المبحث الأوّل خطبة القاصعة(1) : الهيكلية ودلالات السياق
جاء في الحديث عن مكّة والكعبة في سياق خطبة القاصعة منسجماً مع محورها العام ، وموضوعها الأساس الذي ركّزت عليه من أوّلها إلى آخرها ، وفي جميع فقراتها .
وقد سمّيت الخطبة بـ (القاصعة) لأنّها تزيل الكبر عن قلب سامعها أو قارئها إذا أصغى قلبه إلى كلماتها ، كما يقصع الماء العطش ، من قَصَعَ بمعنى أزال ، أو لأنّها تحقر وتشجب المتكبِّرين والمترفين الذين ينازعون الله رداء عزّه وكبريائه ، قصع بمعنى حقر وصغّر ، وقيل غير ذلك .
يطرح العلاّمة ميثم البحراني وجوهاً أربعة قد ذكرها الشارحون لنهج البلاغة في معنى (القاصعة) جاء الوجه الثالث منها : «سمّيت بذلك لأنّها هاشمة كاسرة لإبليس، ومصغّرة ومحقّرة لكلّ جبّار، وهو وجه حسن»، أمّا الوجه الرابع : «لأنّها تسكِّنُ نخوة المتكبّرين وكبرهم فأشبهت الماء الذي يسكِّنُ العطش، فيكون من قولهم: قصَعَ الماء عطشه إذا سكّنه وأذهبه» (2).
وجاء في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي في معنى (القاصعة) «من قصع فلانٌ فلاناً : أي حقّره; لأنّه(عليه السلام) حقّر فيها حال المتكبّرين» (3).
تبدأ خطبة (القاصعة) بتقرير حقيقة إذا غفل عنها الإنسان أصابه الكبر; ألا وهي أنّ «العزّ والكبرياء» لله عزّ وجلّ فحسب ، لا يشاركهما فيه أحد :
«الحمدُ لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمىً وحَرَماً على غيره ، واصفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده» .
المستكبرون عبر التاريخ : نماذج ومصاديق
ثمّ تبدأ فقرات الخطبة باستعراض المصاديق الصارخة لأولئك الذين نازعوا الله رداء العزّة والكبرياء ، فعاشوا الاستكبار والاستعلاء ، منذ مرحلة التمهيد للخلافة (دور جنة آدم(عليه السلام)) وهي مرحلة ما قبل هبوط آدم ، إلى الأرض ، إلى (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين) الذين قاتلهم عليّ(عليه السلام) ، وجاهدهم ودوّخهم!
المصداق الأوّل : إبليس إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين; لذا فإنّ خطبة القاصعة تبدأ بمصداق الاستكبار الأوّل إبليس الذي هو أوّل من قال (أنا) ، فأسّس الأنيّة والأنانية : {أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ، لذلك أبى السجود بقوله : {أأسجدُ لمن خلقت طيناً} ، {أأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} :
«ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، لتميزَ المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ، ومحجوبات الغيوب: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ} اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله . فعدّه الله إمام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل . ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ، ووضَعَه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدَّ له في الآخرة سعيراً؟!» .
ولم يكن إبليس شخصاً عادياً ، فله تأريخٌ عبادي طويل ، ترسمه خطبة (القاصعة) بأبلغ وصف: «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذْ أحبط عمله الطويل ، وجهدهُ الجهيد ، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمِنْ سِني الدُّنيا أم من سِني الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة» .
ثمّ يتساءل أمير المؤمنين(عليه السلام) محذِّراً: «فمن ذا بعد إبليس يسلمُ على الله بمثلِ معصيته؟ كلاّ»
المصداق الثاني : قابيل
«ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة» .
