عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذِكْر عليّ بن أبي طالب عبادة. (1)
وقد اختلف الرادّون لهذا الحديث في علّته، فأعلّه قوم من جهة الاِسناد، وردّه آخرون من جهة المتن، ومنهم من أبطله من كلتا الجهتين، فيقع الكلام معهم في مقامين:
المقـام الاَوّل
قال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير(2): إسناده ضعيف، وكذا قال العزيزي في السراج المنير وكأنّهما قلّدا في ذلك الحافظ جلال الدين السيوطي في الجامع الصغير(3) حيث رمز لضعف الحديث.
وقال السندروسي في الكشف الاِلهيّ(4): سنده واهٍ؛ وأخذه الاَلباني وزاد عليه قوله: جـدّاً(5)
لم يتّهموا من رجال الاِسناد ـ في ما وقفت عليه من كلامهم ـ إلاّ الحسن بن صابر، وأعلّوا الحديث به، وجعلوا الآفة فيه منه، ومعوَّلهم في ذلك كلام ابن حبّان فيه، فلنذكره ولنبيّن زيفه بحول الله وقوّته.
قال في كتاب المجروحين(6): الحسن بن صابر الكسائي من أهل الكوفة، يروي عن وكيع بن الجرّاح وأهل بلده، روى عنه العراقيّون، منكَر الرواية جدّاً عن الاَثبات، ممّن يأتي بالمتون الواهية عن الثقات بأسانيد متّصلة.
ثمّ ساق له حديثاً مرفوعاً عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
وقال الذهبي بترجمته في ميزان الاعتدال(7): الحسن بن صابر الكسائي عن وكيع، قال ابن حبان: منكَر الحديث. انتهى.
ولم يتكلَّم فيه أحد من أئمّة الجرح والتعديل سوى ابن حبّان، ولم يُترجَم في غير كتابه، وأمّا الذهبي فإنّه مقلّد له في ذلك، فلا اعتداد بكلامه. ومع ذلك فإنّ جرح ابن حبّان للكسائي مردود من وجوه:
الاَوّل: أنّ ابن حبّان ـ هو نفسه ـ متَّهم مجروح، بل رُمي بالعظائم، ومن قلّة حيائه وعدم تعظيمه لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلّمه في عليّ بن موسى الرضا عليه الصلاة والسلام، وقوله: إنّه يروي عن أبيه العجائب كأنّه كان يَهِم ويخطىَ ـ كما حكاه أبو سعد السمعاني في الاَنساب ـ(8)
وعلى من لا يحترم العترة الطاهرة من الله ما يستحقّه(9)
وحكى الذهبي بترجمته في(الميزان) و(التذكرة)(10) عن أبي عمرو ابن الصلاح في طبقات الشافعيّة أنّه قال: غلط الغلط الفاحش في تصرّفاته.
قال الذهبي: صدق أبو عمرو، له أوهام يتبع بعضها بعضاً. انتهى.
وسيأتي ـ بعد هذا إن شاء الله ـ ذكر جملة من أوهامه في نقد الرجال.
ومَن كان هذا حاله كيف يعوِّل اللبيب على كلامٍ انفرد به، ولا متابع له عليه إلاّ من اغترّ به؟!
الثاني: أنّ الجهابذة النقّاد، وأئمّة الرجال والاِسناد قد تكلَّموا في جرح ابن حبّان للرواة، وبيّنوا غلطه في كثير من أحكامه، فلنسرد هنا نتفاً من ذلك، لينجلي لك وَهْيُ كلامه، وينكشف خطؤه في حكمه وإبرامه، ولتذعن بصدق ما ادّعيْناه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فمنهـا: قوله في أفلح بن سعيد ـ أبي محمّـد المدني ـ: يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحلّ الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال. انتهى.
وأفلح هذا احتجّ به مسلم والنسائي، ووثّقه ابن معين وابن سعد.
وتنزّل الذهبي في ميزان الاعتدال(11) للردّ عليه، فقال: ربما قصّب(12) الثقة حتّى كأنّه لا يدري ما يخرج من رأسه. انتهى.
ومنهـا: قوله في سويد بن عمرو الكلبي: كان يقلب الاَسانيد، ويضع على الاَسانيد الصحاح المتون الواهية. انتهى.
وردّه الذهبي في (الميزان)(13) فقال: أسرف واجترأ.
وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب(14): أفحش ابن حبّان القول فيه، ولم يأتِ بدليل.
وقد احتجّ به مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة، ووثّقه ابن معين والنسائي والعجلي.
ومنهـا: طعنـه في عثمان بن عبـدالرحمن الطرائفـي، وقد احتجّ به أبو داود والنسائي وابن ماجة، ووثّقه ابن معين وابن شاهين.
قال الذهبي في ميزان الاعتدال(15): وأمّا ابن حبّان فإنّه يقعقع كعادته، فقال فيه: يروي عن قوم ضعفاء أشياء يدلِّسها عن الثقات، حتّى إذا سمعها المستمع لم يشكّ في وضعها، فلمّا كثر ذلك في أخباره أُلزقت به تلك الموضوعات، وحمل الناس عليه في الجرح، فلا يجوز عندي الاحتجاج بروايته كلّها بحال. انتهى.
وتعقّبه الذهبي بأنّه لم يروِ في ترجمته شيئاً، ولو كان عنده له شيء موضوع لاَسرع بإحضاره.
