استخدم المستشرقون الأوائل على وجه العموم خطةً عملية في تناولهم للإسلام تهدف إلى تشويه صورته والتشكيك في مصداقيته، فاستهدفوا أولاً القرآن الكريم باعتباره قاعدة الإسلام الكبرى الذي اجتمع عليه العرب وأحبوه ودانوا الله بحبه، وعكفوا على تلاوته وحفظه وتدبره، ولأنه الكاتب الذي أحبه العرب ممن دخلوا في الإسلام وتعلموا لغة القرآن ومهروا فيها وصاروا أئمة في علوم القرآن وأعلاماً في العلوم الإنسانية.
اتجه المستشرقون أولاً إلى ترجمة القرآن الكريم بهدف تحريف كلمه، وتصحيف معانيه بحيث تخدم أغراضهم في الحط من الإسلام، ولهذا استخدموا هذه الترجمات بطرق مغرضة للوصول إلى أهداف محددة، وملتوية بعيدة عن النص في لغته وفحواه.
- من هذه الطرق:
* انتقاد الأحاديث النبوية الصحيحة.
* اعتمادهم على الكثير من مادة أدب السيرة والمغازي غير الصحيحة.
* اعتمادهم على الأحاديث الضعيفة، والحكايات التاريخية الملفقة، والروايات المتعارضة في ظاهرها دون بذل أي جهد للتوفيق بينها في إطار الروايات الصحيحة والمسلمات الإسلامية، ونحو ذلك.
وقد قادتهم أو ساعدتهم هذه الخطة المسبقة إلى تقرير نتائج غير صحيحة علمياً، وأحياناً كثيرة، غير مقبولة عقلياً؛ وليس لها أدنى ارتباط بمقدماتها، فزعموا على سبيل المثال أن القرآن كتاب بشرى، ألَّفه النبي (ص). لذلك جاءت ترجماتهم الأولى للقرآن تحمل هذا العنوان \"قرآن محمد\"؛ وفي سبيل تحقيق هذا الغرض وإبرازه، راحوا يتنكبون كل طريق على غير هُدى، ليثبتوا أن محمداً قد استعار من الكتب اليهودية والنصرانية عند كتابة القرآن؛ وقاسوا القرآن خطأً على كتب العهد القديم والعهد الجديد، والتي جُمِعت من هنا وهناك، في أحقاب زمنية جد متباعدة، كما أكده النقاد الغربيون أنفسهم بالنسبة للكتاب المقدس؛ والذي سبق إليه علماء مسلمون كبار في دراسة الأديان المقارنة من أمثال النوبختي، الجاحظ، وابن حزم الأندلسي، والقرطبي، وحجة الإسلام الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم والقرافي وغيرهم.
ناهيك بالإساءات البالغة التي وجهها هؤلاء الغربيون لرسول الله (ص)؛ إذْ انتقدوا حياته الخاصة والعامة، ورماه رجال الكنيسة المتعصبون بأدوائهم؛ فزعموا أنه كان شهوانياً، مغرماً بالنساء، ومزواجاً؛ وزعموا كذلك أنه (ص) كان مصاباً بمرض الصرع، والهلوسة، والوهم، والهستيريا... إلخ؛ وأنه ألّف بنفسه الآيات القرآنية التي رأى فيها راحته النفسية، وسلواه الروحية وتحقيقَ طموحاته في الحياة، وزعموا كذلك أنه (ص) كان سيئ الطبع قاسي القلب، يغدر ويفجر بأصحابه، وغير ذلك من الأوصاف التي تُكَذِّبها حياته (ص) وسيرته، وشهادة معاصريه، ومنهم أعداؤه.
وهذه الأكاذيب ما كان ينبغي أن تُحاك حول رجلٍ قد بلغ القمة بفضائله، وتجرده في كل أعماله وأقواله (ص) وبحبّه للإنسانية، وفتح أعين الناس على العدل والحق والخير، وغَيّر وجه التاريخ، وعدَّل مسيرته؛ والله لو لم يكن هذا الرجل نبياً أو رسولاً لكان أجدر بنا أن نُجِلَّه ونتبعه، ونؤثره، ونقدمه على كل عظيم. فما بالك وأدلة السمع، والفؤاد، والعقل، والتاريخ، والسيرة، والآثار الحية الباقية على الدهور قد تضافرت جميعاً على صدق نبوته، وثبوت عصمته، وصحة رسالته، وسمو أخلاقه (ص).
