ليس لدينا تاريخا مدونا، ومنهجا يحتوي على المعارك الحربية والحروب التي سيخوضها الإمام المهدي، ولا نعرف على وجه اليقين التسلل الزمني لتلك المعارك والحروب، ويكمن السبب في أن التاريخ يتناول حوادث وقعت، ويخرج عن دائرة اختصاصه الحوادث التي لم تقع، ثم إن المعلومات التي وردتنا عن معارك المهدي وحروبه، معلومات غيبية لا يعلمها إلا الله ورسوله، ولا مجال للاجتهاد أو التخمين بها، فهي جميعها تسند للرسول أو لأولئك الذين سمعوه وهو يتحدث بها، وقد تبين أن الحديث النبوي قد تعرض لمحنة هائلة، حيث منعت سلطات دولة الخلافة التاريخية رواية وكتابة الأحاديث النبوية من اليوم الثالث لوفاة الرسول واستمر هذا المنع قرابة مائة عام وبعد المائة عام اقتنع المسلمون بخطأ وفساد قرار دولة الخلافة القاضي بمنع رواية وكتابة الأحاديث النبوية، فأقبل علماء دولة الخلافة على كتابة ورواية أحاديث الرسول بعد قرابة مائة عام من صدورها عنه، ولم تر دولة الخلافة آنذاك ضررا من رواية وكتابة أحاديث النبي، لأن ثقافة التاريخ قد استقرت نهائيا، ولأن فقه دولة الخلافة التاريخية قد ألقى أجرانه في الأرض وفي النفوس رغبة أو رهبة، واكتشف علماء دولة الخلافة من الأحاديث النبوية التفاصيل الكلية (لنظرية المهدي المنتظر) فرووا وأخرجوا كل ما سمعوه حول هذا الموضوع بما لا يتعارض مع الثقافة التاريخية، والسنن التي اخترعها الخلفاء بعد وفاة النبي، ومع الخط العام التي سارت عليه دولة الخلافة التاريخية، والذي يقوم على تأخير أهل بيت النبوة، والحط من شأنهم، وعدم الاعتراف بمكانتهم المميزة في الأمة، وعدم تصديق ادعائهم بأنهم ورثة النبي، وأصحاب الحق الشرعي بقيادة الأمة وإظهارهم وإظهار من والاهم بصورة من ينازع الأمر أهله، وبصورة الطامعين بالسلطة، المتربصين بشق عصا الطاعة، وتفريق الأمة والجماعة، ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن ثقافة تاريخ دولة الخلافة مكرسة لإثبات تلك المزاعم ولإثبات شرعية حكم أولئك التي استولوا على منصب الخلافة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع!!
هذا المناخ القائم على تحريف الحقائق أدى إلى عزل أهل بيت النبوة، وعزل أوليائهم، وحرمان الأمة والعالم من الاستفادة من أئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب، وعلى سبيل المثال فإن أئمة أهل بيت النبوة كانوا يعرفون معرفة يقينية التفاصيل الكلية والجزئية لنظرية المهدي المنتظر قبل أن يكتشفها علماء شيعة الخلفاء بمائة عام ونيف، ولكن الأئمة كانوا محاصرين من دولة الخلافة، ومراقبين هم وأوليائهم مراقبة دقيقة من قبل عيون تلك الدولة وجواسيسها الذين كانوا يترصدون كل ما يصدر منه ليجدوا لأنفسهم السبيل لإيذائهم أو قتلهم أو تشريدهم أو تطريدهم!! ولما فتحت أبواب رواية الحديث وكتابته بعد مائة عام من المنع، ألقت الدولة وكل أعوانها بثقلهم كله للتشكيك بكل ما يصدر عن أئمة أهل بيت النبوة، وعن أوليائهم وفي أحسن الأحوال صار حديث إمام أهل بيت النبوة كحديث بعض الرواة!!!
ثم إن الأحاديث التي روتها طواقم معاوية وعماله، والهادفة إلى محق مكانة أهل بيت النبوة، والقضاء على فضائلهم، وإظهارهم بصورة أفراد عاديين من الصحابة. هذه الأحاديث ألقت بظلها القاتم على كل شيء، لأن معاوية لما تم له ما أراد من جمع عشرات الألوف من الأحاديث التي اخترعها رواته وعماله، عمم هذه الأحاديث على الناس، وفرض على الخاصة والعامة تعلمها، ثم تناقلتها الأجيال معتقدة بصحتها وهي باطلة من أساسها، ولما انقضت مدة الألف شهر السوداء، واستولى العباسيون على منصب الخلافة بالقهر والتغلب كما فعل الأمويون من قبلهم، وجد الناس مناهج تربوية وتعليمية جاهزة، وأحاديث موثقة.