المصداق الثالث : فرعون الطاغية
وفي سياق التحذير من طاعة السادات والكبراء والأدعياء «الذين تكبّروا على حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم» ، والاعتبار «بما أصاب الأمم المستكبرين . . . من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته»(4) ، يذكر الإمام(عليه السلام)مصداقاً صارخاً للطاغية المستكبر الذي ما فتئ يدقُّ على طبل «أنا ربّكم الأعلى» و«ما علمت لكم من إله غيري»: «ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العِصيّ فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ ، فهلاّ أُلقي عليهما أساوِرةٌ من ذهب»؟ إعظاماً للذهب وجمعه ، واحتقاراً للصوف ولبسه! . ولو أراد الله لأنبيائه حيث بعثهم أنْ يفتح لهم كنوز الذِّهبان (5)، ومعادن العِقيان (6)، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ، ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء (7)، وبطل الجزاء (8)، واضمحلّت الأنباء (9)، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين (10)، ولا لزمت الأسماء معانيها» (11).
«ولكنّ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأُ القلوب والعيون غنًى ، وخصاصة تملأُ الأبصار والأسماع أذًى» .
وفي هذا السياق; سياق الحديث عن الابتلاء في ساحة الصراع ، وميدان المواجهة بين المترفين والأنبياء ، وسرّ ما يعيشه الأنبياء(عليهم السلام) ، على مرّ التاريخ ، من استضعاف ومحنة ومعاناة وخصاصة ، لأسباب ومقاصد عديدة . . عرّج الإمام(عليه السلام)على مكّة المكرّمة والكعبة المشرّفة كمصداق من مصاديق الاختبار والابتلاء ، من خلال طبيعة المادّة والبناء أوّلا ، وطبيعة الموقع الجغرافي الصعب ثانياً .
المبحث الثاني طبيعة البناء: حجارةٌ صمّاء لا ياقوتة خضراء
النصّ الأوّل : «ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً»!
النصّ الثاني : «ولو كان الأساس المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضَعَ مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتَلَجَ الرَّيب من الناس .
ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم ، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله ، وأسباباً ذُلُلا لعفوه» .
في هذين النصّين الرائعين يرسم أمير المؤمنين سرَّ طبيعة بناء الكعبة المتواضع المتكوّن من أحجار جامدة ، ينظرُ إليها الناظر فيراها لا تمتلك شعوراً ولا إحساساً . . فلا بصر ولا سمع ، ولا ضرّ ولا نفع . . ومع كلّ ذلك يسعى الحجيج للطواف حولها بكلِّ خشوع واستكانة وخضوع . بل نراهم (يتقاتلون) على استلام الحجر الأسود والسلام عليه ومعاهدته!! وهو لا يملك بريق الزمرّد ، وتلألأ الياقوت . .
وفي ذلك سرٌّ كبير يكشفه لنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته القاصعة . . لأنّ البناء لو كان من «زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من الناس» .
ما معنى ذلك؟ وكيف يحصل كلُّ ذلك؟
لقد أراد الله عزّوجلّ أنْ يكون القصد لبيته الحرام نابعاً من معاناة ووعي وإيمان ، خالصاً من الدوافع المادّية العاجلة . . ولو كان البيت من تلك الأحجار النفيسة (الزمرّد والياقوت) :
أوّلا : «لخفّف ذلك مصارعة(12) الشكّ في الصدور» ، لأنّ نفاسة تلك الأحجار هي التي تدفعهم إلى التصديق والاعتقاد بأنَّ البيت بيته ، كما تدفعهم إلى الطواف حولها .
ثانياً : «ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب» ، لأنَّ قصد البيت وزيارته تكون من منطلق الانبهار بجواهره ، والتأثّر بدرره ونفاسة أحجاره ، والتمتّع برؤية زينته ومنظره ، وليس من منطلق مجاهدة إبليس الداعي إلى التخلّف عن حجّه وإيثار الدعة والسلامة على قصده .
ثالثاً : «ولنفى معتلج الرَّيب من الناس» ، أي لزال تلاطم واضطراب الريب والشكّ من صدور الناس .