كل هذه الأكاذيب حاكوها بقصد الطعن في النبي، كمُبلغٍ للقرآن، وحتى لا يكون محمد (ص) أهلاً للثقة، ولا جديراً بالرسالة، ولذلك لما لم تفلح أكاذيبهم، ولما لم يتوصلوا إلى أغراضهم بالألسنة والأقلام، شهروا السيوف، وحملوا الصلبان ضد المسلمين، وزحفوا عليهم في ديارهم، من كل حدب في أوروبا ينسلون، يقاتلونهم ويحتلون أرضهم ويعبثون بمقدساتهم.
بل لقد كان الاستشراق والتنصير بمثابة الحرب الباردة ضد المسلمين، وكان من المستشرقين مَن عمل مع قوات الاحتلال البريطاني، وتجسس لحسابهم كالمستشرق \"بالمر\" (1840- 1882)، ومما ينبغي ذكره أن بالمر ترجم قصائد البهاء زهير؛ ثم ترجم القرآن فيما بعد إلى اللغة الإنجليزية، ونشرت ترجمته للقرآن ضمن سلسلة كتب الشرق المقدسة التي كان \"ماكس ميلر\" يتولى إصدارها. عمل هذا المستشرق جاسوساً للاستعمار البريطاني في المنطقة العربية، وبالأخص في صحراء سيناء، ليؤلب زعماء القبائل هناك ضد أحمد باشا عرابي، ويجمعهم على نصرة بريطانيا ضد ألمانيا، وقد كان مصيره القتل؛ ومما ينبغي ذكره أيضاً أنه كان من هؤلاء المستشرقين الكبار أعضاء في مجامع لغوية وعلمية، عربية وإسلامية، وكذلك كان منهم أساتذة في جامعاتٍ مصرية وعربية أخرى، ينشرون أفكارهم المعادية للإسلام بين المسلمين، تحت ستار البحث العلمي؛ ومن هؤلاء المستشرق الألماني الكبير فنسنك (1882- 1939م) الذي طُرد من مجمع اللغة العربية بمصر بسبب كتابه: \"العقيدة الإسلامية.. نشأتها وتطورها\" والذي رَدّ فيه الإسلامَ إلى أصول شرقية، وجاهلية. ومما هو جدير بالذكر أن فنسنك من المشاركين في إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ولكن هذا العمل العملاق يستحق عليه الشكر هو وكل مَن ساهم معه في سبيل إخراجه.
وعلى القائمة يوجد اسم المستشرق الإنجليزي \"جب\" (1895- 1971م) الذي حاك كثيراً من الافتراءات والترهات حول القرآن الكريم، إذ قد ادّعى انه من صنعة محمد، جرياً على الأصولية العدائية للمستشرقين، هذا هو ما ينضح به كتاب (Muhammadanism) المحمدية (يعني، الإسلام)؛ والمستشرق الألماني فيشر (1865- 1949م) طرد من عضوية المجمع اللغوي سنة 1945م؛ لأنه كتب رسالة بعنوان \"آية مقحمة في القرآن\"، كما ادعى أن الاسم \"محمد\"، كان يستعمل بين البيزنطيين قبل الاسلام؛ وليس أقل غرابة ولا أبعد في المبالغة من زعمه أن سكان مكة، والمدينة، وأجزاء من الأماكن المحيطة بهما، قد تخلوا عن استعمال الإعراب في زمن النبي (ص) وبعده. هذه المقولة المزعومة تخفى وراءها غرضاً آخر غير مجرد الدراسة، وهو الطعن في القرآن.
