يمكن أن نستنتج من الآيات التي تتحدّث عن الاعتزال أنَّ الإسلام لا يعارض الاعتزال السياسي للشعوب غير الإسلاميّة، وعدم تدخّلها في النزاعات السياسيّة، وكذلك لا يعارض حيادها العسكرية في الاصطدامات العسكريّة. ويثمّن هذه الحالة في العلاقات الدوليّة، ويمسك يد دار الإسلام عن خرقها.
إنَّ هذه الآيات في الحقيقة تحدّد تلك المجموعة من الآيات التي تبيّن تعاليم الجهاد (الابتدائي) بشكل عامّ، وتخصّصها على حدّ تعبير الفقهاء.
في ضوء ما تقدّم، ليس لدار الإسلام أن تخوض صراعاً في مجال جبهة الاعتزال بالنسبة إلى الشعوب المحايدة في الأجواء التي يحكم فيها المعصوم المكلّف بتطبيق قانون الجهاد الابتدائي. وهذا التقييد موجود أيضاً في الأجواء التي يحكم فيها الفقهاء حتّى على أساس نظريّة الولاية الشاملة وصلاحيّات الفقيه في عصر الغيبة بالنسبة إلى الأمر بالجهاد الابتدائي. وفي ضوء الصلاحيّات المحدودة للدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة بالنسبة إلى الجهاد الابتدائي، فإنَّ طريق العمل بآيات الجهاد الابتدائي مسدود، والحالة الأصليّة السائدة في العلاقات الدوليّة هي التمسّك باحترام الاعتزال والسلم.
ويمكننا من خلال هذا التوضيح أن نقف على خطأ فهمين مختلفين في هذا المجال، وهما كما يأتي:
1- يقول الدكتور مجيد خدّوري تحت عنوان: الإسلام والحياد: "إذا كان الحياد يعني الحكومة اعتزال الحرب طواعية وعدم مناصرة طرف من الأطراف، فهذا ممّا لا يعترف به الإسلام من منطلق نظريّته العامّة في هذا المجال، إذ إنَّ الإسلام في حالة حرب مع كلّ حكومة لا تنقاد لأحكامه، أو لا تعقد معه معاهدة صلح مؤقّتة".
لاشكّ أنَّ آيات الاعتزال قد أُهملت في إبداء هذه الرأي حول القانون الدوليّ في الإسلام. والإسلام قد أضفى قيمة قانونيّة على حالة الحرب مضافاً إلى حالة التسليم لأحكامه، وإمضاء المعاهدة المؤقّتة، واحترام ذلك قانونيّاً. ومثالنا في هذا المجال ذيل الآية 90 من سورة النساء: (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً).
2- يقول أحد الكتّاب في القانون الدوليّ في الإسلام: "الاعتزال بمعنى اتّخاذ سياسة محايدة أو عدم التدخّل في شؤون الشعوب الأُخرى ـ كما مرّ بيانه ـ مبدأ في العلاقات الدوليّة الإسلاميّة. والآن يثار سؤال مفاده: هل هناك حالات تقلّل شأن المبدأ المذكور، أو حالات تجد فيها الحكومة الإسلاميّة نفسها مضطرّة إلى ترك سياسة الحياد أو ضرورة التدخّل؟ والجواب إيجابيّ، لأنَّ نطاق مبدأ الاعتزال يتحدّد في حالات معيّنة كغيره من المبادئ الأُخرى".
ثمَّ انبرى إلى الحالات الاستثنائية لمبدأ الحياد، وعدّ إلغاء هذا المبدأ شرعيّاً في الظروف الآتية:
أ ـ في حالات الدفاع الشرعي، أي: إذا عرّض استمرار سياسة عدم التدخّل أو الحياد مصالح المسلمين الحيويّة أو مصالح المجتمع البشري للخطر.
ب ـ التدخّل الودّي من أجل دعم أكثر الأهداف الإنسانيّة أصالة، أعني: حرّيّة الفكر، وحقّ تقرير المصير.
ج ـ دعم الأقلّيّات المغلوب على أمرها (المستضعفين).
بالنظر إلى البحث القرآني المعروض في مجال الاعتزال يستبين لنا أنَّ الحالات المشار إليها لا تعتبر استثناءً لمبدأ الحياد أو عدم التدخّل، لأنَّ هذه الحالات هي مصاديق الجهاد الابتدائي المخصّصة بآيات الاعتزال، ومن جهة أُخرى فإنَّ مشروعيّة الحرب الهجوميّة في الظروف التي يحكم فيها الفقهاء في عصر الغيبة تبعث على الريب، ويرى كثير من الفقهاء أنّ ذلك منوطاً بإذن الإمام المعصوم عليه السلام وأنَّه غير مشروع في عصر الغيبة.
