قال الأستاذ مصطفى محمود: لقد اكتشفت منذ الطفولة دون أن أدري، حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية. وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني.. إنه ليس بالشعر وبالنثر ولا بالكلام المسجوع... وإنما هو معمار خاص من الألفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقي الباطنة فيها.
وفرق كبير بين الموسيقى الباطنة والموسيقى الظاهرة.
وكمثل نأخذ بيتاً لشاعر مثل عمر بن أبي ربيعة، اشتهر بالموسيقي في شعره... البيت الذي ينشد فيه:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب؟
أنت تسمع وتطرب وتهتز على الموسيقي.. ولكن الموسيقي هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية ثم تقفيل كل عبارة تقفيلاً واحداً على الباء الممدودة.
الموسيقي تصل إلى أذنك من خارج العبارة وليس من داخلها، من التقفيلات (القافية) ومن البحر والوزن.
أما حينما تتلو: (والضحى . والليل إذا سجى..) فأنت أمام شطرة واحدة... وهي بالتالي تخلو من التقفية والوزن والتشطير، ومع ذلك فالموسيقي تقطر من كل حرف فيها، من أين، وكيف؟
| هذه هي الموسيقى الداخلية، والموسيقى الباطنة، سر من أسرار المعمار القرآني، لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي |.
وكذلك حينما تقول: (الرحمن على العرش استوى). وحينما تتلو كلمات زكريا لربه: (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً). أو كلمة الله لموسى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى). أو كلمته تعالى ـ وهو يتوعد المجرمين ـ : (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحييى).
كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته ينبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات ومن ورائها ومن بينها، بطريقة محيرة لا تدري كيف تتم؟!
وحينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك الأسلوب السيمفوني المذهل:
(ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم . وأضل فرعون قومه وما هدى).
كلمات في غاية الرقة مثل (يبسا) أو لا تخاف (دركاً) بمعنى لا تخاف ادراكاً. إن الكلمات لتذوب في يد خالقها وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد، هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً ولا حقاً لا شبيه بينه وبين الشعر الجاهلي، ولا بينه وبين الشعر والنثر المتأخر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.
في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماماً، وكأنها ظاهرة بلا تبرير ولا تفسير، سوى أن لها مصدراً آخر غير ما نعرف.
اسمع هذا الإيقاع المنغم الجميل:
(رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أ مره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق). (فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي . فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً). (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور). (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). (وسع ربنا كل شيء علماً).
ثم هذه العبارة الجديدة في تكوينها وصياغتها.. العميقة في معناها ودلالتها على العجز عن إدراك كنه الخالق:
(عالم الغيب والشهادة الكبيرة المتعال). (يجادلون في الله وهو شديد المحال).
ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الإلهية:
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
ولكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، وإنما مع الموسيقي صفة أخرى هي الجلال!
وفي العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها الله نهاية قصة الطوفان، تستطيع أن تلمس ذلك الشيء (الهائل) (الجليل) في الألفاظ:
(وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر).
تلك اللمسات الهائلة.. كل لفظ له ثقل الجبال ووقع الرعود.. تنزل فإذا كل شيء صمت.. سكون، هدوء، وقد كفت الطبيعة عن الغضب ووصلت القصة إلى ختامها: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر).
إنك لتشعر بشيء غير بشري تماماً في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان، وكأن كل خرف فيها جبل الألب. لا يمكنك أن تغير حرفاً أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع والنغم والحركة والثقل والدلالة.. وحاول وجرب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر، أن تغير حرفاً أو تستبدل كلمة بكلمة!
ولهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة والبلاغة وقع الصاعقة!
ولم يكن مستغرباً من جاهلي مثل الوليد بن المغيرة، عاش ومات على كفره، أن يذهل، وأن لا يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن، برغم كفره فيقول، وقد اعتبره من كلام محمد:
(والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه).
ولما طلبوا منه أن يسبه قال: (قولوا ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته).
إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بها.
وإذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر والعجب والذهول، فالسبب هو التعود والألفة والمعايشة منذ الطفولة والبلادة والاغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا. ثم اسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكررون السور من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشري من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطح العبارات.
وبالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل اللعلعة دون أن ينبض شيء في قلبه... ثم المناسبات الكثيرة التي يقرأ القرآن فيها روتينياً... ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل وتوزع الانتباه وتحجر القلب وتعقدت النفوس وصدئت الأرواح.
وبرغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة، ويرتد فيها طفلاً بكراً وترتد له نفسه على شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد والنكهة المذهلة والإيقاع المطرب الجميل في القرآن.. وكفيلة بأن توقفه مذهولاً من جديد بعد
قرابة ألف وأربعمائة سنة من نزول هذه الآيات وكأنها تنزل عليه لساعتها وتوّها.
اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة بأسلوب رفيع وبكلمة رقيقة مهذبة فريدة لا تجد لها مثيلاً ولا بديلاً في أية لغة: (فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً). هذه الكلمة (تغشاها)... تغشاها رجلها... أن يمتزج الذكور والأنثى كما يمتزج ظلان وكما يغشى الليل النهار وكما تذوب الألوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين إثنين، هو ذروة في التعبير.
وألفاظ أخرى تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنيناً وأصداء وصوراً حينام يقسم الله بالليل والنهار فيقول: (والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس).. هذه الحروف الأربعة (عسعس) هي الليل مصوراً بكل ما فيه. و(الصبح إذا تنفس) أن ضوء الفجر هنا مرئي ومسموع.. أنك تكاد تسمع زقزقة العصفور وصيحة الديك..
فإذا كانت الآيات نذير الغضب وإعلان العقاب فإنك تسمع الألفاظ تتفجر.. وترى المعمار القرآني كله له جلجلة. اسمع ما يقول الله عن قوم عاد:
(وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية). إن الآيات كلها تصر فيها الرياح وتسمع فيها اصطفاق الخيام وأعجاز النخل الخاوي وصورة الأرض الخراب.
والصور القرآنية كلها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة والظلال المحكمة والألفاظ التي لها جرس وصوت وصورة.
ولهذه الأسباب مجتمعة كان القرآن كتاباً لا يترجم. إنه قرآن في لغته، أما في اللغات الأخرى فهو شيء آخر غير القرآن.. (إنا أنزلنا قرآناً عربياً) وفي هذا تحديد فاصل.
وكيف يمكن أن تترجم آية مثل: (الرحمن على العرش استوى). إننا لسنا أمام معنى فقط، وإنما نحن بالدرجة الأولى أمام معمار.. أمام تكوين وبناء تنبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات، من قلبها لا من حواشيها، من خصائص اللغة العربية وأسرارها وظلالها وخوافيها..
ولهذا انفردت الآية القرآنية بخاصية عجيبة... إنها تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تلامس الأذن وقبل أن يتأمل العقل معانيها.. لأنها تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان والقلب لتوه ومن قبل أن يبدأ العقل في العمل، فإذا بدأ العقل يحلل ويتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة وسوف يزداد خشوعاً.. ولكنها مرحلة ثانية.. قد تحدث وقد لا تحدث وقد تكشف لك الآية عن سرها وقد لا تكشفه... وقد تؤتى البصيرة التي تفسر بها معاني القرآن وقد لا تؤتى هذه البصيرة.. ولكنك دائماً خاشع، لأن القرآن يخاطبن أولاً كمعمار فريد من الكلام.. بنيان.. فورم.. طراز من الرصف يبهر القلب.. ألقاه عليك الذي خلق اللغة ويعرف سرها...).
----------------------------------------------------
source : البلاغ