الإنسان وحاجته إلى العلاقة مع الغيب
يدعو القرآن الكريم إلى تحصل العلم، حيث تَردّد ذِكرُ كلمته في سبعمائة آية منه، ولم تكن دعوة القرآن لتحصيل العلم وأهمّيته جاءت بخطاب خاصّ ومستثنى لنوع من الناس، بل جاءت الدعوة لطلبه قلْ هَلْ يَستوي الذينَ يَعلمونَ والذينَ لا يَعلمون ؟! (1) عامّةً لكلّ الناس، بالإضافة إلى توفّر وسائل تحصيله وإتاحتها للجميع. ولكن أيُّ علم هذا الذي يدعو إليه القرآن ؟ بلا شكّ إنّه العلم الذي فيه مصلحة الإنسان، وبه يتحقّق البناء والإعمار، لكنّه يحصل بالكسب والجدّ؛ لذا اتّصف بالنسبيّة يَرفَعِ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنكُم والذين أُوتُوا العِلمَ دَرجات (2)، خلافاً للعلم الحضوريّ الذي لا يُمنَح مِن قِبله سبحانه لأحدٍ إلاّ لمَن ارتضى مِن عباده.
كما لا ينحصر العلم المراد تحصيله بمساحة العالَم المشهود، وكذا لا ينحصر بما هو خاضع للكسب عِبْر الآلة المحسوسة، وإنّما تتّسع دائرته لتشمل عالَماً آخَر، ذاك هو عالَم الغيب.
القرآن لم يفكّك بين العالَمين: الغيب والشهادة، فأعدّ العلم بالغيب وبما وراء المحسوسات علماً، كما سمّى الشخص الذي يحرز على نسبة من العلم بأحدهما أو بكلاهما عالماً.
وبتعبير آخر: إنّ العلم بالغيب يُطلَق على العلم بما غاب عن الحواسّ وبأيّ طريق حصل، فقد يحصل العلم بالغيب عن طريق البراهين العقليّة أو الأدلّة النقليّة، مثالها العلم بوجود الصانع ووحدته تعالى. كما يُطلَق العلم بالغيب على ما غاب عن الحسّ والعقل، مثالها أحوال البرزخ، ويوم القيامة وما يحدث فيه.
وأخيراً، يُطلَق العلم بالغيب على العلم الاستقلاليّ، أي بما غاب عن مشاعر الناس جميعاً.
ومن الواضح أنّ العلم بالغيب من نوعه الأوّل والثاني يمكن أن يحصل عليه الإنسان، أمّا العلم من نوعه الثالث فلا يمكن الحصول عليه.
والواقع يُثبت حصولَ العلم بنوعيه الأولين لجميع المؤمنين، بل حتّى لغيرهم، وحصولهما يتمّ عن طريق الأدلّة العقليّة الحسّيّة، كما أنّ الإيمان بالغيب يستلزم العلم به، فالمتّقون الذين يؤمنون بالغيب عالمون به، كما أنّهم عالمون ببعض الغيب عن طريق إخبار الله تعالى في كتابه، كغَلَبة الروم مثلاً قبل أوانها، وكعلمهم بالحوادث الماضية التي لا تنالها حواسُّهم ممّا كشف عنه القرآن الكريم، وقد قال تعالى: تِلكَ مِن أنباءِ الغَيبِ نُوحيها إليك ما كنتَ تَعلمُها أنت ولا قومُك مِن قَبل (3) (4).
ثمّ لم يتبغِ القرآن من العلم إلاّ العلمَ المؤدّي للمصلحة، وبواسطته يحصل اليقين: إنّما يَخشَى اللهَ مِن عبادِه العلماءُ (5)، ويحرّك إلى العمل والسلوك: كَبُرَ مَقْتاً عندَ اللهِ أن تَقُولوا ما لا تَفْعلون (6). ولكن، هل بمقدور الإنسان أن يحيط بكامل أسرار وخفايا العالمَينِ مطلقاً، وبما صُمِّما بقانونيّةٍ متداخلة ذات تأثّر وتأثير فيما بينهما في تشكّل الظواهر.
يبقى الإنسان ـ الجماعة أو الفرد ـ محدوداً، فلا يقوى على الإحاطة بما حوله وماضيه ومستقبله، ولا تعينه التجارب ولا الأبحاث إلى كامل العلل والأسباب التي تتحكّم في مصير العالمَينِ ذات المدخليّة في حياة البشريّة جمعاء، وإن كان ذلك يدخل تحت دائرة الإمكان العقليّ.
