في غمرة الصراع العقائدي الذي يجتاح العالم اليوم، يبدو أن الاشتراكية هي النظام الذي حقق شيئاً من النجاح كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية التي ينادي بها الناس، وكقاهر جبار لذلك التراتب الطبقي الذي كان ـ وما زال ـ بذرة الحقد المدمر الموجي بالحضارات وبكل ما يبني الإنسان من خير وحق وجمال.
ويمكننا أن نعرف الاشتراكية بوجه عام: أنها نظريات وحركات اجتماعية، وبالتالي سياسية واقتصادية تهدف إلى تنظيم مجتمع يقوم على مصالح الغالبية من الشعب، وذلك عن طريق الملكية الجماعية والرقابة الجماعية لعناصر الإنتاج والتوزيع، كالمصانع والمنشآت الكبيرة والأراضي الزراعية والمناجم ونحوها من ملكية جماعية، وتنظيم للإنتاج القومي وفقاً لخطة مركزية مرسومة، تحقق الصالح العام لا صالح أفراد وطبقات معينة.
أهداف الاشتراكية:
وأهداف الاشتراكية على اختلاف نظرياتها وفئاتها، بل وعند جميع القائلين بها، تكاد تتلخص بما يلي:
ـ أولاً: إزالة طبقة الرأسماليين ونفوذهم.
ـ ثانياً: شخصية الجماعة فوق شخصية الأفراد.
ـ ثالثاً: تغيير نظام الملكية الخاصة بنظام ملكية جماعية.
ـ رابعاً: رفع مستوى المعيشة من جميع وجوهها لأفراد الشعب كافة.
ـ خامساً: إزالة نظام الملكية الزراعية والقضاء على الإقطاع.
ـ سادساً: كفالة الفرص المتكافئة للجميع دون تمييز طبقي.
ـ سابعاً: هيمنة النظام المركزي على الإنتاج، وإدارته طبقاً لخطة مرسومة توفر الحرية والطمأنينة والرفاهية للجميع على السواء.
وقد وقف الناس في شرقنا العربي من الاشتراكية مواقف مختلفة:
ـ فمنهم مَن تعامى عن حسناتها كلها واعتبرها شراً محضاً، وهؤلاء هم الرأسماليون وأنصاف الرأسماليين.
ـ ومنهم مَن أرادها متطرفة جارفة حاقدة، بل شيوعية بكل الظلال العلمية للكلمة، وهؤلاء هم الذين لا يؤمنون بالاعتدال.
ـ ومنهم مَن تحزّب واعتبرها جوهر الدين الإسلامي، وأنه قبل (ماركس وإنجلز وهيغل ولينين وسان سيمون) وغيرهم من فلاسفة الاشتراكية كان الإسلام أباً للاشتراكية، وكان محمد بن عبدالله إمامها الأول.
ـ ومنهم مَن ذهب إلى العكس تماماً فاندفعوا يحاربونها باسم الدين ويناهضونها زاعمين، أنها تناقض جوهر الإسلام ولا تأتلف مع تعاليمه.
ونحن لا نريد أن نتعرض إلى مواقف أولئك الفرقاء جميعاً، ومناقشة فلسفاتهم بشأن الاشتراكية، فأدلتهم جميعاً معروفة لدى خواص الأمة، وهي مثبوتة في كتبهم ومؤلفاتهم.
المال:
المال في نظر الاشتراكية هو مُلك المجتمع، وهو في نظر الإسلام مُلك الله. فالنتيجة واحدة، لأن مال الله يعني مال المجتمع، مال المصلحة العامة، يتصرف به الفرد في حدود المصلحة العامة أولاً. فمصالحه الخاصة ثانياً. فإذا هو أساء التصرف بالبخل أو التبذير أو بأي لون من ألوان سوء الاستعمال يوجب الاسلام على الدولة مصادرة هذا المال، وإعادة توزيعه حسب المقتضيات والأحوال. ذلك لأن للمال أهميته في خدمة المجتمع، والإسلام حريص على عدم إضاعته عبثاً وسفهاً من مالك سيئ التصرف سيما وأن المال في الأصل مال الأمة يدل على ذلك قول الله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ـ يعني أموال الأمة ـ التي ج عل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً). فصريح هذه الآية يفيد أن الأموال لجماهير الأمة، الأفراد يستغلونها في مصلحة الأمة أولاً، ثم في مصالحهم الشخصية لكونهم جزءاً من الأمة، بدليل قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم). فاعتبرت الآية القرآنية السفه سبباً مشروعاً للحجر على صاحبه. لأن شرط التصرف بالمال هو الرشد، حيث قال تعالى بعد ذلك مباشرة: (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم). من هذا يتأكد كون الأموال في الأساس للأمة، يتصرف بها الفرد في حالة الرشد، بدليل قوله تعالى: (فادفعوا إليهم أموالهم). كانت ((أموالكم)) في حالة السفه، وصارت ((أموالهم)) في حالة الرشد.