إشكاليّة ابن أبي العوجاء :
لو لم يكن البيت من أحجار عادّية لما تحقّق الابتلاء الإلهي والاختبار الربّاني للإنسانية على طول مسيرتها التاريخية : «من الأوّلين من لدن آدم(عليه السلام) إلى الآخرين من هذا العالم» ، حيث تنجلي قصّة العبودية لله عزّوجلّ ، والطاعة لأوامره فيما شرعه من مناسك الحجّ من طواف وسعي ورجم قد ينظر إليها من لم يدرك أسرارها ومقاصدها أنّها حركات غير عقلائية لا يمارسها إلاّ الذين اختلّت عقولهم . . فما قيمة الطواف حول بيت من حجارة صمّاء ، والسعي بين جبلين صلدين ، والرجم لأحجار كبيرة بأحجار صغيرة ، واستلام حجر أسود كالفحم ، وما إلى ذلك من المناسك والممارسات؟
وهذا النمط من التفكير كان يراود بعضهم في زمن الأئمّة(عليهم السلام) من أمثال ابن أبي العوجاء ، فخاطب الإمام الصادق(عليه السلام) قائلا : «إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ، من فكر في هذا أو قدّر ، علم أنَّ هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر» .
ثمّ خاطب الإمام قائلا : «فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسّه ونظامه؟»
فأجابه الإمام(عليه السلام) قائلا : إنَّ من أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحقّ ، فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه ، يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره» .
«وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وقد جعله محلّ الأنبياء وقبلة المصلّين ، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدِّي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ، ومجتمع العظمة والجلال . .»(13) .
فقد أكّد الإمام في المقطع الأوّل من جوابه على مدى ضلال تلك النظرة ، وعمى قلب صاحبها ، ممّا تجعله يستوخم الحقّ ، ولا يدرك مدى دلالات وإيحاءات تلك المناسك المشحونة بالدلالات والإيحاءات .
وأعطى في المقطع الثاني بعضاً منها ، كان أوّلها استعباد الله خلقه بهذا البيت «ليختبر طاعتهم في إتيانه» .
وهكذا نلتقي بمقصد الابتلاء والاختبار الذي أكّدته خطبة القاصعة : «ألا ترون أنَّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع . . .» .
الحجر الأسود : تجديد العهد الميثاق
لا يتصورنَّ أحدٌ أنَّ مناسك الحجّ هي مجرّد فعّاليات تقام تعبّداً ليس إلاّ ، من دون أن تختزن أسراراً وبواطن وقيماً وتأريخاً . . لننظر إلى الحجر الأسود ـ مثلا ـ مجرّداً عن كلّ تأريخ ومعنى ، بعيداً عن عالم الملكوت .
مرَّ عمر بن الخطّاب على الحجر الأسود . فقال : والله يا حجر إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، إلاّ أنّا رأينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) يحبّك فنحن نحبِّك .
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : كيف يا ابن الخطّاب! فوالله ليبعثنّه الله يوم القيامة وله لسانٌ وشفتان ، فيشهد لمن وافاه ، وهو يمينُ الله عزّوجلّ في أرضه يبايع بها خلقه .
فقال عمر : لا أبقانا الله في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب(14).
وسئل الإمام الصادق(عليه السلام) : لأيّ علّة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه؟ ولأيّ علّة يُقبّل؟
فقال(عليه السلام) : إنّ الله وضع الحجر الأسود ، وهو جوهرة اُخرجت من الجنّة إلى آدم(عليه السلام) فوضعت في ذلك الركن لعلّة الميثاق ، وذلك أنّه لمّا أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريّاتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان . .
وأمّا القُبلة والاستلام فلعلّة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق ، وتجديداً للبيعة ليؤدّوا إليه العهد والميثاق ، وتجديداً للبيعة ليؤدّوا إليه العهد الذي أخذ الله عليهم في الميثاق ، فيأتوه في كلِّ سنة ويؤدّوا إليه ذلك العهد والأمانة اللذين أخذا عليهم . ألا ترى أنّك تقول : أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة . ووالله ما يؤدّي ذلك أحدٌ غير شيعتنا ـ إلى أن قال : ـ وذلك أنّه لم يحفظ ذلك غيركم ، فلكم والله يشهد ، وعليهم والله يشهد بالخفر (15) والجحود والكفر . . .» (16).
وروى الصدوق مثله في (علل الشرائع) عن أبيه عن محمّد بن يحيى(17).
وجاء في (علل الشرائع) عن عبدالله بن سنان قال : «بينا نحن في الطواف إذ مرَّ رجل من آل عمر فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره وأغلظ له وقال له : بطل حجّك ، إنّ الذي تستلمه حجر لا يضرّ ولا ينفع ، فقلت لأبي عبدالله(عليه السلام) . . . فقال(عليه السلام) : كذب ثمّ كذب ثمّ كذب . إنّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة ـ ثمّ ذكر حديث خلق آدم وأخذ الميثاق على ذريّته ، وأنّ الحجر التقم الميثاق من الخلق كلّهم ، إلى أن قال : ـ فمن أجل ذلك أمرتم أنْ تقولوا إذا استلمتم الحجر : أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة»(18).
ولهذاكان الناس منذ عصرالنزول يتقاتلون على استلام الحجرالأسود وتقبيله، رغم استحباب ذلك وعدم وجوبه ، ولشدّة الزحام على استلامه كان الإمام الصادق(عليه السلام) يترك ذلك لمن يستغرب عليه فعله: «أكره أن أؤذي ضعيفاًأو أتأذّى»(19).
وقد أجاب عن سؤال حول امرأة حجّت وهي حبلى يزاحم بها حتى تستلم الحجر؟ فقال(عليه السلام) : «لا تغرّروا بها»(20).
لذا جاء في الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) : «إنّ الله وضع عن النساء أربعاً ، وعدَّ منهنّ استلام الحجر»(21).
المبحث الثالث : طبيعة الموقع (بين جبال خشنة ورمال دمثة)
لم يكن هناك سرّ في طبيعة البناء فحسب ، بل هناك سرٌّ بل أسرارٌ في طبيعة الموقع الجغرافي لبيت الله الحرام ، والذي يعبّر عنه القرآن الكريم على لسان إبراهيم الخليل(عليه السلام) : {بواد غير ذي زرع} .
وقد ركّزت خطبة (القاصعة) على طبيعة الموقع في سياق حديثها عن الاختبار الربّاني التاريخي للبشرية في طبيعة البناء :
النصّ الأوّل : «ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقلّ نتائق الدنيا مَدَراً ، وأضيق بطون الأودية قُطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقُرًى منقطعة; لا يزكو بها خُفّ ولا حافر ، ولا ظلف» .
إنّه وصف رائع وبليغ لمدى صعوبة ذلك الموقع على صعيد الجغرافيا . . فقد اجتمعت فيه كلّ العناصر التي تجعله موقعاً صعباً ، يشقّ على الحجيج مزاره; فهو ليس بواد غير ذي زرع فحسب ، بل إنّه «من أضيق بطون الأودية قطراً» و«أقلّ نتائق الأرض مدراً» و«أوعر بقاع الأرض حجراً»!! ، لتكون تلك البقعة للناس رغم صعوبتها وجدبها وضيقها «مثابةً لمنتجع أسفارهم ، وغايةً لمُلقى رحالهم» .
النصّ الثاني : «ولو أراد الله ـ سبحانه ـ أنْ يضع بيته الحرام ومشاعره العظام ، بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمَّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البُنى ، متضيّل القرى ، بين بُرّة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراصي مغدقة ، ورياض ناضرة، وطُرق عامرة، لكان قد صغّر قدْرُ الجزاء على حسب ضَعْفِ البلاء».