إنّ دعوة القرآن تركّز على تبنّي قاعدة الإيمان بالغيب، والارتباط بالوسائل التي أسّس لها الوحي: الذين يُؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقون (7)، وشدِّ الإنسان إلى تلك القاعدة، لأنّ حضارة الإنسان لا ترتقي دوماً إلاّ بالعنصر المتعالي عن الأرض أو قل عالَم الشهادة، لأنّ الاندكاك بعالم يتّصف بالسفليّة انطلاقاً من كونه يكفي نفسَه بنفسه، مقولةٌ غير صحيحة، لتوقّف التاريخ على الإنسان وتوقف الإنسان على التاريخ، ويبقى الإنسان عند ذلك محجوزاً في نفس التاريخ، فيؤدّي هذا إلى هبوط الحضارة، كما هو ملحوظ في تاريخ الحضارات وانهيارها؛ ذلك لاعتمادها أُفقاً محدوداً: اِرَمَ ذاتِ العِمادِ * التي لم يُخْلَقْ مِثْلُها في البلادِ * وفِرعَونَ ذي الأوتادِ * الذينَ طَغَوا في البلادِ * فأكثَرُوا فيها الفسادَ * فَصَبَّ عَليهِم ربُّكَ سَوطَ عذابٍ (8). ثمّ إن الرقيّ يستدعي أخذَ النسبيّ المحتاج كماله من المطلق؛ لذا لا يمكن إقصاء هذا الإنسان عن هذا العالَم الرحيب، لوجود صلةٍ أزليّة وثيقة، وتلاحمٍ فطريّ أصيل: فإذا سَوَّيتُه ونَفَخْتُ فيهِ مِن رُوحي فَقَعُوا له ساجِدين (9).
الإنسان مخلوق قريب من الغيب، لا بل هو حفنة من الغيب « مِن رُوحي »، وقد تحدث القرآن عن هذا القرب والعلاقة بمشهد آخر، قد تضمّن حواراً بين محض الغيب ـ الله والإنسان: وإذْ أخَذَ ربُّك مِن بَني آدمَ مِن ظهورِهم ذُريّتَهم وأشهَدَهم على أنفسِهم، قالَ: ألستُ بربِّكم ؟ قالوا: بلى شهدنا أن تَقُولوا يومَ القيامةِ إنّا كنّا عن هذا غافلِلين (10)؛ ولهذا يكفي الإنسانَ موعظةً عند الدعوة للاعتقاد بالتوحيد أن نحاكيَه بالتذكرة، كما هي أساليب الأنبياء ودعواتهم التوحيديّة؛ لامتلاكه رصيداً قلبياً سبق وإن أقرّتْه فطرتُه بهذا المعتقد، لذا لا يُقبل من المعاند المشرك أيُّ عذرٍ يبرّر به شِركه، كالغفلة مثلاً.
ولمّا كان الإنسان قد صُممّ بطريقة لا يمكن إقصاؤه عن عالم الغيب، بسبب هذا التلاحم بين العالمَين بما فيها الإنسان كعالم آخر يرتبط معها، وتأثير كلٍّ من هذه المخلوقات مع بعضها، وبما مُنح هذا المخلوق الإنسان النوع مِن قابليات تُمكّنه من توظيف عناصر الغيب المُودَعة فيه وفي الكون لصالح الإعمار والبناء الذي أخذه على عاتقه؛ لذا فهو محتاج إلى التطلّع والانشداد والعلم بهذا العالم، لعلاقة ذلك بشؤون الخلافة.
ندب القرآن الكريم إلى العلم بالسنن كوسيلة تكشف لنا عن واقع مستقبليّ لم يحدث بَعدُ، وتساهم في رقيّ الإنسان نحو الكمال؛ لأنّ العلم بها وبشروطها يضع الإنسان موضعاً يكون فيه قادراً على خلق المصير، ومتعالياً عليه ومتحكّماً في اختيار ما هو مناسب لحياته، فيسعى بوعي لتهيئة وتوفير شروطه وأسبابه اعتماداً على الثابت السُّنَنيّ المكتشَف مِن قِبل الوحي.
إذاً، فالعلم بالسنن وشروطها أمر تحصيليّ كسبيّ، إلاّ أنّه مفردة من مفردات الغَيب، أو أن السنن ذات صلة بالإيمان بالغيب قرباً أو جحوداً، وتمتدّ إلى النوايا والمقاصد القلبيّة والمشاعر والأحاسيس في حياة الأُمّة: ظَهَر الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كسَبَتْ أيدي الناس (11)، ولو أنّ أهلَ القرى آمَنُوا واتَّقَوا لَفتَحْنا عليهم بركاتٍ مِن السماءِ والأرضِ ولكنْ كَذَّبُوا... (12).
كما يخالف القرآن طريقة التعامل العشوائيّة مع السنن، والتي لا تعتمد الوعيَ والعلميّة في الانتقاء، انطلاقاً من دورها وأهميّتها في تحقيق مصير الإنسان.
من جهة قد لا يتوصّل الإنسانُ إلى معرفة دقيقة أو مطلقة بالسنن، وعلى فرض توصّله وإحاطته بفعليّة هذه السنّة أو تلك وفي هذا الظرف أو ذاك، إلاّ أنّه يبقى عاجزاً عن استيعابها على طول الخطّ، وعن استيعاب المعارف الإلهيّة ذات المدخليّة بحياة الإنسانيّة جمعاء، وبها ترتبط حركة الوجود في بُعدَيها الغَيبيّ والحسيّ باتّجاه الغايات الكبرى، عن طريق العلم التحصيليّ الكسبيّ الواعي؛ ذلك لغياب العلم من هذا اللون ـ الكسبيّ ـ بالخفايا والأسرار التي تجري في هذا العالم الرحيب، خصوصاً التكوينيّ لا التشريعيّ فحسب؛ لأنّ الإحاطة لا تتمّ إلاّ بالعلم منه سبحانه، لأنّ التحصيل الكسبيّ الذي يقوم به الفرد أو الجماعة يبقى ظرفيّاً آنيّاً محصوراً بالزمن، عاجزاً عن الإحاطة الكاملة، فهو إذاً ناقص، فلا يُنتج لنا إلاّ الدَّورَ الناقص، والإرادةُ الإلهيّة تريد الكاملة. هذا حتّى بحدود العالم المشهود، فكيف بالبعد الغيبيّ وعالمه الرحيب.