ومن هذه القبيل الأرض الميتة، فإنها في الأساس للأمة والفرد يستغلها في مصلحة الأمة. فإذا أهملها وتركها من غير زرع واستثمار جاز لولي الأمر نزعها وتسليمها إلى مَن يحسن إدارتها واستغلالها، بدليل الحديث الشريف: ((لا حق لمتحجر فوق ثلاث))، بمعنى أن مَن بيده الأرض الميتة إذا تركها على هذه الحالة مدة ثلاث سنوات ينزعها الحاكم منه ويسلمها إلى غيره.
ويقاس على الأرض الميتة كل أرض يملكها الإنسان ـ لأن ملكيته لها مقيدة باستغلالها لصالح الأمة، إذ الملكية الأصلية لله: (لله ملك السموات والأرض) ـ فإذا أهملها هذا الإنسان حتى تعطلت جاز نزعها منه وإعطاؤها إلى مَن يُحسن استثمارها.
وما دامت الأرض أرض الله (يعني أرض الجماعة وتستغل لمصلحة هذه الجماعة)، فليس ثمة ما يمنع من وضعها في أيدي القادرين على الإفادة منها لما يه مصلحتهم ومصلحة جميع إخوانهم إذا اقتضت حاجتهم ذلك، والأرض في هذه الحالة أي ما دامت أرض المجتمع تكون كالشمس تضيء الجميع لأنها للمجتمع وملك الجميع، لأنها ملك المجتمع. كما تغدو الأرض عند حاجة جميع أفراد المجتمع إليها بمثابة: ((النار والماء والكلأ)) التي نصّ عليها الحديث النبوي الشريف، وفي رواية (والملح)، لحاجة جميع الناس إلى هذه الأشياء، حيث جعل الإسلام الناس فيها شركاء.
وجعل الناس ـ كل الناس ـ في هذه الحاجات الضرورية شركاء، في نظر الإسلام، إنما كان بسبب الضرورة، فتلحق الأرض بها وتأخذ حكمها عند الضرورة: (فالضرورة مجبرة)، (والضرورات تبيح المحظورات).
ليس أدل على ذلك مما فعله رسول الله بالنخيل الذي كان يملكه سمرة بن جندب، فلقد أزال رسول الله (ص) ملكيته عنه عندما تحقق من أنه يؤذي رجلاً من الأنصار، حيث قال للأنصاري: ((اذهب واقلعه)).
ومثَل ذلك فعل رسول الله بأرض البقيع، حين حماها ـ يعني صادرها ـ وجعلها مرعى لخيول المسلمين. الأمر الذي يتضح منه جواز نزع الملكية الخاصة لصالح الجماعة، لأن مصلحة الجماعة أولى بالاعتبار، أخذاً بقاعدة ((المصالح المرسلة)). والأمثلة على ذلك كثيرة، نجتزئ منها:
1 ـ إن عمر بن الخطاب صادر أرضاً (بالربذة) وجعلها مرعى لعامة المسلمين وبخاصة الفقراء منهم. ومستنده الشرعي في هذا التصرف هو القاعدة الإسلامية التي تقول ((يتحمل الضرر الأدنى دون الضرر الأعلى)). فحمي الأرض من فرد (أي اقتطاعها منه) يضر ـ ولا شك ـ بمصلحة ذلك الفرد، ولكنه أهون وأقل ضرراً من تعريض كافة المسلمين للضرر.
2 ـ ولعل من هذا القبيل، ما فعله عمر نفسه بأرض العراق، حين امتنع عن توزيعها على الفاتحين، ـ للراجل سهم وللفارس سهمان، حسبما هو معروف من أحكام الشرع الإسلامي ـ وأبقاها بأيدي أصحابها يقومون بزراعتها، ويأخذون كفايتهم لمدة عام كامل من ريعها، ويدفعون الباقي إلى بيت مال المسلمين خراجاً للدولة كي تنفق منه على إنعاش مرافقها المختلفة. إضافة إلى احتفاظها لنفسها بملكية الرقبة. وقال للمجاهدين الغانمين الذين عارضوه وناقشوه في إبائه توزيع الأرض عليهم قولته المعروفة: ((أنا إن قسمتها بينكم فماذا أبقي لمن سيأتي بعدكم؟)). وقد انعقد إجماع المسلمين على تأييد عمر في تصرفه الحكيم، لأنه (رض) أدرك بثاقب نظره قبل إصدار حكمه عدة أمور، منها:
أ ـ أن الفاتحين لا خبرة لهم بالزراعة، وبتوزيع الأرض عليهم يشح عطاؤها وتبور زراعتها التي تعيش عليها جماهير الأمة.
