وبدأ عمله السياسي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتطبيق مبدأ التكافل بينهم، بغية تحقيق العدالة الاجتماعية التي يتوخاها الإسلام.
وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفات أساسيتان، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله، وهما: الواقعية والأخلاقية.
فهو اقتصاد واقعي في غايته، لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة، ويحاول دائماً أن لا يرهق الإنسانية في حسابه التشريعي، ولا يحاق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكاناتها.. وإنما يقيم مخططه الاقتصادي دائماً على أساس النظرة الواقعية للإنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع تلك النظرة.
وهو ـ الى هذا ـ واقعي في طريقته أيضاً. فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقيق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعياً مادياً، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه، التي يقدمها الوعاظ والمرشدون، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف الى حيز التنفيذ، فلا يقنع بإيكالها الى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلاً إيجاد التكافل العام في المجتمع، لا يتوسل إليه بأساليب التوجيه واستثارة العواطف فحسب، وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال.
والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي، وهي الصفة الأخلاقية، تعني ـ من ناحية الغاية ـ: أن الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى الى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادي، من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها.. وإنما ينظر الى تلك الغايات، بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً، لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه، نابع من الظروف المادية للانتاج مثلاً، وإنما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها.
وتعني الصفة الخلقية ـ من ناحية الطريقة ـ: أن الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي يضعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب ـ وهو أن تحقق تلك الغايات ـ وإنما يعني بوجه خاص يمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلاً، ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي، من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق التكافل العام. لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفى في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة، أي إشباع الفقير.. ولكن الإسلام لا يقر ذلك، ما دامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي، والعامل الخير في نفس الغني. ولأجل ذلك تدخل الإسلام، وجعل من الفرائص المالية ـ التي استهدف منها إيجاد التكافل ـ عبادات شرعية، يجب أن تتبع عن دافع نفسي نيّر، يدفع الإنسان الى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإسلامي، بشكل واع مقصود، طلباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه.
فالإسلام إذن لا يقتصر ـ في مذهبه وتعاليمه ـ على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ الى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي، وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي. ولا يكتفي في طريقته أن يتخذ أي أسلوب يكفل تحقيق غاياته، وإنما يمزج هذا الأسلوب بالعامل النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها.
مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي
1 ـ الضمان الاجتماعي
فرض الإسلام على الدولة ضمان معيشة أفراد المجتمع الإسلامي ضماناً كاملاً. وهي عادة تقوم بهذا المهمة على مرحلتين: ففي المرحلة الأولى نهيئ الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر، ليعيش على أساس عمله وجهده. فاذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً، أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه فرصة العمل، جاء دور المرحلة الثانية، التي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان، عن طريق تهيئة المال الكافي، لسد حاجات الفرد، وتوفير حد خاص من المعيشة له.
ومبدأ الضمان الاجتماعي هذا يرتكز في المذهب الاقتصادي للإسلام على أساسين، ويستمد مبرراته المذهبية منهما:
أحدهما: التكافل العام، والآخر: حق الجماعة في موارد الدولة العامة، ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته، في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها، وتعيين الحد الأدنى من المعيشة التي يوفرها مبدأ الضمان الاجتماعي للأفراد.
فالأساس الأول للضمان لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحة للفرد، بينما يزيد الأساس الثاني على ذلك، ويفرض إشباعاً أوسع ومستوى أرفع من الحياة.
والدولة يجب أن تمارس الضمان الاجتماعي في حدود امكاناتها على مستوى كل من الأساسين.
ولكي نحدد فكرة الضمان في الإسلام يجب أن نشرح هذين الأساسين ومقتضياتهما وأدلتهما الشرعية.
الأساس الأول للضمان الاجتماعي:
فالأساس الأول للضمان الاجتماعي: هو التكافل العام. والتكافل العام هو المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفاية، كفالة بعضهم لبعض ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكاناته، يجب عليه أن يؤديها على أي حال كما يؤدي سائر فرائضه.
والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العام بين المسلمين، يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم.
