عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

الدعوة إلى بناء الأسرة


(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). (الروم/21)
(هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها). (الإعراف/189)
(فانكحوا ما طاب (39) لكم من النساء).(النساء/3)
من استقرائنا لاستعمالات اللغة العربية لكلمة زوج وزواج، ونكاح، نستطيع أن نفهم المداليل النفسية والروحية والاجتماعية والعضوية التي تضمّنها مفهوم الزواج في الشريعة الاسلامية، وندرك سبب استعمال القرآن لكلمة (زوج) كاسم للمرأة والرجل المقترنين بعلاقة شرعية، واستعماله لكلمة (نكاح) كاسم ( لعملية الاقتران، وعلاقة الاستمتاع الشرعية بين الزوجين).
ففي لغة العرب يقال: ( زوّج الشيء بالشيء قرنه به، وزاوجه خالطه وقارنه).
ويقال: ( نكح المطر الأرض: اختلط بثراها).
و( تناكحت الأشجار: إنضمّ بعضها إلى بعض).
وبالعودة ثانية الى قواميس اللغة والبحث عن معنى المخالطة، المنطوي مفهومه في ضمير كلا الكلمتين ( زوج ونكاح) نجد أن:معنى ( خلط الشيء بالشيء ضمّه إليه، ومزجه به، وخالطه مازجه وداخله).
وبالوقوف على معتى ( قرن) الذي انطوت عليه كلمة (زوّج) نجد أن المقصود به هو الربط والوصل. ففي قواميس اللغة ( قرن الشيء بالشيء ربطه ووصله به).
وهكذا يوصلنا الفهم اللغوي لمعنى ( الزواج والنكاح) المستعمل في مصطلح الشرع الى اكتشاف المضامين الانسانية الكبرى التي تنطوي عليها العلاقة بين الرجل والمرأة في عرف الاسلام ومفهومه وهي: ( الضّم، المزح،الربط، الوصل).
واذن فعمليّة الزواج في عرف الاسلام ومفهومه هي: عمليّة تفاعل، وتمازج، وارتباط نفسي وروحي، وضّم الفردين ( الرجل والمرأة بعضهما الى بعض) ليصبحا زوجاً.
فالزوج في اللغة: الفرد الذي له قرين يشاكله، ولولا هذا القرين لبقي كل واحد منهما فرداً لا يملك الزوج المُشاكل لنوعه في هذا الوجود، ولظّل يشعر بالفراع وآلام البعد عن زوجه، ولبقي يبحث ويعشق بصورة فطرية الانضمام الى ذلك الزوج الذي يخرجه من سجن الفرديّة الموحش، ويملأ فراغات الحبّ والحنان والشوق في نفسه.وقد رسم القرآن الكريم لوحة الحبّ، والعلاقة بين الزوجين، بأداء الفظي جميل وبأسلوب معبّر عن الحقيقة الانسانية المنطوية في هذه العلاقة:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).(الروم/21)
فصورّها علاقة ( سكن) و(ودّ) و(رحمة)، وجعل السكن هو الطمأنينة والاستقرار الذي يفتقر إليه الفرد- الرجل والمرأة- عندما يكون بعيداً عن زوجه، لذا فهو لا ينعم بسعادة الودّ والحبّ والحنان والشفقة، إلا في ظلاله، والا بالانضمام اليه، والاقتران به، من ذلك نفهم أن الزوجية في عرف القرآن: ليست رقماً رياضياً يتكون من ضم الرجل الى المرأة، بل هي عملية حذف الفردية، بمعناها النفسي والعضوي، وبهدفها النوعي والاجتماعي، بالالتقاء والتكامل الفطري بين الزوجين، لتتمازج وتتفاعل وتتواصل وترتبط كل الوشائج والاحاسيس النفسية والبيولوجية ليتم التكامل النفسي والبيولوجي بينهما، فتعود الانسانية المنشطرة بينهما الى وحدتها الائتلافية في شخصيتهما، ليكونا أساساً لاستمرار البقاء وتوالد النوع البشري، فالانسانية التي تنمو وتخصب وتمارس نشاطها هي الكل المتكامل من ائتلافهما وارتباطهما، وبدون ذلك تبقى الانسانية مبعثرة لا تستطيع ان تواصل البقاء:
(هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلمّا تغشّاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلمّا أثقلت دعوا الله ربهّما لئن آتيتنا صالحاً لنكوننّ من الشاكرين).(الأعراف/189)
لذا كانت دعوة الاسلام الى الزواج وبناء الاسرة هي دعوة تشريعية وحضارية للحفاظ على الاهداف الطبيعية والاجتماعية للحياة البشرية.