قال: وما علمتُ أنّ أحداً قال في عثمان بن عبـدالرحمن هذا: إنّه يدلِّس عـن الهلكـى، إنّمـا قالـوا: يأتي عنهم بمناكيـر، والكلام في الرجال لا يجوز إلاّ لتامّ المعرفة تامّ الورع. انتهى.
أمعِن نظر الاِنصاف والتحقيق في هذا الحرف الاَخير من كلامه، وليته بادر للردّ على ابن حبّان ـ في ترجمة ابن صابر ـ بمثل هذا، بل بأقلّ منه، مع أنّ القدح فيه أخفّ وأيسر من جرح الطرائفي، لكن هيهات أن تطاوعه نفسه على ذلك، بل أقرّ ابن حبّان على جرحه المجروح لكون الرجل روى حديث الباب، وتلك (شنشنة أعرفها من أخزم).
بل ظنّي أنّ الكسائي لو كان يسلم من طعن ابن حبّان لَما كان يسلم من لسان ذلك الشامي الخبيث، الذي يغيظ ويستشيط ويأخذه الزَمَع إذا مرّ على منقبـة من مناقب الاِمـام علـيّ أمير المؤمنين عليـه الصلاة والسلام، وأهل البيت الطيّبين الطاهرين الكرام (قل موتوا بغيظكم إنّ الله عليمٌ بذات الصدور)(16)
ومن سرح نظره في تراجم رواة الفضائل من (الطبقات) و(الميزان) لشاهد بالعيان كيف يُجنّ الذهبي ويأخذ في وصم الرجل وطعنه وسبّه من غير ذنبٍ، عدا روايته الفضائل والمناقب، نسأل الله السلامة من مخازي النواصب.
ومنهـا: قوله في محمّـد بن الفضل السدوسي ـ المعروف بعارِم ـ شيخ البخاري، وقد احتجّ به الستّة ووثّقه أبو حاتم والنسائي والدارقطني والذهلي والعجلي، وروى عنـه البخاري أكثر من مائة حديث، كما حكاه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب(17) عن (الزهرة) ـ: اختلط في آخر عمره وتغيَّر حتّى كان لا يدري ما يحدّث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكّب عن حديثه في ما رواه المتأخّرون، فإن لم يعلم هذا من هذا تُرك الكُلّ، ولا يحتجّ بشيء منها. انتهى.
وتعقّبه الذهبي فقال: لم يقدر ابن حبّان أن يسوق له حديثاً منكَراً، فأين ما زعم؟!
وقال أيضاً ـ بعد ذكر توثيقه عن الدارقطني ـ: فهذا قول حافظ العصر الذي لـم يأتِ بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبّان الخسّاف المتهوّر؟!
فعُلم من هذا أنّ ابن حبّان قد يطلق القول في الراوي من دون مستند، فكيف يقبل جرحه للرواة؟!
وإذا تأمّلت ما سُقناه لك هنا لا أراك تتوقّف في ردّ كلامه في الحسن ابن صابر، لا سيّما وأنّه متّهم في مثل هذا الكوفيّ، لاَنّه روى حديثاً في فضل ذِكر أمير المؤمنين الاِمام عليٍّ عليه الصلاة والسلام، وابن حبّان وأضرابه ممّن لا يطيبون نفساً بسماع ذلك، ولا يطيقون السكوت عليه .
الثالـث: أنّ ابن حبّان له أوهام كثيرة يتبع بعضها بعضاً ـ كما قال الذهبيّ ـ، فيذكر الرجل في المجروحين ثمّ يذكره في الثقات، وهذا تناقض بيِّن، وتسامح غير هيِّن، فلذا أوجبت كثرة أوهامه سقوط كلامه!
فمـن ذلك: ذكره دهثم بن قُرّان في الكتابين(18)، قال الذهبيّ في (الميزان)(19)
فذكره في الثقات فأساء، وقد ذكره أيضاً في الضعفاء فأجاد.
ومن ذلك: ذكره زياد بن عبدالله النميريّ في المجروحين والثقات(20)، قال الذهبي(21): فهذا تناقض.
ومـن ذلك: ذكره عبـدالرحمن بن ثابت بن الصامت في كتابيه(22)
قال الذهبي: قال ابن حبّان: فحش خلافه للاَثبات فاستحقّ الترك، وذكره أيضاً في الثقات، فتساقط قولاه. (23)
ومن غرائب أوهامه ما ذكره في ترجمة بشر بن شعيب بن أبي حمزة الحمصي، قال الحافظ ابن حجر: قال ابن حبّان في كتاب الثقات: «كان متقناً» ثمّ غفل غفلة شديدة فذكره في الضعفاء، وروى عن البخاري أنّه قال: تركناه.
قال ابن حجر: وهذا خطأ من ابن حبّان: نشأ عن حذفٍ؛ وذلك أنّ البخاريّ إنّما قال في تاريخه: «تركناه حيّاً سنة اثنتي عشرة» فسقط من نسخة ابن حبّان لفظة «حيّـاً» فتغيَّر المعنى. انتهى(24)
الرابـع: أنّ ابن حبّان من المتعنّتين المشّدّدين الّذين يجرحون الراوي بأدنى جرح، ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أُولي الاَلباب، كأبي حاتم والنسائي وابن معين وابن القطّان ويحيى القطّان وغيرهم، فإنّهم معروفون بالاِسراف في الجرح والتعنّت فيه.