فهي بوصفها الأمنية على تطبيق أحكام الإسلام، والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسؤولة عن أمانتها، ومخوّلة حق إكراه كل فرد على أداء واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلفه الله بها. فكما يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج الى الجهاد لدى وجوبه عليهم، كذلك لها حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مد هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدروا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى.
ولأجل أن نعرف حدود الضمان الاجتماعي، الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل، ونوع الحاجات التي يضمن إشباعها.. يجب أن نستعرض بعض النصوص التشريعية التي أشارت الى مبدأ التكافل، لنحدد في ضوئها القدر الواجب من الكفالة على المسلمين، وبالتالي حدود الضمان الذي تمارسه الدولة على هذا الأساس.
فقد جاء في الحديث الصحيح عن سماعة: «أنه سأل الإمام جعفر بن محمد عن قوم عندهم فضل، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس يسعهم الزكاة أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم؟، فإن الزمان شديد. فردّ الإمام عليه قائلاً: إن المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل الحاجة»(1)
وفي حديث آخر: أن الإمام جعفر قال: «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه الى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به الى النار(2). وواضح أن الأمر به الى النار يدل على: أن المؤمن يجب عليه إشباع حاجة أخيه المؤمن، في حدود قدرته، لأن الشخص لا يدخل النار إذا ترك شيئاً لا يجب عليه.
والحاجة في هذا الحديث وإن جاءت مطلقة ولكن المقصود منها هو الحاجة الشديدة التي ورد الحديث الأول بشأنها، لأن غير الحاجات الشديدة لا يجب على المسلمين كفالتها وضمان إشباعها إجماعاً.
وقد ربط الإسلام بين هذه الكفالة ومبدأ الأخوة العامة بين المسلمين ليدلل على أنها ليست ضريبة التفوق في الدخل فحسب، وإنما هي التعبير العملي عن الأخوة العامة، سيراً منه على طريقته في إعطاء الأحكام إطاراً خلقياً يتفق مع مفاهيمه وقيمه، فحق الإنسان في كفالة الآخر له مستمد في مفهوم الإسلام من أخوته له، واندراجه معه في الأسرة البشرية الصالحة.
والدولة تمارس في حدود صلاحياتها حماية هذا الحق وضمانه. والحاجات التي يضمن هذا الحق اشباعها هي الحاجات الشديدة. وشدة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية، وعسر الحياة بدون اشباعها.
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي:
ولكن الدولة لا تستمد مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من مبدأ التكافل العام فحسب، بل قد يمكن إبراز أساس آخر للضمان الاجتماعي كما عرفنا سابقاً، وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. وعلى أساس هذا الحق تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، يقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم.
وسوف نتحدث أولاً عن هذه المسؤولية المباشرة للضمان وحدودها وفقاً لنصوصها التشريعية، ثم عن الأساس النظري الذي ترتكز عليه فكرة هذا الضمان. وهو حق الجماعة في ثروات الطبيعة.
أما عن المسؤولية المباشرة للضمان: فإن حدود هذه المسؤولية تختلف عن حدود الضمان، الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل العام.
فإن هذه المسؤولية لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب، بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي، لأن ضمان الدولة هنا ضمان إعالة. وإعالة الفرد هي القيام بمعيشته وإمداده بكفايته. والكفاية من المفاهيم المرنة، التي يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسراً ورخاء.
وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد، من غذاء ومسكن ولباس، وان يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية، في مستوى الكفاية بالنسبة الى ظروف المجتمع الإسلامي. كما يجب على الدولة إشباع غير الحاجات الأساسية من ساير الحاجات، التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي عن الكفاية تبعاً لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه.
والنصوص التشريعية التي تدل على المسؤولية المباشرة للدولة في الضمان الاجتماعي، واضحة كل الوضوح، في التأكيد على هذه المسؤولية، وعلى أن الضمان هنا ضمان إعالة، أي ضمان مستوى الكفاية من المعيشة.
