تبدأ المسيرة الربانية في هذه البشرية يوم جعل آدم نبياً في هذه الأرض,وتتكامل المسيرة على مر الايام وتعاقب الاجيال على يد الانبياء المبعوثين والاوصياء التابعين لهم طبقاً للمنهج الالهي لهذه الارض المباركة وتظافر جهود الانبياء واحد بعد واحد وتترابط حلقات عملهم ويبعث النبي محمد ( ص ) الذي تتوج به المسيرة الربانية وتنفتح افاقها على مرحلة جديدة يمتلها عمل خاتم الانبياء الرسول ( ص ) والائمة ( ع ) من بعده.
فالمسيرة الاسلامية التي تبدأ يوم بعثة الرسول (ص ) ما هي الا حلقة أخيرة من حلقات المسيرة الربانية,التي رسمت للأرض ومن عليها ولم تكن بعثته الافاتحة للمسيرة الاسلامية واللبنة الاولى من صرحها الشامخ,وكان على الائمة ( ع ) من بعده ان يكملوا ذلك البناء الشامخ ويقودوا تلك المسيرة حسب منهج السماء.
وانتهت مهمة النبي (ص ) في الارض بوفاته,ولكن مهمة الاسلام لم تنته بعد,وانما نصب الائمة المعصومون من بعد النبي ( ص ) لاكمال هذه المهمة وانجازها.
فمهمة الائمة ليست أمرا منفصلا عن المسيرة النبوية على هذه الارض ودورهم في التاريخ ما هو الا عملية مكملة لمهمة الانبياء.
ومفهوم الامامة جزء تابع وضروري لمفهوم النبوة,والايمان الصحيح بمنهج السماء وبرسالة الاسلام لايكتمل الا بالايمان بالامامة على انها جزء مرتبط بالنبوة,تماما مثلما لايكتمل الايمان بالتوحيد الا بالايمان بالنبوة فالايمان بالتوحيد وحده ايمان ناقص والايمان بالنبوة وحدها اسلام ناقص.
ولما كانت المسيرة الربانية المتمثلة بعمل الانبياء والائمة ( ع ) هي المنهج الالهي الذي وضع للارض فلابد من أن تكون فصولها مترابطة منسجمة وكذلك لابد ان مسيرتها متظافرة متصاعدة على الدوام كيف لا وهي جزء من هذا الكون المترابط وحسبك من نجاحها وتظافرها ان يقودها الانبياء والائمة والمعصومون ويحرص عليها الموحدون المخلصون.
فالعنصران المهمان اللذان يمكن الجزم بهما في هذه المسيرة هما:
1- الترابط في الادوار الذي يستدعي المرحلية في الاعمال والاشتراك في المهمات,أي أن للانبياء دورهم المشترك كما أن للائمة دورهم المشترك أيضاً.
2- التظافر في النمو والمسير المتصاعد والنجاح المستمر بهذه المسيرة المباركة يعني هذا أنه كلما مرت الايام كلما اشرفت المسيرة على الكمال وقربت ساعة انجاز البناء.
ولما كان موضوع بحثنا عن أحد الائمة المعصومين,فلابد من معرفة الدور المشترك للائمة ( ع ) والمرحلة التي كان عملهم ( ع ) في الفترة المعاصرة للامام زين العابدين,كل ذلك لكي نستطلع دور الامام,ونتعرف على المهمات التي كانت ملقاة على عاتقه,والاهداف التي ينبغي تحقيقها ونتفهم الاعمال والممارسات التي كان يقوم بها لتحقيق ذلك.
كانت مهمة النبي ( ص ) تتركز في أداء عملية التبليغ الواسع لهذا الدين وتوسيع دائرة هذا التبليغ أفقيا حتى يشمل اكبر عدد ممكن من الناس وأوسع رقعة من الارض,وتأسيس الدولة وبعث الرسائل والحملات العسكرية,وقبول اسلام المنافقين والمنتفعين,وفتح المجالات أمام الكفوئين لاداء مهمات الدولة الجديدة من دون التدقيق في ايمانهم وحسن اسلامهم كل ذلك من أجل خدمة مهمته الرئيسية وهي التبليغ.وتحقيقا لأهدافه في توسيع رقعة الاسلام افقيا,ومحاولة بذلك تنزيل أحكام الرسالة الى الواقع الحياتي وضبط المجتمع بالاداب والاعراف الشرعية ولقد حرص النبي ( ص ) على ان يجسد الاسلام في الامة في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والروحية من أجل ان يضع البناء الرسالي.وتكمل على يده عملية التبليغ في الامة .
