في الوقت الذي تبدو فيه قوة الحجة والبرهان ضرورية من أجل إدارة حوار ناجح مع الآخرين وإيضاح الخيار الأصوب والأمثل لهم نجد ان القوة المادية تمثل هي الأخرى أهمية كبيرة نظرا لإرتباطها في جوانب عديدة مع القوة الأولى فهي وسيلة دعم وإسناد لها في مناسبات كثيرة فضلا عن كونها الوسيلة العملية لتوفير الحصانة للرساليين وحملة المبادئ والسلاح الذي لا غنى عنه في الدفاع عن هذه المبادئ وحمايتها من كيد الكائدين.
ومن هنا نجد ان القرآن الكريم على ما يشتمل عليه من آيات بينات وحجج فكرية وتشريعية قائمة على العقل والمنطق فهو يؤكد على ضرورة ان يتسلح المؤمن بعناصر القوة المادية المطلوبة إلى جانب القوة الفكرية والمنطقية وذلك إنطلاقا من قاعدة الأخذ بالأسباب والتعامل مع الواقع والإستجابة لمعطياته وتحدياته القائمة فالقوة الفكرية لكي تكون أكثر هيبة وجدية في نظر الآخرين لابد ان تكون معززة بالقوة المادية ذات الشأن بتفعيل حركتها ونفوذها وتهيئة الأجواء لتوسيع دائرة انتشارها وترسيخها على مديات أكبر في مساحة الوعي الإنساني.
ولذا نجد انه سبحانه وتعالى يؤكد على هذا المعنى في آيات كثيرة من كتابه المجيد كقوله عن عز من قائل: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم) [الأنبياء/ 80].
وقوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) [الحديد/ 25].
حيث يشير المفسرون إلى ان المقصود بالحديد في قوله تعالى هو السلاح الذي يقاتل به الأنبياء والرسل واتباعهم لتطبيق العدالة الإلهية بل والقسط.
ويقول تعالى أيضا: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم). والملاحظ ان الآية الكريمة آنفة الذكر تضع الإنسان المؤمن امام مهمة التسلح بالقوة في معناها الشمولي العام دون تحديد لنوع دون نوع آخر حيث المطلوب ان يواكب هذا الإنسان تدرجات الوسائل التسليحية ومخترعاتها في كل عصر وزمان ليكون مؤهلا لمواجهة التحديات التي تواجهه في مختلف الأزمان والأعصار.
وعلى الرغم من هذا التأكيد على أهمية القوة الا ان المراد من استخدامها وتوظيفها لا يقترن بالقوة بحد ذاتها كما يحلو للبعض من المتحاملين ان يصوروا ذلك من خلال مزاعمهم بأن الإسلام هو دين الحروب والفتوحات ومصادرة آراء ومبادئ الآخرين وإنما المراد من ذلك الاستخدام والتوظيف هو إشاعة قيم الخير والسلام والإنسانية وتطهير العالم من مظاهر الظلم والفساد والانحراف ومن هنا نجد الاقبال المتزايد على اعتناق الإسلام من قبل أهالي الأقاليم والأمصار المفتوحة خاصة وأنهم سرعان ما يكتشفون في الدين الجديد القيم والمبادئ التي تنسجم مع تطلعاتهم وآمالهم في بناء مجتمع إنساني تسوده الفضيلة ويشاع فيه العدل والسلام والطمأنينة ولذا نجد ان القرآن يصف بعثة الرسول إلى الإنسانية بأنه رحمة للعالمين على الرغم من اعتماد القوة كما هو معروف في نشر الرسالة وانجاز الكثير من الفتوحات التي هيأت الفرصة أمام الكثير من الأمم لكي تدخل إلى رحاب الإسلام وتحضى بشرف الانتماء إليه والالتزام بأوامره ونواهيه.