ففي الحديث عن الإمام جعفر: «أن رسول الله (ص) كان يقول في خطبته: مَن ترك ضياعه فعليّ ضياعه ومن ترك ديناً فَعليّ دينُه، ومَن ترك ماله فأكله».
وجاء في كتاب الإمام علي الى واليه على مصر: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً: واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد. فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعّر خدك لهم
وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الحشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه. فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج الى الانصاف من غيرهم. وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه.
وأما الأساس النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه، فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثورات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في حد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه.. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم.
فالمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان، ترتكز على أساس الحق العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحق للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة.
وأما الطريقة التي اتخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحق وحمايته للجماعة كلها بما تضم من العاجزين.. فهي إيجاد بعض القطاعات العامة في الاقتصاد الإسلامي، التي تتكون من موارد الملكية العامة، وملكية الدولة، لكي تكون هذه القطاعات ـ الى صف فريضة الزكاة ـ ضماناً لحق الضعفاء من أفراد الجماعة، وحائلاً دون احتكار الأقوياء للثروة كلها ورصيداً للدولة يمدها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي، ومنح كل فرد حقه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة.
وقد يكون أروع نص تشريعي في اشعاعه المحتوى المذهبي للأساس والفكرة، والطريقة جميعاً، هو المقطع القرآني في سورة الحشر، الذي يحدد وظيفة الفيء، ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً.
وإليكم النص:
«وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء» والله على كل شيء قدير. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، كي لا يكون دولة، بين الأغنياء منكم..».
ففي هذا النص القرآني قد نجد إشعاعاً بالاساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان. وهو حق الجماعة كلها في الثروة. (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء، بكون طريقة لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن السبيل، ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بالطبيعة، التي خلقها الله لخدمة الإنسان.
وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحر: بأن ضمان الدولة لا يختص بالمسلم. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثاً عن الإمام علي: أنه مر بشيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين أنه نصراني. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!!. انفقوا عليه من بيت المال.
ــــــــــــــــ
(1) الوسائل للحر العاملي: ج11 ص 597.
(2) الوسائل : ج11 ص 599.
2 ـ التوازن الاجتماعي
حين عالج الإسلام قضية التوازن الاجتماعي، ليضع منه مبدءاً للدولة في سياستها الاقتصادية، انطلق من حقيقتين احداهما كونية. والأخرى مذهبية.
أما الحقيقة الكونية فيه: تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات، النفسية والفكرية والجسدية. فهم يختلفون في الصبر والشجاعة، وفي قوة العزيمة والأمل ويختلفون في حدة الذكاء وسرعة البديهة وفي القدرة على الإبداع والاختراع. ويختلفون في قوة العضلات، وفي ثبات الأعصاب، الى غير ذلك من مقومات الشخصية الإنسانية التي وزعت بدرجات متفاوتة على الأفراد.
وهذه التناقضات ليست في رأي الإسلام ناتجة عن أحداث عرضية في تاريخ الإنسان، كما يزعم هواة العامل الاقتصادي، الذين يحاولون أن يجدوا فيه التعليل النهائي لكل ظواهر التاريخ الإنساني. فإن من الخطأ محاولة تفسير تلك التناقضات والفروق بين الأفراد، على أساس ظرف اجتماعي معين، أو عامل اقتصادي خاص. لأن هذا العامل أو ذلك الظرف، لئن أمكن أن تفسر على ضوئه الحالة الاجتماعية ككل، فيقال: ان التركيب الطبقي الاقطاعي أو أن نظام الرقيق كان وليد هذا العامل الاقتصادي، كما يصنع أنصار التفسير المادي للتاريخ.. فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون العامل الاقتصادي، أو أي وضع اجتماعي، كافياً لتفسير ظهور تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد. وإلا فلماذا اتخذ هذا الفرد دور الرقيق، وذلك الفرد دور السيد المالك؟! وأصبح هذا الفرد ذكياً قادراً على الابداع، والآخر خاملاً عاجزاً عن الإجادة؟! ولماذا لم يتبادل هذان الفردان دورهما ضمن إطار النظام العام؟!
فالاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معين. فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها، ولا لنظام اجتماعي إلغاؤه في تشريع، أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعية.
هذه هي الحقيقة الأولى.
وأما الحقيقة الأخرى من المنطق الإسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي: القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة: بأن العمل هو أساس الملكية وما لها من حقوق.
إن نتيجة الإيمان بهاتين الحقيقتين هي: السماح بظهور التفاوت بين الأفراد في الثروة، فاذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضاً وعمروها. وأنشأوا عليها مجتمعاً، وأقاموا علاقاتهم على أساس أن العمل هو مصدر الملكية، ولم يمارس أحدهم أي لون من ألوان الاستغلال للآخر.. فسوف نجد أن هؤلاء يختلفون بعد برهة من الزمن في ثرواتهم، تبعاً لاختلافهم في الخصائص الفكرية والروحية والجسدية.. وهذا التفاوت يقره الإسلام، لأنه وليد الحقيقتين اللتين يؤمن بهما معاً. ولا يرى فيه خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه. وعلى هذا الأساس يقرر الإسلام أن التوازن الاجتماعي يجب أن يفهم في حدود الاعتراف بهاتين الحقيقتين.
ويخلص الإسلام من ذلك الى القول: بأن التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل.
والتوازن في مستوى المعيشة معناه: أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم، الى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.
وهذا لا يعني أن الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة. وإنما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة، هدفاً تسعى الدولة في حدود صلاحياتها الى تحقيقه والوصول إليه، بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها.
وقد قام الإسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف، بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الاسراف، ويضغط المستوى من أسفل، بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة الى مستوى أرفع. وبذلك تتفاوت المستويات حتى تندمج أخيراً في مستوى واحد، قد يضم درجات ولكنه لا يحتوي على التناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة.
فقد جاء في الحديث: أن الإمام موسى بن جعفر ذكر بشأن تحديد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة: «إن الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له، على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين. يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية. فان فضل من ذلك شيء، رد الى الوالي. وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به، وكان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا».
وهذا النص يحدد بوضوح: أن الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه، ويلقي مسؤولية ذلك على ولي الأمر، هو إغناء كل فرد في المجتمع الإسلامي.
وهذا ما نجده في كلام الشيباني، على ما حدّث عنه شمس الدين السرخسي في المبسوط إذ يقول: «على الإمام ان يتقي الله في صرف الأموال الى المصارف فلا يدع فقيراً إلا أعطاه حقه من الصدقات حتى يغنيه وعياله. وإن احتاج بعض المسلمين، وليس في بيت المال من الصدقات شيء، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج، ولا يكون ذلك ديناً على بيت مال الصدقة لما بيّنا أن الخراج وما في معناه يصرف الى حاجة المسلمين».
فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر. ولكي نعرف المفهوم الإسلامي للغنى، يجب أن نحدد ذلك على ضوء النصوص أيضاً وإذا رجعنا إليها، وجدنا أن النصوص جعلت من الغنى الحد النهائي لتناول الزكاة، فسمحت بإعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً، ومنعت إعطاءه بعد ذلك، كما جاء في الخبر عن الإمام جعفر «تعطيه من الزكاة حتى تغنيه». فالغنى الذي يهدف الإسلام الى توفيره لدى جميع الأفراد، هو هذا الغنى الذي جعله حداً فاصلاً بين إعطاء الزكاة ومنعها.
ومرة أخرى يجب أن نرجع الى النصوص، ونفتش عن طبيعة هذا الحد الذي يفصل بين إعطاء الزكاة ومنعها، لنعرف بذلك مفهوم الغنى في الإسلام.
وفي هذه المرحلة من الاستنتاج يمكن الكشف عن طبيعة ذلك الحد، في ضوء حديث أبي بصير، الذي جاء فيه: «إنه سأل الإمام جعفر الصادق عن رجل له ثمانمائة درهم، وهو رجل خفّاف، وله عيال كثير، أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال له الإمام: يا أبا محمد أيربح من دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟. فقال أبو بصير: نعم. فقال الإمام: إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت، فلا يأخذ الزكاة. وإن كان أقل من نصف القوت، أخذ الزكاة. وما أخذه منها فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس».
