من خلال مراجعة سريعة لعصر الإمام الباقر (ع) نعرف أن هدوءاً غاضباً كان يسوده قبل أن تهدر العاصفة الثائرة ، التي أطاحت بالحكم الأموي بعد وفاة الإمام الباقر (ع) ، وحملت إلى الساحة النظام العباسي في عهد الإمام الصادق (ع) .
ومن خلال الشواهد التي نستوحيها من قصص حياته (ع) نتلمس ملامح ذلك العصر .. وكيف أن إرهاصات العاصفة كانت ظاهرة هنا وهناك .
أولاً : الشاهد الأول ظاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الذي قاد ثورةً إصلاحية من قمة هرم فمع النجاح الجزئي الذي كسبه هذا الخليفة . إلاّ أنه لم ينجح لسببين :
الأول : لأنه جاء متأخراً جّداً إذ أن الفرق الإسلامية التي تبنت معارضة الحكم الأموي كانت راسخة الجذور في الأمة .. ولم تكن تنخدع بهذه اللعبــــــة السياسيــة . وفي طليعتها شيعة أهل البيت عليهم السلام ، الذين كان وعيهم بالسياسة إلى درجة لم يكن بإمكان ابن عبد العزيز أو عبد اللـه المأمون أن يؤثرا فيهم ، وذلك بفضل ثقافتهم القرآنية . وتوعية الائمة بحقائق الإسلام . ومن أبرزها أن الحكم ليس بالوراثة أو القوة ، وانما هو بأمر الدين ، فها هو الإمام الباقر (ع) يقول لأصحابه أن أهل السماء يلعنون عمر بن عبد العزيز - وذلك حتى قبل توليه السلطة - لنستمع إلى الحديث التالي :
روى أبو بصير قال : كنت مع الباقر في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز ، وعليه ثوبان ممصران متكئاً على مولى له ، فقال :
لَيَلِيَنَّ هــذا الغلام فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثم يموت فيبكي عليه أهل الارض ويلعنه أهل السماء ، قال : يجلس في مجلس لا حق له فيه ، ثم ملك وأظهر العدل جهده(1).
هكذا يعتبره الإمام ملعوناً لأنه قد جلس في مقام الخلافة الذي لا يحق له الجلوس فيه أبداً .
صحيح أن ابن عبد العزيز أعاد فدكاً إلى البيت العلوي ، وكانت فدك رمزاً لظلامة أهل البيت ، وكان ردها دليلاً عند الناس على صدق مذهبهم .
إلاّ إن الأئمـــــة لم يعبأوا بذلك ولم يعتبروه كافيــاً لحسن سلوك النظــــام ، لأن النظام كان اساسه باطـــــلاً ،
وكانت حركة الأئمة تستهدف إصلاح المجتمع من جذوره كما يفعل الأنبياء (ع) .
والحديث التالي يكشف عن طريقة تفكير طليعة الأمة فيما يتعلق بنظام عمر بن عبد العزيز ، دعنا نستمع إليه .
فقد روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان أن أوفد إليّ من علماء بلادك مائة رجل أسألهــم عن سيرتك ، فجمعهم عامله وقال لهم ذلك ، فاعتذروا وقالوا إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته ، وعدله لا يقتضي إجبارنا ، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده ، ولساننا لديه ، فقوله قولنــــا ، ورأيه رأينا فأوفد به العامل إليه ، فلما دخل عليه سلم وجلس ، فقال له : أخل لي المجلس ، فقال له : ولم ذلك ؟ وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك ، أو تقول باطلاً فيكذبوك فقال له : ليس من أجلي اريد خلو المجلس ، ولكن من أجلك ، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه .
فأمر بإخراج أهل المجلس ثم قال له : قل ! فقال : أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك ؟ فسكت طويلاً فقال لــــه : ألا تقول ؟ فقال : لا ، فقال : ولم ؟ فقال له : إن قلت بنص من اللـه ورسوله كنت كاذبـاً ، وأن قلت بإجماع المسلمين ، قلت فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك ، ولم نجمع عليه ، وإن قلت بالميراث من آبائي ، قلت بنو أبيك كثير فلِمَ تفردت به دونهم ؟ فقال له : الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك ، أفأرجع إلى بلادي ؟ فقال : لا فواللـه إنك لواعظ قط فقل ما عندك بعد ذلك فقال له : رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفيء المسلمين ، وعلمت من فسي أني لا استحل ذلك ، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت ، فقال له : أخبرني لولم تل هذا الأمر ووليه غيرك ، وفعل ما فعل من كان قبله ، أكان يلزمك من إثمه شيء ؟ فقال : لا ، فقال له : فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك ، وسلامته بخطرك فقال له : إنك لواعظ قط ، فقام يخرج ثم قال له : واللـه لقد هلك أولنا بأولكم وأوسطنا بأوسطكم ، وسيهلك آخرنا بآخركم ، واللـه المستعان عليكم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وموقف الإمام من عمر بن عبد العزيز كان انتهاز الفرصة المؤاتية لتبليغ الرسالة ونصيحة الولاة ، ويصحح ما يمكن تصحيحه من أوضاع الأمة دون الإعتراف بشرعية النظام بالجملة ، وفيما يلي نقرأ حديثاً يصف دخول الإمام عليه ونصيحته له :
“ يروي هشام بن معاذ ويقول : كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة ، فأمر مناديه فنادى من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب ، فأتى محمد بن علي يعني الباقر (ع) فدخل إليه مولاه مزاحم فقال : إن محمد بن علي بالباب ، فقال له : أدخله يا مزاحم ، قال : فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع فقال له محمد بن علي :
ما أبكاك يا عمر ؟ فقال هشام : أبكاني كذا وكذا يا ابن رسول اللـه ، فقال محمد بن علي (ع) : يا عمر إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم ، ومنها خرجوا بما يضرهم ، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه ، حتى أتاهم الموت فاستوعبوا ، فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة ، ولا مما كرهوا جنة ، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللـه محقوقون ، إن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها ، فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها ، فنكف عنها .
فاتـــق اللـه واجعل في قلبك اثنتين ، تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدِّمه بين يديك ، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ، ترجو أن تجوز عنك ، واتق اللـه يا عمر وافتح الأبواب وسهِّل الحجاب ، وانصر المظلوم ورد المظالم . ثم قال : ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان باللـه ، فجثا عمر على ركبتيه وقال : إيه يا أهل النبوة فقال : نعم يا عمر من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له ، فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب : بسم اللـه الرحمن الرحيم ، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي (ع) فدك .
ثانياً : يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي (ع) بصورة ظاهرة ، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم واقعة الطف ، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية . والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك ، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر في ميراث رسول اللـه استنجد بالخليفة الأموي ( عبد الملك بن مروان ) ودخل عليه وقال له : أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه . فكتب عبد الملك كتاباً إلى واليه على المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً ، وقال لزيد : أرأيتك إن وليتك قتله قتلته ؟ قال : نعم .
ولكن عامله على المدينة استدرك الأمر وكتب إلى الخليفة : إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته ، وإن قراءته وكتبه مزامير داود ، وإنه من أعلم الناس ، وارق الناس ، وأشد الناس اجتهاداً وعبادةً ، وأضاف في كتابــه : وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له ، فإن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهـم ..
وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه . وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّـأه ، وقال له : لولا أني أريد أن لا أبتلى بدم أحد منكم لقتلتك . ثم كتب إلى الإمام الباقر (ع) بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه(2).
من هذه القصة نعرف أن ملوك بني أمية كانوا يتجنبون ما أمكنهم قتل أولاد علي (ع) بصورة ظاهرة .
ثالثاً : كانت المعارضـــة العلنية لحكم بني أميــــة أصبحت معروفة ، ويـــــروي التاريخ بعض النماذج منهـــا ونذكر فيما يلي اثنين منها :
1- يحكي الديلمي قصة طريفة في كتابه إعلام الدين يقول :
قال رجل لعبد الملك بن مروان أُناظرك وأنا آمن ، قال : نعم ، فقال : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من اللـه ورسوله ؟ قال : لا ، قال : اجتمعت الأمة فترضّوا بك ؟ قال : لا ، فقال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فرضوا بها ؟ قال : لا ، قال : فاختارك أهل الشورى ؟ قال : لا ، قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بغيثهم ، دونهم ؟ قال : بلى ، قال : فبأي شيء سُميت أمير المؤمنين ؟ ولم يؤمرك اللـه ورسوله ولا المسلمون ، قال له أخرج عن بلادي وإلاّ قتلتك ، قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثم خرج عنه(3).
2- وقصة أخرى ينقلها الشيخ الطوسي في أماليه عن الشيخ المفيد عن الثمالي قال :
حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس بمكة ، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته ، قام إليه رجل فقال له : مهلاً مهلاً ، إنكم تأمرون ولا تأتمرون ، وتنهون ولاتنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم ؟ فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا فكيف يقتدى بسيرة الظالمين ، مــا الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال اللـه دولاً ، وجعلوا عباد اللـه خولاً ، وإن قلتم أطيعوا أمرنا ، واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه ؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فلعل فينا من و أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم ، فتزحزحوا عنها وأطلقوا أقفالها وخلّوا سبيلها ، ينتدب لها الذين شردتهم في البلاد ، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد ، فواللـه ما قلدناكم أزمة أمورنا ، وحكمناكم في أموالنا وابداننا وأدياننا ، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين ، غير أنا بصراء أنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة ، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه ، وكتاب لابدّ أن يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال : فقام إليه بعض أصحابه المسالح ، فقبض عليه ، وكان آخر عهدنا به ، ولا ندري ما كانت حاله(4).