ب ـ تخوف عمر من أن يُتخم المحاربون بسبب ما يصيبونه من ثراء سريع، فتقل مقدرتهم على الجهاد.
ج ـ حرصه على عدم خلق (طبقة برجوازية) ـ إذا صحّ التعبير ـ بين جماعة المسلمين ـ فيختل التوازن الاقتصادي وتتعرض الأمة بسبب ذلك للاضطرابات والهزات.
هذا، وبالنسبة إلى ظاهرتي الغنى والفقر في الإسلام فإن القرآن الكريم لم يفته أن يعالجها على نحو سليم وفعال، فقد قدّم لتلك الظاهرة علاجاً شافياً ينسجم مع كافة المتطلبات الإنسانية للمجتمع، ويشبعها، ويوفر لها أمنها وكفايتها في جو لا يسمح ـ قط ـ بأن تتدخل في شؤونها الجهات التي تسعى للهيمنة على المجتمعات الضعيفة أو استغلالها من قوى الاستعمار والامبريالية والصهيونية العالمية.
وليس أدل على ما أقول من أن الإسلام جعل الجماعة كفيلة للفرد من تاريخ ولادته إلى يوم مماته، وهذه الكفالة لا تقتصر على تأمين الغذاء وحده لهذا الفرد، بل تتعداه إلى كفالته في جميع الحقوق الإنسانية، بل وجميع حرياته الشخصية والعقلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونحوها.
صحيح أن الإسلام حَمَى الملكية الخاصة، إلا أنه وضع من ناحية أخرى ضوابط لها تكفل بقاء التوازن الاقتصادي قائماً بين سائر أفراد الأمة.
من هذه الضوابط مبدأ (سدّ الذريعة)، ومعناه: أنه إذا كان ثمة شيء مباحاً، وتجرُّ إباحته فساداً مؤكداً للمجتمع جاز منع الناس من هذا المباح درءاً للمفسدة المؤكدة التي ستترتب عليه. مثال ذلك (التجارة)، فهي مباحة.. ولكن التجارة بالأسلحة مثلاً إذا كانت تعرض المجتمع لنوع من أنواع الخطر، جاز لولي الأمر منعها. وقراره حينئذ يعتبر قراراً من الشرع نفسه استناداً إلى القواعد العامة المقررة في كتب أصول الفقه.
كذلك (المبادلة بالنقد) هي من قبيل التجارة أيضاً، ومع ذلك فإن لولي الأمر أن يمنعها درءاً للمفسدة وتحقيقاً لمصلحة الأمة والجماعة.
وكذلك (مال الأغنياء)، فإنه يجوز لولي الأمر أن يأخذ منه ما تحتاجه الأمة بالغاً ما بلغ، لأن الجماعة فوق الفرد. ذكر (الشاطبي) في كتابه ((الاعتصام ـ الجزء الثاني))، إنه: ((إذا قضت مصلحة عامة ضرورية للأمة بالحاجة إلى مال وليس في بيت مال المسلمين ما يقوم بهذه الحاجة، فإن للإمام العدل أن يرتب على الأغنياء ما يراه كافياً لذلك في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال)). وعلى هذا إجماع الأمة. وذلك استناداً إلى مبدأ (المصالح المرسلة)، يعني المصالح العامة التي تبيح تقييد الملكية الفردية وجعلها خاضعة لحاجات الدولة العامة (أي لحاجات الجماهير)، فضلاً عن أنها تحد من فورة الغنى ووطأة الفقر، وهي بالتالي عدل وكفاية وإنتاج ومشاركة وتعاون في مجالات التنمية. فالثراء الفاحش المستبد المتحكم في رقاب الناس والذي يقضي على تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع الواحد، لا يبيحه الإسلام.
بالإضافة إلى أن الأوضاع الاقتصادية قد تغيرت في صدر الإسلام عنها في هذا الزمان حيث تنطلق فيه الصيحات من كل مكان من هذا العالم مطالبة بالمساواة والعدالة والمحافظة على حقوق الإنسان وحريته.
والدين يعني العدالة، ويعني الحرية، ويعني المساواة. بل يعني الإنسانية في أنبل صورها وأقدس معانيها.