ففي ضوء هذا النص نعرف أن الغنى في الإسلام هو انفاق الفرد على نفسه وعائلته، حتى يلحق بالناس. وتصبح معيشته في المستوى المتعارف الذي لا يضيق فيه ولا تقية.
وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفّل أيضاً بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة، لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود تلك الامكانات.
ويمكن تلخيص هذه الامكانات في الأمور التالية:
أولاً: فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة، وينفق منها لرعاية التوازن العام.
وثانياً: إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة الى استثمار تلك القطاعات، لأغراض التوازن.
وثالثاً: طبيعة التشريع الإسلامي، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول.
1 ـ فرض ضرائب ثابتة:
وهي ضرائب الزكاة والخمس، فان هاتين الفريضتين الماليتين، لم تشرعا لأجل إشباع الحاجات الأساسية فحسب، وإنما شرعتا أيضاً لمعالجة الفقر، والارتفاع بالفقير الى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء، تحقيقاً للتوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام.
والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن، وإمكان استخدامها في هذا السبيل، ما يلي من النصوص:
أ ـ عن إسحاق بن عمار: «قال: قلت للإمام جعفر بن محمد أعطي الرجل من الزكاة مئة؟ قال: نعم. قلت: مائتين؟ قال: نعم قتل: ثلاثمائة؟ قال: نعم. قلت: أربعمائة؟ قال: نعم. قلت خمسمائة؟ قال نعم، حتى تغنيه»0(1).
ب ـ عن عبد الرحمن بن حجاج: «قال: سألت الإمام موسى بن جعفر (ع): عن الرجل يكون أبوه وعمه أو أخوه يكفيه مؤونته، أيأخذ من الزكاة فيوسع بها، إن كانوا لا يوسعون عليه في كل ما يحتاج إليه؟ فقال: لا بأس(2).
ج ـ عن اسحاق بن عمار: «قال : قلت للصادق (ع) أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهماً؟. قال نعم، وزده. قلت: أعطيه مئة؟ . قال نعم واغنه، إن قدرت على أن تغنيه»(3)
وكتب ابن قدامة يقول: (قال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله فقلت: قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير وتكون له أربعون شاة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا. وقال: في رواية محمد بن الحكم إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة. وهذا قول الشافعي)(4).
وقد فسر ابن قدامة ذلك بقوله: (لأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتجاً فهو فقير يدخل في عموم النص ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة).
وبهذا نعرف أن الإسلام لم يعط للفقير مفهوماً مطلقاً، ومضموناً ثابتاً في كل الظروف والأحوال، فلم يقل مثلاً: ان الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية. وإنما جعل الفقر بمعنى عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس، كما جاء في النص. وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتسع المدلول الواقعي للفقر لأن التخلّف عن مواكبة هذا الارتفاع في مستوى المعيشة يكون فقراً عندئذ. فإذا اعتاد الناس مثلاً على استقلال كل عائلة بدار، نتيجة لاتساع العمران في البلاد، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلة لوناً من الفقر بينما لم يكن فقراً، حينما لم تكن البلاد قد وصلت الى هذا المستوى من اليسر والرخاء.
ونظير هذا مفهوم الطب مثلاً، فان الشرع حكم بوجوب تعلم الطب كفاية على المسلمين. وهذا الوجوب حكم ثابت، تعلق بمفهوم خاص وهو (الطب). ولكن ما هو مفهوم الطب؟ وما يعني تعلم الطب؟. إن تعلم الطب هو دراسة المعلومات الخاصة، التي تتوفر في ظرف ما عن الأمراض وطريقة علاجها. وهذه المعلومات الخاصة تنمو على مر الزمن، تبعاً لتطور العلم. وتكامل التجربة. فما هي معلومات خاصة بالأمس، لا تعتبر معلومات خاصة اليوم. ولا يكفي في طبيب اليوم أن يتقن ما كان يعرفه الأطباء الحادقون في عصر النبوة، ليكون ممتثلاً لحكم الله في تعلم الطب، فالمرونة في المفهوم إذن غير التغير في الحكم الشرعي. وإذا كان طبيب اليوم غير طبيب عصر النبوة فمن المعقول أن يكون فقير اليوم في مفهوم الإسلام غير فقير عصر النبوة أيضاً.