ومن كان من الجارحين هذا ديدنه فإنّ توثيقه معتبر، وجرحه مردود، إلاّ إذا وافقه غيره ممّن يُنْصف ويُعتبَر ـ كما قال أبو الحسنات عبـد الحيّ اللكنوي في الرفع والتكميل(25) ولم يوافق ابن حبّان على جرحه الحسن بن صابر أحدٌ ـ ولله الحمد ـ
ممّن يُنْصف ويُعتبَر.
وقال أيضاً: لا يحلّ لك أن تأخذ بقول كلّ جارحٍ في أيّ راوٍ كان، وإن كان ذلك الجارح من الاَئمّة، أو من مشهوري علماء الاَُمّة، فكثيراً ما يوجد أمر يكون مانعاً من قبول جرحه، وحينئذٍ يحكم بردّ جرحه. انتهى. (26)
وقال في الاَجوبة الفاضلة: ابن حبّان له مبالغة في الجرح في بعض المواضع. (27)
حسبك شهادة هذا الخرّيت المتضلّع والناقد المضطلع دليلاً على ردّ جرح ابن حبّان وأمثاله من المتعنّتين المشّدّدين، كيف لا (وشهد شاهدٌ من أهلها)(28)
الخامـس: أن يقال: إنّ وصف ابن صابر بكونه «منكَر الحديث» ماذا أراد به؟
فإن عنى أنّه روى حديثاً واحداً، فهذا غلط فاحش، لاَنّ ابن حبّان نفسه روى له في كتاب المجروحين حديثاً آخر غير حديث الترجمة ـ كما مرّ ـ بل ظاهر قوله: «إنّه يروي عن أهل بلده» يعني الكوفة، يقتضي تعدّد أحاديثه، فتدبّر.
وإنْ قصد بقوله: «منكَر الحديث» أنّه لا تحلّ الرواية عنه ـ كما حكي عن البخاري ـ فإنّ ذلك جرح مبهم، يُردّ عليه، إذ لا يعرف للحسن بن صابر ما يوجب ردّ حديثه جملةً، بل لو صرّح ابن حبّان بذلك لم يؤخذ به، فقد رُدّ عليه مثله ـ كما مرّ آنفاً ـ.
وإنْ أراد بذلك الفردَ الذي لا متابع له ـ كما أطلقه أحمد بن حنبل ـ فإنّه منقوض بمتابعة غيره له .
على أنّه لا يلزم من روايته المناكير ـ لو سُلّم ـ أن يكون ممّن لا يُحتجّ بـه، كمـا قال الذهبي بترجمة أحمد بن عتاب المروزي من (الميزان)(29): ما كلّ من روى المناكير يضعّف.
وقال شيخ الاِسلام الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: لو كان من روى شيئاً منكَراً استحقّ أن يُذكر في الضعفاء لَما سلم من المحدّثين أحد، لا سيّما المكثر منهم. انتهى. (30)
وقال ابن دقيق العيد: قولهم: «روى مناكير» لا يقتضي بمجرّده ترك روايته، حتّى تكثر المناكير في روايته. انتهى. (31)
وأنّى لابن حبّان إثبات ذلك في حقّ الكسائي، ومنه تعرف أنّ رميه الرجل بنكارة الحديث فيه تساهل، بل هو منكَر من القول وزور، فلا ينبغي أن يعرّج عليه، ولا يركن إليه، والله المستعان.
السـادس: هبْ أنّ ابن حبّان صادق في قوله، لكنّ رمي الراوي بنكارة الحديث لا يوجب بإطلاقه ردّ حديثه، والحكم عليه بالوضع ـ كما
توهّم الخصوم ـ لاَنّه لم يُتّهم بالكذب، ولا بوضع الحديث.
قال الشيخ الاِمام تقيّ الدين السُبْكي: إنّ ممّا يجب أن يُتنبَّه له أنّ حُكـم المحدّثيـن بالاِنكـار والاستغـراب قـد يكون بحسب تلك الطريق، فلا يلزم من ذلك ردّ متن الحديث. انتهى(32)
وكم من راوٍ قيل فيه «منكَر الحديث» أو ما في معناه، ومع ذلك احتجّ به الشيخان في الصحيحين، وغيرهما من أرباب السنن من دون تريّث ولا مبالاة بما وُصم به، وهاك منهم على سبيل الاِجمال:
1- أحمد بن شعيب بن سعيد الحبطي، روى له البخاري والنسائي وأبو داود.
قال أبو الفتح الاَزدي: منكَر الحديث، غير مرضيّ.
2- وأسيد بن زيد الجمّال، روى عنه البخاري في الرقاق.
قال ابن حبّان: يروي عن الثقات المناكير، ويسرق الحديث، بل قال ابن معين: حدّث بأحاديث كذب.
3- وتوبة بن أبي الاَسد العنبري، روى له الشيخان وأبو داود والنسائي.
قال الاَزدي: منكَر الحديث.
4- وحسّان بن حسّان ـ وهو حسّان بن أبي عبّاد البصري ـ روى عنه البخاري.
قال أبو حاتم: منكَر الحديث.
5- وحميد بن الاَسود البصري، روى له البخاري وأصحاب السُنن.
قال أحمد بن حنبل: ما أنكر ما يجيء به!
6- وخيثم بن عراك بن مالك الغفاري، روى له البخاري ومسلم والنسائي.
قال الاَزدي: منكَر الحديث.
