عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام)

وهو أنه إذا سلمنا بضرورة استمرار خط الإمامة بعد الرسالة الخاتمة، فلماذا كان خط الإمامة مستمراً في خصوص أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه الأسرة الشريفة الطيبة الطاهرة، هل أن القضية مجرد قضية تشريف وتكريم لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجعلت الإمامة في أهله وأسرته، أو أن هناك شيئاً أهم وأعظم وأوسع من ذلك بالنسبة لاستمرار الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) ؟

كان يمكن أن يفترض نظرياً أن يكون الأئمة المعصومون في أسرة ووسط آخر غير هذا البيت الشريف، كما عرفنا في التاريخ الإنساني والرسالي وجود أسر وجماعات أخرى كان فيها أئمة معصومون، كما هو الحال في إسحاق وإسماعيل من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ، وكما في الأنبياء من ذرية يعقوب الذي يسمى في القرآن الكريم بإسرائيل، فأن هؤلاء كانوا يتصفون بالعصمة ـ أيضاً ـ وكان بعضهم له دور الإمامة في حركته الرسالية، ومن ثم فلماذا كان إختصاص الإمامة في خصوص أهل البيت (عليهم السلام)، فهل أن القضية ـ كما أشرنا ـ هي قضية تكريم وتشريف لرسول الله (صلى الله عليه وآله) باعتباره الرسول الخاتم، فأراد الله تعالى أن يكرَّمه ويشرّفه بذلك، ويجعل ذلك نعمة منه سبحانه وتعالى على هذا العبد الصالح الذي أفنى كل وجوده في سبيل الإسلام وفي سبيل الله وفي سبيل تكامل مسيرة الإنسان، أو أن تكون القضية

(31)

تعويض إلهي عن الجهود التي بذلها في سبيل الله والحق والعدل والإنسانية، كما قد يفهم ذلك من قوله تعالى  : ( ... قُل لاَّ أَسْــَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ... )(1)، فيكون أجراً له على ذلك، وإنما اختص هذا الأجر به دون بقية الأنبياء الذين أكد القرآن على أنهم لا يبغون أجراً على رسالتهم إلا الإيمان بالله تعالى، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بذل جهداً لم يبذل مثله أحد من الأنبياء، وقد تحمل من الآلام والمحن ما لم يتحمله أحد قبله ولا بعده... أو أن هناك شيئاً آخر غير موضوع التكريم والتشريف(2)؟

هنا يمكن أن نشير بهذا الصدد إلى عدة نقاط ـ أيضا ـ مع قطع النظر عن الروايات التي وردت في هذا الموضوع والإستدلال على إمامة أهل البيت (عليهم السلام)من خلال النصوص الشريفة التي دلت على إمامتهم(3).

 

التكريم والتشريف:

النقطة الأولى  : هي قضية التكريم والتشريف التي أشرنا إليها في طرح السؤال، حيث نلاحظ من خلال القرآن الكريم ومسيرة التاريخ الرسالي لكل الرسالات الإلهية أن الله تعالى شاء بلطفه وكرمه وفضله على أنبيائه بأن يجعل من

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الشورى  : 23.

2 ـ هذا البحث ينفعنا ـ كما سوف نتبين ذلك ـ في تفسير ظاهرة اصطفاء ذرية إبراهيم وآل عمران وغيرهما أيضاً.

3 ـ هذا البحث سوف نتناوله في محله الخاص، وهو القسم الثاني من هذا الموضوع، وهو بحث كلامي عقائدي له أساليبه وأدلته وبراهينه الخاصة به ـ أيضاً ـ وإنَّما نريد في هذا البحث أن نفسر هذه الظاهرة، ظاهرة تعيين الإمامة وتشخيصها في خصوص أهل البيت  (عليهم السلام) تفسيراً ينسجم مع الأطر العامة التي جاء بها الإسلام، وأكدها القرآن الكريم، وترتبط ـ أيضاً ـ بمسيرة الإنسان وتكامله.

(32)

ذرياتهم أئمة وهداة يقومون بهذا الواجب الإلهي تكريماً لهم ونعمة منه تعالى عليهم، وكان هذا التكريم في الوقت نفسه رغبة وأمنية من أمنيات الأنبياء أنفسهم، تعبر عن حالة فطرية في الإنسان الكامل هي الإتجاه والرغبة إلى البقاء والإستمرار من خلال ذريته الصالحة، وقد أكد هذه الحقيقة الفطرية القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة في عدة مواضع(1).