ومن البارزين في مجال الحرابة ضدّ القرآن المستشرق الفرنسي بلاشير (1900- 1970م) الذي اقتفى آثار سَلَفَيْه، فلوجل، ونولدكه، في طريقة ترتيب القرآن حسب النزول؛ يزعم بلاشير أن فقرة \"الغرانيق\" المزعومة من صميم القرآن، وأن القرآن قد تعرضت أجزاء منه للضياع سواء المحفوظ منها في الذواكر، أم المسطور منها في الدفاتر. ولسنا ندري على أي أساس بنى بلاشير زعمه في ضياع أجزاء من القرآن. وعلى أي أساسٍ ساغ لها هذا القول. ويردد بلاشير دعوى المستشرق اليهودي أبراهام جيجر وغيره، بأن القرآن مأخوذ من مصادر يهودية ونصرانية، مشيرين بالذات إلى إنجيل الصبوة الذي لا يعترفون به ضمن الأناجيل المعتمدة كنسياً؛ وذلك لمجرد وجود بعض النقاط المتشابهة بينه وبين القرآن؛ وهذا زيف وحيف أنَّى لمحمد بهذا الإنجيل، وغيره من الأناجيل، التي لم تكن قد نقلت إلى العربية، بل لم تكن في متناول أيدي عامة النصارى أنفسهم.
يلحق بهؤلاء ألفريد جيوم الذي حصل على عضوية المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1948م، والمجمع العراقي سنة 1949م. فقد قامت دراسات جيوم كلها على أساس بشرية القرآن وانتحال محمد مادة القرآن من اليهودية والنصرانية؛ وأخطر ما كتب هذا المستشرق كتابيه \"حياة محمد\" (أكسفورد: 1956م)، و\"الإسلام\" سنة 1954م.
وأغرب دعوى قال بها جيوم هي زعمه بأن \"الإسلام ابن وقته\"، يعني أن محمداً (صلوات الله عليه وسلامه)، لم يُبْعث إلا لعرب زمانه، وليس لكل العرب في كل زمان ومكان، وفحوى هذا الكلام أن الإسلام غير قابل للتطبيق بعد وفاة محمد (ص)؛ وأن دين الإسلام إنما أسسه محمد (ص) لمواجهة مشكلات وأمور محلية خاصة، خضعت لظروف معينة، انتهت بوفاته (ص). والبديل عن الإسلام في غاية ما ينتهي إليه كلام جيوم هو ضرورة تخلي المسلمين عن الإسلام، وطرح الانتماء إليه وتبني النموذج الغربي، في الديانة والحضارة. لم يعبأ المستشرق جيوم بالآيات الكثيرة والمتنوعة ولا بالأحاديث الكثيرة والواضحة كذلك في تقرير عالمية الإسلام وشمول دعوته لكل أفراد النوع ومناحي الحياة لكل العقول ولكل البيئات. ونقول بأبلغ صيغ التأكيد إن القرآن لا تتسع له المجتمعات الضيقة المحاصَرة، ولا الشعوب المتقاعسة المكبلة بأسباب الجهل والكسل والجمود واليأس.
والمستشرق الفرنسي جون بيرك عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة أيضاً، ممن اعتنق عقيدة سلفه من المستشرقين، والمنصرين في القول ببشرية المصدر القرآني. وقد وجهت الدكتورة زينب عبدالعزيز حملةً ضدّه، وأفلحت في تنبيه الأزهر، وأعلام الفكر في مصر إلى موقفه من كتاب الله تعالى.
أما الكاتب الأمريكي ولْفِسونْ صاحب كتاب \"فلسفة علم الكلام\"، فيزعم أن القرآن متناقض وبخاصة من مسألة \"القضاء والقدر\"، وهو بهذا لم يتهم القرآن بالتناقض، وإنما لنفسه اتهم بسوء الفهم والتعجل في إصدار الأحكام، وأكد التهمة على نفسه في ذلك. ليس في القرآن تناقض، ولا عوج، وإنما فيه معالجة حكيمة لجوانب النفس البشرية والحياة الإنسانية، وذلك في إطار القدرة والعناية الإلهيتين؛ والتدبير الرباني، ولقد ساءني كثيراً أن ولفسون قد ترجم الآية الثانية من سورة الحديد: (يُحْىِ وَيُمِيتُ) هكذا (He, Maketh alive and killeth)، فترجم كلمة (وَيُمِيتُ) بكلمة (Killeth) أي يقتل؛ وهذا بعيد جداً عن المعنى المراد، ومصادم لوضع اللفظ في قرينة الآية، ومجموعة الآيات المجاورة كذلك. والترجمة الصحيحة لكلمة (وَيُمِيتُ) على النحو التالي: \"He (Allah) makes or causes to die\".