رابعاً : خروج الإمام إلى الشام .
إن حادثة استدعاء هشام بن عبد الملك الإمام الباقر (ع) من المدينة إلى الشام ، تكشف عن طبيعة علاقة الإمام بالسلطة السياسية ، وما كان يعانيه منها ، وكيف كان يتحداها ، ونحن إذ نثبت نصّاً تاريخياً فيها ندع للقارئ فرصة التأمل فيها ، على أن النصوص مختلفة في تفاصيل هذه الواقعة وإنما نذكر أكثرها تفصيلاً بإذن اللـه .
وقـــد حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علــــي الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهما السلام . وقال الإمام الصادق (ع) : الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبياً وأكرمنا به فنحن صفوة اللـه على خلقه وخيرته من عباده وخلفاؤه ، فالسعيد من تبعنا والشقي من عادانا وخالفنا.
ثم قال : فأخبر مسلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً ، ثم أذن لنا في اليوم الرابع فدخلنا ، وإذا قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصته قوف على أرجلهم سماطان متسلحان ، وقد نصب البرجاس حذاه وأشياخ قومه يرمون ، فلما دخلنا وأبي أمامي وأنا خلفه ، فنادى أبي وقال : يا محمد إرم مع أشياخ قومك الغرض .
فقال له : إني قد كبرت عن الرمي فهل رأيت أن تعفيني .
فقال : وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد (ص) لا أعفيك ، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن اعطه قوسك ، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهماً ، فوضعه في كبد القوس ، ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه إلى نصله ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك إلاّ أن قال : أجدت يا أبا جعفر وأنت أرمى العرب والعجم ، هلاّ زعمت أنك كبرت عن الرمي ، ثم أدركته ندامة على ما قال .
وكان هشام لم يكن كنّى أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمَّ به وأطرق إلى الأرض إطراقة يتروى فيها . وأنا وأبي واقفان حذاه مواجهين له ، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به ، وكان أبي (ع) إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه ، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي .
قال له : إلي يا محمد !
فصعد أبي إلى السرير ، وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام ، قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل على أبي بوجهه .
فقال له : يا محمد لاتزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك ، لله درك ، من علمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلمته ؟
فقال أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته ، فلما اراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه .
فقال له : ما رأيت مثل هذا الرَّمي قط مُذْ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي أيرمي جعفر مثل رميك ؟ فقال :
إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللـه على نبيه (ص) في قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة/3) والأرض لا تخلــــو ممن يكمل هــــذه الأمـور التي يقصر غيرنا عنها .
قال : فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه .
فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟
فقال أبي : نحن كذلك ولكن اللـه جل ثناءه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص أحداً به غيرنا .
فقال : أليس اللـه جل ثناؤه بعث محمداً (ص) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة ، أبيضها وأسودها وأحمرها من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول اللـه (ص) مبعثوث إلى الناس كافة وذلك قول اللـه تبارك وتعالى : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } (آل عمران/180) إلى آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء ؟ فقال : من قوله تبارك وتعالى لنبيِّه (ص) : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } (القيامة/16) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره اللـه أن يخصنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان ناجى أخاه عليأً من دون أصحابه فأنزل اللـه بذلك قرآناً في قوله : { وَتَعِيَهَآ اُذُنٌ وَاعِيَةٌ } (لحاقة/12) فقال رسول اللـه (ص) لأصحابه : سألت اللـه أن يجعلها أذنك يا علي ، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات اللـه عليه بالكوفة : علَّمني رسول اللـه (ص) ألف باب من العلم ففتح لكل باب ألف باب ، خصَّه رسول اللـه (ص) من مكنون سره بما يخص أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه ، فكما ص اللـه نبيه (ص) خص نبيه (ص) أخاه علياً من مكنون سره بما لم يخص به أحداً من قومه ، حتى صار إلينا فتوارثنا من دون أهلنا .
فقال هشام بن عبد الملك : إن علياً كان يدعي علم الغيب واللـه لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادعى ذلك ؟
فقال أبي : إن اللـه جل ذكره أنزل على نبيّه (ص) كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل/89) وفي قوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (الانعام/38) وأوحى اللـه إلى نبيه (ص) أن لايبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنه مني وأنا منه ، له مالي وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي . ثم ال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاّ عند علي (ع) ، ولذلك قال رسول اللـه (ص) لأصحابه : أقضاكم علي أي هو قاضيكم وقال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر ، يشهد له عمر ويجحده غيره .
فأطرق هشام طويلاً ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك .
فقال : خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي .
فقال : قد آنس اللـه وحشتهم برجوعوك إليهم ولا تقم ، سر من يومك .
فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه وخرجنا إلى بابه ، وإذا بميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عددهم كثير ، قال أبي : من هؤلاء ؟
فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم .
فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه ، فجاؤوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه ، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثم قال لأبي :
أمنّا أم من هذه الأمة المرحومة ؟
فقال ابي : بل من هذه الأمة المرحومة .
فقال : من أيهم أنت من علمائها أم من جهالها ؟
فقال له أبي : لست من جهالها ، فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال له : أسألك ؟ فقال له أبي : سل ، فقال : من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يُحدِثون ولا يبولون ؟
وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل ، الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث .
قال : فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً ، ثم قال : هلاّ زعمت أنك لست من علمائها ؟
فقال له أبي : ولا من جهالها ، وأصحاب هشام يسمعون ذلك .
فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى فقال له أبي : سل .
فقال : من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندَّعي أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع ، فاضطرب اضطراباً شديداً ، ثم قال : هلاّ زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهالها .
فقال له : أسألك عن مسألة ؟ فقال : سل ، فقال : أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ؟
فقــــال له أبي : هـــي الساعــــة التي بين طلوع الفجر إلــــى طلوع الشمــــس يهدأ فيهـــا المبتلي ، ويرقد فيهـــا
الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها اللـه في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحاً وحجة بالغة على الجاحدين المتكبرين التَّاركين لها .
قال : فصاح النصراني صيحة ثم قال : بقيت مسألة واحدة واللـه لأسألك عن مسألة لاتهدي إلى الجواب عنها أبداً .
قال له أبي : سل فإنك حانث في يمينك .
فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا ؟
فقال له أبي : ذلك عزيز وعزيرة ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً ، مرّ عزيز على حماره راكباً على قرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها { قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللـه بَعْدَ مَوْتِهَا } (البقرة/259) وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول غضب اللـه عليه فأماته اللـه مائة عام سخطاً عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد إلى داره ، وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عيه السنون والشهور ، ويقول له عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمسة وعشرين سنة : ما رأيت شاباً في سن خمسة وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ! فمن أهل السماء أنت ؟ أم من أهل الأرض ؟ فقال : يا عزيرة أنا عزير سخط اللـه عليّ بقول قلته بعد أن صطفاني وهداني فأماتني مائة سنة ثم بعثني لتزداد بذلك يقيناً ، إن اللـه على كل شيء قدير ، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده اللـه تعالى كما كان ، فعندها أيقنوا فأعاشه اللـه بينهم خمسة وعشرين سنة ، ثم قبضه اللـه وأخاه في يوم واحد .
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً وقاموا - النصارى - على أرجلهم فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم مني واقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني وأعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا واللـه لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة .
فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام .
فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نجلس ، لأن الناس ماجوا وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى ، فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة أن ابنَي أبي تراب الساحرين : محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه اللـه - فيما يظهران من الإسلام وردّا عليَّ ، ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام إلى الكفر دين النصارى وتقربا إليهم النصرانية ، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فإنهما قد ارتدا عن الإسلام ، ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة ، قال : فورد البريد إلى مدينة مدين .
فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ، ويشروا لدوابنا علفاً ، ولنا طعاماً ، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا وذكروا علي بن أبي طالب صلوات اللـه عليه فقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع يا كفار يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين ، فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول وقال لهم :
اتقوا اللـه ولا تغلظوا فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون فاسمعونا ، فقال لهم : فهبنا كما تقولون افتحوا لنا الباب وشارونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس ، فقالوا : أنتم شر من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون ، فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وأنزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم ، فقالوا : لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً نياعاً او تموت دوابكم تحتكم ، فوعظهم أبي فازدادوا عتواً ونشوزاً ، قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده ، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ثم نادى بأعلى صوته { وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللـه مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيـــــْرٍ وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا لْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّـــاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللـه خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } (هود/84-86) نحن واللـه بقية اللـه في أرضه ، فأمر اللـه ريحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء ، فما
بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلاّ صعد السطوح ، وأبي مشرف عليهم ، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى باعلى صوته : اتقوا اللـه يا أهل مدين فإنه قد وقف الذي وقف فيه شعيب (ع) حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم نزلوه جاءكم من اللـه العذاب . فإني أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر ، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا ، وكُتب بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة اللـه عليه وصلواته ، وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي ي طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر : ( ص 251 ) .
(2) المصدر باختصار : ( ص 329 - 331 ) .
(3) المصدر : ( ص 335 ) .
(4) المصدر : ( ص 337 ) .
(5) موسوعة بحار الأنوار : ( ص 306 - 313 ) نقلاً عن دلائل الإمامة تصنيف محمد بن جرير الطبري الإمامي .
source : اهل بیت