وفي ضوء هذه القيم الكبرى والمثل العليا، فإن للمجتمع أن يقرر ما يجلب له المنافع وما يدرأ عنه المفاسد بتحويل النظام الاقتصادي إلى ما يحقق للإنسانية حريتها وسعادتها ما دام المال في الأساس هو مال الله والناس وكلاء على هذا المال ومستخلفون فيهن ومعتبرون فيما يملكون بمثابة مديرين وموظفين عاملين على إصلاحه نائبين عن المجتمع في تنميته، وهذا هو معنى الاستخلاف عن الله في قوله: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه).
ومن الضوابط الاقتصادية في الإسلام تحريم الكنز، لأنه تعد على حقوق المجتمع، حيث يقول رسول الله (ص): ((مَن جمع ديناراً أو درهماً أو تبراً أو فضة، ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة)).
وفي موت رسول الله وأبي بكر وعمر وعلي وخالد بن الولي وكثير غيرهم من أفاضل الصحابة، من غير أن يتركوا ميراثاً لوارث أو مالاً لخالف، أبلغ شاهد على ذلك. إن حبس المال عن التداول وكنزه في الصناديق والخزائن يؤدي إلى اختلال التوازن المالي والتجاري والاقتصادي وبالتالي إلى اختلال التوازن الاجتماعي. وإلى هذا هدف القرآن الكريم حين قال: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم). وهذا يعني: أن الكنز ليس سلوكاً شخصياً مؤاخذاً عليه فحسب، بل جريمة اجتماعية، يجب على الدولة أن تستأصلها بما تضع من تشاريع واقية.
فحبس المال إن كان سببه البخل والتقتير، فقد ندد الله سبحانه بالبخلاء والمقترين: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك)، وإن كان سببه التهرب من الإنفاق في سبيل الله.. أي في سبيل حماية المجتمع ومصالحه، فأحرى به أن يحارب ويعاقب.
ومن الضوابط التي تكفل بقاء التوازن الاقتصادي قائماً في الإسلام مبدأ (شيوع الموارد العامة) وهو ما يسمى بلغة العصر (تأميم المرافق العامة) قياساً على شيوع (الماء والكلأ والنار) التي نصّ عليها الحديث الشريف بوصفها موارد عامة لا يجوز تحديدها بملكية خاصة، وبوصفها ضرورات حياتية يجب ن تظل مشاعة بين الناس جميعاً.
وقد رتب المذهب المالكي على هذا شيوع (الركاز) فلا يؤول إلى ملكية خاصة. فليس في نظر المالكية ـ المعادن والسوائل في محالها ـ أي مناجمها ـ من الأموال المباحة حتى يتملكها مَن وجدها واستولى عليها ـ وإنما هي ملك للمسلمين كافة ـ أنى وُجدوا ـ لأن دار الإسلام واحدة.
ولا ريب أن رد الملكية العامة في هذه المرافق للجماعة فيه قضاء على سبب هام من أسباب فقدان التوازن المادي الاقتصادي في المجتمع، لأن هذه الموارد تمثل القسم الأكبر من الثروة العامة تملكه في النظام الرأسمالي شركات أو أفراد، وتنشأ من هذه الملكية آثار سيئة في المجتمع، كما تصبح سبباً من أسباب المنازعات الدولية ومبررات للطغيان والعدوان وأساليب الاستعمار.
ومن تلك الضوابط مبدأ تحريم (الترف والإسراف).
ليس الإسلام دين شظف وحرمان ولكنه دين يبيح لمعتنقيه أن يَنعموا بالحياة ويستمتعوا بطيباتها: (كلوا من طيبات ما رزقناكم)، (قل مَن حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، غير أن ما ينكره الإسلام على معتنقيه، تعديهم حدود الاعتدال وانغماسهم بالترف لما يورثه الترف من فساد وتعفن في كيان الفرد وكيان المجتمع، فلقد حدثنا القرآن الكريم أن المترفين كانوا عبر التاريخ علة انهيار المجتمعات وتقهقر الشعوب وانحلالها. قال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً).
إن الترف الذي تغرق فيه طبقة يقابله بالضرورة حرمان تعاني شظفه طبقة أخرى، لأن المترفين يمتصون دماء الجماهير، ويستغلون جهودها، ويتصرفون بخيراتها، ليرضوا شهواتهم ويحققوا رغباتهم.
ولا شك أن مثل هذا السلوك الاجتماعي يفقد الجماعة روح السلام والإخاء، لأنه يثير أحقاد النفوس ويوقظ حزازات الطبقية، فضلاً عما يخلفه هذا الوضع من آثار اجتماعية هي بنت الشهوات القذرة التي يتفانى في سبيلها المترَفون.
