جزيرةالعرب.. موقعها الجغرافي، والوضع الاجتماعي والحضاري
شبه جزيرة العرب التي تسمى أيضاً >جزيرة العرب<اكبر شبه جزيرة في العالم، وتقع في الجنوب الغربي من قارّة آسيا.
تمتد شبه جزيرة العرب من الشمال الغربي الى الجنوب الشرقي على شكل متوازي مستطيلات غير منتظم . وتبلغ مساحتها ما يقارب ثلاثة ملايين ومائتي ألف كيلو متر مربّع . وتشكّل المملكة العربية السعودية الحالية ما يناهز أربعة اخماس شبه جزيرة العرب . ويتألف القسم المتبقّي من ستة كيانات سياسية ـ حسب التقسيم السياسي في الوقت الحاضر ـ وهي: اليمن، وعُمان، والامارات العربية المتّحدة، وقطر، والبحرين، والكويت.
يحد جزيرة العرب من الجنوب خليج عدن ومضيق باب المندب والمحيط الهندي وبحر عمان، ويحدّها من الغرب البحر الأحمر، ومن الشرق خليج عمان والخليج الفارسي والعراق، وتتاخمها من الشمال صحراء واسعة تنتهي بسهل الفرات من جهة وبالاراضي السورية من جهة اخرى. وبما ان هذه المنطقة خالية الحدود والتضاريس الطبيعية كالانهار والجبال، فقد اختلف الجغرافيون منذ القدم حول الحدود الشمالية لشبه جزيرة العرب .
ورغم وقوع شبه جزيرة العرب الى جوار الخليج الفارسي، وبحر عُمان، والبحر الاحمر، والبحر الابيض المتوسّط، غير ان مناخها قاس، وهواءها جاف، وليس في طول البلاد وعرضها مياه ـ عدا الاقسام الجنوبية ـ ولا أنهار صالحة للملاحة. وكل ما هناك اودية مشتبكة تتدفق فيها السيول عندما تطغى.
يُعزى جفاف شبه جزيرة العرب الى وجود سلسلة جبال تمتد من شبه جزيرة سيناء في موازاة البحر الاحمر وكأنها جدار عازل، وتلتف عند الزاوية الجنوبية الغربية، وتدور في موازاة الساحل الجنوبي والشرقي لجزيرة العرب. وهكذا فان جزيرة العرب محاطة بهذا الجدار الجبلي الشاهق من ثلاث جهات. وهذا الجدار هو الذي يصد رطوبة البحار ويمنعها من الوصول الى هذه المنطقة .
الجزيرة العربية من اشد البلاد جفافاً وحراً؛ وعلى الرغم من وقوعها بين بحرين من الشرق والغرب فان مساحة هذين البحرين أضيق من ان تكفي لكسر حدّة الجفاف المستمر في هذه الاقاليم الافريقية ـ الآسيوية العديمة المطر. ولئن كان المحيط الهندي في الجنوب يساعد على وقوع بعض المطر في اطراف الجزيرة، فان الرياح الموسمية المعروفة بالسموم التي تنتاب الجزيرة في مواسم معروفة تسلب الرطوبة من الهواء قبل ان يبلغ داخلية البلاد .
تقسيمات جزيرة العرب
قسّم الجغرافيون العرب وغيرهم، جزيرة العرب حسب الوضع الطبيعي (المناخ) تارة، وعلى أساس الاقوام والأنساب تارة اخرى .
وقسّمها بعض العلماء المعاصرين الى ثلاثة اقسام رئيسية وهي عبارة عمّا يلي:
1ـ القسم الوسطي الذي يُسمّى بالصحراء العربية.
2ـ القسم الشمالي وهو ما يُعرف باسم الحجاز.
3ـ القسم الجنوبي الذي يُعرف باسم اليمن .
تقسيمها على أساس الظروف الطبيعية (الجنوب والشمال)
فضلاً عن هذه التقسيمات، اعتُمِدت في السنوات الاخيرة تقسيمات اخرى تبدو اكثر انسجاماً مع طبيعة هذا الكتاب والغرض من تأليفه. ويقوم هذا التقسيم على الظروف المناخية التي تركت تأثيرها في أوضاع الناس، والحيوانات، والنباتات وقد برزت تأثيرات هذه الظروف في الخصائص الفردية والاجتماعية لاهالي هذه البلاد، وباتت منشأً لتحوّلات ظلت باقية الى حين ظهور الإسلام. بمعنى ان حزيرة العرب تمثل وجود ظاهرتين جغرافيّتين متخالفتين والمؤشر الذي يميّز كل واحدة منهما هو وجود أو انعدام الماء. وقد تركت هذه الميزة اثرها في الوضع الاجتماعي لهذه المنطقة، وفصلت المنطقة الجنوبية من هذه البلاد أي اليمن عن المنطقة الشمالية والوسطى.
وضع جنوب جزيرة العرب (اليمن)
لو ألقينا نظرة على خارطة هذه البلاد، لوجدنا في اقصى الجنوب الغربي لشبه جزيرة العرب منطقة على شكل مثلث يؤلف ضلعه الشرقي ساحل بحر العرب، وضعله الغربي ساحل البحر الاحمر. ولو رسمنا خطأ يمتد من الظهران (غرباً) الى وادي حضرموت (شرقاً) لظهر وكأنه الضلع الثالث لهذا المثلث. تقع ضمن هذه البقعة منطقة كانت تسمّى منذ القدم بـ >اليمن<، تكثر فيها المياه وتهطل فيها الامطار بانتظام؛ ولهذا السبب كانت منطقة زراعية مزدهرة وتقطنها اعداد غفيرة من السكّان. ولهذا السبب فهي لا تكاد تُقارن على هذا الصعيد بشمال ووسط جزيرة العرب.