2 ـ إيجاد قطاعات عامة:
ولم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرعها لأجل إيجاد التوازن، بل جعل الدولة مسؤولة عن الانفاق في القطاع العام لهذا الغرض. فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع): أن على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة، أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
وكلمة: (من عنده) تدل على أن غير الزكاة من موارد بيت المال، يتسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن، بإغناء الفقراء، ورفع مستوى معيشتهم.
وقد شرح القرآن الكريم دور الفيء ـ الذي هو أحد موارد بيت المال ـ في إيجاد التوازن، فقال: «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم».
والفيء في الأصل: ما يغنمه المسلمون من الكفار بدون قتال. وهو ملك للدولة، أي للنبي والإمام باعتبار المنصب. ولذلك يعتبر الفيء نوعاً من الأنفال وهي الأموال التي جعلها الله ملكاً للمنصب الذي يمارسه النبي والإمام كالأراضي الموات أو المعادن على قوله.
ويطلق الفيء في المصطلح التشريعي على الأنفال بصورة عامة، بدليل ما جاء في حديث محمد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: «الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء، وقوم صولحوا أو أعطوا بأيديهم وما كان من أرض خربة، أو بطون أودية، فهو كله من الفيء..الخ(5) فإن هذا النص واضح في إطلاق اسم الفيء، على غير ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال. وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي، لا يختص الفيء حينئذ بالغنيمة المجردة عن القتال، بل يصبح تعبيراً عن جميع القطاع الذي يملكه منصب النبي والإمام.
3 ـ طبيعة التشريع الإسلامي:
والتوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلامية في مختلف الحقول، فإنها تساهم عند تطبيق الدولة لها، في حماية التوازن.
ولا نستطيع أن نستوعب هنا مجموعة التشريعات ذات الصلة بمبدأ التوازن، ونكشف عن أوجه الارتباط بينها وبينه. وإنما يكفي أن نشير هنا الى محاربة الإسلام لاكتناز النقود، وإلغائه للفائدة، وتشريعه لأحكام الإرث وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثورات الطبيعية الخام، الى غير ذلك من الأحكام.
فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة، يقضي على دور المصارف الرأسمالية في إيجاد التناقض والإخلال بالتوازن الاجتماعي وينتزع منها قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثورة البلاد الأمر الذي تمارسه تلك المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار، وإغرائهم بالفائدة.
وينتج عن المواقف الإسلامي طبيعياً عدم قدرة راس المال الفردي غالباً، على التوسع في حقول الإنتاج والتجارة، بالدرجة التي تضر التوازن، لأن توسع الأفراد في مشاريع الإنتاج والتجارة، إنما يعتمد في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي على المصارف الرأسمالية، التي تمد تلك المشاريع بحاجتها الى المال، نظير فائدة محددة. فاذا منع الاكتناز وحرمت الفائدة، لم يتيسر للمصارف أن تكدس في خزائنها النقد بشكل هائل، ولا أن تمد المشاريع الفردية بالقروض. فتبقى النشاطات الخاصة على الصعيد الاقتصادي في الحدود المعقولة التي تواكب التوازن العام. وتترك ـ طبيعياً ـ المشاريع الكبرى في الانتاج الى الملكيات العامة.
وتشريع أحكام الإرث، الذي تقسم التركة بموجبه غالباً على عدد من الأقرباء الورثة.. يعتبر ضماناً آخر للتوازن، لأنه يفتت الثروات باستمرار ويحول دون تكدسها عن طريق تقسيمها على الأقرباء، وفقاً لما تقرره أحكام الميراث. ففي نهاية كل جيل تكون ثروات الأفراد الأغنياء قد قسمت غالباً على مجموعة أكبر عدداً منهم وقد يبلغ المالكون الجدد للثورة المتروكة أضعاف ملاكها الأولين.
