اعتراف
ماذا عسى أن يقول الواصف حين يقف أمام شخصيّة أمير المؤمنين عليّ، وماذا عسى أن يكتب في إمامةٍ تشرّفت بالوصيّ عليّ، وإنسانيّةٍ طاهرةٍ تجلّت في الإمام عليّ، وكمالاتٍ وكرامات كتبها الله لرجلٍ هو عليّ ؟! وماذا يريد أن يقول القائل حين يقف أمامَ جبلٍ أشمّ يَلوي أعناق الناظرين، وعند بحرٍ ممتدٍّ زاخر تغيب حدوده، وآفاقٍ سحيقةٍ يعمى البصر عن مداها ؟!
إنّه إذا كَلَّ اللسان وعجز القلم فيَحقّ ذلك لصاحبهما وإن كان الأديبَ البارع، والبليغَ المفوَّه، لأنّه أمامَ سيلٍ أخّاذ من المعاني السامقة. فكم أبحَر المتفكّرون، وحلّق الشعراء وتَفَلْسَف الكلاميّون، فما عادوا إلاّ بأمرَين: بإعجابٍ مُذهِلٍ بأمير الحقّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وبعَجزٍ مستحكم عن أن يلمَّ بأيِّ شأنٍ منه أيُّ شرحٍ أو بيان؛ لأنّ روح عليٍّ في الأُفق الأسمى، ونفسه في الطُّهر الأزكى، وقلبه في غمار الهدى الإلهيّ، وضميره في النقاء الأصفى، ويد الله تبارك وتعالى ملمّة به في مراقي العرفان، كما أنّ يد رسول الله صلّى الله عليه وآله تحيطه محبّةً ونَفْساً.
ذلكُم هو عليٌّ المَثَلُ الأوفى للخير، حتّى أصبحت الآيات تفتخر بمدحه وتكريمه: كآية التطهير، وآية الولاية، وآية الإطعام، وآية المباهلة.. وأصبحت الأحاديث النبويّة تزهو بذِكره وعرض مناقبه وفضائله وسامي منازله ومراتبه التي لا يسبقها سابق، ولا يَلحق بها لاحق، بل ولا يطمع في إدراكها طامع! وأصحبنا كلُّنا نفتخر بحبّه ومودّته، ونتشرف جميعنا بولايته، ونتباهى بذكر مفاخره وكراماته، ومنها: إحقاقُه الحقّ وإبطاله الباطل، وتحكيم عدالته.
وإذا كنّا يوماً ما قد أمسكنا قلماً، أو أطلقنا لساناً في مدحه، فإنّا لابد أن نقدّم قبل ذلك اعترافنا بأنّا في هذا الأمر قد تجاوزنا قَدْرنا، وتجرّأنا على المعارف والحقائق، حيث ادّعَينا أنّنا نصوّرها ونرسمها وندوّنها بحذافيرها، وأنّى لنا ذلك إذا تجسّدت في الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه! كتب ابن أبي الحديد في مقدمة كتابه ( شرح نهج البلاغة ):
ـ ما أقول في رجلٍ أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يُمكِنْهم جَحْدُ مناقبه ولا كتمان فضائله.. ؟!
ـ وما أقول في رجلٍ تُعزى إليه كلُّ فضيلة، وتنتهي إليه كلُّ فِرقة، وتتجاذبه كلُّ طائفة ؟! فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذرها وسابقُ مضمارها، ومُجلّي حَلَبتها. كلُّ مَن بزغ فيها بَعدَه فمِنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى...
ـ وما أقول في رجلٍ تحبّه أهل الذمّة على تكذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملّة، وتُصوِّر ملوك الفرنج والروم صورته في بِيَعِها وبيوت عبادتها، حاملاً سيفَه مُشمِّراً لحربه، وتصوّر ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها.. ؟!
ـ وما أقول في رجلٍ أحبَّ كلُّ واحدٍ أن يتكثّر به، وودّ كلُّ أحدٍ أن يتجمّل ويتحسّن بالانتساب إليه ؟!..
وهكذا ـ أيّها الإخوة الأفاضل ـ لا يخرج المرء من محاولاته في فهم هذه الشخصيّة إلاّ بالحيرة والإعجاب والعجز، فإذا أراد أن يقول شيئاً فحَسْبُه الإشارة، والحرُّ تكفيه الإشارة.
