تعتبر ظاهرة الحرمان من جملة الظواهر التي عاصرت الوجود الإنساني ، وامتدت معه على امتداد أشواطه الحضارية ، فرغم وفرة الثروات والخيرات التي لا تُحصى ، ورغم جهود المجتمعات والحضارات الإنسانية على امتداد وجودها التاريخي على الأرض ، لا يزال الملايين من الناس يموتون جوعاً ، ولا يزال الملايين من الناس لا يجدون ما يكفيهم من حاجاتهم الغذائية !
ولا نريد أن نسجل ، في هذه المقدّمة ، أسباب ذلك ؛ إنّما نريد أن نشير إلى حقيقة أساس ، هي : عجز الأنظمة السياسية عن معالجة هذه المشكلة معالجةً جذرية ، رغم ما حقّقته من إنجازات تكنولوجية وعلمية .
وفي الحقيقة ، أنّ أساليب الأنظمة السياسية الممزّقة عقّدت المشكلة ، وأضافت إليها عنصراً آخر ؛ حين أوجدت ـ بتلك الأساليب ـ فئة من أفراد المجتمع تعيش في رفاهٍ ونعيم ، وحرمت الأكثرية من أفراد المجتمع حقّها من وسائل الحياة الضرورية .
وفي ظل هذه الأجواء ، والطرق الفاشلة ، تقدّم الإسلام بأفكاره وأساليبه العلمية لمعالجة مشكلة الحرمان ، فَضَمِن حقوق الضعفاء والمحرومين ، وفرض لأجلهم الضرائب الخاصة ، وألزم الدولة بالصرف عليهم ، وتأمين حاجاتهم الضرورية ، ودفع أفراد المجتمع إلى إخراج نصيب الضعفاء من ثرواتهم بعد تحديدها ، وجعل ذلك عبادة مقدّسة . وبذلك استطاع تشخيص أصل المشكلة ووضع العلاج الحاسم لها .
صحيح أنّ التجربة الإسلامية الأولى قد شهدت بعض ألوان الفقر والحرمان ، إلاّ أنّه ينبغي الإشارة إلى أنّ ذلك الحرمان يرجع إلى ندرة الثروات في منطقة الجزيرة العربية التي شهدت التجربة الإسلامية الرائدة ولا يتّصل بالتشريعات الإسلامية بهذا الخصوص ، بل يمكن القول أنّ التشريعات الإسلامية ساهمت إلى حدٍّ كبير في تقليص آثار القحط والجدب الطبيعي ، ووضعت المجتمع على بداية طريق الثراء والرفاه ، المقترن بالإيمان .
ولم تمضِ فترة طويلة من عمر التجربة الشابة حتى وجد المجتمع الإسلامي نفسه يعيش في بحبوحة من الخيرات والنِّعم . لكن الابتعاد بعد ذلك عن المنهج السياسي الصحيح ، وما نجم عنه من اختلافات سياسية ، أدى إلى سوء التوزيع ، وحرمان الأكثرية من النِّعم والخيرات التي ظفر بها المجتمع الإسلامي .
ومهما يكن من أمرٍ ، فانّ مسئولية النظام السياسي عن النجاح في معالجة أيّة مشكلة اجتماعية ، تبدأ عندما تتوافر لذلك النظام فرصة التطبيق الكامل لأفكاره ومناهجه ومفاهيمه ، سواء التي ترتبط بتلك المشكلة ، أو التي تتّصل بسائر شئون ومشاكل المجتمع . أمّا أن نطالبه بحلول حاسمة لمشكلة اجتماعية ، ثمّ لا نسمح له بتطبيق قِيَمه وأفكاره وتشريعاته العامة المرتبطة بسائر شئون المجتمع ، والتي تتّصل بالمشكلة المذكورة ، فهذا ممّا لا ينبغي ترقّبه إطلاقاً .
وعلى هذا ، فإنّنا في هذا البحث سندرس أسباب وجذور مشكلة الحرمان .