يقول العلاّمة ميثم البحراني بخصوص النصّ الثاني : «صغرى قياس ضمير استثنائي حذف استثناؤه . وهي نتيجة قياس آخر من متصلتين تقدير صغراهما : إنّه لو أراد أنْ يضع بيته الحرام بين هذه المواضع الحسنة المبهجة لفعل ، وتقدير الكبرى : ولو فعل لكان يجب منه تصغير قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء ، وتقدير استثناء هذه المتّصلة; لكنّه لا يجب منه ذلك ولا يجوز; لأنّ مراد العناية الإلهية مضاعفة الثواب وبلوغ كلّ نفس غاية كمالها ، وذلك لا يتمّ إلاّ بكمال الاستعداد بالشدائد والميثاق; فلذلك لم يرد أن يجعل بيته الحرام في تلك المواضع لاستلزامها ضعف البلاء» (22).
لقد أراد الله عزّوجلّ لبيته الحرام أن يكون محكّاً لمدى الإرادة والعزم ، والتضحية والبذل ، والخشوع والخضوع ، والحبّ والعشق : «تهوي إليه الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوي فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزّوا مناكبهم ذلُلا يُهلِّلون لله حوله ، ويرمُلونَ على أقدامهم شُعثاً غُبراً له . قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم ، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم ، ابتلاءً عظيماً ، وامتحاناً شديداً ، واختباراً مبيناً ، وتمحيصاً بليغاً ، جعله الله سبباً لرحمته ، ووُصلة إلى جنّته» .
وهكذا نلتقي مرّة اُخرى بقصّة الابتلاء والامتحان والاختبار والتمحيص . . التي هي سبب الرحمة والوصلة إلى الجنّة ، لتكون المعادلة كما ترسمها خطبة «القاصعة»: «كلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل» .
معادلة الجزاء على قدر الابتلاء
إنّها المعادلة ذاتها التي أراد الله للكعبة أنْ تكون من أحجار عادية وليس من زمرّد وياقوت ، كانت مشيئة الله عزّوجلّ أن يكون الإنسان (آدم) من طين ، يقول عليّ(عليه السلام) في (القاصعة): «ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رُواؤه ، وطيب يأخذ الأنفاس عَرفُه ، لفعل .
ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة . ولكنّ الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله ، تمييزاً بالاختبار لهم ، ونفياً للاستكبار عنهم ، وإبعاداً للخيلاء منهم» .
وهكذا الحال في تفسيره(عليه السلام) للأنبياء في استضعافهم وخصاصتهم : «ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا تُرام ، وعزّة لا تُضام ، ومُلك تمتدُّ نحوه أعناق الرجال ، وتشدُّ إليه عُقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار ، وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيّات مشتركة ، والحسنات مقتَسَمة»!
الكعبة : الامتداد التاريخي
من خلال خطبة القاصعة ندرك أنَّ إبراهيم(عليه السلام) لم يكن هو المؤسّس الأوّل لبنائها : «ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً» .
يتجلّى من خلال هذا النصّ أنّ البيت الحرام من لدن آدم(عليه السلام) . . وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا . . .} ، حيث يمكن أن نفهم من الآية أنّ القواعد كانت موجودة ، وقد عمل إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) على رفعها .
وقد يكون قوله تعالى : {إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} (23) ، شاهداً على ذلك .
وممّا يؤيّد ذلك الروايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)وغيرهم والتي تتحدّث عن (دحو الأرض) من تحت الكعبة ، نذكر منها ما جاء في علل الصدوق عن الإمام الباقر(عليه السلام) .
«لمّا أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ، ثمّ جعله جبلا من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته ، وهو قول الله : {إنَّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً}فأوّل بقعة من الأرض الكعبة ، ثمّ مدّت الأرض منها» (24) .