من الناحية الشكلية فنقلوها كما هي دون تعديل ولا تبديل، وإذا وجدوا حديثا يتعارض معها، كان القول الفصل للأحاديث التي روتها طواقم معاوية!!
وبعد مرور مدة طويلة على فتح أبواب رواية الحديث وكتابته، تجمعت ملايين المرويات، واختلط الحابل بالنابل ولم تعد تدري أيا من أي وهذا ما يجعل مهمة الباحث المنصف الطالب للحقائق الشرعية المجردة مهمة شاقة، أصعب من قطع الحجارة.
الطريقة المثلى للوقوف على معارك الإمام المهدي وحروبه:
وأفضل الطرق المؤدية للوقوف على معارك الإمام المهدي وحروبه تكمن بسرد الروايات التي تعالج هذه الناحية، والتركيز بشكل خاص على روايات أئمة أهل بيت النبوة الأعلام، لأنهم ورثة علمي النبوة والكتاب، ولأن الله قد شهد بطهارتهم، ولأنهم آل محمد، ولأنهم الثقل الأصغر، وتزداد روايتهم أهمية إذا رواها معهم أو عنهم بعض علماء شيعة الخلفاء، لأن مثل هذه الروايات ستكون حجة على الخصم، وشهادة منه بصحتها، وإدانة منه لنفسه، وقد قصرنا اهتمامنا ما وسعنا الجهد للتركيز والاهتمام الخاص بهذه الروايات.
الرسول الأعظم يلخص معارك الإمام المهدي وحروبه:
لخص رسول الله معارك الإمام المهدي بسلسلة من الأحاديث التي عالجت هذه الناحية نوجزها فيما يلي:
1 ـ قال رسول الله أن المهدي المنتظر (... لا يبدأ إلا بقريش فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف، حتى يقول كثير من الناس، ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمد رحم). (راجع الحديث رقم 841 ج 3).
وتكمن علة هذه البداية بأن بطون قريش هي صاحبة نظريات تأخير آل محمد، وتجاهل مكانتهم، وعدم الاعتراف بها، وهي صاحبة النظرية الشهيرة.
(النبوة لبني هاشم والملك لبطون قريش) وقريش هي التي اخترعت فقه الهوى، وأوجدت ثقافة التاريخ، وحولت الفقه والثقافة إلى مناهج تربوية وتعليمية فرضتها بالقوة على الناس وبطون قريش هي الأكثر كراهية في العالم لرئاسة آل محمد، فمن الطبيعي أن يرتب المهدي أموره مع هذه البطون، وأن يحاسبها حسابا عسيرا على ما فرطت في جنب الله، وما تسببت به من هدم الشرعية الإلهية وحرمان البشرية من حكومة آل محمد، ومن عدلهم، ومن علمهم.
ولأن قريش لها تأثير على العرب، فبعض الروايات بينت بأنه لن يخرج مع المهدي في البداية من العرب أحد، لأن العرب هم أكثر الناس تأثرا بثقافة التاريخ وفقه الهوى وكراهية لرئاسة آل محمد، وهنا يكمن السبب في أن المهدي سيبدأ بقريش، وسيصب نقمته عليها، وقد توسعنا في هذه الناحية عندما بحثنا العقيدة القتالية للإمام المهدي وأصحابه. وبعد أن يصفي الإمام المهدي حساباته مع قريش ومع العرب ينطلق.
2 ـ إن الإمام المهدي سيفتح كافة حصون الضلالة في العالم فعند ظهور الإمام المهدي سيكون أئمة الضلالة قد أحكموا سيطرتهم على العالم، فيدخل الإمام المهدي بمواجهة معهم ويفتح حصونهم جميعا. وقد صرح رسول الله بهذه الحقيقة إلى ابنته الزهراء فاطمة قائلا: (... يا فاطمة والذي بعثني بالحق، وإن منهما (أي الحسن والحسين) مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا، وتظاهرت الفتن، وتقطعت السبل، وأغار بعضهم على بعض... فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوبا غلفا، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به أول الزمان)... (الحديث رقم 79 ج 1).
