كل واحد منا يعيش اليوم في دولة تهيئ كل سنة قانوناً مالياً تتقابل فيه المداخيل والمصاريف. حتى لو لم يكن يهتم بشؤون الاقتصاد فإنه يقرأ في الصحف توضيحات المسؤولين وتساؤلات النواب. فيعرف مزايا ومساوئ أنواع الضرائب: على الدخل، على الرأسمال، على المبادلات، على الاستهلاك، الخ. هذه مفاهيم لها تاريخ طويل، لم تتبلور إلا في القرن الماضي، لكنها اليوم تملأ أذهان الجميع. فلا يجب أن نستغرب إذا كنا نسحبها بدون وعي منا على ما نقرأ من كتابات الماضي. ماذا يعني ابن خلدون بالضبط عندما يستعمل كلمة عمل وكلمة مال؟
يقول الغزالي عند كلامه عن الحرف المحمودة إن كبار الصحابة كانوا يكرهون حرفة الدلال سائقاً التعليل التالي: "لأن العمل فيها لا يتقدر. فقد يقل وقد يكثر ولا ينظر في مقدار الأجرة إلى العمل بل إلى قدر قيمة الثوب. هذا هو العادة وهو ظلم بل ينبغي أن ينظر إلى قدر التعب". (ص95). هذا اعتبار لا يزال يوجد في القوانين الجبائية الحالية: كل دخل لا يتناسب مع تعب المستفيد منه إلا وتضاعف عليه الضريبة. نجد وراء الحكم الأخلاقي واقعاً اقتصادياً وهو ربط مفهوم العمل بالجهد، بالإنتاج أو الخدمة. يبقى مع ذلك أن الجانب الاقتصادي عرضي عند الغزالي ولا يمكن أن نبني عليه أي استنتاج محدد، سيما فيما يتعلق بتكوين الرأسمال.
يعبر ابن خلدون عن فكرة مشابهة، وربما هي نفسها، لكن من منظور مخالف، إذ يقول: "من أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق.. إذا كلفوا في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر". (ص511-2). الاعتبار أخلاقي، هنا أيضاً، إلا أنه عوض أن يكون في نطاق الحلال والحرام، أي خاصاً بالفرد ومآله في الآخرة، فإنه يدخل في مسألة العدل والظلم، النظام والفوضى، انتظام العمران أو فساده، في نطاق السياسة وليس فقط في واجب إقامة السنة.
بيد أننا نكتشف اعتباراً آخر، أكثر أصالة، إذ نقرأ في المقدمة: "المكاسب إنما هي قيمة الأعمال". (742). وكذلك: "قد تبين أن المفادات والمكتسابات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية.. إذا قلّت الأعمال رفع الكسب" (ص681). ماذا تعني بالضبط هذه التقريرات؟ هل هي مجرد تفريعات عن الفكرة القديمة، أم تشير إلى أن العمل (السعي، التعب، الحركة) هو أصل كل ممتلك (مكسوب، متمول، مفاد، مكتسب، رياش، مذخر..)؟ ونلاحظ في هذا الصدد أن ابن خلدون ينوع العبارات، مما يدل على تردد أو على تدقيق.
يقال إن هؤلاء اختلفوا منذ نشأة علمهم حول أصل القيمة (الفضل): أهو العمل، النشاط الجسماني أو الفكري، أم المادة (أرض، أداة، نقد)، أم الاثنان معاً؟ إلا أن الجانب الأهم في البحث عن أصل موضوعي ملموس للقيمة هو التماس قياساً للموازنة. كيف نستطيع أن نقول إن هذه البضاعة تساوي ضعف تلك، مهما كان سعرها الحالي في السوق، إذا لم نملك مقياساً ثابتاً وقابلاً للتجزئة. ويبدو أن المسلك الأقرب إلى الإدراك والتوظيف هو العمل. المفهوم إذن إجرائي. دوره في الاقتصاد دور العقد الاجتماعي في حقل السياسة. للمفهوم إذن، الصالح ليكون قياساً وعياراً، هو قوة العمل وليس العمل وحسب. الأول داخل في حيز الكمّ والتالي في حيز الكيف. لابدّ إذن من امتلاك وسيلة لردّ العمل إلى شيء يقدر بالنسبة للحركة وللزمن. في غياب هذه الوسيلة (وهي بالطبع نظرية غليليو حول الحركة) يبقى مفهوم العمل جامداً، غير صالح لتأسيس علم موضوعي قياسي يستحق أن يسمّى علم الإنتاج.
يتكلم ابن خلدون على أوضاع عادية في ظروف مضطربة عرفها الرومان قديماً والفرنسيون والألمان حديثاً. تتراكم ثروات فاحشة إثر تحول مباغت في مستوى الأسعار بعد انهيار الدولة وانقطاع علاقات الاقتصاد الطبيعية. كما أن الربح التجاري ينتج في الغالب عن تفاوت في الأسعار بين بلدين بعيدين أو بين زمانين مختلفين، كذلك يتأثل الملك العقاري تبعاً لحوالة الأسواق، لا علاقة إذن، في التحليل الخلدوني، بين الرأسمال (الإرث، الذخيرة) والعمل. فهو رزق، لا كسب، حسب اصطلاح الفقهاء والمتكلمين الذي تولاه صاحب المقدمة. لم ينف العلاقة ضمنياً أو تلويحاً، بل نفاها صراحة، إذ يؤكد أن عائدات الملك لا تكفي لسدّ حاجات المعاش. يتكلم بالطبع على المالك لا على العامل الأجير. لكن بالنسبة للادخار، تكوين الرأسمال، إذا عجز الأول فالثاني أعجز في ظروف الوقت.
لا يمكن أن ينازع أحد أن هذا التحليل بعيد عن نظرية ريكاردو عن الريع العقاري، الذي ترتفع قيمته، بالتالي ثروة المُلاّك، لا من جراء عملهم هم بل من جراء عمل المنتجين الحقيقيين، أرباب المعامل والصنّاع، من جراء التنافس على الأرض بين من يريدها للفلح والرعي ومن يريدها لتخطيط المدن وتشييد المعامل. ومن هذه الجهة نادى البعض بتأميم الأرض بين الاقتصاديين الليبراليين أنفسهم.
أقل ما يمكن قوله هو أن العلاقة بين العمل والادخار، والإنتاج والتراكم، غير واضحة ولا ثابتة في تحليلات ابن خلدون. بل العلاقات التي يقررها لأنه لاحظها أو أفادها من "شيوخ البلدان"، جزئية وإن كانت واقعية، ولا تفهم على وجهها الصحيح إلا في نطاق نظرية أعمّ ضرورةً عن ذهنه وحاضرة في ذهن غيره.
-------------------------------------
source : البلاغ