والذي يتابع الدعوة الى الزواج في الاسلام، ويستقرئ نصوصها ومفاهيمها يدرك أهمية هذه العلاقة الانسانية وعناية الاسلام بها، ويكشف أهميتها وقدسيتها في الحياة.
فقد تناول القرآن في آيات كثيرة علاقة المرأة بالرجل وفسّر العلاقة بينهما، ووضّح الحقوق والواجبات لكلّ منهما، وقد ورد هذا الحديث في أكثر من ثمانين آية تحدّثت عن الزوجية والنكاح والتمتع وحبّ النساء والعلاقة بهنّ...الخ.
والقرآن عندما يتحدّث عن الزواج والزوجية، يعتبر العلاقة الزوجية علاقة كونية عامّة تسري على الوجود بأسره، وتشمل كل شيء في هذا الكون، ذرّاته ونباته، وحيوانه وإنسانه... الخ، على أساس علاقة الجذب والشوق والارتباط بين كلّ زوج في هذا الوجود، لاكمال نظامه، وحفظ مسيرته.
(ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون).(الذاريات/49)
ليفهم كل من المرأة والرجل علاقته بزوجه على أساس وعي كوني عام، يتخطّى حدود اللذة والحس الغريزي العابر الى الفهم الزوجي والقانوني العام للعلاقة الزوجية.
وإذا انتقلنا من القرآن الحكيم الى السنةّ المطهّرة، فسنجدها حافلة بالبيان والحديث عن مختلف جوانب الزوجية، وعلاقة الزوجين، حتّى ما يدور بينهما في الخلوة، ولحظات الاستمتاع والتقارب الجنسي.
ولنتناول في موضوعنا هذا شواهد من السنة ترتبط بالزواج وبناء الأسرة، فنذكر منها:
روي عن الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام) أنّه قال: ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (تزوّجوا وزوّجوا، ألا فمن حظّ امرئ مسلم انفاق قيمة أيّمة (40)،وما من شيء أحب إلى الله عزّ وجلّ من بيت يعمر في الاسلام بالنكاح، وما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من بيت يخرّب في الاسلام بالفرقة) )). (41).
ثمّ أوضح الامام الصادق (ع) معقباً على هذا الحديث بقوله: ((انّ الله عزّ وجلّ انّما وكد في الطّلاق وكرر فيه القول من بغضه الفرقة (42)). (43).
وروي عن أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (ع) أنّه قال: ((قال رسول الله (ص):
( من أحب أن يتّبع سنّتي فانّ من سنّتي التزويج) )). (44).
وروى الصادق (ع) عن آبائه عن رسول الله (ص): [ رذال موتاكم العزاب] (45).
وروي: [ من تزوّج أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر](46).
وروي عن الامام الصادق (ع)، أنّه قال: [ إنّ امرأة عثمان بن مظعون - الصحابي الجليل- جاءت رسول الله (ص)، فقالت: يا رسول الله إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم اللّيل، فخرج رسول الله (ص) مغضباً يحمل نعليه حتّى جاء الى عثمان، فوجده يصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله (ص) فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلّي وألمس اهلي (47)، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنتّي، ومن سنّتي النكاح] (48).
كما حث الاسلام على السعي في التزويج والشفاعة فيه وإرضاء الطرفين، فقد روي عن الامام علي (ع) انّه قال:[ أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتّى يجمع الله بينهما] (49).
وعن الامام الكاظم (ع):[ ثلاثة يستظلون بظل عرش الله يوم القيامة، يوم لا ظلّ إلا ظلّه: رجل زوّج أخاه المسلم أو أخدمه أو كتم له سرّاً] (50).
فهذه المنظومة من الأفكار والمفاهيم وقواعد التشريع التي وردت في القرآن الكريم، والسنة الشريفة، حملت إلينا الوضوح الكامل للقيم الانسانية والفهم السليم للزواج، والدعوة إلى بناء الأسرة وتكوينها، لأنهّا عش السعادة وذراع الحبّ، وحجر الحنان الذي يجمع أفراده، ويفيض عليهم أحاسيس الودّ والرحمة من زوج وزوجة، وأبناء وأرحام...الخ.
وهذا البناء الحضاري الشامخ-الاسرة-ليعبّر عن أحاسيس الفطرة،وأشواق النفس،وحاجتها الطبيعيّة للاجتماع والألفة والرعاية في الحياة،لذلك نجد الرسول الحكيم(ص)غضب من هجر عثمان لزوجته، وراح يشرح له موقف الاسلام،ويؤكّد بأنّه ضّد الرهبانية التي تدعو الى هدم الزواج،وتدمير النوع البشري،ومعاداة الفطرة الانسانية ونظم الحياة الطبيعي، ولذلك نجده في هذا الموقف، في مواقف شريعة أخرى يؤكد أن من سنّته وقانون شريعته ( الزواج)، لأن شريعته الالهية السمحاء شريعته حنيفية.