وإذا نظرنا إلى ترجمة إدوارد بالمر Edward Palmer (1840- 1882) الإنجليزي، وجدناها تلتزم بالحرف أكثر مما تلتزم بالمعنى، ولاحظنا أيضاً أن المترجم قد ضل في شعاب القرآن الكريم؛ وأنه قد جمع إلى عدم الإيمان بالإسلام عدم الإلمام بأسرار اللغة العربية؛ فاجتمعت فيه السوأتان معاً، سوأة عدم الاعتقاد، وسوأة عدم الفهم الصحيح.
يقول بالمر عن أسلوب القرآن ولغته: \"إن لغته نبيلة وقوية، لكنها ليست أنيقة ولا متألقة أدبياً، ولابدّ أنها قد أثارت دهشة سامعي محمد (ص) وإعجابهم من ناحية الطريقة التي أدخلت في أذهانهم حقائق عظيمة عَبَّر محمد (ص) عنها بلغة الحياة اليومية؛ وليس في الأسلوب القرآني، ولا في الألفاظ شيء عتيق، وليس في كلام القرآن جمال، ولا خيالات لطيفة، ولا محسنات شعرية بديعة؛ لم يكن النبي يتكلم بفصاحة؛ بل بلغة خشنة، شديدة ومعتادة؛ والتحسين الخطابي الوحيد الذي سمح محمدٌ لنفسه به، هو أنه جعل فواصله (أي القرآن)، وكلماته ذوات إيقاع متفاوت الوزن. وجعل معظم عباراته مسجوعة- وهذا أمر كان، ولا يزال طبيعياً، عند كل خطيب عربي، وهو نتيجة ضرورية لتركيب اللغة العربية\"؛ يرمي المترجم من خلال هذا الزعم أن القرآن غير خارق وغير معجز، وإنما هو من جنس كلام العرب، وبالتالي من مقدوراتهم الأدبية.
وهو بهذا ينفي عن القرآن أهم صفاته، وهي البلاغة العالية والبيان السامي؛ ويقطع كأسلافه بأن القرآن من عمل محمد (ص) ومن تصميمه. ويعتبر هذا المستشرق أن الفواصل والأسجاع القرآنية \"نتيجة ضرورية لتركيب اللغة العربية\"، وقد تكلمنا عن الفواصل، والأسجاع في قرنية لغة القرآن؛ ولكننا نلفت النظر هنا إلى ادعاء بالمر بأن الأسجاع من ضرورات اللغة، هذا إطلاقٌ متعسف، وتَحَكُّمٌ بالباطل.
السجع طريقة من طرق التعبير وليس ضرورة من ضرورات اللغة ألبَتَّةَ؛ والفرق بين الطريقة والضرورة كبير، كما ذكرنا من قبل. أضف إلى ذلك أن النبي (ص) لم يكتب القرآن، ولم يختر هو ألفاظه وتراكيبه، وإنما تلقاه بجملته من جبريل، الذي تلقاه بجملته عن الله تبارك وتعالى. والفرق بين القرآن وبين حديثه (ص)، كالفرق بين لغة البشر ولغة القرآن الذي هو كلام الله رب العالمين.
ولكي نعرف مدى غلو هذا المستشرق في طعنه في القرآن يبقى أن ندقق النظر في عبارته الفجّة، وهو يقرر طريقته الترجمة قائلاً: \"لقد ترجمت كل جملة بالقدر من الحرفية، الذي يسمح به الاختلاف بين اللغتين (العربية والإنجليزية)، وترجمته كلمة بكلمة كلما كان ذلك ممكناً. ولكنه عندما يكون التعبير خشناً أو مبتذلاًَ في العربية لم أتردد في نقله، بلغة إنجليزية مماثلة، حتى لو كان النقل الحرفي يصدم القارئ\".