أسباب وآثار مشكلة الفقر :
يعدّ الفقر ظاهرة من ظواهر المجتمع الإنساني ، تتّصل مباشرة بنوعية العلاقات الاجتماعية السائدة ، وبطبيعة الأفكار الرائجة في المجتمع . فالطبيعة ـ في ضوء المفهوم الإسلامي ـ زاخرة بأنواع الخيرات والنعم ، ولو استطاع الإنسان أن يستثمرها لزال الفقر عن الساحة الاجتماعية تماماً ، فقد خلقها الله لتفي بجميع حاجات الإنسان والمجتمع ، إلاّ أنّ جهل الإنسان بحقائق الطبيعة ، وطريق استغلالها ، أو تفشّي الظلم الاجتماعي ، أدّى إلى الحرمان والفقر . وعلى هذا الأساس ، يتّضح خطأ بعض التحليلات المادية التي نظرت إلى جانب من جوانب المشكلة ، وهي صلة الطبيعة بالحرمان ولم تلاحظ صلة السلوك الإنساني ومعاييره العامة بتلك المشكلة .
صحيح أنّ للثروات الطبيعية ، والموقع الجغرافي ، دوراً أساساً في تحديد ثروة المجتمع ، إلاّ أنّه ثمّة حقيقة أساس يحرص بعض الاتجاهات الفكرية المادّية على إخفائها ، وهي أنّ الطبيعة زاخرة بالثروات اللازمة لسدّ حاجات الإنسان وإشباع رغباته ، إلاّ أنّ تلك الاتجاهات غالباً ما ترى أنّ السبب الحاكم في تصنيف المجتمعات إلى غنية وفقيرة ، يتّصل بالموقع الجغرافي ، وحجم الثروات التي تتمتع بها تلك المجتمعات وتنفي صلة العلاقات الاجتماعية ، ونوعية الأفكار السائدة في المجتمع بمسألتي الفقر والغنى .
وإذا كان الفقر ظاهرة منشؤها عوامل طبيعية وأخرى بشرية ، فإنّه لا بد من التفتيش عن العوامل البشرية منها وتحديدها من أجل علاج هذه الظاهرة الخطيرة في حياة المجتمعات الإنسانية .
ويمكن تسجيل أسباب الفقر ضمن العناوين التالية :
أوّلاً : العقيدة الفاسدة .
ثانياً : الجهل بقوى الطبيعة وثرواتها .
ثالثاً : الظلم الاجتماعي .
رابعاً : القصور الشخصي .
خامساً : النهب الاستعماري المباشر وغير المباشر .
وندرس هذه العوامل هنا بشيء من التفصيل :
أوّلاً ـ العقيدة الفاسدة :
إنّ الاعتقادات الباطلة ، ولا سيّما إذا بلغت مستوى الكفر بالله سبحانه ، فإنّها تؤدّي إلى ممارسة سلوك منحرف يساهم في بروز ظاهرة الفقر بين فئات المجتمع ، ويمكن استعراض صلة العقيدة بالفقر في عدّة محاور:
المحور الأوّل : أنّ الكفر بالله معناه نكران الحقّ المطلق ، ممّا يؤدي إلى عدم التعامل مع الحقائق الموضوعية تعاملاً واقعياً تقتضيه تلك الحقائق ، فالمنهج المادي القائم على أساس الكفر بالله يقع في أخطاء جسيمة في سائر مفرداته ونتائجه ، بنسبة حجم الجوانب غير المشاهدة في الظاهرة الوجودية ، أو القيمة الخلقية كقضية العدل في توزيع الثروة .
ثمّ إنّ الكفر بالحقيقة المطلقة يترتب عليه فهم مغلوط للحقائق الطبيعية ، والكونية الأمر الذي يؤدّي إلى انعكاس نتائج هذا الجهل على معيشة الإنسان نفسه .
