مدرسة الإمام الباقر ( عليه السلام )
في عصر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بدأت الدولة الأموية بالتصدع ، وبدأت عندها الدعوة العباسية بالظهور .
ففي ذلك الوقت استغل الإمام الباقر ( عليه السلام ) هذا الظرف المناسب ، وفتح مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) الشهيرة ، والتي أتمَّ مسيرتها الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) من بَعدِه ، تخرَّج من هذه المدرسة المُبَاركة المِئات من العلماء الأفاضل .
وكان ذلك مُصداقاً لما أخبر به الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) جابر بن عبد الله الأنصاري ، حيث قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( يَا جَابر يُوشَك أن تلحق بِوَلد مِن وُلدِ الحسين ، اسمُهُ كاسمي ، يبقر العِلْم بقراً ، فإِذَا رأيتَهُ فأَقرِأْهُ مِنِّي السَّلام ) .
نعم ، لقد بقر الإمام الباقر ( عليه السلام ) العلمَ ، وفَجَّره في جميع مجالات الحياة ، من خلال هذه المدرسة العظيمة .
فمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) هي أول مدرسة فكرية أُنشِأت في الإسلام ، وقد عَملت بِكُلِّ طاقاتها على تقدّم حياة المسلمين وتطويرها .
ولم تقتصر علومها على التشريع الإسلامي ، وإنما تناولت جميع العلوم والمعارف من الإدارة ، إلى الاقتصاد ، إلى الطبِّ والكيمياء ، إلى الحكمة والفلسفة ، إلى علم الكلام ، وإلى العلوم السياسية .
هذه المؤسسة العظيمة قامت بدور مهم في تأسيس هذه العلوم وتدوينها ، بعد أن مَنَع الخليفةُ الأول والثاني تدوينَ الحديث الشريف ، لأن ذلك قد يؤثِّر في تلاوة القرآن ، وانشغال الناس بالحديث عن كتاب الله تعالى .
ولا ريب في أنه اعتذار مهلهل ، لا واقع له ، ولا يدخل في حساب المنطق السليم .
وقد روى السيد حسن الصدر في كتابه : أن الشيعة هم أول من عنوا بالفقه وتدوين بعض مسائله ، كالصلاة ، والوضوء ، وسائر الأبواب .
ومن هؤلاء نذكر علي بن أبي رافع ( رضوان الله عليه ) ، فقد كان من أعلام الشيعة وخيارهم في عصر الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كما أنه كان كاتباً له ( عليه السلام ) .
فألَّف كتاباً في فنون الفقه ، فَصَّل فيه كل الأبواب المتعلقة بالعبادة .
وكذلك سليم بن قيس الهلالي الكوفي ( رضوان الله عليه ) ، وهومؤلف آخر ، له شأن كبير في هذا الموضوع .
فكان من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعَاشَ إلى زمن الطاغية الحَجَّاج بن يوسف .
وقد أراد هذا - الحجاج - الفتك به ، فلجأ إلى أبان بن عَيَّاش ، فآواه .
وحينما حضرته الوفاة أعطاه كتابه المشهور باسمه ، وهو أول كتاب ظهر للشيعة ، رواه أبان بن أبي عياش .
مُميِّزات مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
تميزت مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) بما يأتي :
أولاً : الاتصال بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) :
فالشيء المهم في فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فطريقُهُ إليه أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الذين أذهب اللهُ عنهم الرجسَ ، وطهَّرَهم تطهيراً ، وجعلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُفُن النجاة ، وأَمْن العِبَاد ، وعُدَلاء الذكر الحكيم ، حَسْبَما تواترت الأخبار بذلك .
قال ( عليه السلام ) : ( لو إِنَّنا حَدَّثنا برأينا ضَلَلْنا ، كما ضَلَّ من قبلنا ، ولكِنَّا حَدَّثنا بِبَيِّنَة من رَبِّنا بَيَّنها لنبِيِّه ( صلى الله عليه وآله ) ، فَبَيَّنَها لَنا ) .
ثانياً : المُرُونة :
إنَّ فِقه أهل البيت يساير الحياة ، ويواكب التطوُّر ، ولا يَشُذُّ عن الفطرة ، ويتمشَّى مع جميع مُتطلَّبات الحياة ، فَلَيس فيه حرج ولا ضيق ، ولا ضرر ولا إضرار ، وإنما فيه الصالح العام ، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته ، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون ، واعترفوا بأنه من أثْرى ما قُنِّنَ في عالم التشريع ، عُمقاً وأصالة وإبداعاً .
ثالثاً : فتح باب الاجتهاد :
إنَّ من أهم ما تَميَّز به فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) هو فتح باب الاجتهاد ، فقد دلَّ ذلك على حَيَويَّة فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتفاعله مع الحياة ، واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان .
وإنه لا يقف مَكتوفاً أمام الأحداث المستجِدَّة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث ، واستحدثت فيه كثير من الموضوعات .
وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر في عصرنا الحاضر مدى الحاجة الملحَّة إلى فتح باب الاجتهاد ، كما فعلت الشيعة الإمامية .
رابعاً : الرجوع إلى حكم العقل :
اِنفرد فقهاء الإمامية عن بقيَّة المذاهب الإسلامية فَجَعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الاحكام الشرعية ، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني ، وإنه مما يُعبَد به الرحمن ، ويكتَسب به الجنان .
ومن الطبيعي أن الرجوع إلى حكم العقل إنَّما يَجوز إذا لم يكن في المسألة نَصٌّ خاص أو عام ، وإلا فهو حاكم عليه ، وإن للعقل مَسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد .
خامساً : تنوع علوم المدرسة :
إنَّ مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) التي كان يشرف عليها الإمام الباقر ( عليه السلام ) لم تقتصر على تدريس علم الفقه ، بل اهتمَّت بجميع العلوم العلمية ، والفكرية ، والاجتماعية ، والأدبية ، والتاريخية .
وأخيراً : نقول : إزدهرت هذه المدرسة في عهد الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، لأنه قام برعايتها خير قيام ، حتى باتَتْ معروفة على صعيد العالم الإسلامي ، مما جعل العلماء يلتفُّون حوله ، من كل حدب وصوب ، وينهلون من نَمِير علومه ، ومعارفه ، وحكمه ، وتفسيراته .
وقد تخرَّج من هذه المدرسة مجموعة كبيرة من الرواة ، والمحدِّثين ، والعلماء الثقات ، فتَلقّوا علوماً كثيرة في شتى المجالات ، نذكر نموذجاً منهم : زرارة بن اعين ، محمد بن مسلم ، ابان ابن تغلب ، عطاء بن أبي رباح ، عمرو بن دينار ، الزهري ، ربيعة الرأي ، ابن جريج ، الاوزاعي ، بسام الصيرفي ، أبو حنيفة ، جابر بن حيان الكوفي .
وقد روى بعض مَن شَاهَد الإمام الباقر ( عليه السلام ) أثناء أدائه لمراسم الحَجِّ ، فقال : إنثال عليه الناس يستفتونه عن المُعضلات ، ويستفتحون أبواب المُشكلات ، فلم يرم حتى أفتاهم ( عليه السلام ) مِن ألف مسألة ، ثم نهض يريد رحله .