7- وعبـدالرحمن بن شريح بن عبـدالله بن محمود المعافري، احتجّ به الجماعة.
قال ابن سعد: منكَر الحديث.
8- والمفضّل بن فضالة القتباني المصري، اتّفق الجماعة على الاحتجاج به.
قال ابن سعد: منكَر الحديث.
9- وموسى بن نافع الحنّاط، روى له الشيخان والنسائي وأبو داود.
قال أحمد بن حنبل: منكَر الحديث.
فلو كان قولهم: «منكَر الحديث» موجِباً لطرح حديث الراوي لَلَزم إبطال جملة وافرة من أحاديث الكتب الستّة وغيرها، ولا يلتزم به منهم أحد.
ولمّا أعلّ ابن الجوزي حديث أنس ـ عند الترمذي ـ: «اللّهمّ أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»، بقوله: لا يصحّ، لاَنّ فيه الحارث بن النعمان، منكَر الحديث؛ تُعُقِّب بأنّ ذلك لا يقتضي الوضع ـ كما في تنزيه الشريعة المرفوعة(33) لابن عرّاق
فلو سلَّمنا قول ابن حبّان في الحسن بن صابر وصدّقناه، فإنّ حديثه هذا ليس منكَراً، لوجود المتابع، فلا وجه لردّ حديثه جملةً.
ولعلّ فـي إيراد ابن حبّـان حديثـاً آخـر في ترجمتـه ـ شاهداً على مقالته ـ دون حديث الباب إشعاراً بما ذكرنا.
وبالجملـة : فقوله في الرجل «منكَر الحديث» لا يدلّ على أنّ كلّ ما رواه منكَر حتّى هذا الحديث ـ كما مرّ عن الذهبي ـ بل جاز أن يراد به أن له مناكير وقعت في أحاديثه، كمـا قالوا ذلك في جماعة، كإبراهيم بن المنذر الحزامي، والحكم بن عبـدالله البصري، والفضل بن موسى السيناني، ومحمّـد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ ـ الذي إليه المرجع في حديث «إنّما الاَعمال بالنيّات» ـ ومحمّـد بن طلحة بن مصرف الكوفي.
وهؤلاء احتجّ بهم البخاريّ وغيره، فتبيَّن فساد رأي من ردّ الحديث من المتأخّرين اغتراراً بكلام ابن حبّان، وانكشف وهن قول الاَلبانيّ: إنّ الحسن هذا متّهم، ووهى.
وكذا تعقّبُه على المُناوي ـ إذ أعلّ حديث الترجمة في فيض القدير(34) بقول ابن حبّان ـ: بأنّ ذلك يقتضي أنّ إسناده ضعيف جدّاً، وأنّ قوله في التيسير: «إسناده ضعيف» غاية في التقصير(35)
هذا مع جزمه سابقاً بأنّ الحديث موضوع(36)
ومن هنا تذعن بضعف هذا الاَلبانيّ في هذا العلم الشريف وقصوره فيه، وعدم اتّباعه للمتقرّر عند أهله، إذ حكم على الحديث أوّلاً بأنّه موضوع ـ وهو شرّ الضعيف، لاَنّه لا درجة بعده مطلقاً ـ ثمّ ذكر أنّ إسناده ضعيف جدّاً، وهذا تناقض عظيم، وجهل كبير يعلمه طلبة نخبة الفكر، لاَنّ السند الضعيف لا يصل أن يكون به الحديث موضوعاً، بل يحتمل أن يكون واهيـاً يرتفع إلى درجـة الضعيف، بخلاف الحديث الموضوع، فإنّه لا يرتفع إلى درجة الضعيف مطلقاً، ولا تنفع فيه المتابعات والشواهد ـ كما أفاد شيخنا ابن الصدّيق أدام الله حراسته(37)
السابـع: أنّ ممّا يكاد أن يُقطع به أنّ ابن حبّان لم يقل في ابن صابر «منكَر الحديث جدّاً» إلاّ لكونه كوفيّاً روى في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وهذا عنده ذنب لا يغفر، وبمثله يُرمى الرجل بالتشيّع فيُردّ حديثه، وهذه عادة النواصب اللئام ـ قبّحهم الله تعالى وأخزاهم ـ في أكثر ما روي من مناقب آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقلوبهم المنكَرة تنكِر مـا ثبت في ذلك، حتّـى إنّ أحدهـم إذا لم يجد مطعناً في الاِسناد قال ـ متعنّتاً ـ: في النفس من هذا الحديث شيءٌ، أو: إنّ القلب ليشهد ببطلانه، وما ذلك إلاّ من جفائهم للعترة الطاهرة المطهَّرة، وسعيهم في إطفاء نور الله تعالى ـ والعياذ بالله ـ.
ومن تتبّع كلام الغويّ الجوزجاني وابن قايماز التركماني وأضرابهما من ألدّاء النواصب أذعن لما قلنا، أمّا فضائل خصومهم التي ما أنزل الله بها من سلطان فلا ترى فيها شيئاً من ذلك التشدّد المقيت، والتقوّل السخيف، وهم أعلم الخلق بكذبها وبطلانها، لكنّ حبّ الشيء يُعمي ويُصمّ، وهوان آل محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الاَجلاف الجفاة حملهم على ذلك، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
وأمّا قول السندروسي في كتابه الكشف الاِلهيّ عن شديد الضعف والموضوع والواهي(38) ـ في حديث الباب ـ: إنّ سنده واهٍ.