إذاً، فالإنسان النوع بحاجة إلى العلم الموهوب، ولكنّه لا يحصل على هذا العلم إلاّ بأخذه عبر الوسائل الإلهيّة، كالوحي أو الإلهام، أو النقر في القلب، أو التعلّم بالواسطة ممّن يُوحى إليه، لغرض استيعاب حركة التاريخ كلّها.
علاقة العصمة بعلم الغيب
المخلوقات في هذا الوجود لم تُخلَق على وجه الاستقلال، وإنّما لُوحظ فيها المخلوقات الأُخرى التي تحيط بها، فالكون كلٌّ مترابط ويتحرّك بطريقة منظّمة وهَدْيٍ إلهيّ مقدَّر: الّذي أعطى كلَّ شَيءٍ خَلْقَه ثمّ هَدى (13)، وقال تعالى: والشمسُ تَجري لمُستقرٍّ لها ذلك تقديرُ العزيزِ العليم * والقَمرَ قَدَّرْناه مَنازلَ حتّى عادَ كالعُرجُونِ القديم * لا الشمسُ يَنبغي لها أن تُدرِكَ القمرَ ولاَ اللّيلُ سابقُ النهارِ وكلٌّ في فَلَكٍ يَسبحُون (14).
بناءً على ذلك، فالموجودات في المجموعة الكونيّة يؤثّر بعضُها في البعض الآخر، والإنسان لا يُستثنى من هذا القانون، فهو مخلوق ضمن هذ القانون، وبالتالي خاضع إلى قانونيّته، فمن جهة أنّه يتأثر في هذا الكون فواضح؛ لأنّ الشمس إذا ارتفعت أو اقتربت سوف تؤثّر على الحياة بما فيها الإنسان،
ومن الجهة الثانية أنّ الإنسان يؤثّر على مَن حوله من الموجودات، فهذه الجهة تحتاج إلى مزيد من البيان، قال تعالى: وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قريةً كانتْ آمِنةً مُطمئنّةً يأتيها رِزقُها رَغَداً مِن كلِّ مكانٍ فَكَفَرتْ بأنُعمِ اللهِ فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخوفِ بما كانوا يَصنعُون (15).
مفهوم الآية أنّ الاستقرار والهدوء والحركة الهادفة في العلاقة وبين أفراد الجماعة والعمل والإنتاج والرخاء ووفرة السلع وسيادة الأمن في كلّ صوره، كلُّ هذه الأُمور وغيرها تشكّل ظواهرَ سليمة جاءت بسبب كون أهل القرية قد التزموا الشكر بمفرداته العمليّة، كالعدالة والمحبّة والمساواة، ولمّا تخلّت القرية عن هذه القيم ولم تجعل الله محوراً لنشاطها وحياتها، وكفرت بماضيها التوحيديّ المشرق واستبدلته بالآلهة المتعدّدة كالتبعيّة للإنسان القويّ، أو طاعة النفس والشيطان وحبّ المال والسلطة، هذه الارتباطات ستؤول إلى: سوء التوزيع وسيادة الظلم وعدم الاطمئنان وشيوع الخوف والفقر والطبقيّة، فلم يَعُد العيش في هذه القرية بعد ذلك سعيداً أبداً.
الكفر والفسق والنفاق، وأيّ موقف فكريّ أو سلوكيّ صادر من الإنسان، بالنتيجة له امتداد وتأثير بما حوله، وليس بصحيح حصر المسألة بالجانب الماديّ مِن فعل الإنسان، وإنّما تدخل المواقف القلبيّة والاعتقاديّة في هذا الإطار أيضاً، لأنّ الاعتقاد فعل، فالكفر الذي هو عمل باطنيّ له مؤثّرات خارجيّة على مَن حوله من المخلوقات الأُخرى، ومسيرة الإنسان نفسه خاضعة لقراراته الاعتقاديّة الباطنيّة، ولذا تسأل الملائكة عن هذا المخلوق الجديد آدم ـ من خلال ربطها بين الفسق وفعل سفك الدماء، الناتج عن الإرادة ـ وعن مصيره وحياته وحركته في الأرض وكيفيّة تعامله مع المجموعة الكونيّة؛ لأنّهم ضمن معلوماتهم أنّ الكون خاضع لنظام كونيٍّ واحد حسبما يعمل به الجميع، ولابدّ لهذا المخلوق الطارئ على الكون أن يكون منسجماً مع نظامه، ولمّا كان قد صُمِّم بطريقة تجعله يخالف النظام الكونيّ، لذا سوف ينتج سفك الدماء والخراب والدمار في هذا الكون، لأنّ الفوضى تحدث بوجود الإرادة التي تؤدّي إلى الكفر أحياناً وإمكانيّة اختراق النظام والالتفاف عليه، فهذا المخلوق الجديد وجوده خطر لا على نفسه فحسب، بل على الكون كلّه: أتَجعَلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويَسفِكُ الدماء... (16).