ومن الطبيعي ان كثرة السكان تتطلب وجود موطن دائم للسكنى، وهذا ما يستدعي بطبيعة الحال نشوء القرى والمدن. واجتماع الناس في تلك القرى والمدن يؤدّي الى حدوث ما لابد منه لمواصلة الحياة، ألا وهو الاحتكاك وتعارض المصالح. وهذا التعارض في المصالح يؤدّي الى وضع القوانين والانظمة (وان كانت بدائية وبسيطة). ونحن نعلم ان هناك تلازم بين وجود القانون وتأسيس الحكومة. وعلى هذا الأساس فقد ظهرت في هذه المنطقة قبل ولادة المسيح× بمئات السنين دول وحضارات . والدول التي قامت في هذه المنطقة هي:
1ـ الدولة المعينية: حكمت هذه الدولة من عام 1400 الى 850 قبل الميلاد، وانقرضت بظهور الدولة السبئية.
2ـ دولة حضرموت: استمرت هذه الدولة منذ عام 1020 قبل الميلاد الى عام 65 بعد الميلاد، وزالت مع تسلط سبأ.
3ـ الدولة السبئية: استمر سلطانها منذ عام 850 الى 115 قبل الميلاد، وانقرضت عند قيام دولة حمير وسبأ وريدان.
4ـ دولة قتبان: حكمت من عام 865 الى 540 قبل الميلاد وانقرضت على اثر استيلاء دولة سبأ عليها.
5ـ دولة سبأ وريدان وحضرموت واطراف اليمن، وكان يسمى ملوكها >تُبّع<واستمر حكمها من عام 115 قبل الميلاد إلى عام 523 بعد الميلاد، وكانت عاصمتها ظفار .
حضارة زاهرة في جنوب جزيرة العرب
أثنى المؤرخون كثيراً على الحضارة الزاهرة التي نشأت في اليمن، كما فعل المؤرخ اليوناني هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد حين تحدث عن حضارة اليمن ووصف قصور سبأ بأنها قصور نضرة ذات ابواب مسجدية مرصّعة بانواع الجواهر، وفيها اواني من الفضة والذهب وأسرّة مصنوعة من معادن ثمينة . وتحدث المؤرخون عن مساكن عامرة وقصور فاخرة في اليمن ومنها قصر غُمدان في صنعاء الذي كان يتألّف من عشرين طبقة بعشرين سَقفاً بين كل سقفين عشرين ذراعاً وجعل فيه مائة مسكن، وفيه ما لا يوصف من الزخارف والصنائع الغريبة وكان أعلى غرفه مُمَرداً بالقوارير .
وزار الرحالة الروماني الشهير (سترابون) أرضَ اليمن قبل قرن من الميلاد، ووصف هذه البلاد وحضارتها مثلما وصفها هيرودوتس قائلاً:
ان مأرب في زمانه كانت مدينة عجيبة، سقوف ابنيتها مصفّحة بالذهب والعاج والحجارة الكريمة. وفيها الآينة الثمينة المزخرفة مما يبهر العقول .
وتحدث مؤرخون وجغرافيون مسلمون من امثال المسعودي (المتوفى عام 346هـ)، وابن رُستة (من علماء القرن الثالث للهجرة) عن حياة الرخاء والازدهار التي كان ينعم بها أهالي هذه البلاد وما انتشر فيها من العمران قبل ظهور الإسلام .
أدّت الدراسات والبحوث التي اجراها علماء الآثار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وكذلك: التحقيقات التي قام بها المؤرخون، الى تسليط الضوء على تاريخ هذه المنطقة، وقدّمت وثائق وشواهد جديدة حول الحضارة العريقة الزاهرة لهذه البلاد، وتدل الاطلال والآثار المتبقية في ربوع عدن، وصنعاء، ومأرب، وحضرموت، على ما كان لدى عرب الجنوب من حضارة زاهرة انشأها أهالي اليمن والاقاليم المجاورة لها، وانها كانت على درجة من الرقي بحيث كانت تضاهي الحضارة الفينيقية والبابلية. ومن المظاهر البارزة لحضارة اليمن الكبرى سد مأرب التاريخي العظيم ، وهو سدّ مبني وفقاً لحسابات هندسية دقيقة ومعقّدة، ويدل على مدى اطلاع صنّاعه على علم الهندسة، وكان هذا السد من عوامل ازدهار الزراعة هناك .
كان أهل اليمن واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب لتوسط بلاد اليمن بين الممالك المتمدنة في ذلك الحين. فكانت تجارات الهند تُحمل في البحر الهندي إلى بلاد اليمن وحضرموت، فيحملها أهل اليمن إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب. وكذلك كان اهالي مكة ينقلون التجارة من اليمن وموانئ بحر العرب إلى بلاد الشام .
كان أهالي اليمن يسيطرون على تجارة الشرق الأقصى لمدّة طويلة . وقد اضطرت سبأ ـ بسبب ما يلازم الملاحة في الانحاء الشمالية من البحر الاحمر من آفات ـ إلى افتتاح خطوط بريّة بين اليمن والشام تحاذي ساحل الجزيرة الغربي ويؤدي إلى مكة والبتراء، ومنها تتشعب إلى مصر والشام وما بين النهرين .
انهيار سد مأرب
جاء انهيار هذا السد في حد ذاته نتيجة اهمال من جانب امّة آخذة في الانحطاط. وهذا الخراب الذي حلّ بأهل سبأ جاء تدريجياً قبل انهيار السد بزمن طويل بعدما تطاولت عليه الازمان وأهمله الملوك. وكان من اثر هذا الخراب والانحلال في تلك الدولة أن هاجر عدد كبير من أهلها .
وقد اشار القرآن الكريم الى قوم سبأ في سورتين، احداهما بمناسبة ذكر ملكة سبأ وكتاب النبي سليمان إليها:
{مكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} .
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
ذكر حمزة الاصفهاني ان انهيار هذا السد كان قبل اربعمائة سنة من ظهور الإسلام ، بينما قال ابو ريحان البيروني انه وقع قبل خمسمائة سنة من ظهور الإسلام . وذهب ياقوت الحموي الى القول بأنه حصل في عهد استيلاء الأحباش على اليمن . وبما ان استيلاء الاحباش على اليمن كان في اواسط القرن السادس، فيترتّب ان يكون انهيار السد قد وقع بعد سنة 542 وقبل سنة 570م .