القرآن ليس فيه تعبير خشن أو مبتذل ألبَتَّةَ، وإنما المبتذل كلام بالمر، ودعاواه الفارغة، وشدة تحامله على القرآن، وتجمله لنقاد الإسلام. هذا غيض من فيض يمكن أن يقال حول ترجمة بالمر، ومقدمته على هذه الترجمة.
والآن نلقى بعض الضوء على ترجمة آرثر جون أربري (مستشرق إنجليزي 1905- 1969) وهو أديب ذواق واسع الاطلاع. عُنِي آربري بترجمة القرآن الكريم، فأصدر في أوائل الخمسينات ترجمة لمختارات من آيات القرآن، صدّرها بمقدمة طويلة، وكان عنوان هذه المختارات \"القرآن المقدّس\"، The Holy Koran، نشرت في المجلد التاسع من سلسلة \"الكلاسيكيات الأخلاقية والدينية للشرق والغرب\"؛ التي كان يشرف هو عليها منذ عام (1950). وفي (1955م) أصدر المستشرق نفسه ترجمة كاملة لمعاني القرآن في مجلدين؛ ثم في مجلد واحد بالقطع الصغير، عنوانه هو (The Koran Interpreted) القرآن مفسراً أو ترجمة تفسيرية للقرآن.
لم يراع المترجم حرفية تسلسل الآيات، ولا بنائها اللغوي، وإنما راعي اختيار أحسن الأساليب في اللغة الإنجليزية ملائمة للتعابير القرآنية؛ ولذلك جاءت ترجمته في ثوب لغوي آنق، وبيان أنصع وأمتع من ترجمات غيره، وإن كان لنا على ترجمته كلامَ نقوله في غير هذا الموضع، في بحث خاص عن ترجمة النص الديني دراسة مقارنة. وفي الجملة فإن ترجمة آربري لا تخلو من أخطاء، ومخالفات.
وسوف ندخر الكلام هنا ترجمة رودوِيلْ (Rodwell) الإنجليزية للسبب نفسه، ونكتفي بمجرد الإشارة إليها هنا، ولا يفوتنا ونحن نستعرض أهم ترجمات القرآن ومقدمات المستشرقين ودراساتهم حوله، أن ننوه بجهود المستشرق الألماني \"فلوجل\" (G.L. Flugel) (1870- 1802) في وضع معجم مفهرس لألفاظ القرآن، والذي أفاد منه بلا شك الباحثون جميعاً في الشرق والغرب وإن كنا لا نوافق فلوجل في طبعته للقرآن (الطبعة الأولى 1834، والطبعة الثانية 1842م) والتي خالف في ترقيمها المصحف العثماني.
وليس يجمل بنا أن نتجاوز التنويه بموقف الفيلسوف الإنجليزي \"توماس كارليل\" كأحد المعتدلين من عباقرة الغرب، الذي عَبَّر في كتابه \"البطولة وعبادة الأبطال\" ترجمة محمد السباعي، عن سخطه من اتهام بني قومه للنبي محمد (ص) بالكذب والخداع؛ ويعتبر هذا الفيلسوف محمداً (ص) بطلاً صادقاً، ومؤسساً لأمة كبيرة وعظيمة، يقول: \"لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغى إلى ما يدعيه المدعون من أن دينَ الإسلام كذبٌ، وأن محمداً خداعٌ مزورٌ، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة أثناء عشر قرناً (أكثر من أربعة عشر قرناً الآن) لنحو مائتي مليون (بزيادة بليون نسمة الآن) من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين فائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟! أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم هذا التصديق والقبول، فما الناس إلا حمقى ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وظلال، كان الأولى بها ألا تُخْلق، هل رأيتم قط معشر الناس أن رجلاً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره؟ عجب والله!! إنّ الرجل الكاذب لا يقدر أن يبنى بيتاً من الطوب... وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً رجلاً كاذباًَ متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته أو يطمح إلى درجة مَلِك، أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرسالة التي أداها إلا حقاً صريحاً، وما كانت كلمته إلا صوتاً صادقاً صادراً من العالم المجهول؛ كلا!ّ ما محمدٌ بالكاذب ولا بالملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هو شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله...\".