يرى العلاّمة الطباطبائي أنّ «الأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة ، وليست مخالفة للكتاب ، ولا أنَّ هناك برهاناً يدفع ذلك» .
كما يرى العلاّمة أنّ ما ورد من الروايات من أنّ الكعبة أوّل بيت بمعنى أوّل بقعة من الأرض ، وأنّ الظاهر من قوله تعالى: {إنَّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً} ما تشتمل عليه الروايات التي تقول : «قد كان قبله بيوت ، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً» ، أو «كانت البيوت قبله ، ولكنّه كان أوّل بيت وضع للعبادة» .
بينما يرى العلاّمة الطبرسي أنّ الآية فيها دلالة على أنّه «لم يكن قبله بيت مبني ، وإنّما دُحيت الأرض من تحتها ، وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الله تعالى السماء والأرض من تحتها . . .» ، ثمّ أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام)«ببنيان البيت على القواعد» (25) .
وينقل الطبرسي رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) ، حيث سئل عن الحطيم ـ وهو ما بين الحجر الأسود والباب ـ لِمَ سمّى الحطيم؟ قال(عليه السلام): «لأنّ الناس يحطّم بعضهم بعضاً ، وهو الموضع الذي فيه تاب الله على آدم(عليه السلام)» (26).
والبحث التاريخي يحتاج إلى وقفة أكثر تفصيلا لا يسع لها المقام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة، خطبة 192 (القاصعة) .
(2) ميثم البحراني ، شرح النهج 4 : 234 .
(3) شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار 2 : 520 .
(4) العقوبات .
(5) جمع ذهب .
(6) نوع من الذهب ينمو في معدنه .
(7) البلاء في ساحة الصراع بين المستضعفين والمستكبرين إذ لا مستضعف يبتلي به المتكبرون :} وكذلك جعلنا لكلّ نبيّاً عدوّاً من المجرمين{ .
(8) لأنّ العبادات والطاعات تكون عن رهبة أو رغبة دنيويتين .
(9) فلا رسالة ولا رسل .
(10) حيث لا معاناة ولا مجاهدة ولا عطاء ولا تضحية .
(11) فلا معنى لكلمة مؤمن ومجاهد وصابر وزاهد . . فتصدق الأسماء بدون مسمّيات .
(12) وقرئ مسارعة ، كما قرين مضارعة .
(13) بحار الأنوار 99 : 29 .
(14) علل الشرائع للصدوق : 425 ، والرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) ينقلها الشيخ الصدوق بهذا السند : «عن محمد بن الحسن ، عن الصفّار ، عن علي بن حسّان الواسطي عن عمّه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) . راجع : الوسائل 13 : 320 ، تحقيق مؤسسة أهل البيت(عليهم السلام) ، ط3 .
(15) خفر العهد : نقضه .
(16) الكافي 4 : 184 ، وعنه : وسائل الشيعة 13 : 317 باب 13 (استحباب استلام الحجر ، الحديث 5) .
(17) علل الشرائع : 429 .
(18) علل الشرائع : 425 . عنه : وسائل الشيعة 13 : 319 ـ 320 .
(19) الكافي 4 : 409 .
(20) التهذيب 5 : 399 .
(21) من لا يحضره الفقيه 2 ، 1 ، 4 : 210 ، 194 ، 263 .
(22) شرح النهج للبحراني 4 : 282 .
(23) آل عمران : 96 .
(24) تفسير الميزان 3 : 356 . نقلا عن (علل الشرائع) .
(25) مجمع البيان 1 ـ 2 : 606 ط : بيروت عام 1992 م .
(26) المصدر نفسه : 607 .
(22) شرح النهج للبحراني 4 : 282 .
(23) آل عمران : 96 .
(24) تفسير الميزان 3 : 356 . نقلا عن (علل الشرائع) .
(25) مجمع البيان 1 ـ 2 : 606 ط : بيروت عام 1992 م .
(26) المصدر نفسه : 607 .
source : اهل بیت