الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام من أسرة كريمة، هي من أشرف وأسمى أسرة في دنيا العرب والإسلام، تلك الأسرة التي أنجبت خاتم النبيين وسيد المرسلين، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنجبت عظماء الأمة من الأئمة، وأعلام العلماء، وهي على امتداد التأريخ لا تزال مهوى أفئدة المسلمين وغيرهم، ومهبط الوحي والإلهام، ومبعث منهج الحق الذي تماوج في بطاح البيداء، وأودية الجبال وسفوح الروابي، فكان نورا على شاطئ السلام من مطلع الشمس حتى مغربها، تلك الأسرة التي كان يقودها سيد العرب عبد المطلب بن هاشم، حيث قال: لا ينزل المجد إلا في منازلنا * كالنوم ليس له مأوى سوى المقل وكما قال شاعر العرب - الفرزدق -: من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالمجد من بيت هذا ناله الأمم من هذه الأسرة التي أغناها الله بفضله، تفرع عملاق هذه الأمة، ومؤسس نهضتها الفكرية والعلمية، الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد ورث من عظماء أسرته خصالهم العظيمة، وسجاياهم السنية، فكانت صفاته الحميدة ملء فم الدنيا.
والده:
الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر، ابن الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين الشهيد سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيد شباب أهل الجنة ابن علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو غني عن التعريف، ورث المجد كابرا عن كابر، ومن أجدر بالإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن يفتخر بهذا النسب الرفيع المقدس، ويترنم بقول الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا - يا جرير - المجامع لم تمض فترة طويلة من اقتران السيدة أم فروة بالإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، حتى حملت وعمت البشرى أفراد الأسرة العلوية بالمولود الجديد، ولما أشرقت الأرض بنور ولادته سارعت القابلة لتزف البشرى إلى أبيه فلم تجده في البيت، وإنما وجدت جده الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فهنأته بالمولود الجديد وأخبرته القابلة بأن له عينين زرقاوين جميلتين، فتبسم الإمام (عليه السلام) وقال: إنه يشبه عيني والدتي (1). وبادر الإمام السجاد (عليه السلام) إلى الحجرة فتناول حفيده فقبله، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية، فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى. والبداية المشرقة للإمام الصادق (عليه السلام) أن استقبله جده، الذي هو خير أهل الأرض وهمس في أذنيه نشيد الولاء للإسلام الخالد.
والدته:
السيدة المعظمة الجليلة: فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وتكنى أم فروة، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولعل ذلك يفسر لنا معنى كلام الإمام (عليه السلام): لقد ولدني أبو بكر مرتين. الكافي:... عن إسحاق بن جرير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كانت أمي ممن آمنت واتقت وأحسنت، والله يحب المحسنين. قال (عليه السلام): وقالت أمي: قال أبي [الإمام الباقر (عليه السلام)]: يا أم فروة، إني لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرة، لأنا نحن فيما ينوبنا من الرزايا نصبر على ما نعلم من الثواب، وهم يصبرون على ما لا يعلمون (2). مرضها: في سنة تسعين من الهجرة انتشر مرض الجدري في يثرب، فأصاب مجموعة كبيرة من الأطفال، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) في السنة السابعة أو العاشرة من عمره، فخافت عليه أمه من العدوي، ففرت به إلى الطنفسة من ريف المدينة. ولما استقرت السيدة أم فروة مع ابنها الصادق فقد أصيبت هي بهذا المرض دون أن تشعر به في بادئ الأمر، فلما ظهرت عليها الأعراض، تنبهت إلى خطورة الموقف، ولم تهتم السيدة أم فروة بعلاج نفسها، وإنما كان همها الوحيد إنقاذ ولدها جعفر فأبعدته عنها إلى مكان آخر، وأخذت تعاني آلام أعراض المرض، وسريانه في جسمها. ولما انتهى الخبر إلى الإمام الباقر (عليه السلام)، أوقف بحوثه ودروسه العلمية واتجه لعيادة زوجته، وقبل أن يغادر المدينة زار قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا الله تعالى أن ينقذ زوجته أم فروة من هذا المرض. ولما انتهى إليها عظم عليها مجيئه، وخافت عليه من العدوي، وشكرته على تصدعه لزيارتها، والتفت إليها الإمام وبشرها بالسلامة، قائلا: لقد دعوت الله عز وجل عند قبر جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينجيك من هذا المرض، وإني واثق أن جدي لا يردني، وسيقضي لي حاجتي، فثقي بأنك ستشفين من هذا المرض، وأنا أيضا مصون منه إن شاء الله . واستجاب الله دعاء وليه الإمام، فقد عوفيت السيدة أم فروة من مرضها، ولم يترك أي أثر على جسمها. ومن الجدير بالذكر إن هذا المرض لا يصيب الكبار إلا نادرا، فإن أصابهم كان خطرا على حياتهم فلا ينجو منه إلا القليل (3)
مولده:
لقد أشرقت نور الإمامة، وفجر الإمام العظيم ينابيع العلم والحكمة والأخلاق، ولقد ازدهرت دنيا الإسلام بهذا المولود العظيم الذي تفرع من شجرة النبوة والدوحة الهاشمية، كما قال الشاعر: إذا ولد المولود منهم تهللت * له الأرض واهتزت إليه المنابر إنه من معدن الحكمة والعلم، ومن بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. لو كان يوجد عرف قبلهم * لوجدته منهم على أميال إن جئتهم أبصرت بين بيوتهم * كرما يقيك مواقف التسآل نور النبوة والمكارم فيهم * متوقد في الشيب والأطفال (4) اختلف المؤرخون في سنة ولادة الإمام الصادق (عليه السلام)، وما أدري هل هذا الاختلاف مقصود ومتعمد، أو غير مقصود؟ ولكن الثابت عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتأريخهم الراجح، أن ولادته كانت في يوم السابع عشر من ربيع الأول سنة 82 هعلى قول، أو غرة رجب، وفي أقوال أخرى أنه ولد بالمدينة المنورة سنة 80 هأو سنة 83 ه. بعد استعراض هذه الأقوال، نقول: إن القول المشهور عند شيعة أهل البيت هو اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول، وهو اليوم الذي ولد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما هو ثابت عند أئمة أهل البيت، وأهل البيت أدرى بما فيه، ومجمل القول فإن أئمة السير والتأريخ مجمعون على أن ولادته (عليه السلام) بين سنين ثلاثة 80 و82 و83 هجرية. اسمه وألقابه وكناه: الاسم: أما اسمه الشريف جعفر ، ونص كثير من المؤرخين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي سماه جعفر ولقبه بالصادق .
ألقابه:
1 - الصادق: لقبه بذلك جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه أصدق إنسان في حديثه وكلامه، وقيل أن المنصور الدوانيقي - ألد أعدائه - هو الذي أضفى عليه هذا اللقب، والسبب في ذلك حسبما يقول الرواة: إن أبا مسلم الخراساني طلب من الإمام الصادق (عليه السلام) أن يدله على قبر جده أمير المؤمنين ( عليه السلام) فامتنع، وأخبره أنه إنما يظهر القبر الشريف في أيام رجل هاشمي يقال له - أبو جعفر المنصور - وأخبر أبو مسلم المنصور بذلك في أيام حكومته وهو في الرصافة ببغداد، ففرح بذلك المنصور وقال: هذا هو الصادق (5).