وعلى اية حال يبدو ان انهدام السد حصل تدريجياً وفي اعقاب اعادة ترميمه مرّات عديدة. وقد اشار القرآن الكريم الى قوم تُبّع وعاقبة أمرهم في موضعين:
الاول: في قوله تعالى:
{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} .
والثاني في قوله تعالى:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَة وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} .
تأثير افول حضارات الجنوب على اوضاع شبه جزيرة العرب
أدى انحطاط دول الجنوب وأفول الحضارات هناك وانهيار سد مأرب الى ايجاد تحوّلات في شبه جزيرة العرب؛ وذلك لأن تلك البلاد قد فقدت رونقها وازدهارها، وجفّت الفيافي الخضراء والمزارع بسبب انقطاع الماء عنها؛ وعلى اثر ذلك اضطرت جماعات من الاقوام التي كانت تسكن الى جوار مأرب الى الهجرة.
وكان من نتائج هذه الهجرة ان توجّه رهط تنوخ من قبيلة الأزد اليمانية الى الحيرة (في العراق) وأسس دولة اللخميين هناك. وتوجّه آل جفنة الى الشام وأسسوا لهم دولة في المنطقة المسمّاة شرق الاردن، وعُرفوا بسلالة الغسّانيين .
وسارت قبيلتا الأوس والخزرج الى يثرب (المدينة المنوّرة)، بينما توجّهت خزاعة الى مكّة وما جاورها، وذهبت قبائل بجيلة وخثعم وجماعات اخرى الى منطقة السراة وقطنوا هناك ، وكان كل واحد من هذه الجماعات سبباً لوقوع حوادث ووقائع.
وضع شمال جزيرة العرب (الحجاز)
الحجاز منطقة جافة ينعدم سقوط الامطار المنتظمة فيها، ومناخها قاس عدا المناطق الجبلية والشريط الساحلي؛ وهذا ما ترك تأثيره على نمط حياة سكنتها؛ وذلك لأن العرب في هذه المنطقة وخلافاً لما عليه أهالي المناطق الجنوبية، لم تتح تلك الظروف البيئية الصحراوية ـ حيث قلة المراعي وتشتتها في تلك المنطقة ـ سوى امكانية تربية المواشي القليلة والجمال القانعة بالقليل من العشب والماء، والذي يجد فيه العربي قوام طعامه ولباسه. واذ كانت العناية بهذا الحيوان لا تمكن الا بالترحال والضرب في المناطق النائية، فقد صار كتنظيم سياسي قائم على الاستقرار في السكنى امراً متعذراً على البدوي.
وهذا طبعاً لا يشابه وضع القسم الجنوبي الذي كان أهاليه من المزارعين وسكنة المدن. أي ان القسم الشمالي كان يفتقد لأية صبغة حضارية ومدنية وانّما كان الناس فيه من البدو الرحّل، ولم تكن لمدنه أهمية تذكر عدا مدينة مكّة التي كانت قد ازدهرت قبيل ظهور الإسلام لأسباب سنذكرها في ما بعد.
وللحجاز شأن خاص، فقد بقي أهلها على بداوتهم لجدب ارضها وجفاف تربتها مع بعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضّرة، لتوسّطها في الصحراء ووعورة المسالك اليها، حتى امتنعت على الفاتحين العظام مثل رمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والاسكندر الاكبر في القرن الرابع، وايليوس غالوس على عهد يوليوس قيصر في القرن الاول للميلاد. كما امتنعت أيضاً على ملوك الفرس في ابان دولتهم. فآل امتناعهم هذا إلى اطمئنانهم وسكونهم .
وقد كتب احد المؤرخين في هذا المجال ما يلي:
وقال احد العلماء في وصف جزيرة العرب ما يلي:
وعندما وصل ديميتريوس ـ القائد اليوناني (بعد الاسكندر) ـ إلى البتراء قاصداً غزو جزيرة العرب، خاطبوه عند بلوغ ديارهم بما يأتي: لماذا تحاربنا ايها الملك ديميتريوس ونحن من سكان الصحارى التي لا تُسد فيها خَلّة؛ ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فراراً من العبودية، اقبل هديّتنا وارجع إلى حيث كنت، سنكون من اوفى الاصدقاء لك. ولكنك اذا رغبت في حصرنا حُرِمتَ كل هناءة ورأيت عجزك عن اكراهنا على تبديل طرق حياتنا التي تعودناها منذ نعومة اظفارنا. وإذا قدرت على أسر بعضنا ايقنت انك لن تجد واحداً ممن أسرت يستطيع ان يألف حياة غير التي الفناها.
هناك رأى ديميتريوس ان يقبل هدية الانباط خاتماً بالسلم حرباً أبصرها مملوءة بالمتاعب .
وقال احد العلماء في وصف جزيرة العرب ما يلي:
تعتبر جزيرة العرب مثلاً للعلاقات التي لا تنقطع بين السكّان والتربة، وإذا كانت قد حصلت هجرات سابقة إلى هذه الجزيرة نتيجة لموجات المستعمرين المتعاقبة التي يدفع بعضها الآخر او يغمره ـ كما حدث في الهند واليونان وايطاليا والولايات المتحدة ـ، فان التاريخ لم يخلف لنا اثراً عن هذا في بلاد العرب، كما انا لسنا نعرف غازياً نجح في اختراق الحواجز الرملية لهذه الجزيرة وفي تثبيت قدميه في تلك البلاد .
البدو
بما ان القسم الرئيسي من شمال جزيرة العرب (الحجاز) يتألّف من صحراء قاحلة، لذلك كانت اكثر القبائل العربية في عصر ماقبل ظهور الاسلام تعيش حياة البداوة والرعي والترحال. وكان البدوي ـ بحكم تلك الطبيعة الصحراوية الجافة ـ محروماً، ومساكنه خيام من شعر الماعز ووبر الإبل >بيوت الشعر<. وهو يرعى غنمه وإبله على الطريقة القديمة نفسها وفي المراعي القديمة نفسها. وعنده أن تربية الأغنام والإبل أولاً، وتربية الخيل وتوليدها والصيد وشن الغارات ثانياً، هي أهم ما يشغله، وهي العمل الوحيد الذي يجدر بالانسان أن يقوم به. وتراه يزدري الزراعة والصناعة وغيرهما من وجوه الحرف والاتجار ويحسبها مما يحط من قدره.