ولم ينتقل الرسول ( ص ) الى جوار ربه الا بعد أن تمت مهمته وتبلغت الامة برسالة الاسلام وعرفت جوهره وانضبطت بروابط الدين الجديد وأحكامه ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ....) ولكن الشيء المهم ان الامة بعد لم يتغلغل الاسلام في أعماقها ولم تفهم أبعاد أحكامه فضلا عن جهلها بمعظم الأحكام,وكان قربها بعهد الجاهلية ووجود النسبة الكبيرة ممن دخلوا الاسلام بمداخل غير سليمة أو غير صحيحة,كلها تشكل بذور خطر في هذه الامة متمثلا في انحرافها عن الدين وخصوصا اذا علمنا بخصوصيتين كانتا انذاك وهما :-
اولا : ان الامة غير قادرة على ان تشخيص مظاهر الانحراف عن هذا الدين وهي بعد عاجزة عن مقاومة هذا الانحراف.
ثانيا : وجود المنافقين والمنتفعين الذين يريدون ان يتجهوا بالامة الاتجاه الذي يحقق منافعهم الشخصية ومطامعهم الخاصة.
وعلى ذلك فقد تركزت مهمة الائمة ( ع ) بعد الرسول ( ص ) في تفهيم الاسلام للامة وتعميق جذوره في نفوسهم حتى تعرف الامة دينها وتتمسك به وبنفس الوقت تقاوم الانحراف وتتصدى له حالة نشوءه.
وسيقع الانحراف طبيعيا في موضوعين:
1- انحراف بالحكم,ويعني سلب الخلافة واغتصابها من الحكام الشرعيين ( الائمة ).
2- انحراف في جسم الامة ومبادئها ويتولاه الرواة الكذابين والعلماء والفقهاء الرسميون.
وواجه الاسلام خطرا كبيرا بعد وفاة الرسول وبعد ان سلبت الخلافة,وانحرف الحكم ويتشخص هذا الخطر في ان الامة كانت تنظر لمنصب رسول الله نفسه نظرتها لرسول الله فهي ترى في ( الخليفة ) ما تراه في ( الرسول ) نفسه فتسمع منه وتطيع أمره وتأخذ دينها منه وتقبل أراءه واجتهاداته وتمتثل وتتسنن بسيرته.
فركز الائمة على موضع الخطر هذا واخذوا يعملون ليتضح الفرق بين الحكام الشرعيين والحكام القائمين ,وكان هدفهم كشف زيف الحكام أمام الامة,وتوضيح أنحرافهم عن الاسلام,وكان الصراع السياسي الذي يمارسه الائمة الثلاث الاوائل والذي انتهى بمجزرة الطف نهاية المرحلة الاولى من عمل الائمة عليهم السلام,والذي تجلى فيها فصل السلطة الزمنية الحاكمة عن منصب الخلفاء الرسالين.وتعرية انحراف الحكام عن رسالة الاسلام.
وكانت من مؤشرات نجاح المرحلة الاولى ان تركز في ذهن شطر كبير من أبناء الامة ابتعاد السلطة عن الاسلام وخطا التلقي من الخليفة مثلما كانت عليه يوم توفى الرسول,واخذت الامة تتحسس نوعين من الحكام : حكاما منحرفين وهم الذين سلبوا الحكم وغصبوا الخلافة وحكاما رسالين تمثل فيهم طهارة الاسلام وعدله كما لمسوا ذلك من تجربة حكم الامام علي وولده.
واصبحت الامة او قطاع كبير منها يرقب غلبتهم وينتظر حكمهم ويعقد امالا على توليتهم الخلافة ونشأت جراء ذلك ثلة كبيرة من الناس ممن توالي الائمة وتتشيع لهم وتؤمن بخطهم .وعليه فان صراع الائمة السياسي في المرحلة الاولى انما كان لخدمة تلك الاهداف السالفة الذكر والتي تحققت بجهودهم المتواصلة.ولم يكن من أجل ارساء دولة الاسلام العظمى لانهم يعلمون ان دولتهم اخر الدول وعند اكتمال مراحل عملهم كما صرح بذلك النبي وأكد الائمة ( ع ) هذا المعنى بعده مرارا.
والمرحلة الثانية التي بدأها الامام الرابع زين العابدين ( ع ) تتركز مهمة الائمة ( ع) فيها على حماية الشريعة ومقاومة الانحراف الذي حدث في جسم الامة على يد العلماء المزيفين والمنحرفين,والوقوف بوجه محاولات الاستغلال للمصالح والمطامع عن طريق تحريف الدين والعبث بأحكامه,وايجاد الرواة الكذابين والوضاعين.