يضاف إلى ذلك، أنَّ الحالات المذكورة بوصفها استثناءً من مبدأ الاعتزال لا تضمّ في طيّاتها شروط الاعتزال حتّى تستثنى من حكمه؛ لأنَّه عندما تعرّض سياسة الحكومة مصالح المسلمين الحيويّة أو مصالح البشريّة عامّة للخطر، أو تهدّد حرّيّة الفكر واستقلال الشعوب الأُخرى وتفضي إلى استعباد المستضعفين، فكيف يتسنّى لنا أن نعتبر مثل هذه الحكومة منتهجة سياسة عدم التدخّل والحياد؟ إنَّ هذا اللون من الظواهر السياسيّة على الصعيد الدوليّ يمثّل السياسات العدائيّة المنبثقة عن عمل الحكومة المفروضة.
حياد دار الإسلام
مثلما يعضد الإسلام سياسة الاعتزال التي تنتهجها الشعوب الأُخرى في علاقاتها مع دار الإسلام، فإنَّ انتهاج سياسة الاعتزال من قبل دار الإسلام حيال الدول الأُخرى يمكن أن تكون مقبولة أيضاً.
لاشكّ أنَّ الاعتزال الذي طرحه القرآن بشأن إبراهيم وأصحاب الكهف يتعلّق بظروف خاصّة تفرض مشروعيّة الاعتزال، وهذه الظروف يمكن أن تنطبق على دار الإسلام في أعصار مختلفة:
1- في مجال النزاعات العقيديّة، متى كان استمرارها عقيماً بشأن بعض الدول، ومفضياً إلى مصادمات منهكة تجرّ الويلات عليها، فإنَّ الاعتزال يمكن أن يكون مسموحاً به بوصفه يمثّل سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخليّة لهذه الدول. وهذا لا يعني تعطيل الدعوة، بل يعني نوعاً من تغيير الأُسلوب بغية اختيار الطريق الأفضل.
2- لا يداخلنا الشكّ أن سياسة عدم التدخّل والحياد يمكن أن تمثّل حلاًّ منطقيّاً ومشروعاً عند نشوب الأزمات السياسيّة، وبروز النزاعات المؤقّتة والعقيمة التي تورّط الدولة الإسلاميّة بمشاغبات ومعضلات غير مدروسة، ومؤامرات منهكة، ومصادمات غير مجدية، وهدر الطاقات، والقضاء على الإمكانيّات والالتزامات غير المناسبة، واستغلال الظروف التي تمّر بها دار الإسلام من قبل الأعداء.
ويمكن أن تمّثل سياسة (لا شرقيّة ولا غربيّة) في الواقع العالمي المعاصر نوعاً من سياسة الحياد بمفهومها الإيجابي، لأنَّ التدخّل في مثل هذه الظروف لمصلحة إحدى السياستين المتعارضتين في العالم، والتدخّل في منازعات إحداهما لا يمكن أن يكون مقبولاً في قاموس الدولة الإسلاميّة، ونشاهد اليوم أنَّ أكثر الأزمات السياسيّة في العالم هي من هذا النوع، إذ تبرز كالوشيعة المتشابكة على شكل مؤامرات معقّدة وخفيّة ومجهولة ولا يوثق بها، وتكون موضعاً لاستغلال القوى الكبرى.
إنَّ سياسة الاعتزال بمعنى حياد الدولة الإسلاميّة وعدم تدخّلها يمكن أن يمثّل أُسلوباً منطقيّاً ومشروعاً في مواجهة هذا اللون من الأزمات والحوادث السياسيّة في العالم.
3- عندما تنشب النزاعات العسكريّة بين الدول بدوافع سلبيّة معروفة أو مجهولة، وتعجز الدولة الإسلاميّة عن تسويتها، أو أنَّ تدخّلها يفضي إلى حدوث خسائر لا تعوّض أو يؤدّي إلى الوقوع في فخّ المؤامرات، وينتهي أحياناً على حساب المثل العليا، عندما يكون ذلك كلّه، فليس هناك من ردّ فعل منطقي وسياسة مشروعة لدار الإسلام حيال هذه الظروف إلاّ الاعتزال.
إنَّ الاعتزال في هذه الحقول الثلاثة لا يتّخذ طابعاً شرعيّاً بالنظر إلى العناوين الثانويّة للإسلام فحسب مثل: (نفي السبيل)، و(نفي الضرر)، و(نفي الحرج)، و(حفظ بيضة الإسلام)، و(تقدّم الأهمّ على المهمّ)، و(دفع الأفسد بالفاسد)، بل يُطبّق بوصفه أوليّاً أيضاً، والملاك في شرعيّته في جميع المجالات يتمثّل في مجانبة الدول الاصطدام بالدولة الإسلاميّة، وعدم انتهاجها سياسة عدائيّة مع دار الإسلام.
إنَّ شرعيّة الاعتزال في الحقول الثلاثة سواء في عصر الإمام المعصوم عليه السلام، أو في عصر الغيبة حيث يحكم الفقيه، يمكن أن تكون مقبولة بشكلين هما: أصل الاستثناء على أصل الجهاد الابتدائي، والأصل الأوّلي في ظروف عدم وجوب الجهاد الابتدائي.
--------------------------------
source : البلاغ