3 ـ ثم إن الرسول الأعظم قد أكد بشكل قاطع بأن الإمام المهدي سيظهر حتما على الجبابرة في الأرض حيث قال... (فيجتمع إليه (أي للمهدي) ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا فيهم نسوة، فيظهر على كل جبار وابن جبار...) (الحديث رقم 34 ج 1).
4 ـ وبين الرسول الكريم أن هذه الحتمية وعد إلهي، وقرار محتوم حيث أخبره الله تعالى به عندما أسرى به إلى السماء السابعة، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور حيث كلمه الله تعالى قائلا: (وبالقائم منكم أعمر أرضي، وبه أطهر الأرض من أعدائي، وأورثها أوليائي...) (الحديث رقم 123 ج 1).
5 ـ وأكد الرسول الأعظم أن الإمام المهدي في معاركه وحروبه ملتزم بالشرعية، ومنفذ لغاياتها وعبر عن هذه الحقيقة بقوله: (وهو رجل من عترتي يقاتل على سنتي، كما قاتلت على الوحي). (راجع الحديث رقم 136 ج 1 وراجع مراجع أهل السنة المدونة تحته). وبين الرسول الأعظم حقيقة هذا الالتزام بقوله: (يقفوا أثري لا يخطئ). (راجع الحديث رقم 137).
6 ـ وتقريبا للصورة، أجرى رسول الله مقارنة بين فتوحات ذي القرنين، وبين فتوحات المهدي فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (... حتى لا يبقى منهلا ولا موضعا من سهل ولا جبل وطئه ذو القرنين إلا وطئه، يظهر الله عز وجل له كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب).. (الحديث رقم 158 ج 1).
7 ـ أكد الرسول الأعظم بأن الإمام المهدي سيفتح بإذن الله شرق الأرض وغربها، بقوله: (... يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، فيفتح الله له شرق الأرض وغربها، ويقتل الناس حتى لا يبقى إلا دين محمد، ويسير بسيرة سليمان بن داود، ويدعو الشمس والقمر، فيجيبانه، وتطوى له الأرض، ويوحى إليه فيعمل بالوحي بأمر الله). (راجع الحديث رقم 859 ج 4).
8 ـ وبين الرسول أيضا: (بأنه إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كل أقليم رجلا يقول له: (عهدك في كفك، فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر في كفك واعمل بما فيها. (الحديث رقم 858 ج 4).
الترتيب الزمني وتسلسل أحداث معارك الإمام المهدي وحروبه:
وقفنا قبل قليل على التقاطيع الأساسية للصورة العامة والمجملة التي رسمها رسول الله لمعارك الإمام المهدي وحروبه، واستوعبنا تأكيداته القاطعة بأن الإمام المهدي سيفتح كافة حصون الضلالة في العالم، وسيقضي على كل جبار وابن جبار فيه، وسيتولى نتيجة لهذه المعارك والحروب وثمرة للآيات والمعجزات.
والدعم على كافة أقاليم الكرة الأرضية، وأنه سيولي على كل إقليم من أقاليم الأرض أحد رجاله. أما تاريخ كل معركة من معارك الإمام المهدي، ومتى تقع، وكيف تتسلسل الأحداث بالدقة التامة، فهذه أمور لا نعرفها على وجه الدقة واليقين، ولا أحد في العالم كله يعرفها إلا رسول الله، وأئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب، لأن معارك الإمام المهدي وحروبه لم تقع للآن ولم تحدث ولم تتحول إلى تاريخ، بل ما زالت في رحم الغيب، ثم إن كافة الأمور المتعلقة بنظرية الإمام المهدي قضايا غيبية إيمانية مستقبلية أوحاها الله لرسوله، وبينها الرسول للمسلمين بحدود قدرة الكلام على البيان، فهي كقضايا الجنة والنار والصراط والحساب أمور ستحدث حتما، ولكن متى وكيف؟ فإن الإجابة بحدود المعلومات اليقينية التي وصلتنا من رسول الله، ولا نملك أن نزيد في هذه المعلومات أو أن ننقص منها لأنه لا مجال للاجتهاد في هذه الأمور الغيبية.