ولذلك ترى حرص الائمة في المرحلة الثانية عن الابتعاد عن الصراع السياسي والانصراف الى بث العلوم وتعليم الناس وتربية المخلصين وتخريج العلماء والفقهاء على أيديهم والاشراف على بناء الكتلة الشيعية والوجود المرتبط بهم في نموه الصاعد فترى وقوف الائمة بوجه العلماء الرسمين ومحاولة نصحهم وتقويمهم والتصدي للعلماء المزيفين والمأجورين وكشف محاولات الرواة والكذابين وتعريتهم أمام الامة والتركيز على حفظ العلوم وتسجيلها وايجاد التيار العلمي الثقافي الكبير في الامة عموما وفي الوجود الشيعي خصوصا.
وبهذه الجهود المخلصة والمتظافرة حفظ الائمة هذا الدين من الانحراف وأوجدوا الفرقة الناجية التي احتضنت الاسلام الصحيح في المسيرة البشرية الطويلة.
وكان هناك بالاضافة الى هذه الجهود واالمهارات الكبار التي قام بها الائمة,خط اخر في العمل يوازي هذه الاعمال وهو تعميق فهم الامة للدين وتقريبها منه والمحافظة على قاعدتها الاسلامية في الحياة العامة وكذلك تجسيد الاسلام في الامة بصورة عملية ورسم الصورة النموذجية للفرد المسلم والمؤمن الصادق.
وكانت الادوار والسنين الطوال والاحداث المختلفة التي عاشها الائمة ( ع ) تمثل حياة مختلفة الجوانب للمؤمن,فامام عابد وامام ثائر,وأمام سجين,وامام غائب,كلها صور متكاملة ترسم أطروحة نموذجية لحياة المسلم,في مختلف شؤون الحياة وفي مختلف الاجواء والاحداث.
ونلتمس أهمية هذا التراث الكبير الذي خلفه لنا الائمة في تناولهم لكل مرافق الحياة وسهولة اكتشاف الموقف الاسلامي أمام أي قضية أو حدث وامكانية انتهاج السلوك الاسلامي في كل شعب الحياة ومجالاتها ومن جهة أخرى كانت حياة الائمة وبهذه الصورة المثالية الني عاشوها وسط الامة هي البديل الذي يطرحونه للامة أمام المسلمين ضد هؤلاء المنحرفين سواء من كان منهم في القصور والقلاع المترفة أو من كان منهم في شعوذته وصومعته فكانت الحياة الاسلامية النموذجية لكل امام تمثل حربة في صرح المنحرفين وعثرة في طريقهم.
وهناك الى جانب مهمة الائمة في الحفاظ على الشريعة وابراز الصورة النموذجية للحياة الاسلامية تكليف اخر يناط بالائمة وهو تكليف شرعي مهم يترك به الائمة مع باقي أفراد المجتمع كل حسب قدرته واستطاعته وهذا التكليف المشترك هو الحفاظ على وحدة الامة الاسلامية وتماسكها وعلى الدولة القائمة انذاك أمام قوى الكفر والمشركين,وكانت مجموعة من مواقف الائمة تأتي في هذا الشأن وتنطلق من هذا المنطلق الشرعي,لأن المحافظة على اسلامية الارض من عاديات الاعداء وكسر شوكة الكفر واجب شرعي ثابت في أعناق جميع المسلمين كل على قدر استطاعته وامكانياته.
( ولابد حينما نريد ان نفهم مهمة الامام ان نفرق مابين الاعمال والمواقف التي تصدر عن تكليف شرعي عام وما بين الاعمال والمواقف التي تصدر عن أمور تستدعيها المرحلة وتقتظيها ظروف الامام وأهدافه الخاصة.)
ووجود منطلقين للاعمال التي تصدر من الامام لايمنع من أن يقوم الائمة بتكاليفهم الشرعية بالصورة التي تخدم بها أهدافهم وتنسجم مع دورهم.
وأنتهت المرحلة الثانية في عمل الائمة بعد ان دون العلم وسجل.وحفظه ثلة من العلماء,وتكامل الوجود الشيعي الذي سيحتضن الاسلام الصحيح ووضعت جميع الضمانات الكافية دون انحراف الامة او ضياع الاسلام ولما تضاءلت احتمالات الانحرافات أو اندثرت.
بدأت حينئذ المرحلة الثالثة وهي العمل لاسعاد الارض بتطبيق أحكام الاسلام وتجسيد الدين في ثنايا المجتمع وهذه المرحلة هي الحلقة الاخيرة في المسيرة الاسلامية الظافرة وبه تتوج المسيرة الربانية المباركة.