لكن الله سبحانه وتعالى أجاب على التساؤل الذي صرّحت به الملائكة؛ لتخوّفها من تولّي هذا المخلوق مقاليدَ الخلافة، فقال: إنّي أعلمُ ما لا تَعلمون * وعَلّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها (17). صنع هذا المخلوق، وأودعَ فيه من العلمَ بما يتلائم مع مهامّه الإلهيّة والتي تعينه على تحقيق الغايات، فعلِمُ الإنسان بالأسماء كلّها هبة منه سبحانه، لقد أطلعه على حقائق الأشياء وأطلعه على الكون كلّه وعلى الأنظمة الحاكمة فيه، ثم ما هو موقعه من هذا الوجود وكيف يؤثّر فيه لغرض استخدامه لصالح أهدافه وغاياته: وكلَّ شيءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مُبين (18)، وإيداع هذا العلم ممّن بعده إلى سلسلة الأنبياء عليهم السّلام حتّى خاتَمهم محمّد صلّى الله عليه وآله، وبعده السلسلة الطاهرة من آله عليهم السّلام.
وهذا العلم هو الذي يُدرِك بواسطته المعصومُ حقائقَ الأشياء، كما هي وبرؤية واضحة، وبشكل لا يقبل الشكّ، فالعلم الذي يتّصف بهذه الميّزة يؤدي إلى العصمة حتماً. وتقريب هذا التصور مثاله:
هناك قانون له مردوداته على حياة الإنسان، قد يُدركه الإنسان ولكن قد لا يدرك آثاره ومردوداته؛ لأنّه لا يمتلك علماً ورؤية بالآثار المترتّبة على مخالفته، مثل أكل مال اليتيم، يقول القرآن الكريم: إنّما يأكلونَ في بُطونِهم ناراً (19).
المعصوم يمتلك علماً يرى فيه أنّ مال اليتيم نار، وغير المعصوم قد يراه مالاً يتلذّذ به فلا يرى أنّه نار مُحرقة، فالمعصوم عنده علم ووضوح بتأثير هذا التصرّف ومردوداته، كما نرى نحن ونعلم بقانون الجاذبيّة الذي جعَلَنا نمتنع عن المخالفة مع وجود القدرة على المخالفة فينا. أما الأثر المترتّب على أكل مال اليتيم فلا نعلم به، أي إنّنا لا نمتلك علماً نرى من خلاله قوانينَ الوجودات كلّها. يوسف عليه السّلام يستطيع أن يعمل الفاحشة؛ لأنّه يمتلك الإرادة الحرّة في ممارستها، إلاّ أن يوسف عليه السّلام يرى الزنا فاحشة بحكم وضوحه وعلمه بهذه القانونيّة، فليس معناه أنّه لا يمتلك اللذّة ولا الإرادة، بل إنّ لديه علماً بآثار هذا القانون، فلا يخالفه إطلاقاً.
من هنا نجد أتْباع مدرسة أهل البيت عليهم السّلام يقولون بعصمة أئمّتهم جميعاً، بما فيهم الإمام الجواد عليه السّلام وإن كان صبيّاً ابنَ سبع سنين، فهو عالم بكل شيءٍ ليس فقط بأحكام الصلاة أو الحج، بل بكلّ شيءٍ، ولا يعصي الله تعالى، بل ولا يُخطئ.
والدولة بأجهزتها مع محاولاتها، كلّما حاولت تكذيب هذه الحقيقة فإنّها لم تنجح، جاؤوا بالإمام الجواد عليه السّلام وهو صبيّ، وجمعوا العلماء وعلى رأسهم القاضي يحيى بن أكثم، ويجلس في مكانه ( كقاضٍ ) ويلتفت إلى الإمام الجواد عليه السّلام قائلاً: يا ابن رسول الله، أسألك ؟
فقال له الإمام عليه السّلام: قم واجلس مجلس السائل من المسؤول ؟
ويقوم يحيى بن أكثم بشيبته ويجلس متأدّباً بين يدي الإمام عليه السّلام جلسة السائل من المسؤول.. فكّر يحيى بن أكثم، ماذا يسأل الإمامَ عليه السّلام ؟ هل يسأله عن الصلاة وأحكامها ؟ وهو عالمٌ بأنّ الإمام عليه السّلام وعائلته يؤدّون الصلاة يومياً، فإذاً هو عارف بالصلاة وأحكامها، فكّر بأنّ هذا الصبيّ في بغداد ولم يذهب إلى الحجّ، فقال له: يا ابن رسول الله، ما قولك في مُحْرِمٍ قتَلَ صيداً ؟
فأجابه الإمام عليه السّلام: قتَلَه في حلٍ أو حَرَم، عالِماً كان المُحرم أم جاهلاً، قتَلَه عمداً أو خطأ، حرّاً كان المُحرم أم عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في اللّيل كان قتلُه للصيد أم نهاراً، مُحْرِماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً ؟
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز، ثم أجاب الإمامُ عن المسألة كما هو مفصَّلٌ ذلك في الكتب (20).
وهذه الحادثة تشير إلى امتلاك الإمام عليه السّلام للعصمة المسدَّدة المتضمّنة للعلم الحضوريّ (21).
والعلم الذي يمتلكه الإمام المعصوم ويتسلّط بواسطته على معرفة الأشياء، وبه تتمّ أغراض الرسالة، موهوب منه سبحانه بدون كسب من الإمام، بهدف أن تكون للإمام قدرة تامّة لتحقيق الغرض الإلهيّ الذي ينبغي إنجازه على أكمل وجه، ويُظهره على الدِّين كلِّه: عالِمُ الغَيبِ فلا يُظْهِر على غَيبهِ أحَداً * إلاّ مَن آرتضَى مِن رسولٍ (22).