ولتوماس كارلايل كلام كثير صادق في وصف النبي (ص) في بلاغه عن الله تعالى، وفي نفسه كإنسان عظيم، ورسولٍ كريم؛ إلا أن كارلايل قد خانته عبقريته فجعلته يخطئ خطأً ذريعاً يقاس حجمه بحجمه كفيلسوف عظيم، وذلك عندما حكم على كتابٍ لا يفهمه، ولا اتصال له به في لغته الأصلية - أعني القرآن الكريم - بعدم البلاغة، وبالتشويش في الفكرة والموضوع، وبالتكرار الممل، وغير ذلك مما يتنافي مع مطلق حسن الألفاظ والمعاني القرآنية؛ هذا مع أن القرآن الكريم كان هو خلق النبي (ص)، وكان هو أساس دعوته ودولته، وكان هو المنهج الذي سار عليه (ص) في حياته وألزم بالسير أمته من بعده.
ولقد خانت كارلايل عبقريته وشجاعته الأدبية مرة أخرى عندما أعلن بصراحة مكشوفة، وكأنه يعتذر إلى بني قومه بعض الإنصاف الذي أولاه محمداً (ص)، بأنه إنما صرح بقوله هذا لأنه \"لم يعد هناك خوف من أن يصير أحد من النصارى محمدياً (يعني مسلماً)\". وكلامه هذا يذكرنا مع الفارق بموقف الكنيسة من أول ترجمة للقرآن، إذ لم تسمح بنشرها خوفاً من أن تؤثر على جماهير النصرانية.
إنه على الرغم من وضوح عقيدتنا، وسمو قيمنا، وعالمية دعوتنا، وقيامها على أسس راسخة، من الإيمان بالله وبجميع الرسل والأنبياء، وبوحدة الجنس البشري، وعلى الرحمة والتواصي بالحق والخير، والعدل وبالتعاون على البر والتقوى، فإن تأثير الاستشراق والحركات التنصيرية قد وصلت سمومها وجراثيمها إلى نقطة الخطورة في جسم الأمة وعقلية بعض أبنائها سواء بطريقة مباشرة أم بطريقة غير مباشرة.
لقد أحدثت الآراء الاستشراقية بعض الخلل في بنائنا الاجتماعي، وهزةٍ في كياننا الانتمائي والتواصلي، حتى إنه ليمكن أن نرجع الكثير من أسباب الخلاف بين مثقفينا وبين بعض فئات مجتمعنا إلى هذه الأسلحة الجرثومية التي تصدر إلى بلاد المسلمين، وتصب في عقول أبنائنا هذه السموم الفتاكة الموجهة إلينا المغلفة تغليفاً جيداً، والمزودة بنشرات من المعلومات المضللة، التي قد يحملها سماسرة منا أذكياء، يروجون لها ويستميتون في الدعوة إليها والدفاع عنها.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه \"الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية\": \"المستشرقون وعلماء الغرب الذين كرسوا حياتهم على دراسة العلوم الإسلامية ويملكون إعجاب الأوساط العلمية في الشرق والغرب وإجلالها وتقديرها، ويقام لآرائهم ونظرياتهم في البحوث الإسلامية في الشرق وزن كبير، أثاروا في قلوب قادة العالم الإسلامي اليوم وزعمائه - ممن تثقفوا في مراكز الغرب الثقافية الكبرى، أو درسوا الإسلام بلغات الغرب - شبهات حول الإسلام والمصادر الإسلامية، وأحدثوا في نفوسهم يأساً من مستقبل الإسلام، ومقتاً على حاضره وسوء ظن بماضيه، كما أن لهم إسهاماً كبيراً في الحث على نعرة \"إصلاح الديانة\" و\"إصلاح القانون الإسلامي\"، والمستشرقون يركزون كل جهودهم ومساعيهم على تعرف مواضع الضعف وتمثيلها في صورة مهولة مروعة، وإنهم ينظرون إليها عن طريق الآلة المكبرة، ويعرضونها كذلك للقراء حتى يروا الذرة جبلاً، والنقطة بحراً، والفسيلة نخلة، وقد ظهرت حذاقتهم، وبأن ذكاؤهم في تشويه صورة الإسلام\".