إذن، فهذه القضية هي قضية ترتبط بكلا الجانبين، الجانب الإلهي الخالق المنعم الكريم الجواد المتفضل على أنبيائه، المجيب لدعائهم وندائهم، وبالجانب الإنساني العبودي، المتمثل بهؤلاء الأنبياء الذين أخلصوا لله تعالى في العبودية ـ أيضاً ـ فأنه من جملة إخلاصهم وإحساسهم بالعلاقة الأكيدة مع الله تعالى، إنهم كانوا يتمنون على الله ويرجون منه ويدعونه في أن يجعل من ذرياتهم أئمة وهداة، يضمن لهم البقاء والإستمرار في عبوديتهم لله تعالى ودورهم ومهمتهم في الحياة الإنسانية.

فهذا إبراهيم (عليه السلام) وهو شيخ الأنبياء، عندما خاطبه الله تعالى وابتلاه بكلمات من عنده، فجعله إماماً للناس ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَ هِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... )، كان أول شيء يطرحه على الله تعالى ويرجوه منه، أو يسأل عنه، عندما يحملّه الله تعالى هذه المسؤولية، هو أن تكون هذه الإمامة في ذريته ـ أيضاً ـ ( ... قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ )(2).

وكذلك الحال في إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وهما يقيمان دعائم البيت ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَ هِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنْتَ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هذا بحث قرآني واجتماعي مهم يرتبط بدراسة علاقة الإنسان بذريته، وشعوره بالبقاء والخلود من خلالها.

2 ـ البقرة  : 124.

(33)

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )، هؤلاء في البداية يطلبون القبول من الله تعالى لهذا العمل العظيم ، ثم يدعوانه تعالى أن يكونا مع ذريتهما من المسلمين المهتدين المنيبين إليه المقبولين لديه، ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ).

ثم لا يكتفون بأن تكون هذه الذرية ذرية مسلمة مهتدية مقبولة، بل تترقى هذه الدعوة بأن يطلبوا أن تكون هذه الذرية ذرية تتحمل مسؤولية النبوة والرسالة ـ أيضاً ـ ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(1).

ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفتخر ويقول  : (أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام))(2)، يعني كان يرى نفسه في تحمله لهذه الرسالة إن ذلك كان إستجابة لدعوة إبراهيم  (عليه السلام) عندما كان يرفع القواعد في البيت.

 

الإمامة في الذرية سنّة:

النقطة الثانية  : إننا نلاحظ في دراستنا لتاريخ الأنبياء والمرسلين، أن هذا التكريم قد تحول إلى سنّة من السنن الواضحة في التاريخ الرسالي، وذلك عندما نرجع إلى القرآن الكريم ومفاهيمه وآياته وتصوره لحركة الرسالات الإلهية والأنبياء، ومن ذلك ما نقرأه في قوله تعالى  : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـهَآ إِبْرَ هِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـت مَّن نَشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَـنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَـرُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُـحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ البقرة  : 127 ـ 129.

2 ـ البحار 12  : 92، حديث 1.

(34)

وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّـلِحِينَ * وَإِسْمَـعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـلَمِينَ * وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَ نِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـهُمْ وَهَدَيْنَـهُمْ إِلَى صِرَ ط مُسْتَقِيم )(1)، فعندها نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن إبراهيم (عليه السلام) وكيف جعل الله تعالى في ذريته النبوة، ويذكر مجموعة من أسماء الأنبياء من ذريته بدون ترتيب زماني، ثم يشير إلى أمرين يمكن أن نفهم منهما هذه السنة التاريخية  :

أحدهما  : الإنتقال بالإشارة إلى نوح (عليه السلام) ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ )ليربط هذا التاريخ بما قبل إبراهيم (عليه السلام) .

ثانيهما  : تعميم النعمة على الآباء والذريات والأخوان، مما يفهم منه القانون العام ( وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَ نِهِمْ ).

وهكذا ما ورد في سورة مريم، عندما تحدث القرآن الكريم عن مجموعة من الأنبياء  : إبراهيم وبعض ذريته وإدريس قبل إبراهيم ثم يختم الحديث بالقانون العام ( أُوْلئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَ هِيمَ وَإِسْرَ ئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا )(2).

والشيء نفسه ـ أيضاً ـ يذكره القرآن الكريم في سورة الحديد، ولكن على نحو الإشارة، وذلك عندما يتحدث عن نوح وإبراهيم (عليهما السلام)، حيث جعل في ذريتهما النبوة، قال تعالى  : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَ هِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ فَمِنْهُم مُهْتَد وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَـسِقُونَ )(3).