والعلم المفاض للإمام بأيّ سبب كان، سواء بإلهام أو نَقْر في الأسماع، أو بتعليمٍ من الرسول ـ ويمتدّ إلى معرفة الغيب ـ فهو غير العلم الذي يختصّ به سبحانه، فذاك مكفوف عمّن سوى الله، وحتّى الملائكة المقرَّبين والأنبياء المرسَلين، وهو الغيب المطلق.
ولذا، فالعلم المفاض يتمّ إما بشكل تعليميٍّ غير طبيعيّ، كما هو في الكتب الإلهيّة المنزَلة على رسله بواسطة أمين الوحي، وهي تتضمّن الأحكام والإخبار بالأحداث السالفة والحاضرة وحتّى المستقبليّة، لكلّ نبيّ بحسب نوع رسالته، قال تعالى: تلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بعضَهم على بعضٍ منهم مَن كلّم اللهُ ورَفَع بعضَهم درجاتٍ... (23).
وإمّا أن يتمّ بشكلٍ عمليّ، مثل المعجزات، فتجري على يديه ولا ينال الرسول إلاّ قيمتها العمليّة، أمّا حقيقتها العلميّة فقد لا يملكها ولا يقف عليها، وقد يحصل عليها كحقيقة إحياء الموتى فإنّها من الغيب الخاصّ به سبحانه. ولكن لا مانع من تعليمه لغيره وإفاضته على بعض رسله، كما ورد في حقّ إبراهيم الخليل عليه السّلام (24)، قال تعالى: وإذ قالَ إبراهيمُ ربّ أرِني كيفَ تُحْيي المَوتى... (25).
ويفترق علم الإمام عن علم الله سبحانه، بأنّ علمه سبحانه قديم وسابق على المعلومات، وهو عين ذاته. أمّا العلم الحضوريّ للإمام، فلا يشارك علمَ الله في شيء من هذه الأُمور؛ لأنّ علم الإمام حادث ومسبوق بالمعلومات، وهو غير الذات فيه وإنّما حضوره عند الإمام بمعنى انكشاف المعلومات فعلاً لديه، فلا يشارك اللهَ في علمه.
وخلاصة القول، إنّ علمه سبحانه ذاتيّ، وعلم الإمام عَرَضيّ موهوب وممنوح منه جلّ شأنه.
موقف القرآن والسنّة من علم الغيب
العلم الذي يمتلكه الإمام المعصوم ومقداره ومستنده، لا يمكن إثباته إلاّ من خلال الطرق النقليّة الواردة في الكتاب والسنّة الشريفة؛ لأنّه ليس بوسع العقل وبمفرده أن يتناوله بالنفي والإثبات؛ لأنّ الإثبات يتوقّف على إخبار غيبيّ بذلك.
من هنا سوف نتناول هذه المسألة بإطارها النقليّ ضمن عدّة أُمور:
الأمر الأوّل: الآيات التي تتحدّث عن علم الغيب في حياة الأنبياء والصالحين:
تناول القرآن الكريم هذه الظاهرة في حياة الأنبياء والصالحين بالنصّ وبالتأكيد عليها، حيث نجدهم عليهم السّلام قد امتلكوا القدرة على العلم بالغيب بإذنه سبحانه واستخدموه لمصلحة الرسالة، وهذه نماذج من ذلك:
1 ـ قال يوسف عليه السّلام لإخوته: إذْهَبوا بقميصي هذا فألْقُوه على وجهِ أبي يأتِ بصيراً... ثم أخبر تعالى عمّا جرى بعد ذلك، فقال: ... فَلمّا أن جاءَ البشيرُ ألقاهُ على وَجْههِ فارتدَّ بصيراً (26).
إنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على أن النبيّ يعقوب عليه السّلام قد استعاد بصره بالشكل الكامل بالقدرة الغيبيّة التي عَلِمها واستخدمها يوسف عليه السّلام من أجل ذلك، ومن الواضح أنّ استعادة يعقوب عليه السّلام بصرَه لم يكن من الله بصورة مباشرة، بل تحقّقت بإذنه سبحانه بواسطة النبيّ يوسُف عليه السّلام.
إنّ النبيّ يوسف عليه السّلام كان السببَ في عودة بصر أبيه، ولولا ذلك لما أمر إخوتَه بأن يذهبوا بقميصه ويُلقوه على وجه أبيه، بل كان يكفي أن يدعوَ الله تعالى لذلك فقط.
إن هذا تصرّفٌ غيبيّ صدر من أحد أولياء الله ـ وهو يوسف عليه السّلام ـ وغيّر المجرى الطبيعيّ بإذنه سبحانه، ولا يَقْدر على هذا التصرّف إلاّ مَن منحه الله السلطةَ الغيبيّة.
2 ـ نقرأ أنّ موسى عليه السّلام يضرب بعصاه الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً، قال تعالى: فُقلنا آضْرِبْ بعَصاكَ الحَجَرَ فآنفجَرَتْ مِنه اثنتا عَشْرةَ عَيناً (27).