\"وقليل من هؤلاء المستشرقين يدسون في كتاباتهم مقداراً خاصاً من \"السم\"، ويحترسون في ذلك، فلا يزيد على النسبة المميتة لديهم حتى لا يستوحش القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا يضعف ثقته بنزاهة المؤلف، إن كتابات هؤلاء أشد خطراً على القارئ من كتابات المؤلفين الذين يكاشفون بالعداء، ويشحنون كتبهم بالكذب والإفتراء، ويصعب على رجل متوسط في عقليته أن يخرج منها، أو ينتهي من قراءتها دون الخضوع لها. ولسنا الآن بصدد استعراض وإيضاح تحريفاتهم وأخطائهم الفنية ودجلهم وتلبيسهم، فإنه لا شك موضوع علمي مهم، وخدمة دينية عظيمة تحتاج إلى مجمع علمي عظيم\".
واطلعنا أيضاً على ما أثاره مستشرقون متحيرون، من أمثال شخت وبرتون حول الأحاديث، وكيف أنهم اتهموا الفقهاء بالوضع والتلفيق للأحاديث النبوية، بغية تأييد أفكارهم والانتصار لآرائهم واتجاهاتهم، وجَهِل أو تَجاهل هؤلاء المستشرقون ما أسسه المسلمون من علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم الرواية والدراية، وكذلك جهلوا الضوابط والمعايير الصارمة التي وضعها المحدّثون، وتشددوا في تطبيقها على الأحاديث بحيث ميزوا الصحيح منها، من الضعيف، والثابت عن النبي (ص) من الموضوع، مما هو مفصل في كتب مصطلح الحديث وعلومه.
ولقد حلى لبرتون ورفقائه في المهنة، أن يشككوا في روايات جمع القرآن وبخاصة ما اتصل منها بزيد بن ثابت، الذي ائتمنه الصحابة على عملية جمع القرآن، لمؤهلات توفرت له، وثقة تحققت فيه من قبل كبار الصحابة، الذين تعاقبوا على الخلافة الراشدة. يقولون إن الفقهاء قد ولَّدوا أحاديث ليؤيدوا بها مذهبهم في جمع القرآن، وصحة أقوالهم في الناسخ والمنسوخ، هذا مع أن القرآن كان مجموعاً في الصدور والسطور على عهد النبي (ص) بما لا يدع مجالاً للشك. لقد وجد المستشرقون والمنصرون مرتعاً خصباً لخيالهم، في اختلاف مصاحف الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن هذه الاختلافات يسيرة، ومرجعها كلها في الأغلب إلى رسول الله (ص)، وإلى الوحي الذي جاء به جبريل (ع). ومع هذا فقد استقر رأى الصحابة جميعاً، بما فيهم أصحاب هذه المصاحف، على المصحف الذي جُمِع بأمر عثمان (رضي الله عنه)، وفق العرضة الأخيرة للقرآن الكريم.