2 - الصابر: ولقب بذلك لأنه صبر على المحن الشاقة والخطوب المريرة التي تجرعها من خصومه الأمويين والعباسيين. (6)
3 - الفاضل: لقب بذلك لأنه كان أفضل أهل زمانه وأعلمهم لا في شؤون الشريعة وإنما في جميع العلوم. (7)
4 - الطاهر: لأنه أطهر إنسان في عمله وسلوكه واتجاهاته. (8)
5 - عمود الشرف: لقد كان الإمام (عليه السلام) عمود الشرف، وعنوان الفخر والمجد لجميع المسلمين. (9)
6 - القائم: من ألقابه الشريفة، لقيامه بإحياء الدين والذب عن شريعة المسلمين (10)
7 - الكافل: إنما لقب بذلك لأنه كان كافلا للفقراء والأيتام والمحرومين، فقد قام بالإنفاق عليهم وإعالتهم. (11)
8 - المنجي: من ألقابه الكريمة، المنجي من الضلالة، فقد هدى من التجأ إليه، وأنقذ من اتصل به. هذه بعض ألقابه الكريمة التي تحكي بعض صفاته ومعالم شخصيته. (12)
كناه: وكني الإمام الصادق (عليه السلام):
1 - أبو عبد الله. 2 - أبو إسماعيل. 3 - أبو موسى. اسمه جعفر، وفي المناقب ومحاسن البرقي: قال الصادق (عليه السلام) لضريس الكناسي: لم سماك أبوك ضريسا؟ قال: كما سماك أبوك جعفرا، قال: إنما سماك أبوك ضريسا بجهل، لأن لإبليس ابنا يقال له ضريس، وإن أبي سماني جعفرا بعلم، على أنه اسم لنهر في الجنة، أما سمعت قول ذي الرمة؟: أبكى الوليد أبا الوليد أخا الوليد فتى العشيرة * قد كان غيثا في السنين وجعفرا غدقا وميرة (13)
ويلقب بالصادق، ولم يلقبه بهذا اللقب أحد من الناس، بل لقبه بذلك جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادق الأمين الذي (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). كما روي ذلك في علل الشرائع عن المفضل بن عمر، عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه: الصادق، فإنه سيكون في ولده سمي له، يدعي الإمامة بغير حقها ويسمى كذابا (14). وكذا في الخرائج والجرائح، وكفاية الأثر لعلي بن محمد علي الخزاز، حيث روى الأخير في ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام) حديثا مسندا عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال - في حديث طويل -: يخرج الله من صلبه - أي من صلب محمد بن علي الباقر (عليه السلام) - كلمة حق، ولسان صدق، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا نبي الله؟ قال: يقال له جعفر الصادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن علي، والراد عليه كالراد علي. وفي معاني الأخبار للشيخ الصدوق: سمي الصادق صادقا ليتميز من المدعي للإمامة بغير حقها، وهو جعفر بن علي الهادي، إمام الفطحية الثانية (15). وقد بلغ من شهرته (عليه السلام) بهذا اللقب أنه صار كالاسم له، حتى أنه ليستغني به عن ذكر اسمه ولقبه، ويعرف به إذا أطلق:الصادق جعفر ، وكذلك كنيته - بأبي عبد الله - صارت كالاسم له، يستغنى بها عن اسمه ولقبه لا سيما في الأحاديث، ويلقب أيضا بالفاضل، والقائم، والكامل، والمنجي، وغيرها. ويكنى أبا عبد الله، وأبا إسماعيل، وأبا إسحاق، وأبا موسى، والكنية الأولى هي أشهر كناه، وأكثرها ورودا في الروايات والأحاديث. ولعل ذكره بغير هذه الكنية كان بدافع التقية، فالظروف ما كانت تسمح بالتصريح باسم الإمام الصادق وكنيته المشهورة، ولهذا السبب كان البعض يستعمل الكنى غير المشهور بها رعاية للظروف.
نبوغه وذكائه:
كان الإمام الصادق (عليه السلام) نابغة زمانه، وآية من آيات الذكاء في سنيه المبكرة من صباه، فلم يجاريه أحد بمثل سنه على امتداد الزمن، وقد كان يحضر دروس أبيه وهو يافع لم يتجاوز عمره الشريف ثلاث سنين، وقد فاق بتلقيه لدروس أبيه جميع تلاميذه من كبار العلماء والرواة، مما أدهش الوليد بن عبد الملك عندما زار المدينة المنورة ووقف على حوزة أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) واستيعاب الإمام الصادق ما يلقيه أبوه من دروس، ومناقشته. ومن الجدير بالذكر أن دروس الإمام الباقر (عليه السلام) وبحوثه لم تقتصر على علم الحديث، والفقه، والتفسير فحسب، وإنما شملت جميع أنواع العلوم، من فلسفة، وطب، وعلم الكيمياء، وعلم النجوم والجغرافيا، والفلك وغيرها. وقد ألم بها الإمام الصادق (عليه السلام) إلماما كاملا، ومما يدل على ذلك ما نقله الرواة أن الوليد بن عبد الملك عندما زار المسجد النبوي بصحبة عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز، وقد رأى الإمام الباقر (عليه السلام) على المنبر يلقي دروسه ومحاضراته على تلاميذه، فسلم عليه، فرد الإمام السلام عليه، وتوقف عن الدرس تكريما له، فأصر الوليد عليه أن يستمر في تدريسه، وكان موضوع الدرس الجغرافيا فاستمع الوليد، وبهر من ذلك فسأل الإمام ما هذا العلم؟! . فأجابه الإمام (عليه السلام): إنه علم يتحدث عن الأرض والسماء والشمس والنجوم. ووقع نظر الوليد على الإمام جعفر الصادق، فسأل عامله عمر بن عبد العزيز: من يكون هذا الصبي بين الرجال؟! . فأجابه قائلا: إنه جعفر بن محمد ، وأسرع الوليد قائلا: هل هو قادر على فهم الدرس واستيعابه؟ ، فعرفه عمر بما يملك الصبي من قدرات علمية، قائلا: إنه أذكى من يحضر درس الإمام وأكثرهم سؤالا ونقاشا . بهر الوليد وتعجب، فاستدعاه بالوقت، فلما مثل بادر قائلا: ما اسمك؟ ، أجابه الصبي بطلاقة قائلا: اسمي جعفر . وأراد الوليد امتحانه، فقال له: أتعلم من كان صاحب المنطق ومؤسسه؟ فأجابه الصبي: كان أرسطو ملقبا بصاحب المنطق، لقبه إياه تلاميذه وأتباعه . ووجه الوليد إليه سؤالا ثانيا قائلا: من صاحب المعز؟ ، فأنكر عليه الإمام ذلك وقال: ليس هذا اسما لأحد، ولكنه اسم لمجموعة من النجوم، تسمى ذو الأعنة (16). واستولت الحيرة والذهول على الوليد، فلم يدر ما يقول، وتأمل كثيرا ليستحضر مسألة أخرى يسأل بها سليل النبوة، وحضر في ذهنه السؤال الآتي، فقال له: هل تعلم من صاحب السواك؟ ، فأجابه على الفور: هو لقب عبد الله ابن مسعود صاحب جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . ولم يستحضر الوليد مسألة يسأل بها الإمام، ووجد نفسه عاجزا أمام هذا العملاق العظيم، فراح يبدي إكباره وإعجابه بالإمام الصغير، ويرحب به وهو مرغم، وأمسك بيده، ودنا من الإمام الباقر (عليه السلام) يهنئه بولده قائلا: إن ولدك هذا سيكون علامة عصره (17). وصدق توسم الوليد، فقد أصبح الإمام جعفر الصادق نابغة عصره وأعلمهم على الإطلاق. وليس هناك تعليل مقنع لهذه الظاهرة، التي اتصف بها سليل النبوة في حال طفولته، إلا قول شيعة أهل البيت من أن الله تبارك وتعالى منح أئمة أهل البيت (عليهم السلام) العلم والحكمة في جميع أدوار حياتهم، كما منح أنبيائه ورسله، فإن الطفل بحسب تكوينه السايكولوجي من غير الممكن أن تكون له مثل هذه القدرات العلمية، ومهما اتصف بالذكاء الحاد. معرفته بجميع اللغات: وكان من السمات البارزة التي تميز بها في ذكائه ونبوغه، تعلمه في سنيه المبكرة لجميع لغات العالم، وكان يتكلم مع أهل كل لغة كأنه واحد منهم، وهذه بعضها:
1- النبطية. 2 - العبرية. 3 - الفارسية. 4 - معرفته بكل لغة. فقد روى أبان بن تغلب قال: غدوت من منزلي بالمدينة المنورة، وأنا أريد أبا عبد الله الصادق، فلما صرت بالباب وجدت قوما عنده لم أعرفهم، ولم أر قوما أحسن زيا منهم، ولا أحسن سيماء منهم [جالسين] كأن الطير على رؤوسهم، فجعل أبو عبد الله (عليه السلام) يحدثنا بحديث فخرجنا من عنده، وقد فهم خمسة عشر نفرا، متفرقوا الألسن، منهم العربي، والفارسي، والنبطي، والحبشي، ، فقال العربي: حدثنا بالعربية، وقال الفارسي: حدثنا بالفارسية، وقال الحبشي: حدثنا بالحبشية، وقال الصقلي: حدثنا بالصقلية. وأخبر (عليه السلام) بعض أصحابه بأن الحديث واحد، وقد فسره لكل قوم بلغتهم (18). ودار حديث بين الإمام وبين عمار الساباطي باللغة النبطية، فبهر عمار وراح يقول: ما رأيت نبطيا أفصح منك بالنبطية . فقال (عليه السلام) له: يا عمار، وبكل لسان (19). ولقد ملك الإمام الصادق (عليه السلام) في طفولته وشبابه وشيخوخته من النبوغ وقوة الذكاء ما لا يوصف، فقد فاق بهذه الظاهرة جميع عباقرة الأرض.