فليس بشيء؛ لاَنّه فسَّر الواهي: بأنّه ما يوجد في سنده كذّابان أو أكثر، قال: يعني في كلّ طريقٍ من طرقه(39). انتهى.
وليت شعري، كيف وهّى السند مع عدم اشتماله على كذّاب واحد، فضلاً عن كذّابَيْن، فضلاً عن تحقّق ذلك في كلّ طريق من طرقه؟! فناقض بذلك نفسه!
وقد تحصّل ـ ممّا مرّ ـ أنّ ابن صابرٍ الكسائي غير مطعون فيه، وأنّ جرح ابن حبّان إيّاه بنكارة الحديث ـ مع تفرّده به واختلافهم في قبول الجارح الواحد ـ مردودٌ عليه، لِما بيّنّـا من حاله في جرح الرواة، ومبلغ ذلك عند الاَئمّة النقّاد.
فإنْ قال قائل:يلزم ممّا قرّرتَ أن يكون الحسن بن صابر في عِداد المجهولين.
قلنـا: لا يضرّه ذلك، لاَنّ المراد إمّا جهالة العين أو جهالة الوصف.
فإنْ أُريد جهالة العين ـ وهو غالب اصطلاح أهل هذا الشأن في هذا الاِطلاق ـ فذلك مرتفع عنه، لاَنّه قد روى عنه عبـدالله بن يزيد والفضل بن يوسف القصَباني، وبرواية اثنين تنتفي جهالة العين، فكيف برواية العراقيّين عنه ـ كما ذكر ابن حبّان في ترجمته ـ مضافاً إلى أنّه عرّفه فوصفه بما ذكره.
وإن أُريد جهالة الوصف، فغاية الاَمر أنّه مستور، لاَنّ ظاهر أمره على العدالـة، وقد قبـل روايتـه ـ أعني المستـور ـ جماعة بغير قيد(40) كأبي حنيفة ـ وتبعه ابن حبّان ـ إذ العدل عنده من لا يُعرف فيه الجرح.
قـال: والناس في أحوالهـم على الصلاح والعدالـة، حتّى يظهر منهم ما يوجب الجرح ـ كما في شرح الشرح(41) للقاري ـ.
قال أبو عمرو بن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الّذين تقادم العهد بهم وتفّدرت الخبرة الباطنة بهم(42)، وصححّه النووي في شرح المهذّب كما في تدريب الراوي(43)
وقال في علوم الحديث(44): حكى الاِمام أبو المظفّر السمعاني وغيره عن بعض أصحاب الشافعي(45): أنّه تُقبل رواية المستور وإن لم تقبل شهادته. قال ابن الصلاح: ولذلك وجه متّجه. انتهى.
وقال أيضاً: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستورٍ لم تتحقّق أهليّته، غير أنّه ليس مغفَّلاً كثير الخطأ في ما يرويه، ولا هو متّهم بالكذب ـ أي لم يظهر منه تعمّد الكذب في الحديث ـ ولا سببٍ آخر مُفسِّق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف، بأن رُوي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر، حتّى اعتضد بمتابعة مَن تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد ـ وهو ورود حديث آخر بنحوه ـ فيخرج بذلك عن أن يكون شاذّاً أو منكَراً(46) قال: وكلام الترمذي على هذا القسم يتنّزل. انتهى.
فجهالـة حال ابـن صابـر ـ بل حتّـى التكلّـم فيـه بنكـارة الحديـث ـ لا تضرّه في المقام، إذ قد توبِع على حديثه من طريق حمدان بن المعافى فبانَ، أنّه لم يتفرّد به.
وقد روى هذه المتابعة الاِمام الحافظ الفقيه ابن المغازلي الشافعي في (المناقـب)(47)، قال: أخبرنـا أبو الحسـن أحمـد بن المظفّـر بن أحمـد العطّار ـ الفقيه الشافعي ـ بقراءتي عليه فأقرَّ به، قلت: أخبركم أبو محمّـد عبـدالله بن محمّـد بن عثمـان المزنـي ـ الملقّـب بابـن السقّا ـ الحافـظ الواسطي، قال: حدّثني محمّـد بن علي بن معمر الكوفي، حدّثنا حمدان بن المعافى، حدّثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذِكْرُ عليٍّ عبادة.
وهذه متابعة تامّة ثبت بها خروج الحسن بن صابر من عهدة الحديث، وزالت عنه التهمة، وظهر أنّه لا يدور عليه ـ خلافاً لِما توهّمه المبطلون ـ.
أمّا أبو جعفر حمدان بن المعافى الصبيحي، مولى جعفر بن محمّـد الصادق عليهما السلام ، فقد روى عن موسى الكاظم عليه السلام وأبي الحسن الرضا عليه السلام ، وقد دَعَوا له.
وأمّا صاحبه أبو الحسين محمّـد بن عليّ بن معمّر الكوفي، فقد ذكر الشيخ الاِمام أبو جعفر الطوسي رحمه الله تعالى في (رجاله): أنّ التلعكبري سمع منه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وله منه إجازة.
وهل يُعقل أن يحدّث بها ـ عن طوعٍ ـ مَنْ عاداهم وناواهم، ممّن أقام دهره على نصبهم وعداوتهم؟! اللهمّ لا.