ولقد بقيت مصاحف الصحابة مدة طويلة بأعيانها، ثم بقيت محتوياتها في كتب القراءات، وكتب علوم القرآن وفي التفاسير، مما يكذّب دعوى الغالية والزنادقة، في أن عثمان قد أحرق المصاحف، أو أحدث أمراً في كتاب الله تعالى. لقد بنى هؤلاء النقاد أحكامهم المتعسفة على روايات ضعيفة ساقطة، وأقوال طائفية لا يقام لها وزن عند المصنفين، ولا يَعْتَد بها باحث نزيه. شكك المستشرقون في القراءات القرآنية واعتبروها أدلة على تحريف القرآن، وفي سبيل ذلك وَلَّوْا ظهورَهم للأحاديث الكثيرة، التي تقرر أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وذلك تيسيراً على الأمة، وتسهيلاً على أصحاب اللهجات المختلفة أن يحفظوا القرآن، إذ القرآن لم يكن كتاباً خاصاً بطبقة معينة، ولا لمرحلة عمرية محددة، ولم يكن مخصصاً كذلك للدراسة والبحث فحسب، وإنما كان ولا يزال كتاب دينٍ ودنيا معاً؛ يقرؤه الكبير والصغير، والأمي والتعلم، والرجل والمرأة، والبدوي والحضري، والعربي والعجمي، وهكذا؛ منذ نزوله وإلى قيام الساعة، وبعد أن استقر القرآن، وأعْرَبت عنه الأسنة بسهولة ويسر، جمع في مصحف إمام، حسب العرضة الأخيرة، والتي هي بأيدي الناس اليوم، في الشرق والغرب.
تناول المستشرقون الحروف المقطعة في القرآن، انتهوا من دراستهم لها على أنها كانت رموزاً على أسماء أصحاب المصاحف، لكنها اعتبرت بطريق الخطأ قرآناً، ثم أضيفت فيما بعد إلى المصحف، وقدموا في ذلك تبريرات غير معقولة ألبَتَّةَ؛ هذا مع العلم بأن أسماء الصحابة التي اقترحوها، لا تطابق أبداً أيَّاً من هذه الحروف المقطعة التي زعموا أنها رموزاً عليهم. وأبعد من هذه الدعوى في الإفك، ما زعمه بعض الغربيين من أن المسلمين قد أضافوا فعل الأمر \"قل\" ليوهموا أنّ المتحدث هو الله، والمتحدَّث إليه هو محمد (ص)؛ وبهذا يتوصلون إلى القول بأن القرآن كلام الله تعالى، وليس كلام محمد (ص).
درس المستشرقون أسماء القرآن ولغته ليصلوا منها إلى الطعن في أصالته، وفي إعجازه البياني كما أوضحناه فيما سبق، ودرسوا كذلك القصص، والأمثال، والأقسام في القرآن، ليعززوا نتائجهم المسبقة وأحكامهم المُعَدة سلفاً، بأن القرآن مع وضع محمد (ص)، وأنه منتحل من النصرانية واليهودية، وبعض القصص القديمة التي تلقاها محمد (ص) شفاهاً، ونسج منها هذا القرآن الذي عزاه فيما بعد إلى الله عزّوجل، وهذا إفكٌ افتروه، وأعانهم عليه عصابة من أبناء أمتنا المتحيرين، من الذين شكك بعضهم في مصادر الشعر الجاهلي، وجعل القرآن مرآةً لتنبيه محمد (ص) واعتبر أحدُهم القصصَ في القرآن فناًّ أدبياًّ كأي فن من الفنون، وأن محمداً (ص) فنان؛ والأدهى من ذلك ما نادى به أحدهم بمعاملة القرآن نقدياً كنص أدبي مثل سائر النصوص، وقبول تفكيكه وتحليله بغرض دراسته.
إن مثل هؤلاء الكُتّاب والمستغربين يعتبرون حَمَّالين لآراء الغير لا باحثين، مروجين لا مؤصلين، مستوردين لا مبتكرين؛ والعجيب أن أمثال هؤلاء الكُتّاب يعتبرون أنفسهم مجددين لا مقلدين، وتلك لعمري ثالثة الأثافي.
لقد استهوت المعايير النقدية الغربية، نقّادنا الحياري، فتلقفوها دون وعي، وراحوا يطبقونها بعَمَهٍ على القرآن الكريم، متجاهلين هُم وأئمتُهم من المستشرقين اختلاف الظروف والأحوال والاهتمامات بين القرآن ومجموع كتب العهدين القديم والجديد. ولأن هذه المعايير قد قادت أصحابَها إلى الشك في كتبهم وعقائدهم، فلابدّ أن تقود دراساتهم أيضاً إلى الشك في القرآن والسنّة.