أي بعيدة عن الشذوذ والانحراف، منسّقة مع منطق الوجود الانساني ونظام الفطرة الطبيعي، لذلك اعتبر العزوبة رذيلة، والزواج اكمالاً لنصف الدين، لأنه تنظيم للغرائز والميول والنشاطات والممارسات التي تؤثر في نصف السلوك، سواء في المجال الغريزي أو النفسي أو الاجتماعي، أو الاقتصادي أو الأخلاقي العام...الخ.
ولكي يحقق الاسلام أهدافه بشكل متناسق، وغير متعارض، لجأ الى إزالة العقبات والموانع التي اصطنعها المجتمع البعيد عن مبادئ الايمان، لئلا تصطدم القيم الاجتماعية المختلفة بالقانون الطبيعي للحياة، ولئلا يكون هناك عوارض نفسية، أو اعتبارات اجتماعية تحول دون بناء الأسرة، وإنشاء العلاقات الزوجية، فحطّم كل موانع الطبقية والعنصرية وأمثالهما من الفوارق الجاهلية الأخرى، واستبدلها بقيم انسانية واعتبارات موضوعية مشروعة.كما هذّب نظام المهور وحارب المغالاة فيه لئلا يكون حاجزاً مادّياً،ومانعاً من انتشارواج وإقامة الأسرة.ولننصت للقرآن الحكيم وهو يحدّثنا عن مبادئه وقيمه الانسانية في الزواج:[ وأنكحوا الأيامى منكُم (51) والصالحين من عبادكم (52) وإمائكم (53) إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله واللهُ واسعُ عليمُ* وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهٌم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب(54)مما ملكت(55) أيمانُكُم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحضناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههُن فإن الله بعد إكراههنّ غفور رحيم]. (النور/32-33)
[ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشُركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون الى النار والله يدعو الى الجنة والمغفرة بإذنه ويبينُ آياته للناس لعلهم يتذكرون]. (البقرة/221)
فالآيات واضحة في الحث على الزواج، والدعوة الى الغاء الفوارق الطبقية والمالية ومكافحة البغاء والاباحية.فلا المال ولا الطبقة ولا اللون بل ولا الجمال الحسي يصلح لأن يكون عقبه في طريق الزواج، إنما المقياس هو الصلاح والتقوى وحسن الخلق، فتلك قيم هي الاسلام ومبادئه التي يستمدّها من روحه الانسانية، ونظرته الموضوعية للنوع البشري، وحقيقة النشاط والظواهر الاجتماعية.
والى جانب القرآن الحكيم، قامت السنة النبوية المطهرة بدور بارز في تعميق هذه المفاهيم، وتأكيد تلك القيم نقتبس منها: [ كتب علي بن اسباط الى الامام محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام) في أمر بناته، وانّه لا يجد أحداً مثله، فكتب اليه أبو جعفر (ع): (( فهمت ما ذكرت من أمر بناتك، وأنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك الله، فان رسول الله (ص) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير] (56).
وضرب رسول الله (ص) لذلك مثلاً حيّاً فزوّج زيد بن حارثة - وكان مملوكاً له- زينب بنت جحش بنت عمّته- بنت عمّة رسول الله- وهي من أشرف النساء نسباً، وأكثرهنّ جمالاً، ثمّ تزوّجها رسول الله (ص) بعد أن طلّقها زيد.أن
وزوّج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ضباعه بنت الزبير بن عبد المطلب سيد قريش-وهي بنت عمّ الرسول-من المقداد بن الأسود،وهو لايرقى إليها شرفاً،ولا نسباً وفق الاعتبار الاجتماعي المألوف.وقد جاء حديث الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) شرحاً وتوضيحاً لهذا الموقف حين قال: [ ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) زوّج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلّب، ثمّ قال: إنما زوّجها المقداد لتتضّع المناكح (57)، وليتأسّوا برسول بالله (ص)، ولتعلموا أن أكرمكم عند الله أتقاكم، وكان الزبير أخا عبد الله ( أبي النبي) وأبي طالب لأبيهما وأمّهما] (58).