ولقد احتكر السلطة في البادية ثالوث استوت له السيطرة على كل ذي حياة في الصحراء، وهذا الثالوث هو البدوي والجمل والنخلة. وإذا أضفت اليها شيئاً رابعاً هو الرمال عرفت الممثلين الأربعة العظام الذين يمثلون رواية الحياة في الصحراء في كيانها الأساسي.
وما البادية في نظر بنيها موطناً فحسب بل هي بمثابة الحارس الأمامي الأمين على تقاليدهم وشعائرهم المقدسة. فهي تحمي نقاوة لغتهم ودمهم بل هي خط دفاعهم الأول ضد كل عدو مفاجئ. ولئن كانت قلة الماء وشدة الحر ومشقة السفر وآفة القحط كلها أعداء تآزرت على البدوي في أحواله العادية فإنها ـ في الوقت نفسه ـ إذا ما انتابه العدو أحلاف تقوم بمناصرته ونجدته. فلا عجب إذن إذا رأينا البدوي يندر أن يطأطئ رأسه تحت نير أجنبي.
وفي البدوي أثر واضح من حياة وطنه الصحراء المتسقة المطردة. ويتجلى هذا الأثر في تكوينه الجسمي والعقلي وطريقة تفكيره .
ويستخف الاعراب بسلطان الحضارة ويفضّلون عليها عيش البادية. وهذه من المشاعر الموروثة عندهم . هم نتيجة اقليم طليق؛ لا يصدُّ هواءه بناء، ولا يحجب شمسَه غيم، ويحبس أمطاره وسيوله سد، كل شيء فيه حر على الفطرة، فهم كذلك أحرار كإقليمهم، لم يحبسهم زرع يتعهدونه، ولا صناعة يعكفون عليها، كذلك تحررت نفوسهم من قيود حكومة ونظام، اللهم إلا شيئين قَيَّدَا عقولهم ونفوسهم: قيد دينهم الوثني وما يتطلبه من شعائر وتكاليف، وقيد تقاليد القبيلة وما يستلزمه من واجبات شاقة، وقد كانوا لتقاليد قبيلتهم أشدّ إخلاصاً وأقوى إيماناً .
يقول المستشرق البلجيكي لامنس ما يلي: ان العرب نموذج الديمقراطية ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورتهم على كل سلطة ـ تحاول أن تحدد من حريتهم ولو كانت في مصلحتهم ـ هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تاريخ العرب .
النظام القبلي
لم يكن عرب الحجاز قبل ظهور الإسلام يخضعون لسلطة حكومة، وما كان لهم نظم ولا تشكيل سياسي؛ ولهذا السبب كانت حياتهم تختلف اختلافاً كلياً عما كانت عليه حياة المجتمعات في ايران وبلاد الروم. فهاتان الدولتان اللتان كانتا الى جوار شبه جزيرة العرب كانت فيهما حكومة مركزية واحدة تتولى ادارة شؤون الناس في كل ارجاء البلاد، وكانت قوانينها سارية المفعول في طول البلاد وعرضها. في حين لم يكن في بلاد الحجاز (خاصة القسم الشمالي والاقسام الوسطى من جزيرة العرب) حكومة وسلطة مركزية، وحتى المدن كانت تنعدم فيها مثل هذه السلطة. فأساس النظام الاجتماعي عند العرب هو القبيلة. ونظامهم السياسي والاجتماعي نظام قبلي، وكان هذا النظام ماثلاً في جميع شؤون وجوانب حياتهم. وهوية الافراد في ظل هذا النظام تتعيّن من خلال الانتماء الى احدى القبائل.
ولا يقتصر نظام الحياة القبلية هذا على البدو فحسب، وانما كان يمتد بكل وضوح حتى في المدن أيضاً. وكانت كل قبيلة في تلك المنطقة وكأنّها بلد مستقل، ويمكن تشبيه العلاقات بين القبائل يومذاك بالعلاقات الخارجية بين الدول في الوقت الحاضر.
رابطة الدم
كان عرب الجاهلية في الحجاز بدواً أو شبه بدو، فلم تكن لهم حكومة منظّمة ولا ملوك يمنعون من تعدّي بعضهم على بعض بما لهم من قوّة تنفيذية، انّما كانوا قبائل، اذا كثر عددها انقسموا الى بطون وافخاذ وعشائر، والرابطة بين افراد القبائل هي رابطة الدم؛ فكل من كانوا من دم واحد عُدّوا كتلة واحدة .
والصلة الدموية وحدها هي التي تعيّن الفلك الذي تضطرب فيه حياة البدو؛ فهي تربط الأُسر بالعشائر. والعشائر بالقبائل. وحتى الشعوب لا تزال تعيّن انسابها بواسطة قرابة دموية مزعومة تجمع الشعب كله في نظام نسبي يشبه نظام الانساب عند اليهود القدماء. لكن هذا الشعور الاجتماعي لا ينظم الشعب كله؛ انّما يمتد من العشيرة التي تشمل الأُسر القريبة المتضاربة خيامها جنباً الى جنب، الى القبيلة التي تُعد بضعة آلاف نفس، وتجوب البراري معاً في طلب المرعى .
رئاسة القبيلة
كان رئيس القبيلة يُسمّى >الشيخ<. وكان الشيخ عادة اكبر أفراد القبيلة سناً، وتفوّض اليه رئاسة القبيلة نتيجة لما يتصف به من شخصية بارزة، او لنضجه وعظيم تجربته، او بسبب شجاعته في الدفاع عن القبيلة، او احياناً بسبب كثرة ثروته . وكان اهل الجاهلية لا يسوّدون إلاّ اذا تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان .
وليس الشيخ صاحب الأمر المطلق في الشؤون الشرعية والحربية وسواها، بل يُفرض عليه مشاورة مجلس القبيلة الذي يتألف من زعماء البطون والافخاذ. ويدوم تمتّعه بهذا المركز السامي مادام ولاء القبيلة حليفه .
ولكن على اية حال فبحكم التقاليد القبلية يتعيّن على كل أفراد القبيلة طاعة رئيسها والنـزول عند حكمه. ومن بعد وفاته كثيراً ما تنتقل هذه المرتبة من الأب الى الابن، أو ربّما اوكلت الى مسن آخر يتمتع بتلك الخصال او تتوفر فيه كفاءة وشخصية مميّزة.
لقد حارب الدين الإسلامي النظام القبلي وقضى عليه كلياً ولم ينظر بعين الاعتبار الى النسب والقرابة اللذين يشكلان أساس هذا النظام، وبنى المجتمع الإسلامي الجديد على اساس وحدة العقيدة والايمان الذي يعتبر أقوى الاواصر الاجتماعية، وجعل الايمان المشترك بديلاً عن الدم المشترك، وجعل المؤمنين كلهم اخوة، وهكذا فقد تبدّل النظام الاجتماعي عند العرب .
التعصب القبلي
العصبية القبيلة تتطلب ولاءً مطلقاً لأفراد القبيلة كلّها. وهذا الولاء هو روح الفردية في البدوي مكبّرة بحيث تشمل سائر أفراد العشيرة، والتعصب القبلي في الصحراء يشبه الوطنية المُفرطة . فكل ما يفعله الانسان المتمدن في سبيل بلده أو دينه أو قومه، يفعله العربي البدوي في سبيل عشيرته، وهو يقوم بكل ما يستطيع من أجلها حتى التضحية بنفسه .
وافراد القبيلة متضامنون اشد ما يكون من تضامن، ينصرون أخاهم ظالماً أو مظلوماً يسعى بذمتهم ادناهم، وهم يد على من سواهم.
وأما معاملتهم للاخ وابن العم فكانوا ينصروهم أخطأوا أم أصابوا، بمعنى ان الرجل كان يصيبه العار اذا قعد عن نصرة اخيه او ابن عمه. فكان لزاماً عليه ان يقوم بنصره سواء كان ظالماً أو مظلوماً. وقد قال شاعرهم في هذا المعنى:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
وعلى هذا الأساس فاذا ذلَّ أحد افراد القبيلة لحق العار القبيلة بأسرها ويجب على كل افراد القبيلة العمل على محو ذلك العار .
رفض الإسلام العصبية الجاهلية العمياء واعتبرها نوعاً من التوجه الجاهلي البعيد عن المنطق: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
وقال رسول الله’: >من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه<
وقال’ أيضاً: >ليس منا من دعا الى عصبية، وليس منا من قال [على عصبية] وليس منا من مات على عصبية<.
وفي موضع آخر، عن انس قال، قال رسول الله’: >اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا يارسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه<.
الثارات القبلية
لم يكن للعرب نوع من الحكومات المعروفة الآن، ولم يكن لهم قضاء يحتكمون إليه. انّما كان الشخص المعتدى عليه يثأر لنفسه بنفسه، وعلى قبيلته ان تشد أزره. واذا كان المعتدي من قبيلة اخرى كان يحق للمعتدى عليه أخذ الثأر من أي فرد من افراد تلك القبيلة. وكان هذا أمراً طبيعياً عند العرب . وذلك لأن خطأ أي فرد يُحتسب على القبيلة كلّها. وبما ان الجميع متساوون ـ ضمن اطار القبيلة ـ في الحقوق والواجبات التي تنبثق عن عصبية الدم، فالبدوي ملزم بأن ينصر أخاه في الملمّات. وليس له ان يتساءل أظالم هو أو مظلوم. وليس من شك في ان هذا الواجب يقع ـ بادئ الأمر ـ على عاتق العشيرة التي يعنيها الأمر، فلا تنبري القبيلة كلّها لمناصرته الا اذا كانت العشيرة ضعيفة قليلة الحول. فاذا قُتل شخص وقعت مهمّة الاخذ بثأره على عاتق اقرب الناس إليه . واذا كان المقتول من قبيلة اخرى تطبّق عند ذاك عادة الانتقام وهي ان يغدو كل واحد من افراد تلك القبيلة معرّضاً للقتل انتقاماً للمقتول؛ وذلك لان تقاليد الصحراء كانت تقول بأن >الدم لا يغسله الا الدم<ولا ثمن للقتل الا الانتقام. وقد قيل لأعرابي: >ايسرك ان تدخل الجنّة ولا تسيء الى من أساء اليك؟ قال: بل يسرّني ان ادرك الثار وادخل النار<.
التنافس والمآثر القبلية
كان العرب في الجاهلية في زمان فترة من الرسل والانبياء، فلم يكن لهم وقوف على غايات الامور والعواقب المحمودة وما يترتّب عليها الثواب والعقاب من الفعل الحسن والقبيح، وكان غالب مفاخراتهم بالشجاعة والكرم والوفاء ونحو ذلك . وقد كان المال والثروة والاولاد والقبيلة مما يتفاخر به عرب الجاهلية ويولونه الكثير من الأهمية ويعتبرونه مدعاة للأفضلية والشرف.
وقد بيّن القرآن الكريم حقيقة حالهم، واستنكر ذلك منهم بقوله:
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} .
قال كسرى ـ ملك ايران ـ للنعمان بن المنذر يوماً: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة؟ قال: نعم. قال: فبأي شيء؟ قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل بكمال رابع فالبيت من قبيلته فيه وتُنسب إليه .
كانت الاعراب في الجاهلية اذا تنازع الرجلان منهم في الشرف تنافرا الى حكمائهم، فيفضلون الأشرف . أي يحصون عدد افراد قبيلتهم ويدّعون انهم اكثر عدداً من القبيلة الاخرى.