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأنعام  : 83 ـ 87.

2 ـ الآية  : 58.

3 ـ الآية  : 26.

(35)

وموارد أخرى لا يسع المجال لتفصيلها.

إذاً فهذه من السنن التي كانت تحكم مسيرة الرسالات الإلهية، فلا نرى غرابة في أن هذه السنّة تجري ـ أيضاً ـ في هذه الرسالة الخاتمة، بل هي امتداد لسنّة إلهية، شاء الله أن يجعلها حاكمة على مسيرة الأنبياء والمرسلين منذ بداية الرسالات الإلهية وإلى نهايتها.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الإمامة بدأت من نوح (عليه السلام) ـ كما يذهب إلى ذلك العلامة الطباطبائي (قدس سره) وأستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) ـ فقد نرى أن التأكيد في القرآن الكريم على نوح وإبراهيم (عليهما السلام)، وجعل النبوة في ذريتهما، إنما هو إشارة إلى قضية الإمامة واستمرارها في ذرية هذين النبيّين، ولا سيما أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو ـ أيضاً ـ من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، حيث أنه ينتمي إلى إسماعيل (عليه السلام)، وإسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) ونبينا هو دعوة إبراهيم (عليه السلام)، وبذلك تصبح القضية مرتبطة تماماً بهذه السلسلة المباركة للأنبياء من ناحية، وهذه السنّة التي كتبها الله تعالى في الرسالات الإلهية، وهي سنة التكريم والتشريف لهم، والنعمة الإلهية عليهم.

 

حكمة الإمامة في الذرية:

النقطة الثالثة  : التي يمكن أن يشار إليها بهذا الصدد وهي أن قضية التشخيص في أهل البيت (عليهم السلام)، ليست مجرد عملية تكريم وتشريف وفضل ونعمة أنعم بها الله تعالى على أنبياءه، بل أن وراء ذلك أموراً أخرى، يمكن أن نلاحظها عندما نريد أن ندرس هذه الظاهرة؟ وهي أمور ذات أبعاد  : غيبية، وتاريخية، ورسالية، وإنسانية.

وهذه الأبعاد التي يمكن أن نلاحظها من خلال دراستنا للقرآن الكريم ومراجعتنا ومطالعتنا للرسالة الإسلامية قد تفسر النقطتين السابقتين، ببيان الحكمة

(36)

في هذا التكريم الإلهي وهذا الإتجاه الفطري في الإنسان الذي تحول إلى سنة في مسيرة الأنبياء، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

البعد الغيبي:

متمحضاً في الجانب المادي فقط، وإنما فيه عنصر غيبي، وهذا العنصر الغيبي امتياز، شاء الله تعالى أن يتعامل معه ـ أيضاً ـ من خلال الغيب، بمعنى أن هناك الكثير من الأسرار في حركة الإنسان وحركة التاريخ الإنساني ترتبط بالغيب، ولم يشأ الله تعالى أن يكشف هذه الأسرار للإنسان في هذا العالم، ولكن قد يكون لهذه الأسرار أثر في تكامل حركة الإنسان في حياته الدنيوية التي لها إرتباط ـ أيضاً ـ بالغيب في هذا العالم المشهود، وكذلك التكامل في حياته الأخروية، لأن الحياة المادية الدنيوية لهذا الإنسان هي حياة محدودة، والحياة الحقيقية ـ كما يعبر القرآن الكريم ـ إنما هي الحياة الآخرة، ( وَمَا هذه الْحَيَو ةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاَْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ )(2)، وهي الحياة الممتدة الطويلة الأبدية الخالدة، وهذه الحياة الحقيقية هي حياة غيبية.

فهناك الكثير من الأسرار ذات العلاقة بالإنسان، وحياة هذا الإنسان لم تكشف لهذا الإنسان، ولها تأثير في حياته في العالم الآخرة، بل ومن خلال حركة

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ السجدة  : 9.

2 ـ العنكبوت  : 64.

(37)

الإنسان ـ أيضاً ـ في هذه الدنيا.

وهذا الأمر لابد أن نؤكد عليه دائماً في تفسير الكثير من الظواهر الإنسانية، فانه لا يمكن أن نفسر الظواهر الإنسانية بالتفسيرات المادية فقط، لوجود الجانب الغيبي في الإنسان، ومن ثم فلابد أن نفترض وجود جانب من التفسير يرتبط بهذا الغيب.