وبناء على ذلك نجد ان مفاهيم القوة في الإسلام كثيرا ما تأخذ أبعادا أخلاقية مباشرة فهي تنص في أحيان عديدة على ضرورة ان يتحلى المسلم المؤمن بالقوة والشجاعة كما نرى ذلك في أحاديث الرسول الأكرم (ص): (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف).
وقوله (ص): (إن الله يحب المؤمن الشجاع ولو بقتل حية).
وقوله (ص): (الخير كل الخير تحت ظلال السيوف).
وقوله (ص): (الخير معقود بنواصي الخيل).
كما ان المواقف الشجاعة ليست مطلوبة في سوح الوغى والمعارك الحامية فقط وإنما هذه المواقف مطلوبة أيضا في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة عندما يتعلق الأمر بكلمة حق عند سلطان جائر أو عندما يتعلق بالنهوض بمهمة الجهاد وفق الأساليب السياسية المعتمدة اليوم من قبل الحركات الإسلامية وهكذا نجد ان الشجاعة المطلوبة التي يجب ان يتحلى بها المقاتل المسلم في سوح الوغى وهو يدخل ميدان المواجهة مع أعداء الدين والمبادئ مطلوبة أيضا في موقف يقفه المسلم المؤمن وهو يدافع عن الفضيلة والقيم الأخلاقية أمام سطوة الطغاة والجبارين فهو يقف مثل ذلك الموقف دفاعا عن الحق عندما يتعرض إلى الانتهاك من قبل أولئك الطغاة والجبارين ويدافع عن العدل عندما يرى الآخرين يرزحون تحت سطوة الظلم والإرهاب والتجبر.
ومن هنا نجد ان القوة في المفاهيم الإسلامية لا تخرج عن دائرة الالتزامات والتوجهات الأخلاقية المعروفة فهي في نهاية المطاف تمثل إحدى الوسائل الأخلاقية خاصة وان الأهداف المقترنة بها تتمثل بتقويم الاعوجاج ومقارعة الظلم والباطل والانتصار للحق والحقيقة.
ولذا نجد ان التاريخ يحدثنا عن توصيات الرسول الأكرم (ص) لجنود المسلمين في إحدى الغزوات وهو يحثهم من خلالها على احترام الحياة بكافة أنواعها عندما تكون في موقع يتسم بالسلم والحياد فيوصيهم بعدم ملاحقة الهارب والاجهاز على الجريح أو الشيخ الكبير بل وحتى الشجرة التي يجب ان يراعى حقها في الحياة أيضا ولا يصار إلى اجتثاثها بدون مبرر يوجب ذلك. واذا أردنا ان نعثر على العلاقة القائمة بين القيم الإسلامية الداعية إلى المحبة والسلام والأخوة والتعاون ومساعدة الضعيف ومناصرة الحق ومحاربة الباطل وبين القوة في ضوء القرآن والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم والأئمة الأطهار من أهل بيته (ص) لوجدنا ان تلك العلاقة قائمة على التفاعل والاتصال الوثيق فالقوة هي الوسيلة المعتمدة من أجل حماية هذه القيم جميعها ورعايتها فضلا عن كونها تمثل ضمانة الأمة في تجسيد وجودها والحفاظ على أصالتها وهويتها.
ومن هنا نجد ان الآراء السطحية الصادرة من بعض المستشرقين والكتاب الغربيين، تلك الآراء القائلة بأن الإسلام يعتمد القوة من أجل القوة لا تعدو عن كونها مجرد تصورات قائمة على حسابات ضيقة أو هي ناتجة عن ذهنية حاقدة أعماها حقدها عن رؤية الحقيقة والتمييز بين الخطأ والصواب. ولعل الدليل الواضح على ذلك التقاء العديد من الأمم والشعوب على هدى الإسلام على الرغم من اختلاف ألسنتها وعاداتها وتقاليدها وسبحانه عز من قائل: (يا أيها الناس انا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العلي العظيم.