وفي احد الأيام وقعت منافرة بين قبيلتين، فتنافرتا وتكاثرتا، وقالت احداهما: أفيكم مثل فلان وفلان؟ وعدّوا أشرافهم من الاحياء، ثم قالوا نعد موتانا؛ فانطلقوا الى القبور، ثم جعلت احدى القبيلتين تقول: أفيكم مثل فلان وفلان؟ ويشيرون الى القبور، وفعل الآخرون مثل ذلك . وقد استقبح القرآن مثل هذه المنافسة والمفاخرة الجاهلية البعيدة عن العقل والمنطق، في قوله:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
أهمية الانساب
كان من اهم ما يتنافر به عرب الجاهلية الانساب، اذ كانت لها عندهم أهمية قصوى واليها تعود سائر المفاخر والمناقب .
كانت المفاخرات القبلية محتدمة بين العرب، وابرز مثال على ذلك المفاخرة في الانساب بين العدنانيين (عرب الشمال)، والقحطانيين (عرب الجنوب) .
ولهذا السبب كان العرب يولون أهمية لحفظ ومعرفة الأنساب. وقد رد النعمان بن المنذر على كسرى حين سأله عن سبب تفاخر العرب بأنسابها بقوله:
فليس أمةٌ من الامم الا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه. وليس أحد من العرب الا يسمي آباءه أب فأب أحاطوا بذلك أحسابهم وحفَظِوا به أنسابهم. فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه .
ولهذا السبب لا عجب لو كان علم الانساب عند العرب من العلوم القليلة التي كانت لها عندهم منـزلة وتحظى لديهم بالتقدير، وكان للنسّابين مكانة رفيعة بينهم.
قال الآلوسي ـ من ذوي النظر في موضوع انساب العرب ـ:
والعرب في الجاهلية كان لهم مزيد اعتناء بضبطه ومعرفته [أي النسب] فانه احد اسباب الالفة والتناصر، وهم كانوا احوج شيء إلى ذلك حيث كانوا قبائل متفرّقين واحزاباً مختلفين؛ لم تزل نيران الحروب متسعّرة بينهم، والغارات ثائرة فيهم، فانهم امتنعوا عن سلطان يقهرهم، ويكف الأذى عنهم فحفظوا انسابهم ليكونوا متظافرين على خصومهم ومتناصرين على من شاققهم .
وقد رفض الإسلام أي نوع من انواع التفاضل العنصري. وعلى الرغم من نزول القرآن بين قريش والعرب، غير انه لم يوجّه خطابه الى قريش والعرب وما شابه ذلك، بل وجّه خطابه الى >الناس<، ووجه خطابه في حالة بيان الواجبات والتكاليف الى المسلمين والى المؤمنين. واعتبر القرآن الفوارق والاختلافات بين الامم والشعوب امراً طبيعياً، وبيّن ان الحكمة منها ان يتعارفوا، واستنكر التفاخر بالانساب والاحساب، مؤكّداً ان المعيار في التفاضل بين الجميع هو معيار التقوى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
ونهى رسول الله’ عن التفاخر بالأنساب والاقوام. ونحن نستعرض بعض الامثلة على ذلك كالآتي:
قال في فتح مكّة حين سقطت القلعة الأساسية لقريش (التي كانت تعتبر نفسها الاشرف من بين قبائل العرب):
ايها الناس ان الله قد اذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا انكم من آدم× وآدم من طين، ألا ان خير عباد الله عبد اتّقاه، ان العربية ليست بأب والدٍ ولكنها لسان ناطق؛ فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه .
وقال في حجة الوداع في سياق خطبة مطوّلة له عرض فيها مواضيع أساسية ومهمّة: >لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى<.
وقال في تأييد قول سلمان الذي دخل يوماً في جدال مع قريش واستند الى القيم المعنوية في رفض افكاره الجاهلية السقيمة:
يا معشر قريش! ان حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله .
الحروب القبلية
كان عرب الجاهلية اذا وقع بينهم حادث قتل، كانت تُلقى مسؤوليته على اقارب القاتل وأهله وعشيرته الأقربين. وبما ان عشيرة القاتل كانت تهبّ عادة لحمايته فقد كان الانتقام يؤدّي الى حروب طاحنة. تلك الحروب ـ التي كانت تندلع عادة لأسباب تافهة ـ كانت تمتد لسنوات طويلة. وابرز مثال على ذلك حرب البسوس بين قبيلتي بني بكر وبني تغلب اللتين كانتا تشكّلان فرعين من قبيلة ربيعة. فهذه الحرب دامت اربعين سنة وكان سبب اندلاعها دخول جمل يعود لامرأة اسمها بسوس من بني بكر الى ارض زراعية لرئيس قبيلة بني تغلب، وقتل ذلك الجمل .
وكذلك وقعت حرب داحس والغبراء بين قيس بن زهير ـ رئيس قبيلة بن عبس ـ وحذيفة بن بدر ـ رئيس قبيلة بني فزارة ـ بسبب مسابقة خيل، ودامت مدّة طويلة. وداحس والغبراء اسم فرسين، الأول منهما لقيس، والثاني لحذيفة، حيث ادعى قيس ان فرسه غلبت في السباق، وادّعى حذيفة ان فرسه هي التي غلبت. وقد اشتعل اوار تلك الحرب بسبب هذا الاختلاف البسيط، وأدت الى مقتل الكثير من افراد القبيلتين . وقد اشتهرت امثال هذه الوقائع باسم >أيام العرب<وقد كتبت فيها كتب متعددة.
صحيح ان جريمة الدم قد يكفّر عنها بالديات التي يقدّمها أهل القاتل جمالاً ونياقاً الى أهل القتيل، وصحيح ان من واجب الزعماء في القبيلة ان يعملوا على ايجاد تسوية بين المتخاصمين، من غير ان يملكوا حق فرضها عليهم، ولكن العشائر كثيراً ما لا تنتهي الى الأخذ بهذه التسويات الا بعد ان تكون قد تفانت ودقّت بينها عطر منشم... أما اذا أُسْلِم القاتل، طوعاً لا كرهاً، الى الفريق الآخر لينـزل فيه انتقامه، فعنذئذ لا يبقى مجال للثأر. ولكن مثل هذا العمل يُعتبر وصمة عارٍ على العشيرة؛ فهي تفضل ان تقتل الجاني على ان تسلمه طوعاً ويلحق بها العار. ان حاسّة الشرف السامية هذه التي تَسِمُ جميع اعمال البدوي هي الأساس الذي ينهض عليه صرح الاخلاق عنده.