هيبته ووقاره:
كانت الوجوه تعنو لهيبة الإمام الصادق (عليه السلام) ووقاره، فقد حاكى هيبة الأنبياء، وجلالة الأوصياء، وما رآه أحد إلا هابه لأنه كانت تعلوه روحانية الإمامة، وقداسة الأولياء، وكان ابن مسكان وهو من خيار الشيعة الثقات، لا يدخل عليه شفقة أن لا يوافيه حق إجلاله وتعظيمه، فكان يسمع ما يحتاج إليه من أمور دينه من أصحابه، ويأبى أن يدخل عليه (20)، فقد غمرته هيبته. شمائله: في المناقب: كان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ربع القامة (بين الطول والقصر)، أزهر الوجه، حالك الشعر (الشديد السواد)، جعد أشم الأنف (ارتفاع قصبة الأنف وحسنها)، أنزع رقيق البشرة، دقيق المسربة (المسربة: الشعر وسط الصدر إلى البطن)، على خده خال أسود، وعلى جسده خيلان حمرة (خيلان: جمع خال، الشامة في البدن). وفي الفصول المهمة: صفته معتدل [القامة] آدم (الآدم: الأسمر)
وقد صدر كتاب حول الإمام الصادق (عليه السلام)، اشترك في تأليفه عدد من الشخصيات الغربية، باللغة الأجنبية، وترجم الكتاب إلى عدة لغات منها العربية والفارسية، باسم الإمام الصادق عند علماء الغرب ، وفي ذلك الكتاب شرح واف حول شمائل الإمام وصفاته وعلومه (عليه السلام).
نقش خاتمه:
الله خالق كل شيء (21). عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قوموا خاتم أبي عبد الله (عليه السلام) فأخذه أبي بسبعة، قال: قلت: بسبعة دراهم؟ قال: سبعة دنانير. عن محمد بن عيسى، عن صفوان، قال: أخرج إلينا خاتم أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، وكان نقشه: أنت ثقتي فاعصمني من خلقك. عن إسماعيل بن موسى، قال: كان خاتم جدي: جعفر بن محمد (عليه السلام) فضة كله، وعليه: يا ثقتي قني شر جميع خلقك (22). ابن الصباغ المالكي: نقش خاتمه ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أستغفر الله (23)
العدد القوية:
نقش خاتمه: الله عوني وعصمتي من الناس وقيل نقشه: أنت ثقتي فاعصمني من خلقك ، وقيل: ربي عصمني من خلقه (24). هذه مجمل ما عثرنا عليها من الروايات الواردة بهذا الشأن.
وصية الإمام الباقر لابنه الصادق (عليهما السلام)
) بعدة طرق، منها: الكافي، علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: إن أبي (عليه السلام) استودعني ما هناك (25). فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا، فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: *(يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)*. وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد، وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمعة وأن يعممه بعمامته، وأن يربع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحل عنه أطماره عند دفنه. ثم قال - للشهود -: انصرفوا، رحمكم الله. فقلت له: يا أبت - بعدما انصرفوا - ما كان في هذا بأن تشهد عليه؟ فقال: يا بني؟ كرهت أن تغلب، وأن يقال: إنه لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك حجة (26)
في ظلال جده وأبيه:
أدرك الإمام الصادق (عليه السلام) خمسة عشر سنة من حياة جده الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام)، وقد سمع الشيء الكثير منه، ومنها: أدعيته المذكورة في الصحيفة السجادية. فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) يوما لابنه: قم يا إسماعيل، فأتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه، فقام إسماعيل، فأخرج صحيفة كأنها الصحيفة التي دفعها إلي يحيى بن زيد، فقبلها الإمام أبو عبد الله، ووضعها على عينيه، وقال: وهذا خط أبي، وإملاء جدي (عليه السلام) بمشهد مني مما يستفاد منه أنه كان يحضر مجلس جده الإمام زين العابدين (عليه السلام) ويستمع إلى أحاديثه وأماليه. كما أن الإمام الصادق (عليه السلام) عاش في خدمة والده وتحت ظله أربعا وثلاثين سنة، وكان يتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، ويرافقه في حله وترحاله، في سفره وحضره، مرافقة التلميذ أستاذه، وكان صامتا، ولا يتصرف في شيء من الشؤون في حضرة والده، وكثيرا ما كان الوالد يهدي لولده أفضل المواعظ، وأغلى النصائح، وأحسن الدروس في الحكم والمعرفة. وليس معنى ذلك أنه (عليه السلام) كان يجهل تلك الأمور، فقد يكون سرد المواعظ والنصائح من الإمام إلى آخر من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة . هذا ما كان من علاقة الإمام الصادق بجده وأبيه (عليهم السلام).
زوجاته وأخوته وأولاده :
أما ما يتعلق بزوجاته وجواريه، فقد تزوج بعدة حرائر، واشترى بعض الجواري، وإليك بعض تفصيل ذلك.