والصلاحيات الممنوحة للدولة لملء منطقة الفراغ، لها أثر كبير في حماية التوازن، كما سنجد في البحث المقبل.
وكذلك الغاء الاستثمار الرأسمالي للثورات الطبيعية الخام، يعبر عن وضع نقطة انطلاق للنشاط الاقتصادي، تؤدي بطبيعتها الى التوازن، لأن استخدام الثروات الطبيعية هو نقطة الانطلاق الرئيسية في النشاط الاقتصادي.
فإذا وضعت المباشرة شرطاً أساسياً، في تملك الثروات الخام من الطبيعة كما يرى بعض الفقهاء، ومنع عن تسخير الآخرين في هذا السبيل.. فقد حدد توزيع تلك الثروات بشكل يحقق التوازن، ولم يسمح لنفر قليل بالاستيلاء عليها، عن طريق تسخير الآخرين لخدمتهم في هذا المجال، الأمر الذي يعصف بالتوازن، ويضع بذرة التناقض والاختلال منذ البداية.
ـــــــــــــــ
(1) الوسائل للحر العاملي: ج 6 ص 180.
(2) الوسائل ج6 ص 163.
(3) يلاحظ هنا أن القوة الشرائية للدرهم في عصر تلك النصوص، تزيد كثيراً على القوة الشرائية للعملة النقدية، التي نطلق عليها اسم الدرهم اليوم.
(4) المغني لابن قدامة: ج2 ص554.
(5) الوسائل للحر العاملي: ج 6 ص368.
3 ـ مبدأ تدخل الدولة
ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل يمتد الى ملء منطقة الفراغ من التشريع. فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقاً للظروف.
ففي مجال التطبيق تتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، لضمان تطبيق أحكام الإسلام، التي تتصل بحياة الأفراد الاقتصادية. فتحول مثلاً دون تعامل الناس بالربا، أو السيطرة على الأرض بدون احياء، كما تمارس الدولة نفسها تطبيق الأحكام التي ترتبط بها مباشرة، فتحقق مثلاً الضمان الاجتماعي والتوازن العام في الحياة الاقتصادية بالطريقة التي سمح الإسلام باتباعها، لتحقيق تلك المبادئ.
وفي المجال التشريعي تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة، بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ويحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية.
ومن الطبيعي ـ على هذا الأساس ـ أن يقدم الإسلام مبادئه النظرية والتشريعية، بوصفها قادرة على تنظيم علاقات الإنسان بالإنسان في عصور مختلفة.
ولكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات الإنسان بالطبيعة واخراج تأثير هذا الجانب من الحساب فان تطور قدرة الإنسان على الطبيعة، ونمو سيطرته على ثرواتها، يطور وينمي باستمرار خطر الإنسان على الجماعة، ويضع في خدمته باستمرار امكانات جديدة للتوسع، ولتهديد الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعية.
فالمبدأ التشريعي القائل مثلاً: ان من عمل في أرض، وأنفق عليها جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره.. يعتبر في نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن يساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره ممن لم يعمل فيها شيئاً. ولكن هذا المبدأ بتطور قدرة الإنسان على الطبيعة ونموها، يصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم احياء الأرض فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عملياً الاحياء إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن تنمو قدرة الإنسان، وتتوفر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة، فيصبح بإمكان أفراد ممن تؤاتيهم الفرصة، أن يحيوا مساحة هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة ويسيطروا عليها، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة. فكان لابد للصورة التشريعية من منطقة فراغ، يمكن ملؤها حسب الظروف. فيسمح بالاحياء سماحاً عاماً في العصر الأول ويمنع الأفراد في العصر الثاني ـ منعاً تكليفياً ـ عن ممارسة الاحياء، إلا في حدود تتناسب مع أهدافا الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة.
منطقة الفراغ ليست نقصاً:
ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها بمنحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف.
