لهذا الخلل الإرادي الذي يصيب الأمّة اليوم أسباب متعدّدة، بعضها مترسّب من الماضي، وبعضها ناشئ من تفاعلات الحاضر، كما أن بعضها يعتبر من إفراز الذات، بينما بعضها الآخر يعتبر من تأثيرات خارجية. وتعود هذه الأسباب في جملتها إلى معنى نفسي مهما تكن صلتها بمعان أخرى؛ إذ هي تنتهي في آخر الأمر إلى تأثير كيفي على النفس في وجودها الفردي، أو في هيئتها الجماعية، ويصيب ذلك التأثير فيما يصيب الإرادة المنبعثة من النفس وتدفع إلى العمل، فإذا ما أصابت النفس أسباب تؤثّر فيها تأثيراً سلبياً، كان لذلك تأثيره السلبي أيضاً في قوة الإرادة المنبعثة منها. ولعلّ تلك الأسباب المؤدّية إلى الخلل الإرادي تعود إلى الأسباب الأربعة التالية:
أولاً خلل الفكرة:
والمقصود به ما طرأ على أسس العقيدة الإسلامية في الأذهان من خلل بالنسبة لما هي عليه في حقيقتها، وكما كانت عليه زمن الاندفاعة الإسلامية للتحضّر.
إن المسلمين في واقعهم يعيشون على الإيمان بالعقيدة الإسلامية في مجملها، وبذلك هم مسلمون، ولكن هذه العقيدة أصابها من الغبش في التصوّر ما خفّ به وزنها في النفوس، فلم يعد يقوى على أن يكيّفها بحيث يصبح الإيمان بالعقيدة نافذاً من التصوّر إلى الجوارج، ومحرّكاً بما ينبعث من النفس من عزم يدفع تلك الجوارح كي تنطلق لتنجز مقتضيات العقيدة النظرية أعمالاً في الواقع: تعميراً في الأرض، وترقية للفرد والمجتمع في سلّم الفضيلة والعمل، فآل الأمر إذن بالعقيدة الإسلامية في واقع المسلمين إلى ما وصفه الشيخ ابن عاشور من أنها "تعمر بها قلوبهم، وتشهد عليها ألسنتهم، ولكنّها لا تتجاوز القلوب والحناجر إلى الأعضاء والجوارح" إشارة في ذلك إلى ما أصاب الإرادة الإسلامية التي من شأن العقيدة أن تبعثها في النفوس من خلل عطّل الأعمال، وأعاق عن حركة الإنجاز.
ثانياً: انفصام الذات:
والواقع الإسلامي الراهن تنطبق عليه حالة انفصام الذات بين حياة تصوّرية وحياة سلوكية تناقضها، وهو بالتالي يحصد نتائج هذه الحالة ومضاعفاتها. ففي هذا الواقع يعيش الفرد المسلم كما تعيش الهيئة الاجتماعية ازدواجية بين التصوّر والسلوك، وهي ازدواجية يتناقض فيها الإيمان التصوّري بالعقيدة الإسلامية مع الممارسة السلوكية في واقع الحياة تناقضاً ينشأ شطر منه من إخلال ذاتي بالمقتضيات التطبيقية من قبل المجتمع الإسلامي عموماً، وينشأ شطر آخر منه من تكريس مفروض عليه من العلمانية التي تبعد المقتضيات التطبيقية للعقيدة عن أن يكون لها تطبيق في الواقع.
وبالإضافة إلى هذه المفارقة الناشئة من محض الاختيار تقصيراً وإخلالاً، فإن مفارقة أخرى عمّقت في النفوس الانفصال بين الإيمان التصوّري وبين الواقع الجاري، ولكنها مفارقة فرضت على جموع المسلمين فرضاً، وكرّست عليهم قسراً وهي تلك المتأتية بالتصوّر العلماني الذي اصبح سائداً في نظام الحكم في أغلب بلاد المسلمين, ففي حين يستقرّ في الضمير الشعبي العام منحدراً عبر القرون ذلك الإيمان بأن الإسلام دين شامل، ينظّم شؤون الحياة كلّها، ويمتدّ فيه الإيمان بالعقيدة إلى كل مظاهر الحياة الخاصّة والعامّة لتنتظم وفق ضوابط شرعية، في حين يستقرّ هذا الإيمان في الضمير العام للمسلمين يجري الأمر في الواقع على أنظمة للحكم تصرف الحياة العامّة عن أن تحتكم إلى شيء من الدين، وترسلها لتنتظم وفق اجتهادات العقل المستقلّ، تاركة للدين مجال الشؤون الشخصية في العلاقة التعبدية الفردية بين المسلم وربه. وكانت نتيجة ذلك أن أصبح المسلمون في عمومهم يعيشون الإسلام الشامل في تصوّرهم العقدي، ولكنهم لا يعيشون إلا قليلاً منه في حياتهم العامّة التي تجري بحسب قوانين بعيدة عن قوانين الشريعة، بل مناقضة لها في كثير من الأحيان.
وتلتقي هذه المضاعفات النفسية كلها لتحدث في النفس انهزاماً تنكفئ به عن المبادرة الفاعلة، وتضعف به إرادتها الإنشائية إلى حدّ يقعدها عن الإنجاز المثمر، إنها نفس مهتزّة مختلّة التوازن لما اصابها من الانفصام.