ولو كان تشيّع الراوي قادحاً لَما أخرج الشيخان في الصحيحين عن جماعة من المتشيّعين، وقد جمع الحافظ ابن حجر أسماء من روى لهم البخاريّ منهم، فسمّى نحو السبعين، قال ابن الصدّيق: وما أراه استوعب(48)
وأمّا صحيح مسلم، ففيه أكثر من ذلك بكثير، حتّى قال الحاكم: إنّ كتابه ملآن من الشيعة.
وقد روى الاِمام أحمد في(مسنده) عن عبـدالرزّاق بن همّام الصنعاني مـا لعلّـه يبلغ نصف مسنده، وحكى الذهبـي في تذكـرة الحفّـاظ(49) عن أبي أحمد الحاكم، قال: سمعت أبا الحسين الغازي يقول: سألت البخاريّ عن أبي غسّان.
فقال: عمّ تسأل عنه؟
قلت: شأنه في التشيّع.
فقال: علـى مذهب أئمّـة أهل بلـده الكوفيّين، ولو رأيتم عبيـدالله وأبا نعيم وجميع مشايخنا الكوفيّين لَما سألتموني عن أبي غسّان ـ يعني لشدّتهم في التشيّع ـ.
واعترف الذهبي أيضاً في ميزان الاعتدال(50) بترجمة أبان بن تغلب: بأنّه لو رُدّ حديث المتشيّعين مطلقاً لذهبت جملة من الآثار النبويّة،قال: وهذه مفسدة بيّنة.
وقـد قبل جماعـة مـن الاَئمّـة كالثوري وأبي حنيفـة وأبي يوسف وابن أبي ليلى وآخرون رواية المبتدع مطلقاً، سواء كان داعية أو لم يكن، بل نُقل عن جماعة من أهل الحديث والكلام قبول رواية المبتدعة ـ ولو كان كافراً ببدعته ـ.
واحتجّ الشيخان والجمهور بأحاديث الدُعاة كحريز بن عثمان، وعمران بن حطّان، وشبابة بن سوار، وعبـدالحميد الحِمّاني وأضرابهم.
إذا تقرّر هذا، تبيَّن لك إغراب ابن حبّان والحاكم في حكاية الاِجماع على اشتراط عدم كون الراوي داعية في قبول رواية المبتدع، وهو باطل في نفسه، مخالف لِما هم مجمعون عليه في تصرّفهم، وإنّما نشأ ذلك عن تهوّر وعدم تأمّل ـ كما قال الحافظ أبو الفيض بن الصدّيق ـ.
وأمّا اشتراط كونه روى ما لا يؤيّد بدعته فهو من دسائس النواصب التي دسّوها بين أهل الحديث ليتوصّلوا بها إلى إبطال كلّ ما ورد في فضل عليّ عليه السلام ، وذلك أنّهم جعلوا آية تشيّع الراوي وعلامة بدعته هو روايته فضائل عليّ عليه السلام ، ثمّ قرّروا أنّ كلّ ما يرويه المبتدع ممّا فيه تأييد لبدعته فهو مردود ـ ولو كان من الثقات ـ والذي فيه تأييد التشيّع ـ في نظرهم ـ هو فضل عليٍّ عليه السلام وتفضيله، فيتنج من هذا أن لا يصحّ في فضله حديث ـ كما صرّح بـه بعـض مـن ألقـى جلباب الحيـاء عن وجهه من غلاة النواصب كابن تيميّة وأضرابه ـ.
قال الاِمام الحافظ شهاب الدين أحمـد بن الصدّيق في فتح الملك العليّ بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ عليه السلام (51): وقد راجت هذه الدسيسة على أكثر النقّاد، فجعلوا يثبتون التشيّع برواية الفضائل، ويجرحون راويها بفسق التشيّع، ثمّ يردّون من حديثـه ما كان في الفضائل، ويقبلون منه ما سوى ذلك.
ولعمري إنّها دسيسة إبليسيّة، ومكيدة شيطانيّة، كاد ينسدّ بها باب الصحيح من فضل العترة النبويّة، لولا حكم الله النافذ (والله غالب على أمره)(52)، (يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)(53)
قال: وأوّل من علمته صرّح بهذا الشرط ـ وإن كان معمولاً به في عصره ـ إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ، وكان من غلاة النواصب، بل قالوا: إنّه حريزيّ المذهب، على رأي حريز بن عثمان وطريقته في النصب.
قال: وهذا الشرط لو اعتُبر لاَفضى إلى ردّ جميع السُنّة، إذ ما من راوٍ إلاّ وله في الاَُصول والفروع مذهب يختاره، ورأي يستصوبه ويميل إليه، ممّـا غالبـه ليس متّفقـاً عليـه، فإذا روى مـا فيـه تأييد لمذهبه وجب أن يُردّ ـ ولو كان ثقةً مأموناً ـ لاَنّه لا يُؤْمَن عليه حينئذٍ غلبة الهوى في نصرة مذهبه، كما لا يُؤْمَن على المبتدع الثقة المأمون في تأييد بدعته.
فكما لا يُقبل من الشيعي شيء في فضل عليّ عليه السلام ، كذلك لا يقبل من غيره شيء في فضل أبي بكر، ثمّ لا يقبل ما فيه دليل التأويل، ولا من السَلَفي ما فيه دليل التفويض، ثمّ لا يقبل من الشافعي ما فيه تأييد مذهبه، ولا من الحنفي كذلك، وهكذا بقيّة أصحاب الاَئمّة الّذين لم يخرج مجموع الرواة بعدهم عن التعلّق بمذهب واحدٍ من مذاهبهم أو موافقته.