1 - تزوج بالسيدة فاطمة بنت الحسين بن الإمام زين العابدين، فهي بنت عمه، وقيل: فاطمة بنت الحسين الأثرم ابن الإمام الحسن (عليه السلام) (27).2 - أم حميدة، أو حميدة المصفاة البربرية. 3- أم مالك بن أنس. كما في المناقب : سأل سيف الدولة عبد الحميد المالكي قاضي الكوفة عن مالك؟ فوصفه وقال: وكان جربند جعفر الصادق، أي الربيب (ابن الزوجة). 4 - أم أبي حنيفة. قال أبو عبد الله المحدث: إن أبا حنيفة من تلامذته، وإن أمه كانت في حبال الإمام الصادق (28). 5 - أم وهب بن وهب أبي البختري. 6 - أم سالمة. وإليك صفات بعض أحوال زوجاته. قال ابن شهرآشوب في المناقب: حميدة المصفاة، ابنة صاعد البربري، ويقال: إنها أندلسية، أم ولد، تكنى لؤلؤة... الخ (29)
الكافي... عن المعلى بن خنيس: أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال: حميدة مصفاة من الأدناس، كسبيكة لذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي ، كرامة من الله لي والحجة من بعدي (30). الكافي... حدثنا عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: دخل ابن عكاشة ابن محصن الأسدي، على أبي جعفر (عليه السلام) وكان [ابنه] أبو عبد الله (عليه السلام) قائما عنده، فقدم إليه عنبا [فأكل]. فقال لأبي جعفر (عليه السلام): لأي شيء لا تزوج أبا عبد الله فقد أدرك التزويج؟ قال (عليه السلام) - وبين يديه صرة مختومة -: سيجئ نخاس (النخاس: بائع الرقيق.) من أهل بربر فينزل دار ميمون، فنشتري له بهذه الصرة جارية. قال: فأتى لذلك ما أتى، فدخلنا يوما على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم؟ قد قدم، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية، قال: فأتينا النخاس، فقال: قد بعت ما كان عندي إلا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى (أمثل: أي تماثلت للشفاء). قلنا: فأخرجهما حتى ننظر إليهما، فأخرجهما. فقلنا: بكم تبيعنا هذه المتماثلة؟ قال: بسبعين دينارا، قلنا: أحسن، قال: لا أنقص من سبعين دينارا؟ قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت، ولا ندري ما فيها. ففككنا [الصرة] ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون دينارا، لا تزيد ولا تنقص، فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر (عليه السلام) وجعفر قائم فأخبرنا أبا جعفر بما كان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لها: ما اسمك؟ قالت: حميدة.
فقال (عليه السلام): حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة، أخبريني عنك أبكر أنت أم ثيب؟ قالت: بكر... فقال (عليه السلام): يا جعفر خذها إليك، فولدت خير أهل الأرض: الإمام موسى ابن جعفر (عليهما السلام) (31). وكذلك في الخرائج والجرائح (32)
إخوته:كان للإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أولاد من أمهات شتى، أكبرهم جعفر الذي يكنى به، وشقيقه عبد الله، وأمهما: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، كما أسلفنا، وإبراهيم، وعبيد الله، درجا (33)، أمهما أم حكيم بنت أسد بن المغيرة الثقفية، وعلي، وزينب، لأم ولد، وأم سلمة، لأم ولد. وقيل:إن زينب هي أم سلمة، حكاه صاحب أعلام الورى. وقال ابن شهرآشوب في المناقب: أولاده سبعة، وعددهم. وكذا قال الشيخ المفيد في الإرشاد، إلا أنه قال: وعبد الله الأفطح (34)، ثم قال: درجوا كلهم إلا أولاد جعفر الصادق.
أولاده:
كان للإمام الصادق (عليه السلام) من الأولاد عشرة، من أمهات شتى، سبعة ذكور وثلاثة إناث، وقيل: أحد عشر بزيادة بنت أخرى، وهم: إسماعيل الأعرج - ويقال له: إسماعيل الأمين (35) - وعبد الله الأفطح وأسماء - وتكنى بأم فروة -، وهؤلاء الثلاثة اختلف في أمهم، فقال المفيد: إنها فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن أبي طالب، وقال الحافظ الجنابذي: إنها فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، والإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ومحمد الديباج وإسحاق وفاطمة الكبرى - على خلاف -، وأمهم أم ولد اسمها حميدة البربرية، والعباس وعلي العريضي وأسماء وفاطمة الصغرى، لأمهات شتى. وعن المناقب: أن أم فروة هي نفسها أسماء. وفي بحار الأنوار 40: 241، عن كشف الغمة: أما أولاده فكانوا سبعة: ستة ذكور وبنت واحدة، وقيل أكثر من ذلك، وعلى هذا يكون الخلاف في أبنائه بين التسعة والأحد عشر. والمشهور ما ذكره الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد، قال: وكان أولاد أبي عبد الله (عليه السلام) عشرة، سبعة ذكور وثلاث إناث، وهم: إسماعيل، وعبد الله، وأم فروة، أمهم فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي (عليهما السلام)، وموسى (عليه السلام)، وإسحاق، ومحمد لأم ولد (وتكنى أم حميدة)، والعباس، وعلي، وأسماء، وفاطمة، لأمهات شتى.
إسماعيل:كان إسماعيل أكبر أولاد الصادق (عليه السلام)، وكان شديد المحبة له والبر به والإشفاق عليه (36). وقد كان قوم من الشيعة في حياة الإمام الصادق ( عليه السلام) يظنون أنه القائم بعده، لميل أبيه الشديد إليه وإكرامه، ولأنه أكبر أولاده سنا، فمات في حياة أبيه (عليه السلام) في العريض، وحمل على رقاب الناس إلى المدينة، ودفن في البقيع. وكان إسماعيل رجلا كريما شجاعا جليلا، يحبه الإمام الصادق (عليه السلام) لفضائله وفواضله. حتى إنه (عليه السلام) قال للمفضل بن عمر، وهو من وكلائه وخواص أصحابه الثقات - وأبو الحسن موسى (عليه السلام) غلام -: هذا المولود - يعني موسى الكاظم - الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه، ثم قال: لا تجف إسماعيل (37). وقال (عليه السلام): كان القتل قد كتب على إسماعيل مرتين، فسألت الله تعالى في رفعه عنه فرفعه (38). وأقواله وأعماله التي كانت تنبئ عن ذلك الحب والعطف كثيرة، وحتى ظن قوم من الشيعة أنه القائم بعد أبيه بالإمامة، لذلك البر وتلك الرعاية، ولأنه أكبر إخوته سنا، وأكبر الإخوة سنا أحد علائم الإمامة، ولكن موته أيام أبيه أزال ذلك الظن. وأظهر الصادق (عليه السلام) بموت إسماعيل عجبا، فإنه بعد أن مات وغطي، أمر بأن يكشف عن وجهه وهو مسجى، ثم قبل جبهته وذقنه ونحره، ثم أمر به فكشف