وكان هذا القانون الصحراوي نفسه موضع التنفيذ أيضاً ـ إلى حد ـ في مدن الحجاز: الطائف، ومكّة، والمدينة. ففي هذه المدن كانت العشائر المختلفة، كما كان البدو في خيامهم، تعيش عيش الحرية والاستقلال، فلا تقر بالطاعة لأحد. وليس من شك في ان شعور الشرف الذي كان بالغ الحساسية في الصحراء، قد وجد في مكّة ما يخفف من غلوائه بعض الشيء، بسبب من المصلحة العامّة التي كانت للمكيين في الكعبة المقدّسة، ومن التجارة التي كانت تعتمد على ازدهارها .
وقد نهى القرآن الكريم عن مثل هذه العصبية والانتقام، وجعل اساس التناصر الحق والعدالة، واكد بان المسلم ينبغي ان تكون غايته اقامة العدل حتى وان كان فيها ضرر عليه أو على ابيه وامه وذويه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
النهب والقتل
لم يكن العربي في العصر الجاهلي يحمل مشاعر ودية للناس الآخرين خارج اطار قبيلته، ولم تكن هذه العلاقة تتعدى افراد الاسرة والعشيرة المترابطة بوشائج قربى. وكان مدى فهم الاعرابي محدوداً ضمن الاطار الضيّق لقبيلته. والبدوي اشبه ما يكون بانصار النـزعة القومية المتطرفة ودعاة التمييز العنصري في عالم اليوم؛ اذ يريد الاستحواذ على كل شيء، وكل مشاعره وتوجّهاته تنصب في المرحلة الاولى على مصلحته الذاتية ومصلحة ذويه. وهذا ما انعكس في قول احدهم حتّى بعد دخوله في الإسلام: >اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا احداً<.
ويعتذر الاعراب عن النهب بأنهم محرومون لفقر بلادهم، طيب العيش ووفرة الغلاّت والكلأ مما لم تعرفه امّة اخرى، وبأنهم يزيلون هذا الحيف المقدّر بأسنّة رماحهم معتقدين ان من الحلال دهم القوافل وسلب ما بأيديهم تعويضاً لهم مما لم تقدر ان تجود عليهم به اراضيهم القاحلة، وبأنهم يعدّون قطع السابلة وسلب ما بأيدي الناس ضرباً من حقوق الفتح والفخر كتدويخ مدينة أو ولاية .
ومن الطبيعي ان التنافس بين القبائل كان من اسباب الصراع والتناحر، ومن أهم ما كان يدفعهم الى الحروب هو التنافس على المراعي وموارد المياه، او ربّما كان الصراع يحتدم احياناً انطلاقاً من الرغبة في حيازة الشرف والرئاسة؛ فاذا مات اكبر الاخوة نازع ابنه اعمامه. ولذلك نشبت الحروب بين القبائل المتقاربة في الانساب أو المتقاربة في الامكنة. ومما كان يزيد نار العداء تصدّي الشعراء لتعداد مفاخر قبائلهم وتأليب القبائل الاخرى. إذ كانوا يعيدون احياء الوقائع السابقة في الأذهان ويجعلون النفوس مستعدة للاضغان والاحقاد. وقد يكفي النـزاع بين شخصين من قبيلتين مختلفتين ليؤدي الى قيام الحروب بين هاتين القبيلتين حتى ولو كان سبب هذا النـزاع تافهاً .
ومن الاسباب الاخرى التي كانت تدفعهم الى النهب والتدمير هو انهم امة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خُلقاً وجبلة وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك، والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الاوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو اصل العمران. هذا في حالهم على العموم، وأيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في ايدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلّما امتدت اعينهم الى مال أو متاعٍ أو ماعون انتهبوه .
ونوع آخر اتخذوه وسيلة من وسائل العيش وهو الغارة والسلب، يغيرون على قبيلة معادية ـ وكثيراً ما تكون المعاداة ـ فيأخذون جمالهم ويسبون نساءهم وأولادهم، وتتربص بهم القبيلة الاخرى ذلك فتفعل ما فعلوا. بل هم اذا لم يجدوا عدواً من غيرهم قاتلوا انفسهم. وللقطامي ـ وهو شاعر في العصر الاموي ـ اشعار تعبّر عن هذا المعنى، يقول أحد ابياتها:
وأحياناً على بكر أخينا
اذا ما لم نجد الا أخانا
وفي تلك الأيام نشبت حروب دافعها الثأر والانتقام بين قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب، واتسع مداها الى درجة ان احداً لا يستطيع الخروج من حدود مضارب قومه، ونكّدت تلك الحروب عليهم حياتهم وجعلتهم في حالة من الشقاء. فذكّرهم الباري تعالى في القرآن الكريم بذلك الوضع المأساوي مبيّناً لهم فضل الله عليهم اذ منَّ عليهم بوشائج الاخوّة في الإسلام، قائلاً:
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
الأشهر الحرم
كانت العرب تحرّم هذه الأشهر الحرم (ذي القعدة، وذي الحجّة، ومحرّم، ورجب) وكان ذلك مما تمسّكت به من ملّة ابراهيم واسماعيل ‘.
فكانت العرب تمتنع تلقائياً عن القتال في هذه الأشهر تكريماً لها. وهذا ما كان يوفر لهم فرصة للسلم والاستقرار يستطيعون خلالها القيام بأعمال التجارة والبيع والشراء وزيارة الكعبة .
وكانوا اذا وقعت حرب في تلك الاشهر يسمّونها حرب الفُجّار .
المرأة في المجتمع العربي
من ابرز مظاهر الاساطير والخرافات والجهل عند عرب الجاهلية هي نظرتهم الى المرأة؛ فالمرأة كانت في مجتمع ذلك العصر محرومة من قيمتها الانسانية ومسلوبة الحقوق الاجتماعية ولا استقلال لها في الحياة. ونتيجة لبداوتهم وبعدهم عن الحضارة كانوا يرون في المرأة والبنت مدعاة للعار .