ثالثا: عقدة النقص:
يعيش المسلمون اليوم وضعاً من المغلوبية الحضارية إزاء حضارة الغرب الضاربة, فهم من حيث الواقع عالة على هذه الحضارة في حياتهم كلّها من الغذاء إلى الكساء إلى التنقل، إلى سائر مرافق الحياة، وهم من حيث العلوم والتكنولوجيا لا يبلغون بالنسبة لها حتى مستوى التلاميذ الصغار الذين يحدوهم أمل أن يلحقوا يوماً ما من الأيام المنظورة بمستوى أساتذتهم أو يقاربوه، وهم من حيث قوة البطش العسكرية يشبه وضعهم وضع الحملان بالنسبة للأسود. والممارسة اليومية للحياة العملية في الارتفاق والتعلم، وكذلك الممارسة اليومية للحياة العامّة في العلاقة بين الدول والشعوب تعمّق في نفوس المسلمين باطّراد هذا الشعور بالمغلوبية الحضارية حتى صار وضعاً نفسياً مستقراً على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة الإسلامية.
وفي غياب الوعي بالقيمة الحقيقية للحضارة الغربية، وبواقع ما هي عليه من عناصر الحقّ ومن عناصر الباطل، تولّد في نفوس الكثير من المسلمين انبهار بهذه الحضارة وافتتان بها غشّى ما فيها من باطل، فظهر منها ما هو حقّ فقط، ووقع في الأوهام أن ما عليه أهل هذه الحضارة الغالبة هو الطريق القويم؛ إذ أوصلهم إلى هذه القوّة الغالبة، وأن ما عليه هم ليس هو بالطريق القويم إذ أبقاهم في حالة المغلوبية، ومن ثمة نشأ في النفوس شعور باستنقاص الذات، وإحساس بالدونية إزاء الآخر الغالب، واستفحلت إذن عقدة النقص ترهق المسلمين، ولا يجدون منها فكاكاً، فتكيّفت حياتهم النفسية بها إلى حد كبير.
لقد كان لهذه العقدة أثر سلبي على إرادة الفعل الفردية والجماعية؛ إذ فزع بها فريق كبير من المسلمين إلى التقليد الأعمى للغرب وأهله فيما يشبه من سُلبت إرادته فلا يملك من أمر نفسه شيئاً. والمقلّد على هذه الدرجة من التقليد إنما هو يحاكي ما يفعله الآخر دون وعي بل دون فهم لما يحاكي فيه كي يستقلّ عقدة النقص إلى شراء مظاهر التحضّر، ظنّاً منه أن من يشتري هذه المظاهر يصبح هو قوياً كمن شرى منه، متنكّباً في ذلك الطريق الصعب المتطلّب للصبر وقوّة الإرادة، وهو طريق التعليم الواعي لا طريق الشراء السهل، فهو إذن فريق قصرت إرادته عن ركوب الصعاب بالتعلّم والصبر عليه، وسلّى نفسه بامتلاك الإنجاز عن طريق الشراء، وهو لا يمتلك إلا بالإرادة الفاعلة. وأصاب فريقاً ثالثاً يأس مباشر من أن يكون في الإمكان بهذه الحضارة الغالبة لحاق، فلزموا ما هم عليه من وضع، خائرة قواهم عن الحركة, مستسلمين لما توهّموا أنه قدرهم المحتوم الذي ليس منه فكاك.
رابعاً: الاستبداد"
لعلّ هذا العامل يعد أشدّ العوامل تأثيراً في الخلل الإرادي للأمة الإسلامية في وضعها الراهن، وذلك لشمول ما تعاني منه هذه الأمّة من استبداد عليها ومصادرة لحريتها. ونعني بهذا الاستبداد ما يخضع له عامّة المسلمين في أفرادهم وفي هيئتهم الاجتماعية من تحكّم في الفكر والسلوك يمنع الحقوق الطبيعية في إبداء الرأي وتبليغه، وفي المشاركة في تدبير الشؤون العامّة وتنفيذها، كما يمنع الحقوق الأساسية للإنسان مثل حقّ التعلم والعدل والكرامة والتنقل وسواها، ويكون هذا التحكّم من قبل قلّة من الأفراد أو الجماعات توجّه ذلك المنع بحسب هواها ومصالحها الخاصة، ومناقضة للمصلحة العامّة.
وأثر الاستبداد في خلل الإرادة الإنجازية للأفراد والشعوب أمر ليس بالخفي، لا من حيث النظر المنطقي، ولا من حيث الواقع الفعلي، فالأفراد والشعوب حينما يعيشون حالة التسلّط والقيد، ويمنعون من حقوقهم، وخاصّة منها حقّ الحرية في التفكير والتعبير، وحقّ المشاركة في تدبير الشؤون العامّة، حينما يعيشون ذلك فإنهم يسقطون في حالة من الانكفاء على الذات الداخلية، ويزهدون في كل فعل خارجي سواء بدا في شكل تفكير أو عمل؛ إذ هم يعلمون أنهم مصدودون عنه، معرّضون للعقاب إن هم مارسوه على غير ما رسم لهم، ومن جهة أخرى فإنهم عن وجّهوا إلى عمل ما رُسم لهم، لم يكن في نفوسهم دافع للمضي فيه، إذ هو غير مقنع لهم، أو غير معلوم أصلاً، فإذا الزهد فيه يظهر في مظاهر غير مباشرة من اللامبالاة والتعطيل المتعمّد، عن لم يظهر في مظاهر مباشرة من الرفض. وفي كل ذلك فإن الاستبداد عليهم يخذل نفوسهم عن الاندفاع في العمل المثمر.
-----------------------------------
source : البلاغ