وهذا الأمر ليس مجرد فرضية واحتمال عقلي، وإنما يمكن أن نجد له شواهد من القرآن الكريم ـ أيضاً ـ فقد أشار القران الكريم إلى هذا الجانب الغيبي في الإنسان وحركته التكاملية ـ كما ذكرنا ـ ومن ثم فيمكن أن نفترض في أهل البيت (عليهم السلام) ـ كما ورد في النصوص والروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن أهل البيت  (عليهم السلام) ـ وجود أسرار غيبية ترتبط بجعل الإمامة بأهل البيت (عليهم السلام)، لها تأثير في حركة الإنسان وتكامل هذه الحركة.

أما الشواهد القرآنية التي تتحدث عن ارتباط الحركة التكاملية للإنسان بالغيب، فهو ما نلاحظه في مجموعة من المؤشرات  :

الأول  : ما ذكرناه من أن الله تعالى خصّ الإنسان من دون جميع الكائنات بهذا الوصف الخاص وهو أنه نفخ فيه من روحه.

إذن، فهذا الإنسان موجود ومخلوق يختلف عن بقية الكائنات التي لم توصف بمثل هذا الوصف، وترتبط بالله تعالى هذا الربط في جانب الخلقه.

الثاني  : ما يشير إليه القرآن الكريم في مجال خلق الإنسان من أن الله تعالى عندما خلق الإنسان، أخذ عليه عهوداً ومواثيق في عالم الغيب، وليس في عالم الشهود والعالم المادي فقط، كما يبدو ذلك من القرآن الكريم، قال تعالى  : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ

(38)

بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَـفِلِينَ )(1)، يعني أن الله تعالى انتزع من ظهور هؤلاء الناس ذريات، ثم بعد ذلك أشهدهم على الحقيقة العظمى في هذا الكون والحياة وهي (الربوبية).

وهذه الشهادة التاريخية، لا ندركها الآن كأفراد نعيش الحالة المادية، فلا ندرك ونتذكر هذا الجانب من الشهادة والعهد والميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم في ذرياتهم، وشهدوا واعترفوا بذلك، وأنه سوف يحاسبهم الله تعالى في يوم القيامة ـ أيضاً ـ على هذه الشهادة، لئلا يقول الإنسان في يوم القيامة إني كنت غافلاً عن ذلك، فتكون الحجة لله.

نحن الآن لاندرك ذلك بصورة مشهودة، فهو أمر غيبي في خلق الإنسان، نعم قد ندرك بفطرتنا وبوجداننا هذه الحقيقة المعبرة عن هذا الجانب الغيبي وهذا الإعتراف بالحقيقة الإلهية، عندما تكون الفطرة سليمة، ولكن هذا المشهد الذي يشير إليه القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة لا نحس به في حالتنا المادية ـ وإن كنا ندرك الحقيقة في وجداننا وفطرتنا، من خلال إيماننا بالله تعالى والإعتراف بالربوبيه له تعالى ـ وإنما هو مشهد غيبي يتحدث عنه القرآن الكريم في أصل خلق الإنسان، ومن ثم فهناك عنصر غيبي يتحكم في هذا الجانب.

الثالث  : والذي يمكن أن نستنبطه من القرآن الكريم ـ أيضا ـ هو حديث القرآن الكريم الواسع والكثير، الذي يمتد في عدد كبير من الآيات والمناسبات والآفاق حول (الإصطفاء) و (الإجتباء) في حركة التاريخ.

القرآن الكريم في آيات كثيرة ومنها قوله تعالى  : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَ هِيمَ وَءَالَ عِمْرَ نَ عَلَى الْعَـلَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأعراف  : 172.

(39)

وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1)، يتحدث عن ظاهرة الإصطفاء كظاهرة غيبية، وقضية من القضايا الإلهية الغيبية التي لا تخضع للتفسيرات المادية سارية ـ أيضاً ـ في حركة التاريخ، اصطفى الله تعالى آدم اصطفاءاً خاصاً، واصطفى نوحاً، ثم اصطفى إبراهيم وآل إبراهيم، ثم اصطفى عمران وآل عمران، وكذلك أكد القرآن الكريم أن هذا الإصطفاء ليس أمراً واقفاً على هذه الأسماء وهذه الجماعات، وإنما هو قضية ذات إمتداد في الذرية، ذرية بعضها من بعض، يعني حركة تاريخية تتحرك فى التاريخ الإنساني، يمكن أن نسميها حركة الإصطفاء، وكذلك قد تكون حركة في الأسرة أو في الجماعة والأمة.