من هنا كانت حكمة الإسلام في تحريم التبذير والإسراف والترف: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)، وذلك حفظاً للمجتمع من التفسخ والترهل الروحي والميوعة الخلقية.
ومنها (منع الاحتكار)، لأن المحتكرين في العالم يتلقفون ـ كما قال أحد الكتاب ـ السحب الهائمة فيبيعونها للناس قطرة قطرة بالأسعار التي يشاؤون، ويستولون على خيرات الأرض ثم يوزعونها على الناس ذرة ذرة كما يشتهون.
فالاحتكار يخلق قوة طاغية في يد المحتكر لا يستمدها من الجودة والإتقان وحُسن الخدمة وكفايتها، وإنما يستمدها من وجود الامتياز في يده أو من احتكاره للسلعة في السوق. وهذه القوة الطاغية تستخدم دائماً ضد مصلحة المستهلكين، أي ضد مصلحة الجماهير. فالمحتكر أبداً مَناع للخير معتد أثيم مضيق لفضل الله على الناس، يقول له الله يوم القيامة: ((اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)).
لذلك حرّم الإسلام الاحتكار وندد رسوله الكريم بالمحتكر، فقال (ع): ((لا يحتكر إلا خاطئ. ومَن احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله وبرئ الله منه)).
ومنها (تحريم الربا)، قال تعالى: (أحلّ الله البيع وحرّم الربا)، وهذا يعني ألا جزاء في نظر الإسلام إلا على الجهد. وبما أن رأس المال في ذاته ليس جهداً فهو لا يربح بذاته، إنما طريقة الربح الوحيدة هي العمل، فلا يجوز إذن أن يكون وجود المال عند صاحبه وسيلة لزيادة المال بإضافة فائدة إليه عند اقتراضه. إن هذا المبدأ الأساسي في الإسلام يحول دون تضاعف المال بذاته كما يقع في النظام الرأسمالي، ويحول دون تضخم الثروات على حساب حاجة الأفراد واضطرارهم للاستدانة بالربا..
كما يمنع سبباً رئيسياً من أسباب الاستعمار والحروب الدولية، ويعطي العمل قيمة في مجال الإنتاج، ويحقق العدالة بين الجهد الحقيقي والجزاء على الجهد، ويمنع أن ينال القاعدون الكسالى جزاء ما لا يستحقونه، وهم ينالونه في النظام الرأسمالي بمجرد توظيف أموالهم في المصارف وغيرها. فيضمنون الربح الحرام وهم قابعون، وتتضاعف ثرواتهم وتتضخم وتخل بالتوازن الاقتصادي والاجتماعي معاً.
ومن تلك الضوابط أيضاً في الإسلام (نظام الوقف)، الذي يعني إبقاء عين الأرض محبوسة على الجهة الخيرية المخصصة لها إلى قيام الساعة من دون أن يمسها أي تصرف، وبهذا نرى الإسلام وافق على حبس أصل الأرض، أما غلتها وثمارها فإنها تُبذل للمستحقين وفي مختلف وجوه البر الموجودة أو التي ستوجد.
ومنها أيضاً نظام (الوراثة)، الذي يعني في الإسلام تفتيت الملكية. وقد رأى حزب العمال الإنكليزي في برنامجه الاشتراكي أن يتجه بالمواريث هذه الوجهة الإسلامية العادلة بدل أن تبقى الأموال عندهم من نصيب الابن الأكبر وحده.
ومن الضوابط أخيراً لا آخراً (فريضة الزكاة)، التي جعلها الإسلام حقاً مقدساً في أموال الموسرين يدفعونها للفقراء والمحتاجين لا كصدقة تذل كرامة الفقير وتطعن كبرياءه، بل كحق له مفروض ونصيب له معلوم. ولهذا كانت فريضة الزكاة في الإسلام ركيزة اجتماعية ضخمة للمجتمع الإسلامي بغية إقامة التوازن الاقتصادي بين جماهير الشعب.
ولا بد في ختام هذه النظرة المتعلقة بوجهة نظر الإسلام تجاه الاشتراكية، من توجيه النظر إلى أن الإسلام، وإن التقى ـ في بعض الجوانب ـ مع الرأسمالية أو الماركسية، مع الديمقراطية أو الاشتراكية، أو سوى ذلك من النظم العالمية والنظريات السائدة في زماننا، فإنه يظل غيرها، ولا يجوز أن نصفه بها أو ننسبه إليها.
source : البلاغ