نماذج:
وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة، لاستعمال ولي الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ. وهذه النماذج تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة، وأهمية دورها الايجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية. ولهذا نستعرض فيما يلي قسماً من تلك النماذج، مدعماً بالنصوص:
أ ـ جاء في النصوص: أن النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ. فعن الإمام الصادق أنه قال: «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع فضل ماء وكلاء».
وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً. وإذا جمعنا الى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأن منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء، ليس من المحرمات الأصيلة في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر.. أمكننا أن نستنتج: أن النهي من النبي صدر عنه، بوصفه ولي الأمر.
فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة الى إنماء الثورة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين، تشجيعاً للثورات الزراعية والحيوانية.
وهكذا نرى أن بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تكليفياً، تحقيقاً لمصلحة واجبة.
ب ـ ورد عن النبي (ص) النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها. ففي الحديث عن الصادق (ع): أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها؟ فقال: «قد اختصموا في ذلك الى رسول الله (ص)، فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم» وفي حديث آخر: أن رسول الله أحل ذلك فاختلفوا. فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها.
فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة. ولكن النبي نهى عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر، دفعاً لما سفر عنه من مفاسد وتناقضات.
خلاصة
يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة هي:
1 ـ مبدأ الملكية المزدوجة: حيث يقر الإسلام الملكية ذات الأشكال المتنوعة (الملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة).
2 ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود: والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين (أحدهما) التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية. (ثانيهما) التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحدد السلوك الاجتماعي وتضبطه.
3 ـ مبدأ العدالة الاجتماعية: والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدئين عامين أحدهما: مبدأ التكافل الاجتماعي، والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي.
أما مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي فتتكون من:
1 ـ الضمان الاجتماعي: ويتركز على أساسين. (أحدهما) التكافل العام. و(الآخر) حق الجماعة في موارد الدولة العامة.
2 ـ التوازن الاجتماعي: انطلاقاً من حقيقتين (أحدهما) كونية. حيث تتفاوت أفراد النوع البشري في الخصائص والصفات النفسية والفكرية والجسدية والأخرى هي القاعدة المنهجية للتوزيع القائلة بأن العمل هو أساس الملكية ومالها من حقوق. ويخلص الإسلام الى القول بأن التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل.
وقد تكفل الإسلام لتحقيق مبدأ التوازن الاجتماعي ما يلي:
أ ـ فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة، وينفق منها لرعاية التوازن العام.
ب ـ إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة الى استثمار تلك القطاعات، لأغراض التوازن.
ج ـ طبيعة التشريع الإسلامي الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول حيث لا اكتناز للنفوذ ولا فائدة، وكذا تشتيت الثروة بالإرث، وكذا الصلاحيات الممنوحة للدولة لملء منطقة الفراغ.
3 ـ مبدأ تدخل الدولة: ولا يقتصر على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة بل يمتد الى ملء منطقة الفراغ في التشريع (التصرف بالعناصر المتحركة وفقاً للظروف).
فالإسلام يرى أن علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثورة تتطور عبر الزمن تبعاً للمشاكل المتجددة التي يواجهها الإنسان باستمرار خلال ممارسته للطبيعة والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل. أما علاقات الإنسان بأخيه، فهي ليست متطورة بطبيعتها لأنها تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً، مهما اختلف إطارها ومنظرها. ولأجل ذلك يرى الإسلام، أن الصورة التشريعية التي ينظم بها تلك العلاقات، وفقاً لتصوراته للعدالة. قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية لأنها تعالج مشاكل ثابتة.
فالمبدأ التشريعي القائل: ان من أصلح أرضاً فهي له. يمكن أن ينطبق على الحالات التي لا يستطيع فيها الإنسان أن يباشر عمليات الاحياء الواسعة حيث لا يؤثر على الآخرين. أما إذا استخدم الإنسان المكنة الزراعية والوسائل الحديثة فذلك مما يخلق حالة التنافس والمزاحمة فيكون من اللازم للصورة التشريعية أن تمارس دورها في ملء منطقة الفراغ للحالات المتجددة.
source : البلاغ