كما استخدم موسى عليه السّلام قدرتَه الغيبيّة مرّة أُخرى حينما ضرب بعصاه البحر؛ ليفتح في عمق البحر وعلى أرضه اثني عشر طريقاً يابساً لبني إسرائيل، كي يمرّوا فيه ويعبروا البحر.
قال تعالى: فأوحَينا إلى مُوسى أنِ آضرِبْ بِعَصاك البحرَ فآنفَلَق فكانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطَّودِ العظيم (28).
في هذين الموقفين قد استفاد النبيُّ موسى عليه السّلام من قدرته الغيبيّة الممنوحة له، والتي تحقّقت كلّها بإذن الله وإرادته.
3 ـ لقد كان النبيّ سليمان عليه السّلام يتمتّع بقدرات غيبيّة متعدّدة.. وكانت له سلطة على الجنّ والطيور، وكان يعرف منطقَ الطير ولغات الحشرات.
قال تعالى: وَوَرِث سُليمانُ داوُدَ وقال يا أيُّها الناسُ عُلِّمْنا مَنطقَ الطَّيرِ وأُوتينا مِنْ كلِّ شيءٍ إنّ هذا لَهُوَ الفضلُ المُبين * وحُشِرَ لسليمانَ جُنودُه مِن الجِنِّ والإنسِ والطَّيرِ فَهُم يُوزَعُون * حتّى إذا أتَوا على وادِ النملِ قالت نملةٌ يا أيُّها النملُ آدخُلُوا مَساكنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُم سُليمانُ وجُنُودُه وهم لا يَشعُرون * فَتَبسّمَ ضاحِكاً مِن قولِها وقالَ ربِّ أوزِعْني أن أشْكُرَ نِعمتَك التي أَنْعَمْتَ علَيَّ وعلى والدَيَّ... (29).
وكان للنبيّ سليمان عليه السّلام قدرةٌ غيبيّة خارقة على الريح، حيث كانت تجري بأمره حيث يشاء..،
قال تعالى: ولِسُليمانَ الريحَ عاصفةً تَجري بأمرِه إلَى الأرضِ التي بارَكْنا فيها، وكُنّا بكلِّ شيءٍ عالِمين (30).
والملفت للنظر أنّ الريح ( تجري بأمره )، فهذا دليل على تحكّم سليمان عليه السّلام في مسير الريح ومجراها.
إنّ قدرة الأنبياء وامتلاكهم لعلم الغيب الموهوب يكون على نحو الدوام والاستمرار، وتوجد أكثر من آية تُثبت ذلك، منها:
1 ـ قوله تعالى: أنّي قد جِئتُكم بآيةٍ من ربِّكُم أنّي أخلُقُ لكُم مِنَ الطِّينِ كهيئةِ الطيرِ فأنفُخُ فيهِ فيكونُ طيراً بإذن اللهِ وأُبرِئُ الأكْمَهَ والأبرَصَ واُحْيِي المَوتى بإذن الله (31).
هذه الآية تثبت أن قدرة عيسى عليه السّلام على فعل المعجزات وتَمكّنه منها ليس بخصوص حادثة معيّنة، فإنّه لم يقل خلقتُ لكم طيراً وأبرأتُ لكم الأكمه والأبرص وأحييت لكم ميّتاً، لكي نفهم أنّه يريد واقعةً معيّنة قد حصلت في الماضي، وكذلك لم يقل سأخلق لكم طيراً وأُبرئ لكم الأكمه والأبرص وأُحيي لكم ميّتاً، لكي نفهم بأنّه سيقوم بهذه الأشياء في وقت معيّن في المستقبل وبشكل طارئ، بل عبّر بصيغة الحال وجعل المتعلّق جنسَ الطير والأكمه والأبرص والموتى، فقال عليه السّلام: أخلقُ مِن الطين طيراً وأُبرِئُ الأكمه وأُحْيي الموتى، ممّا يفيد أنّه متلبّس بهذه الحالة على الدوام، وأنّه قادر على فعل هذه الأشياء في أيّ وقت أراد (32).
2 ـ وقال تعالى حكايةً عن سليمان عليه السّلام: قالَ رَبِّ آغِفرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنبغي لأحدٍ مِن بَعدي إنّك أنتَ الوهّاب * فسَخّرْنا له الريحَ تَجري بأمرِه رُخاءً حيثُ أصاب (33).
فتسخير الريح لسليمان عليه السّلام كان استجابةً لدعائه وطلبه، حيث قال: وهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنبغي لأحدٍ مِن بَعدي ، ومن الطبيعيّ أنّ الله تعالى لم يستجب دعاءَ سليمان عليه السّلام للحظةٍ واحدة أو في حادثةٍ واحدة معيّنة، فتسخير الريح كان مِن ضمن المُلْك الذي وهبَه الله تعالى لسليمان عليه السّلام نتيجةَ دعائه، والذي ذكره الله تعالى بعد ذلك بقوله: هذا عطاؤُنا فَآمْنُنْ أو أمْسِكْ بغيرِ حِساب (34).
وعليه، فقدرة سليمان على حركة الرياح وسيرها بأمره، كانت ثابتةً له على الدوام بإذن الله تعالى.
3 ـ وقال تعالى: وألَنّا لَه الحَديد .