وحينئذٍ فلا يقبل في بابٍ من الاَبواب حديثٌ إلاّ إذا بلغ رواته حدّ التواتر، أو كان متّفقاً على العمل به، وذلك بالنسبة لخبر الآحاد وما هو مختلف فيه قليل.
وبذلك تُردّ السُنّة أو ينعدم المقبول منها، وهذا في غاية الفساد، فالمبنيّ عليه كذلك، إذ الكلّ يعتقد أنّ مذهبه ورأيه صواب، وكونه باطلاً وبدعةً في نفسه أمر خارج عن معتقد الراوي.
ولهذا لم يعتبروا هذا الشرط ولا عرّجوا عليه في تصرّفاتهم أيضاً، بل احتجّوا بما رواه الشيعة الثقات ممّا فيه تأييد مذهبهم.
وأخرج الشيخان فضائل عليّ عليه السلام من رواية الشيعة، كحديث: «أنت منّي وأنا منك» أخرجه البخاري(54) من رواية عبيدالله بن موسى العبسي، الذي أخبر عنه البخاري أنّه كان شديد التشيّع، وحديث: «لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» أخرجه مسلم(55) من رواية عدي بن ثابت، وهو شيعيّ غالٍ، داعية.
وهكذا فعل بقيّة الاَئمّة، أصحاب الصحاح والسُنن والمصنّفات الّذين لا يخرّجون من الحديث إلاّ ما هو محتجّ به، وصرّحوا بصحّة كثير منها، وذلك كثير لمتتبّعه، دالّ على بطلان هذا الشرط. انتهى.
وإنّمـا سُقتُ لك كلام هذا الاِمام الخرّيت ـ بطوله ـ لنفاسته، وهو الحقّ الذي لا محيد عنه (فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال فأنّى تصرفون)(56)، ولم أرَ مَن سبقه إلى هذا التمحيص الاَنيق، فاشدد عليه يديك، وعضّ عليه بناجذيك، والله الموفّق والمستعان(57
فإنْ قلت: ومع ذلك فقد يقال: إنّ الحديث فرد مطلق، تفرّد به وكيع بن الجرّاح في جميع طرقه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قلـت: وإن كنت ستعرف أنّ الاَمر ليس كما قيل، لكنّ لو سُلّم فلا ضير في ذلك، فإنّ وكيعاً متّفق على ثقته، وقد احتجّ به الجماعة، ومن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ـ كما قاله الاِمام أبو الحسن عليّ بن المفضّل المقدسي(58)
فتفرّد مثل وكيع ليس بقادحٍ ألبتّة، لاَنّ الثقة إذا روى ما لم يروه غيره فمقبول إذا كان عدلاً ضابطاً حافظاً، فإنّ هذا لو رُدَّ لرُدّت أحاديث كثيرة من هـذا النمـط، وتعطّلت كثيـر من المسائـل عن الدلائل ـ كمـا قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في اختصار علوم الحديث(59) ـ.
وقال شمس الدين ابن قيّم الجوزيَّة(60): إذا روى الثقة حديثاً منفرداً به، لم يروِ الثقات خلافه، فإنّ ذلك لا يُسمّى شاذّاً، وإن اصطلح على تسميته شاذّاً بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجِباً لردّه ولا مسوّغاً له. انتهى.
وقال الاَمير الصنعاني في توضيح الاَفكار(61): إذا تفرّد الراوي بشيء نُظر فيه، فإن كان ما انفرد به مخالفاً لِما رواه مَن هو أَوْلى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذّاً مردوداً، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنّما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانه وضبطه قُبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ووكيـع: إمـام مقـدَّم فـي الحديـث، متّصـف ـ عنـد القـوم ـ بجميـع ما اشترطوه من الصفات بلا نكير، فلا ينبغي الطعن في حديث الباب من هذه الجهة، والله وليّ التوفيق.
هذا كلّـه بالاِضافة إلى حديث الحسن بن صابر ومتابعته، وقد روي الحديث أيضاً من طريق محمّـد بن زكريّا الغلابي، عن جعفر بن محمّـد بن عمّار، عن أبيه، عن جعفر بن محمّـد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ في حديث ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : النظر إلى عليّ بن أبي طالبٍ عبادة، وذِكْره عبادة(62)
فإن قيـل: الحمل فيه على الغلابي، لاَنّه متّهم، وقال الدارقطني: يضع الحديث. انتهى.
قلـت:هذا تعسّف وإسراف من الدارقطنيّ، ولم يتابعه عليه أحد، بل إنّ الذهبي ـ على تعنّته وتشدّده ـ اقتصر في ميزان الاعتدال(63) على تضعيفه، وحكى عن ابن حبّان أنّه ذكره في الثقات وقال: يُعتبر بحديثه إذا روى عن ثقة، وقال: في روايته عن المجاهيل بعض المناكير(64)، وقال ابن منـدة: تُكُلّم فيه. انتهى.
ووجه طعنهم في الرجل غير خافٍ، فإنّه كان من وجوه الشيعة بالبصرة، وروى مناقب الآل وصنّف فيها، ولذا قال فيه ابن النديم في الفهرست: كان ثقةً صادقاً.
وقال القضاعي في مسند الشهاب(65): محمّـد بن زكريا الغلابي رجل حديثه حسن.