المحور الثاني : إنّ الكفر بالله موجب لاستحقاق العقاب الأخروي ، وفي بعض الأحيان يكون العقاب دنيوياً من قبيل حرمان الإنسان من الخيرات . كما يحكي لنا القرآن الكريم ذلك في قصّة صاحب الجنّة : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراًً ) . [ الكهف : 32 - 42 ] .
فنوع العقاب في هذه القصّة هو إتلاف الزرع ، وقد يكون نوع العقاب إهلاك الإنسان نفسه ، وإتلاف ثرواته كما يحكي لنا القرآن ذلك في قصّة قارون .
وفي ضوء هذه النصوص ، تتّضح صلة الكفر بالحرمان والفقر حيث يتدخّل الله سبحانه وتعالى بشكل مباشر في حرمان الإنسان الكافر من خيرات الأرض أو السماء .
فهناك صلة بين العقيدة الفاسدة ، والفقر كظاهرة اجتماعية . وثمة صلة بين العقيدة الصحيحة ـ الإيمان ـ وبين الرفاه كظاهرة اجتماعية أيضا . وهذه الصلة ـ الأخيرة ـ تنشأ بتدخل مباشر من قبل الله سبحانه من خلال زيادة النعم ، كما قال تعالى: ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) [ إبراهيم : 7 ] .
أو من خلال الاستثمار الصحيح والسليم لخيرات الأرض خلال ما يؤدّيه الإيمان من توازن روحي وفكري وسلوكي في حياة الفرد والجماعة .
ثانياً ـ الجهل بقوى الطبيعة وطرق استغلالها :
جهل الإنسان بقوى الطبيعة وفقدانه الخبرة اللازمة لاستثمارها سببٌ آخر من أسباب الفقر ، ويمكن بحث هذا العامل ضمن محورين :
1 ـ الجهل بقوى الطبيعة : فالإنسان بوصفه كائناً حياً يعيش على هذه الأرض ، يتحتّم عليه أن يمارس حياته المادية ويطوّرها وفقاً لحجم إدراكه لقوى الطبيعة وطرق الاستفادة منها . وعلى هذا الأساس يمكن ربط تطوّر ثروة المجتمع تاريخياً بمقدار اتصال الإنسان بقوى الطبيعة في عملية اكتشاف ومعرفة كنوزها وتسخيرها . فكلّما تعمقت ونضجت حركة الاكتشاف والمعرفة وما يتبعها من عمليات استغلال ، تعدّدت وسائل إشباع حاجات الإنسان ورفاهيته . وكلّما انصرف عن معرفة قوى الطبيعة وثرواتها ، تقلّصت وسائل إشباع حاجاته ، وضاقت مساحة الرفاه .
وفي الواقع لا تزال مجالات واسعة من ثروات الطبيعة وقواها مجهولة بسبب النزاعات السياسية والفكرية ، وما يتبعها من ظواهر اجتماعية شاذة ومعقّدة ، تحول دون التوجّه الكامل لمعرفة واستثمار قوى الطبيعة وثرواتها . ومن الواضح أنّ الجهل بقوى الطبيعة ، ودورها في إشباع حاجات الإنسان ، يؤدّي إلى توسيع دائرة الحرمان والفقر ، حيث تستطيع فئة قليلة توظيف مدّخرات الطبيعة لحسابها القومي أو الشخصي ، لمعرفتها طرق استثمارها ، في حين تعيش أغلب فئات المجتمع وهي محرومة من فرص الانتفاع بثرواتها .
2 ـ تخلّف وسائل استغلال الثروات الطبيعية : وثمّة عنصر آخر يساهم في ضعف عملية توظيف الطبيعة في إشباع حاجات الإنسان ، وهو تخلّف التقنية والقدرات الفنية لاستثمار الطبيعة .