دعائم العدالة
ما أطيبَ اسم العدل على النفوس المظلومة، وهو الوسام الذي يتشرّف به الحاكم، والأمل الذي يتلهّف إليه الضعيف المظلوم. والعدالة هي من أصعب القوانين الإنسانيّة في التطبيق؛ لأنّها تصطدم بنزعاتِ الأقوياء وأهواء الأغنياء، فهي لذلك تتطلّب الإيمان بالله تعالى واليوم الآخِر إيماناً صادقاً، ولا تنهض إلاّ بالتقوى واستحضار رقابة الله جلّ وعلا في الضمير في كلّ وقت وكلّ واقعة، كما تتطلّب العدالةُ عزوفاً عن المحرّمات والأهواء، ونزعاً لحبّ الدنيا والتعلّق بها من القلب، وتحتاج إلى إرادة قويّة تتغلّب على كلّ هاجسٍ شيطانيّ، وعصبيّة جاهليّة، وغضبٍ جنونيّ، وتستلزم العدالةُ صبراً على ما قد تجرّه على مُقيمها من سخط الناس وعداواتهم!
ولقد أخذت العدالة أزهى صورها في سيرة الإمام عليّ عليه السلام؛ إذ كان أخشى الناس لله تبارك شأنه، وكان أتقى الناس وأزكاهم، فضلاً عن كونه أقضاهم ـ كما أقرّ الصحابة بذلك ـ، ولم يكن يبتغي إلاّ مرضاة ربِّه عزّوجلّ، فلم يُبالِ أنّ تلك العدالة التي أقامها والتزم بها قد نغّصت عليه حياته الشريفة، أو سلبته الراحة والاستقرار من عيشه وحكومته، أو جرّت عليه الحروب والنوائب والمصاعب والنكبات، وهو القائل سلامُ الله عليه: « ما تركَ الحقُّ لي مِن صديق »، ومع ذلك كان سلام الله عليه مُصرّاً على إقامة الحقّ إرضاءً لخالقه وإن سخط المخلوقون، فهو القائل صلوات الله عليه من قائل: « لا يَزيدُني كثرةُ الناسِ حَولي عِزّةً، ولا تَفرُّقُهم عنّي وحشةً » ( الكتاب 36 من نهج البلاغة )، بل كان يوصي قائلاً: « أيُّها الناس، لا تستوحشوا في طريقِ الهدى لقلّةِ أهلِه » ( الخطبة 201 من نهج البلاغة ).
ولا غروَ في ذلك، وأمير المؤمنين عليه السلام هو أديبُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ورسول الله أديب الله عزّ شأنه، وقد قال في خطبته القاصعة، الناصعة: « وقد عَلِمتُم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخَصيصة. وَضَعني في حِجْره وأنا ولدٌ يَضُمُّني إلى صدره، ويَكنُفُني في فراشه، ويُمِسُّني جسَدَه، ويُشِمُّني عَرْفَه...
ولقد كنتُ أتَّبِعُه آتِّباعَ الفَصِيلِ أثَرَ أُمّه، يَرفع لي في كلِّ يومٍ مِن أخلاقه عَلَماً، ويأمرُني بالاقتداءِ به. ولقد كان يُجاورِ في كلِّ سنةٍ بِحِراء فأراه ولا يَراه غيري، ولم يَجمَع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غيرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وخديجةَ وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحي والرسالة، وأَشُمُّ ريحَ النبوّة.
ولقد سَمِعتُ رنّةَ الشيطانِ حين نزَلَ الوحيُ عليه صلّى الله عليه وآله، فقلت: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة ؟ فقال: هذا الشيطانُ قد أَيِس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بنبيٍّ ولكنّك لَوزير، وإنّك لَعلى خير » ( الخطبة 192 من نهج البلاغة ).
وأيُّ خيرٍ ذلك وقد أقرّه الصادق المصدَّق محمّدٌ المصطفى صلّى الله عليه وآله ؟! إنّه الخير الأكمل، والأفضل، والأشمل، فهو كلُّ خير، ومِن ذلك الخير حُكمُه بالحقّ والعدل كما أراد الله تعالى وقضى وحكم، لا كما يريد أصحاب الأهواء المريضة، وأهل النفاق والعصبيّات الجاهليّة السقيمة، وذَوُو المطامع والشهوات المتمادية!
إنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يَعش إلاّ في بيت الوحي والرسالة، ولم يُرافق إلاّ النبوّة المحمّدية الخاتمة، على خلاف بقيّة الصحابة، فما فتح عينَيه الطاهرتين إلاّ في وجه أشرف الخلق رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومِن هنا قال فيه: « أنا أديبُ الله، وعليٌّ أديبي » ( مكارم الأخلاق لأبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي:17 ).. ومن هنا أيضاً قال عليه السلام: « إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أدَّبَه الله عزّ وجل، وهو عليه السلام أدَّبَني، وأنا أُؤدِّب المؤمنين، وأُورِّثُ الآدابَ المُكْرَمين » ( تحف العقول لابن شعبة الحرّانيّ:119 ).
وهنا يحسن أن نذكر لابن أبي الحديد قوله في ( شرح نهج البلاغة ): ( كان عليٌّ عليه السلام محظوظاً من دون الصحابة بخلواتٍ كان يخلوها مع رسول الله لا يطّلع أحدٌ من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثيرَ السؤال للنبيّ عن معاني القرآن، وإذا لم يسأل ابتدأه النبيّ بالتعليم، ولم يكن أحدٌ من أصحاب النبيّ كذلك ).
ولا يمكن لأحدٍ منهم أن يكون كذلك، كيف وهو الذي امتلأ إيماناً وهدىً ونوراً وعلماً، وخشيةً من الله تعالى وتقوىً وطاعةً لربّه جَلّ وعلا ؟! وهو القائل: « إنّ العدلَ ميزانُ الله سبحانه الذي وَضَعَه للخَلْق، ونَصَبَه لإقامةِ الحقّ، فلا تُخالِفْه في ميزانِه، ولا تُعارضْه في سلطانِه » ( غرر الحكم للآمدي:103 )، فيصرّح هو صلوات الله عليه أنّ الظلم يعني مخالفةَ الله في ميزانه، ومعارضتَه في سلطانه، وأمير المؤمنين أخشى لله من أن يخطر له ظلم ولو مَلَك به الدنيا أضعافاً، وهو القائل سلامُ الله عليه مِن قائل: « واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ بِما تحتَ أفلاكها، على أن أَعصيَ اللهَ في نملةٍ أسلُبُها جُلْبَ شَعيرةٍ ما فعلتُه. وإنّ دُنياكم عندي لأهونُ مِن ورقةٍ في فمِ جَرادةٍ تَقضَمُها. ما لِعليٍّ ولنعيمٍ يَفنى، ولذّةٍ لا تبقى ؟! نعوذُ باللهِ مِن سُبات العقل، وقُبحِ الزَّلَل، وبه نستعين » ( الخطبة 224 من نهج البلاغة ).
وفي الوقت الذي تحتاج العدالة إلى الزهد، تحتاج إلى الشجاعة في تحكيم الحقّ ومواجهة الباطل وأهله، ولكن قد تفرض الشجاعة على صاحبها روح الاستعلاء على الآخرين وظُلمَ حقوقهم والانتقام منهم ـ بهوى نفس أو عصبيّةٍ منه، أو قد تدفع الشجاعة إلى تحقيق المنافع الذاتيّة بالغصب والابتزاز من المستضعفين المقهورين.. وصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ قال: « آفةُ الشجاعة البغي » ( تحف العقول:13 ).
لكنّ شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام ممزوجةٌ بالإيمان والغَيرة والبصيرة والحكمة، والائتمار بما أمر الله والانتهاء عمّا نهى، وبالتقوى والورع والخشية من الله تعالى والخشوع الدائم في حضرته المقدّسة، فلم تكن شجاعته يوماً ما إلاّ في طاعة الله تعالى ونصرة دينه وتأييد رسوله وتحصين شرائعه وردع أعدائه، نزيهةً عمّا يُبتلى به الآخرون من الأهواء والأمزجة والعصبيات المقيتة. فوضع الإمام عليٌّ عليه السلام شجاعته في رفع راية الإسلام وإعلاء كلمة الله جلّ وعلا ودحض كلمة الكفر والشرك والضلال، ثمّ جعلها سلام الله عليه في إعانة الضعفاء الأبرياء المظلومين حتّى يأخذ لهم الحقّ، ومواجهة الظالمين حتّى يأخذ منهم الحقّ.
قال ابن عبّاس: دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يَخصِف نَعلَه، فقال لي: « ما قيمةُ هذه النَّعْل ؟ »، فقلت: لا قيمةَ لها، فقال عليه السلام: « واللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إليَّ مِن إمرتِكُم، إلاّ أن أُقيمَ حقّاً أو أدفعَ باطلاً » ( الخطبة 33 من نهج البلاغة ).
source : http://www.imamreza.net