فإنّ إلانةَ الحديد لداود عليه السّلام لم تكن بشكل طارئ وفي واقعة معيّنة ولسبب خاصّ، وإنّما كان ذلك فضلاً دائماً آتاه الله تعالى إياه، وهذا ما صرّحت به الآية الكريمة: ولقَدْ آتَينا داودَ منّا فَضْلاً يا جبالُ أوّبي مَعَه والطيرَ وألَنّا له الحَديد (35).
بقي أن نعرف أنّ هذا العطاءَ الإلهيَّ الدائم لعلم الغيب، هل يقتصر في هبته على الأنبياء، أم يمتد لغيرهم من عبادِه الصالحين ؟
صرّح القرآن المجيد بأنّ هذا العطاء الإلهيّ لا يقتصر على الأنبياء فقط، وإنّما قد منَحَه الله سبحانه لمن ارتضى من عباده الصالحين، إذ قال تعالى: قالَ يا أيُّها الملأُ أيُّكُمْ يأتيني بِعَرْشِها قَبلَ أن يأتوني مُسْلمين *... قالَ الذي عندَه عِلمٌ مِنَ الكتابِ أنا آتيكَ بهِ قَبْلَ أن يَرتدَّ إليكَ طَرْفُك.. (36).
فإنّ آصف كان يُخْبر عن قدرته على ذلك بقوله تعالى: أنا آتيكَ به أي أنا القادر على الإتيان به، خصوصاً مع ملاحظة سؤال سليمان عليه السّلام وطلبه القادر على ذلك بقوله: أيُّكُم يأتيني بعَرشِها ، بالإضافة إلى أنّ الله تعالى قد ذكره بوصفه فقال: قالَ الذي عندَه عِلمٌ مِن الكتاب وذِكرُه بهذا الوصف مُشْعِر بأنّ سبب القدرة هو نفس العلم بالكتاب، وهو ما تؤكّده روايات أهل البيت عليهم السّلام، فإذا لم يَنسَ آصفُ هذا العلم فهو قادر على ذلك دائماً وكلّما أراد (37).
الأمر الثاني: الآيات التي تحصر علم الغيب به تعالى وتنفيه عن غيره؛
إنّ علم الغيب يشكّل ظاهرة في حياة الأنبياء والصالحين، إذاً ماذا تعني الآيات التي تحصر علم الغيب به سبحانه وتنفيه عن غيره ؟
قال تعالى: قلْ لا يَعلمُ مَن في السماواتِ والأرضِ الغيبَ إلاَّ الله (38).
وقال: وعندَه مَفاتحُ الغيبِ لا يَعلمُها إلاَّ هو (39).
وقال: ولا أقول لكُم عندي خزائنُ اللهِ ولا أعلمُ الغَيب (40).
وقال: وللهِ غيبُ السماواتِ والأرضِ وإليه يُرْجَعُ الأمرُ كلُّه (41).
وقال: يومَ يَجْمعُ اللهُ الرسلَ فيقولُ: ماذا أُجِبْتُم ؟ قالوا: لا عِلمَ لنا إنّك أنتَ علاّمُ الغُيوب (42).
هذا القسم من الآيات التي تحصر علم الغيب به، لا تتعارض مع الآيات التي تُثْبت علم الغيب لغيره؛ لأنّ الأُسلوب القرآنيّ الشائع في بيان الأفعال الإلهيّة ـ كالخلق والرزق والموت ـ يعتمد على النفي من جهة والإثبات من جهة أُخرى. مثال ذلك قوله تعالى: الله يَتوفَّى الأنفس (43) بما يفيد ظاهراً المباشرة ونفي الواسطة، وقوله تعالى: قلْ يَتوفَّاكُم مَلَكُ الموتِ الذي وُكّل بِكم (44) الذي يفيد وجود الواسطة، إلاّ أنّ التأمّل يجعلنا نعتقد أنّ الآية الأُولى تثبت جهة والثانية تُثبِت جهة أُخرى، فلا يوجد تعارض، وليس هناك نفي وإثبات؛ إذ الآية الأُولى تثبت أنّ الله يتوفّى الأنفس على نحو الأصالة، والآية الثانية تثبت أنّ مَلَك الموت يتوفّى الأنفس على نحو التبعيّة لله سبحانه وتعالى، فالله يتوفّى الأنفس بواسطة مَلَك الموت بموجب الآيتين معاً.
وهكذا الأمر بالنسبة لعلم الغيب، فالطائفة التي تحصر علم الغيب به تعالى فإنّها تنظر إلى علمه الذاتيّ الأزليّ الذي يختصّ به تعالى، وأمّا الطائفة التي تتحدّث عن علم الغيب عند غير الله تعالى فهي تتحدّث عن علمٍ غير ذاتيّ، وهو ما يُفيضه الله من العلم بالغيب على من يختاره من عباده ليُطْلعه على بعض الحقائق، فلا تعارض بين الطائفتين.
الأمر الثالث: الآيات التي تثبت إمكان علم الغيب لغيره تعالى؛
جاءت في القرآن الكريم طائفة من الآيات تتحدّث حول إمكان علم الغيب لغيره تعالى، مثل قوله تعالى:
هلْ أتَبْعُك على أن تُعلّمني مِمّا عُلِّمتَ رُشْداً (45).
قال إنّك لن تستطيعَ مَعيَ صَبْراً * وكيف تَصبرُ على ما لم تُحِطْ به خُبْراً (46).
ولو كنتُ أعلمُ الغَيبَ لآستكثرتُ مِن الخير (47).