كانوا يرون ان الفتيات غير جديرات بالارث، والجديرون بالارث هم من يذبون عن حياض القبيلة بالسيف .
وجاء في رواية ان الناس كانوا قبل ان يُبعث النبي’ اذا كان للرجل زوجة ومات عنها، تزوّجها ابنه من بعده اذا لم تكن امه .
هناك شواهد تشير الى انهم كانوا في الجاهلية اذا مات زوج المرأة يحق لابنه من امرأة غيرها ان يتزوّج امرأة ابيه، فيلقي عليها ثوبه فيرث نكاحها، ويتزوّجها ارثاً من غير مهر. واذا لم يكن راغباً في الزواج منها يحق له تزويجها لشخص آخر ويحصل هو على مهرها. واما اذا شاء يحق له حرمانها من الزواج بأي رجل آخر، لكي يتسنّى له الاستحواذ على مالها من بعد موتها . وهذا يعني انه لم يكن هناك ما يمنع من الزواج بامرأة الأب. ولذلك نهى القرآن عن مثل هذا العمل . ونقل المفسرون انه توفي في صدر الإسلام رجل اسمه ابو قيس بن الأسلت وعزم ابنه على الزواج بزوجة ابيه، فنـزلت الآية: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} .
وكان تعدد الزوجات مباحاً في مجتمع ذلك العصر أيضاً من غير تحديد بعدد معين .
مأساة المرأة
المشهور ان من اسوء عادات العرب في الجاهلية وأد البنات. وبما ان البنت لا تستطيع ـ في ذلك المجتمع الخالي من المدنية والثقافة وتسوده القسوة والعنف ـ ان تقاتل كما يقاتل الرجل وتدافع عن القبيلة، وانها قد تُسبي في المعارك القبلية فتلد من قوم آخرين فيكون ذلك عاراً على قبيلتها، لذلك كانوا يئدون بناتهم . كما ان قسماً منهم كانوا يئدون البنات بسبب الاوضاع الاقتصادية المتذبذبة وخوفاً من العيلة والفقر .
وعلى العموم فقد كانت البنت في نظرهم كيان نحس. وقد عبّر القرآن الكريم عمّا كان شائعاً بينهم من تفكير مغلوط في هذا المجال على النحو التالي:
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} .
كانت هذه النظرة الدونية الى المرأة بارزة الملامح في الأدب العربي يومذاك، وكان من الشائع بينهم ان كل من تولد له بنت يُقال له:
>آمنكم الله عارها، وكفاكم مؤنتها، وصاهرتم القبر!<.
وقال أحد شعرائهم في هذا المعنى:
لكل اب بنت يرجى بقاؤها
ثلاثة اصهار اذا ذكر الصهر
فبيت يغطّيها وبعل يصونها
وقبر يواريها وخيرهم القبر
ويُقال ان رجلاً اسمه ابو حمزة انجبت له زوجته بنتاً فأغاضه ذلك وبقي يبيت عند الجيران. فكانت امرأته تلاعب البنت وتنشد هذه الابيات:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان الا نلد البنينا
تالله ما ذلك في ايدينـا
وانما نأخذ ما أعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
والحقيقة هي ان كلام هذه الأم بمثابة دعوى قضائية ضد النظام الاجتماعي الذي كان سائداً يومذاك، وبيان للمأساة التي كانت تعيشها المرأة في ذلك الوسط الاجتماعي.
ويقال ان اول من فعل ذلك؛ أي وأد البنات، هي قبيلة تميم.
وجاء ذلك في سياق قصّة نقلها عدد من المؤرخين وائمة المفسّرين وخلاصتها ان النعمان بن المنذر غار على تميم حين منعته الاتاوة، فحاربهم وسبى نساءهم.
ولما ذهب قيس بن عاصم، شيخ تميم، ليسترد سباياه، تخلّفت بنت له مؤثرة ان تبقى مع النعمان.
فعاد قيس وقد جنّ غضبه فوأد كل بناته. ثم مضى على ذلك، لا تولد له بنت الا وأدها. واقتدى به رجال تميم وغيرهم . وفعلت ذلك قبائل قيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل .
ولم يكن هذا التقليد شائعاً بين عموم العرب، بل كانت هناك قبائل وشخصيات كبيرة لا ترتضي هذا العمل ومنهم عبد المطلب ـ جد رسول الله’ ـ وكان هناك اشخاص مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وصعصعة بن ناجية يشترون البنات ممن يريد وأدهن مخافة الفقر، ويتكفّلون هم بمؤنتهن .
وكانوا احياناً يدفعون جمالاً فدية لآباء من يريدون وأد بناتهن .
ولكن هناك شواهد ودلالات تشير الى ان هذه العادة كانت شائعة بين العرب على نطاق واسع؛ وذلك للأسباب التالية:
1ـ ان صعصعة بن ناجية لما أتى الى رسول الله’ قال له انه افتدى في الجاهلية مائتين وثمانين بنتاً كانت على وشك ان توأد، وقد انقذها من الموت .
2ـ قيس بن عاصم بعدما قرر قتل بناته، وأد اثني عشرة أو ثلاث عشرة بنتاً .
3ـ جعل رسول الله’ أحد بنود بيعة العقبة الاولى (في عام 12 للبعثة) التي ابرمها مع طائفة من أهالي يثرب، عدم وأد البنات .
4ـ بعد فتح مكّة اشترط رسول الله’ في البيعة التي عقدها بأمر الله تعالى للنساء المسلمات في هذه المدينة، ان لا يقتلن أولادهن .
5ـ ذم القرآن الكريم في مواضع متعددة هذه العادة.
وتدل هذه الشواهد على ان هذه الظاهرة كانت من المعضلات الاجتماعية الحادّة يومذاك. وقد حذّر القرآن الكريم من الاقدام على هذا العمل كما يلي:
{وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا} .
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمَ} .
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ ـ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} .