إذن، فلماذا لا يمكن أن نفترض وجود هذه الحركة وهذا العامل الغيبي في إصطفاء الله تعالى لآل محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو ـ أيضاً ـ ما يشير إليه القرآن الكريم في مثل قوله تعالى  : ( ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )(2)، ويتم تأكيد ذلك ـ أيضاً ـ في آية المباهلة وغيرها.

إذن، فيمكن أن يكون هذا سرّاً من الأسرار الإلهية الغيبية التي لها دلالات معروفة ـ كما سوف نشير إلى بعضها ـ ولكن لها ـ أيضاً ـ دلالات وآثار في حركة التاريخ، وتكامل الإنسان الدنيوي لا نعرفها في فهمناالمادي المحدود لحركة التاريخ، ويكون لها ـ أيضاً ـ أبعاد في مستقبل حياة الإنسان الأخروية.

 

البعد التاريخي:

البعد الثاني  : البعد التاريخي، وقد أشار الشهيد الصدر (قدس سره) ـ في ما كتبه

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ آل عمران  : 33 ـ 34، وهناك آيات عديدة، يمكن أن يجدها الباحث في مادة الإصطفاء والإجتباء وغيرها، في المعجم المفهرس.

2 ـ الأحزاب  : 33.

(40)

حول خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء ـ إلى هذا البعد التاريخي، إذ يذكر إننا نلاحظ في تاريخ الأنبياء والرسالات الإلهية أن الله تعالى اختار الأوصياء والقادة ـ كما يعبّر الشهيد الصدر (قدس سره) ـ من أؤلئك الأقربين للأنبياء من أقاربهم أو ذرياتهم، وهذا نص كلامه  : (في تاريخ العمل الرباني على الأرض نلاحظ أن الوصاية كانت تعطى غالباً لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد إرتباطاً نسبياً أو لذريته(1).

وهذه الظاهرة لم تتفق في أوصياء النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فحسب، وإنما هي ظاهرة تاريخية اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل ويشير الشهيد الصدر (قدس سره)كشاهد على هذه الحقيقة إلى الآيات القرآنية، كقوله تعالى  :

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَ هِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ ... )(2)، وكذلك قوله تعالى  : في الآيات السابقة 83 ـ 87 من سورة الأنعام.

إذن، فهذه ظاهرة تاريخية، ومن ثم فقد طبقت ـ أيضاً ـ على رسالة النبي  (صلى الله عليه وآله)، بأعتبار أن الرسالة الخاتمة وإن كانت هي رسالة كاملة وبكمالها تتميز على الرسالات السابقة، ولكن هذه الرسالة الخاتمة هي في الحقيقة إمتداد لتلك الرسالات الإلهية، والنبي (صلى الله عليه وآله) جاء من أجل أن يصدِّق تلك الرسالات، ثم يهيمن عليها، وقد ورد في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يؤكد ذلك، وأن ما تشهده هذه الرسالة الخاتمة يتطابق تماماً مع ما شهدته الرسالات السابقة حتى جاء التعبير في مقام التطبيق الكامل قوله (صلى الله عليه وآله)  : (لتركبن سنّة من كانت قبلكم حذو النعل

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الإسلام يقود الحياة/ خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء  : 166، كما في لوط (عليه السلام) الذي كان يرتبط بإبراهيم، أو في يوشع الذي كان يرتبط بموسى، أو يرتبطون به وبذريته، كما هو الحال في إسحاق وإسماعيل ويعقوب وذرية يعقوب التي أشرنا إليها.

2 ـ الحديد  : 26.

(57)

بالنعل...  )(1).

إذن، فإذا كانت هذه الظاهرة هي ظاهرة تاريخية في الرسالات الإلهية، وهو أن تكون الوصاية في أقرباء النبي القائد، فلماذا تختلف الرسالة الإسلامية ـ بعد فرض ضرورة الإمامة واستمرارها ـ عن هذه الظاهرة التاريخية التي هي موجودة في كل الرسالات الإلهية؟!