فقد يكون المجتمع غنياً بموارده وإمكاناته ، إلاّ أنّه يجهل طرق استثمار تلك الموارد ، ولذا فإنّ عنصر ضعف القدرات الفنية ، وعدم امتلاك التقنية اللازمة يدخل في مركب الحرمان بوصفه عاملاً أساساً من عوامل الفقر .
ثالثاً ـ الظلم الاجتماعي :
الظلم الاجتماعي الذي يمارسه بعض الأفراد تجاه بعض آخر ، يشكل ـ هو الآخر ـ عاملاً أساساً لظهور مشكلة الفقر . وللظلم الاجتماعي اتّجاهات عديدة تتغيّر تبعاً للظروف الاجتماعية ، وتبعاً للحالة التي يعيشها الفرد ، والمجتمع ، والسلطة .
وفيما يلي نسجل أهم اتّجاهات الظلم الاجتماعي :
1 ـ صياغة المجتمع على أسس جاهلية ( طبقية ، فكرية منحرفة ، عنصرية ) ، حيث يتمتّع ـ في ضوء هذه الصيغة ـ حفنة محدودة بكلّ فرص الثراء ، في حين تعيش الغالبية من الناس محرومة من أبسط حقوقها الأساس . وفي الواقع أنّ صوراً عديدة من حالات الفقر ، تستند إلى هذا العامل ، فالكثير من الناس هم فقراء لأنّهم ينتمون إلى قبيلة ، أو طبقة ، أو فئة معينة من الناس !! كما أنّ بعض الناس صار غنيّاً لأنّه ينحدر من طبقة ، أو قبيلة أو فئة معيّنة !! وهكذا يتّضح أن تشكيل فئات المجتمع على وفق تلك الموازين يساهم إلى حدّ كبير في نشوء ظاهرة الفقر .
2 ـ وهناك لون آخر من ألوان الظلم الاجتماعي الذي يسبب نشوء ظاهرة الفقر ، وهو الظلم المتّصل بالعلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع ، ففي غالب الأحيان يتّجه أفراد المجتمع إلى ترتيب معاملاتهم ، وتجاراتهم ومكاسبهم على أسس غير عادلة . حيث يتّجه بعض أفراد المجتمع إلى رفع أسعار السلع بشكلٍ كبيرٍ ، أو إلى احتكارها ، أو استيفاء المنافع والخدمات بأجور زهيدة أقلّ من قيمتها بلحاظ منظومة الأسعار الرائجة ، أو بلحاظ نوع العمل المبذول ، وفي أحيان أخرى يمارس بعضهم التطفيف في الميزان . . وإلى ما هنالك من صور وحالات اقتصادية غير عادلة تؤدّي إلى سحب أموال الناس بالباطل ، واستغلال طاقات الناس بدون مقابل . وجميع هذه الحالات يؤدّي إلى ظاهرة الفقر ؛ وذلك لأنّها لا تظل محصورة ضمن علاقات فردية ، بل تمتد في عمق العلاقات الاقتصادية وتتحوّل إلى ظاهرة عامة ، وحيث إنّ أسعار الخدمات وأجور الأعمال مترابطة ، فإنّ ذلك التضخّم في أسعار السلع والتلاعب بالميزان ، أو حالات الغش الأخرى سوف تؤثّر مباشرة في دخل أفراد المجتمع بصورة حادة ، من خلال انخفاض القوة الشرائية لفئات المجتمع ، فتنمو بذلك ظاهرة الفقر وتتزايد مع استمرار تلك الممارسات .
والذي يعقّد المشكلة أنّ هذه الحالات والممارسات يصعب السيطرة عليها أو منعها ، وذلك إمّا لضعف السلطة عن الوصول إلى تلك الممارسات وضبطها ؛ لأنّها عادة تجري بصورة فردية لا يمكن السيطرة عليها إلاّ في إطار ممارسات حكومية خاصة ، أو لأنّ النظام الاقتصادي قائم على ذلك اللون من الممارسات بحيث يكون السلطان الحقيقي لقوانين العرض والطلب ومن ورائه شهوة حبّ المال ، والاختلاس ، كما هو الحال في الأسواق الحرّة في ظل الأنظمة الرأسمالية .