وقلْ ربِّي زِدْني عِلْماً (48).
حيث توصّلنا قبل قليل إلى أنّ علم الغيب خاصّ به سبحانه، وهو يَهَب منه لمَن يشاء، ولا تعارضَ في النفي والإثبات بين العِلْمَين، فبنفس هذا التحليل ينحلّ التعارض بين الآيات التي تحصر علم الغيب به والآيات التي تتحدّث عن إمكان علم الغيب لغيره.
إنّ الآيات التي تتحدّث عن إفاضته علمَ الغيب لغيره، تفيد بأنّه علم حاصل بإذنه وإرادته ورضاه، وليس خارجاً عن شؤونه تعالى على كل حال.
الأمر الرابع: الآيات التي تثبت إعطاء علم الغيب لخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله؛
ذكرنا طائفة من الآيات تثبت إمكان الحصول على علم الغيب لبعض العباد، وذكرنا أيضاً ما يُثْبت إفاضتَه علمَ الغيب لغيره سبحانه، مثل قوله تعالى: وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها (49)، وقوله: لا يأتيكُما طَعامٌ تُرزَقانِه إلاّ نبّأتُكما بتأويلهِ قبلَ أن يأتيَكُما (50)، وقوله: وما يَعلمُ تأويلَه إلاّ اللهُ والراسخونَ في العلم (51).
وبنفس هذا السياق توجد طائفة من الآيات تذكر إفاضة علم الغيب لخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله، مثل قوله تعالى: وما يَنطِقُ عنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وحيٌ يُوحى (52)، وقوله تعالى: سَنُقْرِئُك فلا تَنسى (53)، وقوله تعالى: ذلكَ مِن أنباءِ الغَيبِ نُوحيهِ إليك (54).
عن الإمام الباقر عليه السّلام، أنه قال: لا والله لا يكونُ عالِمٌ جاهلاً أبداً، عالماً بشيء جاهلاً بشيء، الله أجلُّ وأعزّ وأكرم مِن أن يفرض طاعةَ عبد يَحجِب عنه سماءه وأرضه (55).
وعن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: « إنّ الله أدّب نبيَّه فأحسن أدبَه »، فلمّا أكمل له الأدب قال: وإنّك لَعلى خُلُقٍ عظيم ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال ما آتاكُمُ الرسولُ فَخُذُوه وما نَهاكم عنه فانتهُوا (56)، وأنّ رسول الله كان مسدَّداً موفَّقاً، مؤيَّداً بروح القدس لا يزلّ ولا يُخطئ في شيءٍ ممّا يسوس به، فتأدّب بآداب الله » (57).
فإذا كان هذا شأن الرسول صلّى الله عليه وآله، وقد أفاض الله سبحانه عليه العلم بالغيب لأجل إكمال الرسالة وسياسة العباد وبسط العدل، وسدّده بروح القدس، فهل منح الله سبحانه هذه القدرة وأفاض علم الغيب لخلفائه الذين ارتضاهم لإكمال مسيرته من أئمّة أهل البيت عليهم السّلام انطلاقاً من نفس الغرض ؟ إنّ هذا ما سوف نتناوله في الفقرة التالية.
الأمر الخامس: النصوص التي تثبت إعطاء علم الغيب لأئمّة أهل البيت عليهم السّلام؛
ذكرنا بأن الله سبحانه قد أعطى علم الغيب لأنبيائه والصالحين من عباده، وأئمّة أهل البيت عليهم السّلام هم الذين أذهَبَ اللهُ عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيراً بنصّ الكتاب والسنّة الصحيحة، وأنّهم خلفاء رسوله في تحقيق مهامّ الرسالة وأهدافها، وهذا يستلزم أن يكونوا عالمين بالغيب كما كان يعلم به صلّى الله عليه وآله.
1 ـ من هنا نجد أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام، يقول: ألا إنّ العلم الذي هبط به آدمُ من السماء إلى الأرض وجميع ما فُضِّلتْ به النبيّون إلى خاتم النبييّن، في عِترة خاتَم النبيّين (58).
2 ـ وورد عن عبدالله بن الوليد السمّان، أنّه قال: قال لي أبو جعفر عليه السّلام: « يا عبدالله، ما تقول الشيعةُ في عليٍّ وموسى وعيسى عليهم السّلام قال: قلت: جُعِلتُ فداك، ومِن أيّ الحالات تسألني ؟ قال عليه السّلام: أسألك عن العلم، فأمّا الفضل فهم سواء قال: قلت جُعِلت فداك، فما عسى أن أقول فيهم ؟ فقال عليه السّلام: هو واللهِ أعلمُ منهما، ثم قال: يا عبدَالله، أليس يقولون: إنّ لعليٍّ ما للرسول مِن العلم ؟ فقال: قلت: بلى، قال: فخاصمهم فيه، قال: إن الله تبارك وتعالى قال لموسى: وكتَبْنا له في الألواحِ مِنْ كلِّ شيء.. (59) فأعَلَمنا أنّه لم يُبيّن له الأمر كلَّه، وقال الله تبارك وتعالى لمحمّد صلّى الله عليه وآله: وجِئْنا بكَ على هؤلاءِ شَهيداً (60)، ونَزّلْنا عليكَ الكتابَ تِبياناً لكلِّ شيء (61) ) (62).