ولكن هذه الظاهرة التاريخية تحتاج إلى تفسير تاريخي، ولعل ذلك ـ والله العالم ـ لأحد أمرين  :

 

الجذر التاريخي ودوره:

الأمر الأول  : أن الوصي والإمام عندما يكون له هذا الجذر التاريخي والإرتباط النسبي بالرسالة، يكون إحساسه بالإنتماء إليها وشعوره بالمسؤولية تجاهها، متجذراً بدرجة عالية جداً، وذلك حينما يرى في نفسه فرعاً من شجرة طيبة أصيلة، تمتد في جذورها الرسالية عبر القرون في التاريخ الرسالي والإنساني، وتمده بالعزم والإرادة والصبر والصمود والقدرة على تحمل المحن والآلام والشدائد والإنتصارات والتقدم والبركة الإلهية التي شهدتها هذه الشجرة الطيبة في تاريخها.

ويؤكد هذا التفسير عدة مؤشرات، يمكن أن نلاحظها في القرآن الكريم  :

الأول  : تأكيد القرآن الكريم على الجذر التاريخي للرسالة الإسلامية، مع

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ البحار 28  : 8، حديث11، عن تفسير القمي، وجاء هذا الحديث في كتب الفرقين إما بلفظه أو بمضمونه، مثل مجمع البيان 5  : 49، وكمال الدين  : 576، طبعة مكتبة الصدوق، وصحيح البخاري  : باب 50  من كتاب الأنبياء، وصحيح مسلم الحديث 6 من كتاب العلم، سنن بن ماجه باب 17، من كتاب الفتن ... الخ.

(41)

أن الرسالة الإسلامية هي أفضل الرسالات الإلهية، وهي الرسالة المهيمنة عليها ـ كما ذكرنا ـ وهي الرسالة الخاتمة، ورسولها أفضل الأنبياء على الإطلاق، ومع ذلك كله كان القرآن الكريم يؤكد على هذا الجذر التاريخي والإنتماء للأنبياء السابقين، ولا سيّما إبراهيم (عليه السلام) الذي ينسب إليه القرآن الكريم الإسلام في مواضع عديدة، منها قوله تعالى  : ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَ هِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاِّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابآئِكَ إِبْرَ هِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحَـقَ إِلهاً وَ حِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )(1).

بل أن إبراهيم (عليه السلام) هو الذي سمى الأمة الخاتمة بهذا الأسم منذ البداية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى  : (  وَجَـهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَـكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَ هِيمَ هُوَ سَمَّـكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللهِ هُوَ مَوْلَـكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ )(2).

الثاني  : ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى  : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(3)،فقد ذكرنا سابقاً أن وجود رسول الله كان بدعوة من إبراهيم (عليه السلام) ، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفتخر بأنه كان دعوة أبيه إبراهيم (عليه السلام).

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ البقرة  : 131 ـ 133.

2 ـ الحج  : 78.

3 ـ البقرة  : 129.

(42)

الثالث  : ذكْر القرآن الكريم لقصص الأنبياء وتأكيده أن أحد الأهداف لذلك هو تثبيت النبي، كما طلب الصبر والثبات منه تأسياً بالأنبياء السابقين ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ... )(1).

الأمر الثاني  : أن سنة الله في التاريخ تكامل الرسالات الإلهية تدريجياً، وهي تمر عبر الرسالات المتعددة التي يكمل بعضها بعضاً، كذلك الحال في تكامل الرسل والأنبياء والمرسلين، فانها يمكن أن تكون ـ أيضاً والله العالم ـ سنة تمر عبر التكامل في الجذر التاريخي للحركة الوراثية للنبي والاستمرار في الذرية وأهل البيت.

وهذه السنة هي سنة قائمة في كثير من مظاهر الطبيعة ومخلوقاته عزَّ وجلّ، فالشجرة الطيبة القوية المثمرة هي الشجرة ضاربة الجذور في الأرض، بخلاف الشجرة الخبيثة.

وكذلك الكلمة الطيبة التي هي كالشجرة الطيبة التي ضربها الله مثلاً لها، فأنها هي التي تكون لها أصول وجذور.

قال تعالى  : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمآءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )، وهذا بخلاف الكلمة الخبيثة، فهي كالشجرة الخبيثة، قال تعالى  : ( وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَالَهَا مِن قَرَار )(2).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

يوم الخروج وكيفيته
الجزع على الإمام الحسين (عليه السّلام)
الدفاعٌ عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم
أهل البيت النور المطلق
حديث الغدير ودلالته على ولاية أمير المؤمنين (ع)
عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي (عليه ...
عليٌ لا يحبّه منافق
سيرة الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)
خطيب جمعة بغداد: ما احوجنا اليوم لفهم مشروع ...
أربعينية الامام الحسين (ع) في كربلاء

 
user comment