وفي ظلّ هذه الممارسات يتّجه تركيب الفئات الاجتماعية بحسب وضعها المالي ، اتّجاهاً تستحوذ فيه فئة خاصة من الناس على المزيد من الأرباح والفوائد . بينما تتّجه الفئات المتوسطة نحو الأسفل ، والفئات الفقيرة نحو المزيد من الحرمان .
فعلى الرغم من وفرة نعم الله التي تسع الجميع إلاّ أنّ نوعية العلاقات الاقتصادية الظالمة بين الناس أدّت إلى تكديس الثروة بيد فئة محدودة من الناس وإلى حرمان غالبية أفراد المجتمع من حقوقهم في الحياة المطمئنة .
رابعاً ـ القصور الشخصي :
وهذا منشأ آخر من مناشئ الفقر ، وهو يرجع إلى شخصية الإنسان نفسه ، إذ قد يولد إنسان ويحمل معه عاهة معينة كفقد البصر مثلاً ، فلا يستطيع أن يمارس حياته العملية والإنتاجية كبقية أفراد المجتمع ، إذ لا يتمكّن من تأمين وسائل احتياجاته الأساس من خلال العمل ، فيكون فقيراً .
وثمّة أفراد آخرون ، مستوى قدراتهم الفكرية ومواهبهم العملية أو قدرتهم الإنتاجية أضعف من غيرهم لأسباب فسيولوجية أو سيكولوجية ، فلا تستطيع هذه الفئة أن تعيش بمستوى الفئات الاجتماعية التي تملك قدراً متوسطاً من الذكاء والمرونة في العمل ، لتستطيع من خلاله تأمين حاجاتها الضرورية .
وفي الحقيقة ، إنّ هؤلاء الأفراد الذين يستند فقرهم إلى قصورهم الذاتي يشكّلون طبقة المساكين الأشدّ محرومية من بقية الفئات الفقيرة وذلك لأنّ هذه الفئة من الناس لا يتاح لها المشاركة في العملية الإنتاجية ، وبالتالي سيكونون خارج دائرة توزيع الثروة على أساس العمل .
خامساً ـ النهب الاستكباري :
وهذا النهب مارسته الدول الاستكبارية ضمن أسلوبين :
الأوّل : وهو يمثّل أحد أسباب الحرمان العام الذي تعيشه الأمم والشعوب في العالم الثالث ، حيث إنّ الوجود الاستعماري لدول المنظومة الغربية في بداية هذا القرن ، والوجود الأمريكي الاستعماري الراهن يهدف بالدرجة الأولى إلى نهب خيرات وثروات شعوب المنطقة وحرمانها منها ، وبهذا النهب ظهرت في المجتمع الدولي فئتان من الشعوب :
فئة قليلة ، وهي شعوب أوروبا الغربية وأمريكا وبعض الدول الأخرى ، حيث تعيش في بذخ ورخاء . وفئة كثيرة ، وهي شعوب آسيا وأفريقيا وبعض دول مناطق أمريكا الجنوبية ، وتعيش هذه الشعوب الحرمان والجوع ، وهذا التقسيم الاستعماري للشعوب إنّما نشأ تبعاً للنهب المنظّم والشامل ، الذي قامت به الدول الاستعمارية ، وتقوم به أمريكا وغيرها من دول أوروبا في الوقت الراهن ، بصورة أخرى تختلف عن صورة النهب الجشع السابق ، الذي عرفته الشعوب الفقير في مطلع هذا القرن وإلى نهاية نصفه الأوّل .
والثاني : هو أسلوب النهب تحت عناوين وصيغ مختلفة ، من قبيل القروض والمعاهدات الدولية ، وكذلك السيطرة على منابع الثروات الاستراتيجية عن طريق الشركات والخبراء .