ثانياً: الزهد والعزوف عن حبّ الدنيا:
وذلك من أوضح ما يكون في خصال أمير المؤمنين وخصائصه بين الصحابة، ولكن هل مِن فكرةٍ حول معنى الزهد وفضله ؟ نعم، نُوكل ذلك إلى الروايات الشريفة الواردة عن أهل بيت الرسالة:
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله « الزهدُ ليس بتحريم الحلال، ولكن أن يكون بما في يَدَيِ الله أوثقُ منه بما في يَدَيه » ( أي بما في يَدَي العبد. إعلام الدين في صفات المؤمنين للحسن بن أبي الحسن الديلمي: 293 ـ عنه: بحار الأنوار 174:77 / ح 8 ).
• وقال صلّى الله عليه وآله: « الزهدُ في الدنيا: قِصَرُ الأمل، وشكرُ كلِّ نعمة، والورعُ عن كلّ ما حرّم الله » ( تُحف العقول عن آل الرسول لابن شعبة الحرّاني:47 ـ عنه: بحار الأنوار 163:77 / ح 176 ).
• وعن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام قال: « الزهدُ كلمةٌ بين كلمتين من القرآن، قال الله تعالى: لِكَيلا تَأسَوا على ما فاتَكُم ولا تَفرَحُوا بِما آتاكُم [ سورة الحديد:23 ]، فَمَن لم يَأْسَ على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزهدَ بِطرَفَيه » ( نهج البلاغة: الحكمة 439 ـ عنه: بحار الأنوار 70:78 / ح 27 ).
• وعنه أيضاً سلام الله عليه: « يا ابنَ آدم، لا تأسَفْ على مفقودٍ لا يَردُّه إليك الفَوت، ولا تَفرَحْ بموجودٍ لا يتركه في يَدَيك الموت » ( تنبيه الخواطر لورّام:355 ).
• وفي دعائه من صحيفته المباركة، قال الإمام السجّاد عليُّ بن الحسين عليهما السلام: « اَللّهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآله، واجعَلْ ثنائي عليك ومدحي إيّاك وحَمْدي لك في كلِّ حالاتي؛ حتّى لا أفرَحَ بِما آتَيتَني من الدنيا، ولا أحزَنَ على ما منعتَني فيها » ( الدعاء العشرون ).
• وجاء في وصايا النبيّ صلّى الله عليه وآله قوله: « النارُ لِمَن رَكِب محرَّماً، والجنّة لمَن ترك الحلال ( أي لم ينغمر فيه إلى حدّ نسيان الآخرة )، فعليك بالزهد؛ فإنّ ذلك مِمّا يُباهي اللهُ به الملائكة، وبه يُقبِل اللهُ عليك بوجهه، ويُصلّي عليك الجبّار » ( مكارم الأخلاق لأبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي:448 ـ عنه: بحار الأنوار 98:77 / ح 1 ).
• وفي خصوص الإمام عليٍّ عليه السلام، قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: « يا عليّ، إنّ الله تعالى زيّنك بِزينةٍ لم يُزيّنِ العبادَ بزينةٍ هي أحبُّ إليه منها، زَهّدَك فيها، وبَغّضها إليك، وحَبَّب إليك الفقراءَ فَرَضِيتَ بهم أتْباعاً، ورَضُوا بك إماماً » ( بحار الأنوار 330:40 / ح 13 ـ عن: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة للإربلّي ).
فالزهد ـ لو تأمَّلْنا فيه ـ ضرورةٌ من ضرورات القضاء، وعاملٌ مهمّ من عوامل العدالة والإنصاف؛ لأنّ نفس الزاهد لا تميل إلى الحرام ولا استلابِ حقوق الآخرين، ولا تتحدّثُ في دواخلها في ظُلم أحدٍ؛ لأنّها قريبةٌ إلى الآخرة، والآخرة تعني العرض على الله جلّت عظمته، وتعني الحساب، والحساب بعده عقابٌ أو ثواب! ومَن ـ يا تُرى ـ يكون أزهدَ من رسول الله ووصيّه وأهل بيته صلوات الله عليهم وهم أهل الطاعة والتقوى والعبادة، ومنتهى الخشوع لله تبارك وتعالى ؟!
• قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضُمرة أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام: صِفْ لي عليّاً ( وذلك بعد شهادته عليه السلام )، فقال ضرار: اِعفِني، قال: لَتصِفَنَّه، قال ضرار: أمّا إذا كان لابدّ من وصفه، فإنّه كان بعيدَ المدى، شديدَ القُوى، يقول فصلاً، ويَحْكُم عدلاً، يتفجّر العلمُ من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزيرَ العَبْرة، طويلَ الفكرة، ويُعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جَشُب، وكان فينا كأحدنا، يُجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دَعَوناه، ونحن ـ واللهِ ـ مع تقريبه إيّانا وقُربهِ منّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، يُعظّم أهلَ الدين، ويُقرّب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عدله.
وأشهدُ لقد رأيتُه في بعض موافقه وقد أرخى الليلُ سُدولَه، وغارت نجومُه، قابضاً على لحيته يتململُ تَململَ السليم، ويبكي بكاءَ الحزين، وهو يقول:
« يا دنيا غُرّي غيري، أبِي تعرّضتِ، أم إليّ تشوّقتِ ؟! هيهات! قد باينتُكِ ثلاثاً لا رجعةَ فيها؛ فعُمرُكِ قصير، وخطرُكِ كبير، وعيشُكِ حقير. آهٍ مِن قلّة الزاد وبُعدِ السفرِ ووحشةِ الطريق! » ( تذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزي:70 ).
نعم، إنّ حال مَن انقطع انشداده إلى الدنيا أن تكون إرادته أقوى، فإذا حُبِي بالإيمان كان رجلاً عادلاً، فكيف مَن هو إمامٌ وصيّ، وخليفةٌ لأكرم نبيّ ؟!
إنّ عليّاً صلوات الله عليه أكبر وأسمى مِن أن تستَهوِيَه دنيا، أو يأخذَه ما يغبن أحداً ـ حاشاه ـ، أو يُعطيَ لنفسه ولذويه ما لا يُعطيه لغيره.. حاشاه، وهو القائل ـ وقد صدَقَ في كلّ ما قال ـ: « بئس الزادُ إلى المعاد، العُدوانُ على العباد » ( غرر الحكم للآمدي:150 ).
بل كان عليه السلام يُعطي من نفسه ومن حقّه للآخرين، فيومَ جاءه أخوه عقيل يقول له: تأخّر العطاءُ عنّا وغلا السعر، لِتَصِلْني، فقال عليه السلام له: « واللهِ ما لي ممّا ترى شيئاً إلاّ عطائي، فإذا خرج فهو لك ».
وكان عليه السلام يعطي من راحته واستراحته لرعيّته، فهذا الأصبغ بن نباتة أحد أصحابه يروي أنّه رجع يوماً مع الإمام عليّ عليه السلام ضُحىً، فصعد الإمام إلى غرفته، حتّى إذا مرّت لحظاتٌ خرج عليه السلام يتوكأ على الجدار يُريد الوضوء، فلمّا سأله الأصبغ عن عدم نومه أجابه عليه السلام قائلاً: « يا أصبغ، إذا نمتُ ليلاً ضيّعتُ نفسي، وإذا نمتُ نهاراً ضيّعتُ رعيّتي »؛ لأنّ ليل عليٍّ سلام الله عليه كان تهجّداً وقياماً بين يَدَي الله تبارك وتعالى، ونهاره كان خدمةً للناس وقضاءً لحوائجهم.
وأمّا الدنيا، فلم يأخذ منها لنفسه إلاّ ما كان في طاعة الله جلّ وعلا، فقد تركها لِمَن نسيَ ربَّه وآخرتَه! قال الإمام محمّد الباقر عليه السلام: « وُلّيَ خمسَ سنين، وما وَضَع آجُرّةً ولا لَبِنَةً على لَبِنَة، ولا أقطع قطيعاً، ولا أورَثَ بيضاءَ ولا حمراء ».