والخلاصة أن الترتيب الزمني لمعارك الإمام المهدي وحروبه لا يمكن تحصيله إطلاقا، ولا يمكن الوقوف عليه، لأن تلك المعارك والحروب لم تقع بعد، صحيح أن الرسول قد بين كل شيء، وأنه قد أورث علمي النبوة والكتاب لأئمة أهل بيت النبوة، وهم مؤهلون وقادرون على الإجابة على كل سؤال، وقد بينا أن دولة الخلافة قد منعت رواية وكتابة الأحاديث النبوية من اليوم الثالث لوفاة الرسول، وحتى طوال مائة عام، وبينا الظروف التي عاشها أئمة أهل بيت النبوة والمعاناة التي تعرضوا لها، والعزلة التي فرضت عليهم وكل هذا قد أدى إلى حرمان المسلمين من الوقوف على حقيقة كل ما قاله رسوله، لأن أحاديثه قد رويت بعد مائة سنة من صدروها عنه، وحرمان الناس من الانتفاع الكلي من علمي النبوة والكتاب الذين ورثهما أئمة أهل بيت النبوة، وبالتالي تمخض هذا عن وجود أسئلة بدون أجوبة، وأمور مفتوحة بدون تغطية، خاصة وأنه لا يوجد الآن إمام لأهل بيت النبوة، فخاتم الأئمة هو المهدي المنتظر وهو غير ظاهر، بمعنى أن الوقوف على الترتيب الزمني لمعارك المهدي وحروبه ضرب من المستحيلات في أيامنا هذه.
ولا يبقى أمامنا إلا محاولة ترتيب حوادث ومعارك وحروب الإمام المهدي حسب الرقم المتسلسل لوقوعها، بمعنى أن تقع حادثة، فنعرف الحادثة التي تليها.
بالضبط، ثم نعرف الثالثة والرابعة.. الخ. وتوضيحا للصورة نسأل ما هو أول إقليم من أقاليم الأرض قد أخضعه الإمام المهدي لسلطانه؟ وما هو الإقليم الثاني والثالث والرابع فلا نقوى على ربط الأحداث بتسلسل وقوعها، ولا معرفة أقاليم الأرض بتسلسل فتح الإمام المهدي لها، لكن معرفة تسلسل وقوع الحوادث أهون على الباحث من معرفة التسلسل الزمني لوقوعها، فمعرفة التسلسل الزمني لوقوع معارك المهدي وحروبه مستحيل استحالة مطلقة، أما ترتيب الأحداث والمعارك والحرب بتسلسل وقوعها فممكن إن تعاون على تحقيقه عصبة من العلماء الأفذاذ، وبالرغم من كثرة بحوثي في هذا المجال، ومحاولاتي التي لم تتوقف للاطلاع على ما كتب فيه، فإني لم أجد أفضل ولا أشمل ولا أعمق ولا أقرب لروح العصر من كتاب سماحة العلامة الشيخ علي الكوراني الموسوم (بعصر الظهور) لقد كان الجهد الذي بذل فيه كبيرا، فجاء الكتاب كثمرة طيبة لذلك الجهد، إن ترتيب الشيخ الكوراني لتسلسل الأحداث وربطها أمر يثير الإعجاب والاحترام، ولا عجب فالشيخ الكوراني هو الذي أشرف على جمع وتبويب موسوعة أحاديث الإمام المهدي، مما أهله وأعده لينجز كتابه الرائع (عصر الظهور)، ومما مكنه من أن يكون بحق أعظم المراجع بالأمور المتعلقة بنظرية الإمام المهدي المنتظر.
والخلاصة أنه من غير المعقول ولا المنطقي أن ننقل كل ما ورد في كتاب عصر الظهور لنقف على تسلسل معارك وحروب الإمام المهدي، إنما اكتفينا بالإشارة إليه، وأرى أن الأنسب لي أن أضع (سيناريو) لتسلسل الأحداث والمعارك والحروب التي خاضها الإمام المهدي وأصحابه بالحجم وبالمدى التي أشارت إليه الأحاديث النبوية، والأحاديث التي رواها الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة، وأرى أنني غير ملزم بسد الثغرات، لأن هذه الأمور لا مجال للافتراض ولا للاجتهاد بها، وتركها أولى من محاولات سدها..