وفعل به مثل الأول، ولما غسل وأدرج في أكفانه أمر به فكشف عن وجهه ثم قبله في تلك المواضع ثالثا، ثم عوذه بالقرآن، ثم أمر بإدراجه. وفي رواية أخرى أنه أمر المفضل بن عمر فجمع له جماعة من أصحابه حتى صاروا ثلاثين، وفيهم أبو بصير وحمران بن أعين وداود الرقي، فقال لداود: اكشف عن وجهه، فكشف داود عن وجه إسماعيل، فقال: تأمله يا داود فانظره أحي هو أم ميت؟ فقال: بل هو ميت. فجعل يعرض على رجل رجل حتى أتى على آخرهم، فقال: اللهم اشهد. ثم أمر بغسله وتجهيزه، ثم قال: يا مفضل احسر عن وجهه، فحسر عن وجهه، فقال: حي هو أم ميت؟ انظروه جميعكم، فقالوا: بل هو يا سيدنا ميت، فقال: شهدتم بذلك وتحققتموه؟ قالوا: نعم، وقد تعجبوا من فعله، فقال: اللهم اشهد عليهم. ثم حمل إلى قبره، فلما وضع في لحده قال: يا مفضل اكشف عن وجهه، فكشف فقال للجماعة: انظروا أحي هو أم ميت؟ فقالوا: بل ميت يا ولي الله، فقال: اللهم اشهد. ثم أعاد عليهم القول في ذلك بعد دفنه، فقال لهم: الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو؟ فقالوا: إسماعيل ولدك. فقال: اللهم اشهد (39). قد يعجب المرء من إصرار الإمام على أن يعرف الناس موت إسماعيل حتى لا تبقى شبهة ولا ريب بموته، ولكن لا عجب من أمر الإمام العالم بما سيحدث في هذا الشأن، إنه يعلم أن قوما سيقولون بإمامته لأنه الأكبر زعما منهم إنه لم يمت، فما فعل ذلك إلا ليقيم الحجة عليهم، وقد كشف بنفسه (عليه السلام) عن هذا السر، فإنه قال بعد أن وضع إسماعيل في لحده وأشهد القوم على موته: فإنه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله: ثم أومأ إلى موسى (عليه السلام)، ولما أن دفن إسماعيل وأشهدهم أخذ بيد موسى فقال: هو حق والحق معه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (40). وظهر على الصادق الحزن الشديد حين حضر إسماعيل الموت وسجد سجدة طويلة، ثم رفع رأسه فنظر إلى إسماعيل قليلا ونظر إلى وجهه، ثم سجد أخرى أطول من الأولى، ثم رفع رأسه فغمضه وربط لحييه وغطى عليه ملحفته، ثم قام ووجهه قد دخله شيء عظيم حتى أحس ذلك منه من رآه، وعلى إثر ذلك دخل المنزل فمكث ساعة، ثم خرج على القوم مدهنا مكتحلا وعليه ثياب غير التي كانت عليه، ووجهه قد تسرى عنه ذلك الأثر من الحزن، فأمر ونهى، حتى إذا فرغ من غسله دعا بكفنه فكتب في حاشيته: إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله (وما زال الناس يكتبون الشهادة على أكفان الموتى من ذلك اليوم، اقتداء بعمل الإمام، وقد بلغني عن بعض أهل الجمود أنهم يكتبون لكل ميت منهم: إسماعيل يشهد). فتعجب الناس من انقلاب حاله وذهاب ذلك الحزن الشديد، فبدر إليه بعض أصحابه قائلا: جعلت فداك، لقد ظننا أننا لا ننتفع بك زمانا لما رأيناه من جزعك؟ فقال (عليه السلام): إنا أهل بيت نجزع ما لم تنزل المصيبة، فإذا نزلت صبرنا. وقدم لأصحابه المائدة وعليها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان ودعاهم إلى الأكل وحثهم عليه، ولا يرون للحزن أثرا على وجهه، فقيل له في ذلك، فقال: وما لي لا أكون كما ترون وقد جاء في خبر أصدق الصادقين: إني ميت وإياكم. ولكنه لما حمل ليدفن تقدم سريره بغير حذاء ولا رداء، وهذا أعظم شعار للحزن، وكان يأمر بوضع السرير على الأرض يكشف عن وجهه يريد بذلك تحقيق
موته لدى الناس، فعل ذلك مرارا إلى أن انتهوا به إلى قبره (41). ولما فرغ من دفنه جلس والناس حوله وهو مطرق، ثم رفع رأسه فقال: أيها الناس إن هذه الدنيا دار فراق، ودار التواء، لا دار استواء، على أن لفراق المألوفحرقة لا تدفع، ولوعة لا ترد، وإنما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يقدم ولدا كان هو المقدم دون الولد، ثم تمثل بقول أبي خراش الهذلي: ولا تحسبن أني تناسيت عهده * ولكن صبري يا أميم جميل (42) ولما مات إسماعيل استدعى الصادق (عليه السلام) بعض شيعته وأعطاه دراهم وأمره أن يحج بها عن ابنه إسماعيل، وقال له: إنك إذا حججت عنه لك تسعة أسهم من الثواب ولإسماعيل سهم واحد (43). ومات إسماعيل بالعريض (بضم أوله وفتح ثانيه، من أعمال المدينة) وحمل على الرقاب إلى المدينة (44) وقبره فيها معروف، هدمه حكام آل سعود الوهابيون كما هدم قبور آبائه الأئمة في البقيع وإلى اليوم لم يسمح بإعادة البناء عليها. فتلك الأعمال من الصادق (عليه السلام) مع ابنه إسماعيل تدلنا على كبير ما يحمل له من الحب والبر والعطف، وعلى ما كان عليه إسماعيل من التقوى والفضل، ولكن هناك أحاديث قدحت في مقامه ووصمت قدسي ذاته، وإني لا أراها تعادل تلك الأحاديث السالفة، بل إن بعض الأخبار كشفت لنا النقاب عن كذب هذه الأخبار القادحة، أو أنها صدرت لغايات مجهولة لنا، فمن تلك الأحاديث الكاشفة، ما رواه في الخرائج والجرائح عن الوليد بن صبيح ، قال: جاءني رجل فقال لي: تعال حتى أريك ابن إلهك. فذهبت معه، فجاء بي إلى قوم يشربون، فيهم إسماعيل ابن جعفر، فخرجت مغموما فجئت إلى الحجر فإذا إسماعيل بن جعفر متعلق بالبيت يبكي قد بل أستار الكعبة بدموعه، فرجعت أشتد فإذا إسماعيل جالس مع القوم، فرجعت فإذا هو آخذ بأستار الكعبة قد بلها بدموعه، قال: فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: لقد ابتلي ابني بشيطان يتمثل على صورته. فهل يا ترى زكاة لإسماعيل أفضل من هذا الحديث، فلا بد إذن من طرح الأحاديث القادحة أو حملها على غايات غير ما دلت عليه بظاهرها، ولو كان إسماعيل كما قدحت فيه تلك الأحاديث لما لازمه الصادق (عليه السلام) في الحضر والسفر، ولنحاه كما نحى ابنه عبد الله. ولما مات إسماعيل انصرف عن القول بإمامته من كان يظن أن الإمامة فيه بعد أبيه. وحدث القول بإمامته بعد أبيه الصادق، والقائلون بإمامته يسمون بالإسماعيلية، وقد أشرنا وسنشير إلى هذه الفرقة.
وذكر هنا الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد أن الذين أقاموا على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ولا من الرواة عنه وكانوا من الأباعد والأطراف، ولما مات الصادق (عليه السلام) انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى (عليه السلام) بعد أبيه، وافترق الباقون فريقين، ففريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل، لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه، وأن الابن أحق بمقام الأب من الأخ، وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل، وهم اليوم شذاذ لا يعرف منهم أحد يومى إليه، وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان. وبالرغم من هذه التدابير اللازمة والشواهد الواضحة، قام بعض الناس بالتشكيك في موت إسماعيل، محاولين إثبات إمامته بعد أبيه. فكانت النتيجة تكوين مذهب جديد متشعب عن مذهب أهل البيت الشيعة الإمامية، ومنفصل عنه، وهو مذهب الإسماعيلية، وقد انقسم هذا المذهب إلى قسمين: ظاهرية: وهم المعروفون اليوم بالبهرة، وباطنية وهم معروفون بالأغاخانية، وهم منتشرون في العالم، وخاصة في بلاد الهند، وباكستان، وشرقي إفريقيا. ويعترفون في مذهبهم بستة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الاثني عشر - حيث يقفون عند الإمام الصادق (عليه السلام) - ولا يعترفون بإمامة الستة الباقين (عليهم السلام). ولهم تأريخ مفصل، وأحكام فقهية تختلف عن فقه شيعة أهل البيت الإمامية اختلافا كثيرا، ولو أردنا الدخول في التفصيل، لطال بنا المقال وخرجنا عن الاختزال.
وقد وردت أحاديث كثيرة في شأن إسماعيل، ذكرها المرحوم العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني في الجزء الثاني من كتابه الإمام الصادق (عليه السلام) ، وهي تربو على الخمسة والعشرين مصدرا، من مختلف الميول والنزعات، فراجع.