وترصّد غذاءَه عمرُو بنُ حُرَيث، فأتت الخادمة فضّةُ بِجِرابٍ مختوم، فأخرج عليه السلام منه خبزاً متغيّراً خشناً، فقال عمرو: يا فضّة، لو نَخَلتِ هذا الدقيق وطيّبتهِ، قالت: كنتُ أفعلُ فنهاني، وكنتُ أضعُ في جرابه طعاماً طيّباً فختم جرابه.
قال الراوي: ثمّ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام فَتّ ذلك الخبزَ الخشن في قصعةٍ وصبَّ عليه الماء، ثمّ ذرَّ عليه الملح، وحَسَر عن ذراعه، فلمّا فَرَغ قال لعمرو: « يا عمرو، لقد حانت هذه ( ومَدّ يدَه الشريفة إلى محاسنه )، وخَسِرتْ هذه أن أُدخلها النارَ من أجل الطعام. هذا يَجزيني » ( عن: ربيع الأبرار للزمخشري ).
أجَل، إنّه الرجل العارف الذي ترفّع عن الزوائل، فهو وليُّ الله صاحب الباقيات الصالحات، وهو العالم بمعاني كلمات الله، وقد خاطب اللهُ حبيبَه المصطفى صلّى الله عليه وآله بقوله: ولَلآخِرةُ خَيرٌ لكَ مِنَ الأُولى [ الضحى:4 ].
وأمير المؤمنين عليه السلام فوق ذلك كلّه، فحياتُه كلّها طاعات وعبادات وتوجّهات، وكلُّ ذلك عن معرفةٍ وإخلاصٍ وتوحيد، ليس فيه رغباتٌ دنيويّة، ولا شهواتٌ دَنيّة، وهو القائل سلام الله عليه من قائل يناجي ربَّه عزّوجلّ بِلُغة العاشق، وصراحة الواله الوامق: « ما عبدتُك خوفاً مِن نارك ولا طمعاً في جنّتك، ولكنْ وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتُك » ( بحار الأنوار 186:70 ـ تبيين ).
فَمِن رجلٍ هذه معرفته وتلك عبادته وتقواه، لا يُنتظَر منه إلاّ العدلُ الإلهيّ، ولا يُتوقَّع منه إلاّ إحقاقُ الحقّ وإبطال الباطل، وجبرُ كسر المظلومين، والأخذ على يد الظالمين، ولا يخطر على البال منه إلاّ الخيرُ والرحمة والإنصاف والعدالة والإحسان، وإلاّ إزاحةُ البغي والظلم والحيف والإجحاف والجزاف وامتهانِ حقوق الفقراء والمساكين والمحرومين والمستضعفين.
ومن هنا أحبَّه الناس في زمانه، وأحبّته الأجيال ـ وما تزال ولن تزال ـ بعد شهادته، وذلك إنباء الله عزّوجلّ فيه وقد قال عزّ مِن قائل: إنَّ الَّذين آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ سيَجعَلُ لَهمُ الرحمنُ وُدّاً [ سورة مريم:96 ].
• قال النيسابوري في ( تفسيره 520:2 )، وابن حجر الشافعي في ( الصواعق المحرقة:170 ) في ظلّ هذه الآية الشريفة: عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب.
• كذا روى عن ابن عباس المحبُّ الطبري الشافعيّ في كتابه ( ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى:89 ) بسنده عن ابن عبّاس أنّه قال: نزل قوله تعالى: إنَّ الَّذينَ آمنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ سيَجعَلُ لَهمُ الرحمنُ وُدّاً في عليّ بن أبي طالب، جعل اللهُ له ودّاً في قلوب المؤمنين. ( روى ذلك أيضاً: الشبلنجي الشافعي في: نور الأبصار في مناقب آل النبيّ المختار:112، وابن الصبّان في إسعاف الراغبين:109، والخطيب البغدادي في المناقب:188، وأبو بكر بن شهاب الدين الشافعي في رشفة الصادي من بحر بني النبيّ الهادي المسمّى بـ: الشاهد المقبول بفضل أبناء الرسول:25 ).
source : http://www.imamreza.net