مسجد قُباء *
إعداد :
قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام )
وهو المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم ، حينما هاجر الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى المدينة المنوّرة ونزل في ( قُبا ) ، وقام فيها بضعاً وعشرين ليلة يصلي القصر ، ينتظر قدوم ابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) . وأسَّس هذا المسجد الشريف قبل أي مسجد بالمدينة ، وفيه نزل قوله تعالى : ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة : 108 ) .
فيستحب الصلاة في هذا المسجد الشريف والدعاء فيه ، وخلفه بيت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ويبعد هذا المسجد الشريف عن المدينة المنوّرة مسافة ثلاث كيلومترات ونصف .
وروي عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، أنَّه قال : ( مَن تطهَّر في بيته وأتى مسجد قبا وصلَّى فيه ركعتين ، كان له كأجر عمرة ) .
وأمام المسجد بئر كان ماؤها عذباً غزيراً ، ولكنَّها عُطلت الآن . ويقال إنَّ خاتم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سقط فيها فسمِّيت (بئر الخاتم) ، وتسمَّى أيضاً : (بئر التفلة) ؛ لِمَا يقال إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تفل فصار ماؤها عذباً وقد كان ملحاً أجاجاً .
مسجد قُباء ومسجد ضِرار : (**)
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) (1) .
سبب نزولها ـ على ما روي ـ : أنَّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قُبا ، بعثوا إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أن يأتيهم ، فأتاهم وصلّى فيه ، فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يصلّي فيه ، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب أيضاً ـ وستأتي قصّته ـ ليثبت لهم الفضل والزيادة ، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قُبا ، وقالوا لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وهو يتجهَّز إلى تبوك : إنَّا قد بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة واللَّيلة المطيرة واللَّيلة الشاتية ، وإنا نحبُّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال (صلى الله عليه وآله) : ( إنِّي على جناح السفر ، ولو قدمنا ـ إن شاء الله ـ أتيناكم فصلَّينا لكم فيه ) .
فلمَّا قدم من تبوك أُنزلت الآية ، فأنفذ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عاصم بن عوف العجلانىِّ ومالك بن الدُّخشم ، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرِّقاه .
وروي أنَّه بعث عمَّار بن ياسر ووحشيّاً وحرَّقاه ، وأمر (صلَّى الله عليه وآله) بأن يتَّخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف .
قيل : كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وقيل: خمسة عشر (2) .
ثمَّ إنَّه تعالى أخبر نبيّه (صلَّى الله عليه وآله) بمقصدهم ، وهو أنَّهم بنوه مضارَّة لبني عمرو بن عوف ، وتفريقاً بين المؤمنين ؛ لأنّهم كانوا يجتمعون في مسجد قُبا ، وإرصاداً لأبي عامر الراهب بحيث يقدم إليهم ، وكلُّ هذه المقاصد قبيحة منافية للدين ؛ وفي ذلك دلالة على وجوب الإخلاص بعمارة المساجد لله تعالى ، لا لغرض آخر .
ثمَّ إنّه تعالى أخبر عن مجيئهم في إخبارهم بضدّ مقصدهم ، وأنّه تعالى يشهد بكذبهم مؤكّداً ذلك بعدّة من التواكيد .
ولمَّا نهاه سبحانه أن يقوم فيه أبداً ، أقسم أنَّ غيره أحقّ وأولى بالقيام فيه ، وهو مسجد أُسِّس على التقوى . فقيل: هو مسجد قبا . وقيل : مسجده (صلَّى الله عليه وآله) بالمدينة .
ومعنى ( مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) ، أي: من أول يوم بني . و( أَحَقُّ ) هنا : إمّا بمعنى حقيق ؛ فإنّ أفعل التفضيل يجيء بمعنى الصفة ، كقولهم : ( الأشجُّ والناقص أعدلا بني مروان) . أو أنّه على بابه ، أىّ: أحقُّ من كلّ مكان حقيق بالصلاة فيه . أو أنّ الصَّلاة في مسجدهم باعتبار كونه أرضاً خالية من المسجديّة ، يجوز فيها الصَّلاة ، فالقيام فيها حسن في نفسه ، وإنّما صار قبيحاً باشتماله على مفسدة تزيد على حسنه .
قصة أبي عامر:
إنّه ترهّب في الجاهليّة ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبي (صلَّى الله عليه وآله) المدينة حسده وحزَّب عليه الأحزاب ، ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف ، فلمّا أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام ولحق بالروم وتنصّر ، فسمّاه النبي (صلَّى الله عليه وآله) الفاسق .
ثمّ إنّه أنفذ إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً ، فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واُخرج محمداً من المدينة ، فكان أولئك المنافقون يتوقّعون قدومه ، فمات قبل أن يبلغ ملك الرّوم بأرض يقال لها : قنّسرين (3) .
ثمَّ إنَّ هذا أبو عامر كان له ولد اسمه حنظلة ، وهو رجل مؤمن من خواصّ النبي (صلى الله عليه وآله) قتل معه يوم أُحد وكان جُنُبَاً ، فغسلته الملائكة ، فسمّاه النبي (صلَّى الله عليه وآله) غسيل الملائكة ( رحمة الله عليه ، ولعنة الله على أبيه ) .
صورة لمسجد قباء عام 1394هـ / 1974م (4)
ــــــــــــــــــــــــــ
* المقالة من إعداد وتصحيح وتحرير قسم المقالات في شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .
** ما تحت هذا العنوان مقتبس من كتاب : " كنز العرفان في فقه القرآن " ، المقداد السيوري ( متوفّى سنة 826هـ ) ، ج1 ، ص 168 .
(1) التوبة : 108 و109.
(2) تجد القصّة بتفاصيلها في أحكام القرآن للجصاص 4 : 367 ، التبيان 5 : 297 ، أحكام القرآن لابن العربي 2 : 581 ، الكشاف 2 : 309 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 253 ، الدر المنثور 3 : 273.
(3) مجمع البيان 4 : 396 ، الجامع لأحكام القرآن 7 : 320.
(4) التاريخ بحسب الموقع المأخوذه منه الصورة ، وهو موقع : شبكة الفلق الثقافية .