وأمر رسول الله (ص) زياد بن لبيد من أشراف بني بياضة، ومن وجهاء الانصار ونبلائهم أن يزوّج الذلقاء، ذات الشرف والجمال والمكان الاجتماعي الرفيع، لجويبر الصحابي الفقير، الذي كان يعيش على الصدقات، وسط جمع من الفقراء الغرباء الذين لا أهل لهم ولا مال، في سقيفة بناها لهم رسول الله (ص) تدعى - الصفّة- ليقيموا فيها.وقد بدأت قصة زواج جويبر بحوار جميل لرسول الله (ص) مع هذا الصحابي الجليل حين قال له:[ يا جويبر لو تزوّجت امرأة فعففت بها فرجك، وأعانتك على دنياك وآخرتك، فقال له جويبر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي من يرغب فيّ؟ فوالله ما من حسب، ولا نسب، ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ؟ فقال رسول الله (ص): يا جويبر أن الله قد وضع بالاسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالاسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعزّ بالاسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالاسلام من نخوة الجاهلية، وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهّم؛ أبيضهم، وأسودهم، وقرشيّهم، وعربيهم، وأعجمّيهم، من آدم، وآدم خلقه الله من طين، وان أحب الناس الى الله عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم ](59)، ثمّ أمره ان يذهب الى زياد
بن لبيد فيطلب يد ابتنه، وحين سمع زياد قول جويبر لم يكد يصدّق وردّه في بادئ الامر، إلا أن ابنته الذلفاء اعترضت على موقف أبيها من طلب رسول الله (ص)، وعلى ردّه لجويبر، فتراجع عن موقفه، وزوّجها من جويبر.وفي حياة أهل البيت وأحفاد رسول الله (ص) وهم أئمة المسلمين، وسادة العرب، تجد التجسيد الحي لهذه المبادئ والتسامي الرفيع نحو تلك القيم.فقد روي عن الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) حوار رائع، وموقف
عقائدي فذّ، جرى بينه وبين الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان يبذل جهده لمقاومة الامام علي بن الحسين (ع)، والنيل من مقامه ومكانته، ومن طريف ما يروى أنه: [ كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة، يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وان علي بن الحسين (ع) أعتق جارية، ثمّ تزوّجها، فكتب العين الى عبد الملك، فكتب عبد الملك الى علي بن الحسين (ع): امّا بعد فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنّه كان في أكفائك من قريش من تمجّد به في الصهر، وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت، والسلام.
فكتب الامام علي بن الحسين (ع): [ أمّا بعد فقد بلغني كتابك، تعنفني بتزويجي مولاتي وتزعم أنّه كان في نساء قريش من أتمجّد به في الصهر، وأستنجبه في الولد، وأنّه ليس فوق رسول الله (ص) مرتقى في مجد، ولا مستزاد في كرم (60)، وانّما كانت ملك يميني خرجت منّي بأمر ألتمس به ثوابه، ثمّ ارتجعتها على سنّته، ومن كان زكيّا‍ً في دين الله فليس يخلّ به شيء من أمره، وقد رفع الله بالاسلام الخسيسة، وتمم به النقيصة، وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرئ مسلم، انّما اللؤم لؤم الجاهلية، والسلام] (61).
فلمّا قرأ عبد الملك بن مروان الكتاب بهت، وألقاء الى ولده سليمان، وعلم أنّ محاولة النيل من الامام (ع) قد فشلت، فقرأ سليمان الكتاب وقال لأبيه: [ يا أمير المؤمنين لشدّ ما فخر عليك علي بن الحسين (ع)، فقال له عبد الملك: يا بنّي لا تقل ذلك فأنّه ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف من بحر، ان عليّ بن الحسين يا بنيّ: يرتفع من حيث يتّضع الناس] (62).
وهكذا أزاح الاسلام أخطر العقبات وأكثرها إعاقة وتعارضاً مع روحه الانسانية، ونظريته الواقعية.
وكما عالج الاسلام هذه العقبة الاجتماعية، واستأصل هذا التصوّر الجاهلي المتخلّف، راح يعالج مشكلة مادّية تساهم هي الأخرى - وبشكل فعّال - في إعاقة الزواج، وتحول دون بناء الأسرة، وهي مشكلة غلاء المهور.فالاسلام بعد أن حدّد مفهومه ونظرته للزواج، وقرر أنّه علاقة كونية، ونظام يمارس الانسان فيه عملية الاختيار والارتباط التشريعي، نظر الى المهر(63) نظرة ثانوية، وارتفع بالعلاقة الزوجية فوق الأرباح والمنافع المادية، فحطّم كلّ المفاهيم التي جعلت المهر ثمناً للمرأة، وصنعت من تكاليف الزواج المادية عقبة في الطريق، وجعل رضى الطرفين- الزوج والزوجة- ركني العلاقة الزوجية، وسبب إنشاء الزواج، وليس المال إلا هبة أو منحة يقع العقد الشرعي عليه، فتذكر وتسمّى عند إنشاء العقد، ولم يحدّد الااسلام مقداراً محدّداً من المال، بل أجاز إنشاء عقد الزواج على أقل مهر ترضى به المرأة، ولو كل درهماً أو أقل من ذلك، كما أجاز الاسلام أن يكون المهر منفعة، كأن يعلّم الزوج زوجته القراءة، أو يحفّظها سورة من القرآن، أو يعلّمها لغة أو مهنة معينّة...الخ.