ولو جـاز الاَخـذ بقول الدارقطنـيّ في الغلابـي لجاز الاَخـذ بتضعيفـه أبا حنيفة في الحديث(66)، ولا يجيزون الاَخذ به البتّة، بل يردّونه عليه، ويعدّونه بغياً منه وإسرافاً(67)، فكذا ينبغي طرح جرحه لمحمّـد بن زكريّا، على أنّه لو صُدّق لم يجرِ في ما نحن فيه، لعدم انفراد الرجل بحديث الباب . ولو سُلِّم قولهم بضعفه، فإنّ حديثه ـ بانفراده ـ يكون ضعيفاً، وهو وإن كان حُجّة في المناقب إلاّ أنّه يشتدّ ويعتضد بغيره من الاَحاديث المتقدّمـة، فترتقي بمجموعهـا إلى درجـة الحسن .
المصادر :
1- تاريخ دمشق ـ ترجمة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)7 ـ 2/408 ح 907./ المناقب: 128، المنقبة 68
2- التيسير بشرح الجامع الصغير 2/20
3- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير 2/665 ح 4332
4- الكشف الاِلهيّ 1/358
5- سلسلة الاَحاديث الضعيفة والموضوعة 4/216
6- كتاب المجروحين 1/239
7- ميزان الاعتدال 1/496
8- الاَنساب 3/74 ـ الرضا ـ، تهذيب التهذيب 4/244
9- فتح الملك العليّ: 130 ـ 131
10- ميزان الاعتدال 3/507، تذكرة الحفّاظ 3/921
11- ميزان الاعتدال 1/274، تهذيب التهذيب 1/233
12- أي: عاب وشتم، انظر: لسان العرب 11/178 مادّة «قصب»
13- ميزان الاعتدال 2/53
14- تقريب التهذيب: 260
15- ميزان الاعتدال 3/45 ـ 46
16- سورة آل عمران 3: 119
17- تهذيب التهذيب 5/269
18- المجروحين 1/295، الثقـات 6/293
19- ميزان الاعتدال 2/29
20- كتاب المجروحين 1/306، الثقـات 4/255 ـ 256
21- ميزان الاعتدال 2/91
22- كتاب المجروحين 2/55، الثقـات 5/95
23- ميزان الاعتدال 2/552
24- التاريخ الكبير 2/76 رقم 1743، هدي الساري ـ مقدّمة فتح الباري ـ: 412
25- الرفع والتكميل: 274
26- الرفع والتكميل: 265
27- الاَجوبة الفاضلة: 179
28- سورة يوسف 12: 26
29- ميزان الاعتدال 1/118
30- لسان الميزان 2/308
31- فتح الملك العليّ: 135
32- شفاء السقام في زيارة خير الاَنام: 29
33- تنزيه الشريعة المرفوعة 2/304
34- فيض القدير 3/565
35- سلسلة الاَحاديث الضعيفة والموضوعة 4/217
36- سلسلة الاَحاديث الضعيفة والموضوعة 4/216
37- بيان نكث الناكث: 34
38- الكشف الاِلهيّ 1/358
39- الكشف الاِلهيّ 1/65
40- كما في نزهة النظر ـ شرح «نخبة الفكر» للحافظ ابن حجر ـ: 100، فواتح الرحموت بشرح مسلَّم الثبوت 2/146
41- شرح الشرح ـ للقاري ـ: 154
42- علوم الحديث: 112
43- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1/268
44- علوم الحديث: 33
45- وهو سُليم بن أيوب الرازي، كما يُعلـم من علوم الحديث: 112، جمع الجوامع ـ لابـن السُبَكـي ـ 2/150، ـ للحافظ السيوطي ـ 1/268. وهو مذهب ابن فَوْرَك أيضاً، كما في جمع الجوامع 2/150
46- علوم الحديث: 31
47- مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 195 ـ 196
48- فتح الملك العليّ: 106
49- تذكرة الحفاظ 3/978
50- ميزان الاعتدال 1/ 5
51- فتح الملك العليّ: 109
52- سورة يوسف 12: 21
53- سورة التوبة 9: 32
54- صحيح البخاري: كتاب الصلح ـ كتاب المغازي ـ باب عمرة القضاء.
55- صحيح مسلم: كتاب الاِيمان ـ باب الدليل على أنّ حبّ الاَنصار وعلي رضي الله عنهم من الاِيمان.
56- سورة يونس 10: 32
57- دراسـات في الجـرح والتعديـل: 2 ـ 153، لمحمّـد ضياءالرحمن الاَعظمي ـ سنة 1417 هـ.
58- هدي الساري: 403، تنزيه الشريعة المرفوعة 1/18
59- اختصار علوم الحديث: 50
60- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: 160
61- توضيح الاَفكار 2/4
62- ابن شاذان /المناقب- المنقبة المائة /163؛ الخوارزمي في المناقب: 2، والحموينـي في فرائـد السمطين 1/19، وكذا أخرجه الصدوق ابن بابويه ؛ في الاَمالي: 119
63- ميزان الاعتدال 3/550
64- ميزان الاعتدال 3/550، لسان الميزان 5/169.
65- مسند الشهاب 2/109
66- كما في سُنن الدارقطني 1/123 ـ /ميزان الاعتدال ص 121
67- فواتح الرحموت 2/154، الرفع والتكميل: 70 وما بعدها