عبد الله الأفطح:
إنما سمي بالأفطح لأنه كان أفطح الرأس أو أفطح الرجلين، أي عريض الرأس، أو عريض القدمين واسع بين الرجلين والفخذين. كان عبد الله أكبر ولد الصادق (عليه السلام) بعد إسماعيل، ومن ثم اشتبه الأمر على فئة فقالوا بإمامته، لأن الإمامة في الأكبر وجهلوا أنها في الأكبر ما لم يكن ذا عاهة، وعبد الله كان أفطح الرجلين، ولذا سمي الأفطح، والقائلون بإمامته - الفطحية -. وكان متهما في الخلاف على أبيه في الاعتقاد، ويقال إنه يخالط الحشوية ويميل إلى مذهب المرجئة ، ولذلك لم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام (45). ولربما عاتبه أبوه ولأمه ووعظه، ولكن ما كان ليجدي معه ذلك الوعظ والعتب، وقد قال له يوما: ما منعك أن تكون مثل أخيك، فوالله إني لأعرف النور في وجهه؟ فقال عبد الله: لم أليس أبي وأبوه واحدا وأمي وأمه واحدة؟! فقال له الصادق (عليه السلام): إنه من نفسي وأنت ابني (46)
أحسب أنه أراد الصادق (عليه السلام) من قوله أخيك : إسماعيل خاصة، ولذا أجابه عبد الله بقوله: أليس أبي وأبوه واحدا؟ وأمي وأمه واحدة؟ لأن أخاه من الأبوين هو إسماعيل لا موسى. وكفى بهذا الحديث دلالة على فضل إسماعيل وعلو مقامه عند الله وعند أبيه، وعلى جهل عبد الله وانحطاط منزلته عند الله وعند أبيه. وادعى عبد الله الإمامة بعد أبيه محتجا بأنه أكبر إخوته، ولقد أنبأ الصادق ولده الكاظم (عليهما السلام) بأن عبد الله سوف يدعي الإمامة بعده ويجلس مجلسه، وأمره ألا ينازعه ولا يكلمه لأنه أول أهله لحوقا به، فكان الأمر كما أنبأ (عليه السلام) (47). ولما ادعى الإمامة تبعه جماعة من أصحاب الصادق (عليه السلام) ورجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة موسى الكاظم (عليه السلام)، لما تبينوا ضعف دعواه، وقوة الحجة من أبي الحسن (عليه السلام) ودلالة إمامته (48). وممن دخل عليه مستعلما صحة دعواه هشام بن سالم ومؤمن الطاق، والناس مجتمعون حوله محدقون به، فسألاه عن الزكاة في كم تجب؟ فقال: في مائتين خمسة، قالا: ففي مائة؟ قال: درهمان ونصف، فقالا له: فوالله ما تقول المرجئة هذا، فرفع يده إلى السماء فقال: لا والله ما أدري ما تقول المرجئة، فعلما أنه ليس عنده شيء، فخرجا من عنده ضلالا لا يدريان أين يتوجهان، فقعدا في بعض أزقة المدينة باكيين حيرانين وهما يقولان: لا ندري إلى من نقصد، إلى من نتوجه، إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج، فبينا هما كذلك إذ رأى هشام شيخا لا يعرفه يؤمي إليه بيده، فخاف أن يكون من عيون المنصور، لأنه كان له جواسيس وعيون بالمدينة ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (عليه السلام) فيضربون عنقه، فقال لمؤمن الطاق: تنح عني فإني أخاف على نفسي وعليك، وإنما يريدني ليس يريدك، فتنح عني لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحى أبو جعفر غير بعيد، وتبع هشام الشيخ، فما زال يتبعه حتى أورده باب أبي الحسن موسى (عليه السلام)، ثم خلاه ومضى، فإذا خادم بالباب، فقال له: ادخل رحمك الله، فلما دخل قال له أبو الحسن (عليه السلام) ابتداء: إلي إلي إلي، لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج. ثم خرج هشام من عند الكاظم (عليه السلام) ولقي أبا جعفر مؤمن الطاق، فقال له: ما وراءك؟ قال: الهدى، فحدثه بالقصة، ثم لقي المفضل بن عمر وأبا بصير فدخلوا عليه وسلموا وسمعوا كلامه وسألوه ثم قطعوا عليه، ثم لقي هشام الناس أفواجا فكان كل من دخل عليه قطع عليه إلا طائفة مثل عمار الساباطي وأصحابه، فبقي عبد الله لا يدخل عليه إلا قليل من الناس، فلما علم عبد الله أن هشاما هو السبب في صد الناس عنه أقعد له بالمدينة غير واحد ليضربوه (49). وبقي عبد الله مصرا على دعوى الإمامة إلى أن مات، وما كانت أيامه بعد أبيه إلا سبعين يوما، فلما مات رجع الباقون إلى القول بإمامة أبي الحسن (عليه السلام) إلا شاذا منهم (50) وهم الذين لزمهم لقب الفطحية، وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد الله وهو أفطح الرجلين (51) أو أفطح الرأس، وانقطع أثر هذه الطائفة بعد ذلك العهد بقليل، وكان آخرهم بنو فضال.
إسحاق :
كان من أهل الفضل والصلاح، والورع والاجتهاد، وروى عنه الناس الحديث والآثار، وكان ابن كاسب إذا حدث عنه يقول: حدثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر، وكان يقول بإمامة أخيه موسى (عليه السلام)، وروىعن أبيه النص على أخيه موسى (عليه السلام)، كما روى النص بها عليه من إخوته علي بن جعفر أيضا، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان (52). وفي الكافي والخصال: وكان إسحاق من شهود الوصية التي أوصى بها الكاظم (عليه السلام) إلى ابنه الرضا (عليه السلام)، ومما يشهد لفضله وورعه مدافعته عن الرضا (عليه السلام)، فإنه لما مضى الكاظم (عليه السلام) قدم أبناء الكاظم أخاهم الرضا إلى القاضي، فقال العباس ابن موسى (عليه السلام): أصلحك الله وأمتع بك، إن في أسفل الكتاب كنزا وجوهرا، ويريد أن يحتجبه، ويأخذه هو دوننا، ولم يدع أبونا (رحمه الله) شيئا إلا ألجأه إليه وتركنا عالة، ولولا أني أكف نفسي لأخبرتك بشيء على رؤوس الملأ، فوثب إليه إبراهيم ابن محمد (الظاهر أنه ابن إسماعيل بن الصادق عليه السلام) فقال: إذن والله تخبر بما لا نقبله منك، ولا نصدقك عليه، ثم تكون عندنا ملوما مدحورا، نعرفك بالكذب صغيرا وكبيرا، وكان أبوك أعرف بك لو كان فيك خير، وإن كان أبوك لعارفا بك في الظاهر والباطن، وما كان ليأمنك على تمرتين، ثم وثب إليه عمه إسحاق بن جعفر هذا فأخذ بتلابيبه فقال له: إنك لسفيه ضعيف أحمق، أجمع هذا مع ما كان بالأمس منك، وأعانه القوم أجمعون (53) وممن روى عنه غير ابن كاسب وابن عيينة جماعة: منهم بكر بن محمد الأزدي، ويعقوب بن جعفر الجعفري، وعبد الله بن إبراهيم الجعفري، والوشاء (أما بكر فهو ممن روى عن الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام)، وكان من ثقات الرواة وروى عن الثقات، وأما يعقوب فهو يروي عن إسحاق وروى عنه الكليني في باب مولد أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) وفي باب السحاق من أبواب النكاح، وهذا مما يشهد لوثاقته، ولكن أرباب الرجال لم يذكروا له ترجمة مستقلة، وما أكثر من أهملوه، وهو ابن جعفر بن إبراهيم بن محمد ابن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأما عبد الله فهو عم يعقوب المتقدم، وهو أبو محمد الثقة الصدوق، وأما الوشاء فهو الحسن بن علي بن زياد من أصحاب الرضا (عليه السلام) ورواته الثقات.)