كل ذلك تيسيراً للزواج، وحذفاً لكل العقبات التي قد تعترضه، وأول هذه العقبات غلاء المهور، الذي صار في مجتمعنا الحاضر سبباً في العزوبة، وعقبة خطرة في طريق الزواج، بعد أن نشأت مفاهيم جاهلية متخلّفة عن المهر وكلفة الزواج، وما يقدمّ للزوجة من مهر وهدايا، وخصوصاً بعد ارتفاع تكاليف الحياة وتحديد دخل الفرد.وكجزء من منهاج الاسلام الذي جاء ليحلّ مشاكل الانسان، ويبني حياته على اليسر والنظام، كجزء من هذا المنهاج جاءت المقاومة الصريحة لغلاء المهور وكراهية الاسلام لها وحثّ المسلمين على تخفيض المهور ليكون بأقلّ قدر ممكن.
فقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: [ أفضل نساء أمّتي أصبحهنّ وجهاً وأقلّهنّ مهراً] (64).
وروي أيضاً: [ ان من بركة المرأة قلّة مهرها] (65).
وروي أيضاً: [ فأمّا المرأة فشؤمها غلاء مهرها وعسر ولدها] (66).
ولقد كانت فاطمة بنت رسول الله(ص)المثل الأعلى في قلّة المهر ويسر الزواج،فقد تزوّجت الامام علياً (ع)بمهر يسير متواضع،سجّله التاريخ بفخر واعتزاز على الرغم من أن فاطمة هي بنت رسول الله (ص)وسيدة نساء العالمين،وكان بامكان أبيها أن يوفّر لها من المال ما تنافس به نساء القياصرة والأكاسرة،إلا أن هدفه كان أسمى من ذلك، وعظمة فاطمة وزواجها أجّل من المال والأثاث وعرض الحياة الدنيا.
وقد حدّثنا التاريخ وحفظ لنا هذه الصورة الرائعة بكلّ اجلال وعظمة، فقد روى المؤرّخون ان الرسول (ص) حين أراد تزويج الامام علي (ع) من فاطمة ساله: [ هل معك شيء أزوّجك به؟].
فأجاب الامام أنه يملك سيفاً ودرعاً وبعيراً فقط، ثمّ اتّفق مع الرسول (ص) على بيع الدرع، فباعه بأربعمائة وثمانين درهماً ثمّ جاء بالثمن، فسلّمه لرسول الله (ص) فقبل رسول الله المبلغ المتواضع وكلّف جماعة من الرجال والنساء بشراء الجهاز والأثاث والمستلزمات الضرورية للزواج (67).
فكان أهمّها:
1ـ فراشاً من خيش مصر محشوّ بالصوف.
2ـ وسادة من آدم، حشوها من ليف النخيل.
3ـ عباءة خيبرية.
4ـ قربة للماء.
5ـ كيزان خزف.
6ـ جرّتان خرف.
7ـ مطهرة للماء.
8ـ ستر صوف رقيق.
9ـ سريراً مشروطاً.
10ـ حصيراً هجرياً.
11ـ مخضباً من نحاس.
12ـ قعب لبن.
13ـ قميصاً.
14ـ شنّاً للماء.
15ـ منخلاً.
16ـ منشفة.
17ـ رحى.
18ـ قدراً من نحاس.
فكانت هذه صورة البيت الجديد، وتلك كلفته المتواضعة، كلّ ذلك ليضرب رسول الله (ص) المثل الأعلى، ويجسدّ المبادئ حياة وعملاً.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ماذا يحب الرجل في المرأه ..
دعوة للتكامل مع الاحتفاظ بخصوصية الآخر
خصائص الأسرة المسلمة
هل يعاني الشباب حقاً من مشكلة؟
إصدار كتاب "كربلاء كما شاهدت
اعتصام “زينبيات صمود” ومسيرات “أنات الإنتصار” ...
الواصلية
الإمام الخميني (ره) أحيا الإسلام وبث روح المقاومة ...
الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بالشيخ صاحب ...
اليك عشر طرق للنوم الهاديء

 
user comment