محمد:
كان محمد سخيا شجاعا، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وقالت زوجته خديجة بنت عبد الله بن الحسين (ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام): ما خرج من عندنا محمد يوما قط في ثوب فرجع حتى يكسوه، وكان يذبح كل يوم كبشا لأضيافه (54)، وكان يسمى الديباجة لحسن وجهه وجماله (55). وكان يرى رأي الزيدية في الخروج بالسيف، وخرج على المأمون في سنة 199 بمكة واتبعته الزيدية والجارودية (56). ولما بويع له بالخلافة ودعا لنفسه، ودعي بأمير المؤمنين، دخل عليه الرضا (عليه السلام) فقال له: يا عم لا تكذب أباك وأخاك، فإن هذا الأمر لا يتم، ثم لم يلبث قليلا حتى خرج لقتاله عيسى الجلودي فلقيه فهزمه، ثم استأمن إليه، فلبس السواد (وهو شعار العباسيين، فكأنه أراد أن يجعل شعاره كشعارهم، أما العلويون فكان شعارهم الخضرة.) وصعد المنبر فخلع نفسه وقال: إن هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق (57). ولما أراد الموافقة مع جيش الجلودي أرسل الرضا إليه مولاه مسافرا وقال له: قل له لا تخرج غدا فإنك إن خرجت غدا هزمت وقتل أصحابك، وإن قال لك من أين علمت غدا فقل رأيت في النوم، فلما أتاه ونهاه عن الخروج وسأله عن سبب علمه بذاك وقال له رأيت في النوم، قال محمد: نام العبد فلم يغسل استه، فكان الأمر كما أعلمه به مسافر عن الإمام (58). ولما خلع نفسه وتخلى عن الأمر أنفذه الجلودي إلى المأمون، ولما وصل إليه أكرمه المأمون وأدنى مجلسه منه، ووصله وأحسن جائزته، فكان مقيما معه بخراسان يركب إليه في موكب من بني عمه، وكان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيته. وأنكر المأمون يوما ركوبه إليه في جماعة من الطالبيين، الذين خرجوا على المأمون في سنة 200 فأمنهم، فخرج التوقيع إليهم: لا تركبوا مع محمد بن جعفر واركبوا مع عبد الله بن الحسين، فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلهم، فخرج التوقيع:
اركبوا مع من أحببتم، فكانوا يركبون مع محمد بن جعفر (عليه السلام) إذا ركب إلى المأمون وينصرفون بانصرافه (59). ولما خرج على المأمون جفاه الرضا ( عليه السلام) وقال: إني جعلت على نفسي ألا يظلني وإياه سقف بيت، ويقول عمر بن يزيد وكان حاضرا عند أبي الحسن (عليه السلام): فقلت في نفسي هذا يأمر بالبر والصلة، ويقول هذا لعمه، فنظر إلي فقال: هذا من البر والصلة، إنه متى يأتيني ويدخل علي يقول في فيصدقه الناس، وإذا لم يدخل علي ولم أدخل عليه لم يقبل قوله إذا قال (60). ومن معاجز أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في شأن محمد أن محمدا مرض فأخبروا الرضا (عليه السلام) أنه قد ربط ذقنه، فمضى إليه ومعه بعض أصحابه، وإذا لحياه قد ربطا وإذا إسحاق أخو محمد وولده وجماعة آل أبي طالب يبكون، فجلس أبو الحسن عندرأسه ونظر في وجهه فتبسم، فنقم من كان في المجلس على أبي الحسن، فقال بعضهم: إنما تبسم شامتا بعمه، ولما خرج ليصلي في المسجد قال له أصحابه: جعلنا فداك، قد سمعنا فيك من هؤلاء ما نكرهه حين تبسمت، قال أبو الحسن (عليه السلام): إنما تعجبت من بكاء إسحاق وهو والله يموت قبله ويبكيه محمد، فبرئ محمد ومات إسحاق (61). ولما كانت خراسان دار مقره لم تخضع نفسه لوجود ذي الشوكة والتاج فيها - أعني المأمون - فكان إباؤه يأبى له من الرضوخ وإن كان سجين البلد ومغلوبا على أمره، فإنه أخبر يوما بأن غلمان ذي الرياستين (هو الفضل بن سهل وزير المأمون، وسمي ذا الرياستين لجمعه بين رياستي السيف والقلم) قد ضربوا غلمانه على حطب اشتروه، فخرج متزرا ببردين ومعه هراوة يرتجز ويقول: الموت خير لك من عيش بذل وتبعه الناس حتى ضرب غلمان ذي الرياستين وأخذ الحطب منهم، فرفعوا الخبر إلى المأمون، فبعث إلى ذي الرياستين فقال: ائت محمد بن جعفر فاعتذر إليه وحكمه في غلمانك، فخرج ذو الرياستين إلى محمد، فقيل لمحمد: هذا ذو الرياستين قد أتى، فقال: لا يجلس إلا على الأرض، وتناول بساطا كان في البيت فرمى به هو ومن معه ناحية، ولم يبق في البيت إلا وسادة جلس عليها محمد، فلما دخل عليه ذو الرياستين وسع له محمد على الوسادة فأبى أن يجلس عليها وجلس على الأرض فاعتذر إليه وحكمه في غلمانه. وتوفي محمد بن جعفر في خراسان، فركب المأمون ليشهده، فلقيهم وقد خرجوا به، فلما نظر إلى السرير نزل فترجل ومشى حتى دخل بين العمودين فلم يزل بينهما حتى وضع، فتقدم وصلى عليه، ثم حمله حتى بلغ به القبر، ثم دخل قبره فلم يزل فيه حتى بني عليه، ثم خرج فقام على القبر حتى دفن، فقال له عبد الله بن الحسين ودعا له: يا أمير المؤمنين، إنك قد تعبت اليوم فلو ركبت، فقال المأمون: إن هذه رحم قطعت من مائتي سنة. وكان عليه دين كثير، فأراد إسماعيل بن محمد اغتنام هذه الفرصة من المأمون ليسأله قضاء دينه، فقال لأخيه وهو إلى جنبه والمأمون قائم على القبر: لو كلمناه في دين الشيخ، فلا نجده أقرب منه في وقته هذا، فابتدأهم المأمون فقال: كم ترك أبو جعفر من الدين؟ فقال له إسماعيل: خمسة وعشرون ألف دينار، فقال له: قد قضى الله عنه دينه، إلى من أوصى؟ فقالوا له: إلى ابن له يقال له يحيى بالمدينة، فقال: ليس هو بالمدينة هو بمصر، وقد علمنا بكونه فيها، ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة لئلا يسوؤه ذلك، لعلمه بكراهتنا لخروجه عنها (62). ولمحمد ابن جعفر تأريخ مفصل مذكور في مقاتل الطالبيين وغيره من كتب السير والتراجم والحديث.
علي:
بلغ علي بن جعفر من الجلالة شأوا لا يلحق، ومن الفضل محلا لا يسبق، وأما حديثه وثقته فيه، فهو مما لا يختلف فيه اثنان، ومن سبر كتب الحديث عرف ما له من أخبار جمة يرويها عن أخيه الكاظم (عليه السلام) تكشف عن علم ومعرفة. وقال فيه الشيخ المفيد طاب ثراه في إرشاده: وكان علي بن جعفر راوية للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، لزم أخاه موسى (عليه السلام)، وروى عنه شيئا كثيرا من الأخبار، وقال في النص عليه، وكان شديد التمسك به، والانقطاع إليه، والتوفر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات سماعا عنه، والنص على أخيه الكاظم (عليه السلام). روى عن أخويه إسحاق وعلي ابني جعفر، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان. ومن شدة ورعه اعترافه بالأئمة بعد أخيه الكاظم (عليه السلام) مع كبر سنه وجلالة قدره، وكبير فضله، ولم تثنه هذه الشؤون عن الاعتراف بالحق والعمل به، بل زادته بصيرة وهدى. كانرجل يظن فيه علي بن جعفر أنه من الواقفة، سأله عن أخيه الكاظم فقال له علي: إنه قد مات، فقال له السائل: وما يدريك بذلك؟ قال له: اقتسمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق بعده، قال: ومن الناطق بعده؟ قال علي: ابنه، قال: فما فعل؟ قال له: مات، قال: وما يدريك أنه مات؟ قال علي: قسمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده، قال: ومن الناطق من بعده؟ قال علي: ابنه أبو جعفر، فقال له الرجل: أنت في سنك وقدرك وأبوك جعفر ابن محمد (عليهما السلام)، تقول هذا القول في هذا الغلام، فقال له علي: ما أراك إلا شيطانا، ثم أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء ثم قال: فما حيلتي إن كان الله رآه أهلا لهذا، ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلا (63)! هذا لعمر الحق هو الورع، ورضوخ النفس للحق، وعدم الاغترار بشؤون التقدم من الفضل والسن والجلالة، التي قد تغتر النفس الأمارة بما دونها من الخصال العالية. وكان يعمل أبدا مع أبي جعفر عمل المأموم العارف بمنزلة الإمام، دون أن يحجزه عن هذا أنه عم أبيه، بل ربما تمنى أن يفديه بنفسه، فقد روي أنه أراد أبو جعفر (عليه السلام) ليفتصد ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي يبدأني لتكون حدة الحديد في قبلك، ثم أراد أبو جعفر (عليه السلام) النهوض فقام علي بن جعفر فسوى له نعليه حتى يلبسهما (64) ودخل أبو جعفر (عليه السلام) يوما مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فلما بصر به علي بن جعفر وثب بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه، فقال له أبو جعفر: يا عم، إجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع أبو جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل، فقال: اسكتوا، إذا كان الله عز وجل - وقبض على لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله! نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد (65). هذه هي النفس القدسية التي عرفت الحق فاتبعته، وما اقتفت أثر الحمية والعصبية، واغترت بالنفس، بل كان من حب النفس أن يطبع المرء خالقه جل شأنه في أوليائه وأولي الأمر من عباده. هذه بعض حال علي بن جعفر التي تكشف عما انطوى عليه ضميره من القدس والنسك والطاعة والعلم بالله وبالحجج من خلقه. وكان رضوان الله عليه يسمى بالعريضي، نسبة إلى العريض - بضم وفتح - محل قرب المدينة كان يسكنه، وبه مات إسماعيل، ولعلي أولاد ينسبون إليه بعنوان العريضي. وقد اختلف في موضع قبره على ثلاثة أقوال. فقيل: إنه بالعريض في المدينة، وقيل: في سمنان، وقيل: في قم، والأول هو المشهور، قال النوري في المستدرك (3: 626): الحق أن قبره بالعريض، كما هو معروف عند أهل المدينة، وقد نزلنا عنده في بعض أسفارنا، وعليه قبة عالية، ويساعده الاعتبار، وأما الموجود في قم،فيمكن أن يكون لواحد من أحفاده. وقال السيد الأمين في الأعيان (8: 177): الحق أن قبره بالعريض في ناحية المدينة، كما هو معروف عند أهل المدينة، وعليه قبة عالية، وقبره مزور، والظاهر أن القبر الذي في قم والذي في سمنان لشخصين آخرين مشاركين له في الاسم واسم الأب، فتبادر الذهن إلى الفرد الأكمل كما يقع كثيرا ويحصل به الاشتباه.
العباس:
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في إرشاده: وكان العباس بن جعفر (رحمه الله) فاضلا نبيلا (66)، قلت: ولم أظفر بشيء من أحواله غير هذه النبذة التي أوردها الشيخ المفيد طاب ثراه. موسى الكاظم (عليه السلام): وهو الإمام بعد أبيه الصادق (عليه السلام) على رأي الإمامية .
المصادر :
> 1- الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: 72
2- الكافي 1: 472
3- الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: 89 - 90
4- زهر الآداب: 58
5- أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 91
6- مرآة الزمان 5: الورقة 166
7- مرآة الزمان 5: الورقة 166
8- مرآة الزمان 5: الورقة 166، من مصورات مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة - النجف.
9- سر السلسلة العلوية: 34
10- مناقب آل أبي طالب 4: 281
11- مناقب آل أبي طالب 4: 281
12- مناقب آل أبي طالب 4: 281
13- مناقب آل أبي طالب 4: 277
14- علل الشرائع: 234
15- معاني الأخبار: 65
16- وهي تسمى اليوم أوريكا أو أوريجا
17- الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: 108 - 112
18- الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب: 46 - 47
19- الإختصاص: 283
20- الإختصاص: 203
21- مصباح الكفعمي: 523
22- مكارم الأخلاق: 85
23- الفصول المهمة 2: 219
24- العدد القوية: 148، الحديث 65
25- أي استودعني من مواريث الأنبياء ومن الكتب والصحف وغيرها
26- الكافي 1: 307
27- كشف الغمة 2: 161
28- مناقب آل أبي طالب 4: 248
29- مناقب آل أبي طالب 4: 323
30- الكافي 1: 477، الحديث 2. ولعل الأصح: من الله لي وللحجة من بعدي
31- الكافي 1: 476، الحديث 1
32- الخرائج والجرائح 1: 286، الحديث 2
33- درج الرجل: إذا مات ولم يخلف نسلا
34- المعروف أن عبد الله الأفطح من ولد الإمام الصادق وليس من إخوته
35- كشف الغمة 2: 311، مناقب آل أبي طالب 4: 361
36- إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه: 284
37- الكافي، كتاب الحجة، باب النص على الكاظم (عليه السلام) 1: 309، الحديث 8
38- رجال الشيخ أبي علي
39- بحار الأنوار 47: 254
40- بحار الأنوار 1: 188
41- إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه: 285
42- إكمال الدين 10: 63، والأمالي، للشيخ الصدوق: 237
43- بحار الأنوار 47: 255
44- إرشاد الشيخ المفيد: 285
45- إرشاد الشيخ المفيد: 285
46- الكافي، كتاب الحجة، باب النص على الإمام الكاظم (عليه السلام) 1: 310، الحديث 10
47- بحار الأنوار 47: 261، الحديث 29، والكشي: 165
48- إرشاد الشيخ المفيد: 285، والكشي: 165
49- رجال الكشي: 165
50- رجال الكشي: 165
51- إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه: 286
52- إرشاد الشيخ المفيد في أحوال الصادق والكاظم (عليهما السلام): 289
53- الكافي، كتاب الحجة، باب النص على الرضا (عليه السلام) 1: 318
54- إرشاد الشيخ المفيد في أحواله: 286
55- كتب الرجال في ترجمته
56- الإرشاد: 286
57- بحار الأنوار 47: 246، الحديث 5
58- الإرشاد: 314
59- الإرشاد: 286
60- بحار الأنوار 47: 246، الحديث 4
61- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 206، الحديث 7
62- إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه: 287
63- الكشي: 429 / 803
64- الكشي: 429 / 804
65- الكافي 1: 322، الحديث 12 ولا يراد من العبودية في مثل المقام الرقية والملكية، بل الطاعة والامتثال .
66- إرشاد الشيخ المفيد: 287