العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة ـ في الواقع الحياتي ـ ضرورة يقتضيها وجود الإنسان واستمرارية بقائه على هذه الأرض، إذ لولا تلك العلاقة التي تضمن التوالد المحقّق لامتداد الوجود، لانعدم هذا الوجود في مراحله الأولى .. بل نلاحظ أن كل وجودات الحياة المادية قائمة على أساس نظام الزوجية سواءً بالنسبة للإنسان أو الحيوان أو النبات ، بل كل الموجودات حتى الذّرة منها.
وهذا القانون هو ما يعبّر عنه القرآن الكريم في العديد من آياته: ( وَمِن كُلّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ) الذاريات / 49.
(... وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ...) الرعد / 3.
( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ...) المؤمنون/ 27.
لابد لهذه العلاقة ـ فيما يختص بالإنسان ـ من تشريعٍ ينظّم هذا الوجود ، ويضبط الروابط الممتدة بين طرفيه ، ويشدّها ليجعلها تعيش حالة الاستقرار والتناسب ، فتتحول هذه الحياة إلى واحة محبة وانسجام وسلام .
لذلك اهتم الإسلام ـ بل كل تشريعات السماء بتشريع الضوابط التي تحكم هذا الواقع ـ فشرَّع تفصيلات العلاقة ورسم الحدود التي تحفظ التوازنات ، لتكون في المستوى السليم المطلوب ، وتحقق الجو الأصفى لها .
( هُوَ الّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ...) الأعراف / 189.
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدّةً وَرَحْمَةً ...) الروم / 21، أي يحقق الراحة والطمأنينة والاستقرار . من خلال مسألة الحب والمودة التي أقامها بينهما.. وهو الهدف الذي يتوخّاه الإنسان من خلال الرباط الزوجي الذي يعتبر أهم مكوّنات السعادة الحياتية لهذا الإنسان .
إذاً، فهذه العلاقة تمثّل مؤسسة وشركة تقوم بين طرفين ، تفرض الضرورة تشريع نظمها، ورسم خطوطها، وتحديد مسؤوليات كل طرف فيها كي لا يختلط الواقع فتسود شرعه الفوضى العاملة في التفكك والضياع .
ومن الطبيعي أنه لابد لكل شركة تقوم ـ بين طرفين أو أطراف ـ ولكل مؤسسة مهما كان حجمها وشكلها من مسؤول يتحمل مسؤولية الإدارة والتنظيم والمراقبة من أجل أن تؤدي مهمتها .. وتحقق إنتاجها المرتجى.
ولا تشذ مؤسسة العلاقة الزوجية عن هذه القاعدة ، فهي تبدأ بين طرفين ، وقد تمتد من خلال وجودات أخرى، قد تكبر قليلاً أو كثيراً، فلابد من سريان هذا القانون (قانون توحيد القيادة كما في كل عمل) ، وحتى لو كان اثنان في مهمة فليكن أحدهما أميراً ، كما ورد في مضمون بعض الأحاديث منعاً لنزاع الأطراف ولتحقق المؤسسة أهدافها بإيجاد الكيان العائلي الأفضل.
فلابدّ ـ إذاً ـ من تحديد مسؤول الإدارة الذي يناط به تنظيم الواقع وما تقتضيه طبيعة المؤسسة.
مبررات التحديد:
ولعل السر في فرض المسؤول وتحديده هو الحاجة ـ من خلال ما تمليه الظروف والضرورات ـ إلى اتخاذ قرارات حول تلك المهمات، سيما حين تتباين الاجتهادات في تحديد القرار الأفضل، لأن تعدد المسؤول عن صنع القرار قد يفرض التضارب والتباين العامل في إيجاد حالة الضياع والارتباك في مجال العمل، والقرآن يعلن ذلك حين يشير إلى أصل الوجود ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلّا اللّهُ لَفَسَدَتَا ...) الأنبياء / 22.
فلابدّ من اعتماد مقرّر، ولابدّ من أن يكون هو الأفضل كي لا يتم الترجيح بدون مرجح.
فرغم أن الواقع العملي داخل الإطار الزوجي يمثل حالة تقاسم أدوار بين الطرفين ـ يتلبس كل منهما الدور الذي يتناسب مع واقعه وتركيبته النفسية وطاقاته وقدراته المتوفرة له ـ إلاّ أنه لابدّ من قيادة توجّه الأدوار، وتحدد المسؤوليات داخلاً وخارجاً، مما يُلزم بدراسة واقع كل منهما لتحديد الطاقات من أجل تحديد الأصلح لدور القيادة .
لماذا الرجل؟
حين المقايسة بين العمودين ـ الذين يقوم عليهما العشّ الزوجي ـ نرى أن صالحه يفرض إلزام الرجل بالمسؤولية الإدارية حين دوران الأمر بينه وبين المرأة ، لكونه الأقوى حسب طبيعة تكوينه، والأقدر على اتخاذ القرار الملائم، ولأنه الذي يعتمد عليه تمويل الشركة دون سواه في الحالات الطبيعية.. فهو بحسب تكوينه أكثر قوة وبأساً وطاقة في مواجهة شدائد المهمات والأعمال، كما أن وظيفته الحياتية تلزمه بالتعايش مع الطبيعة والمجتمع أكثر أوقاته، فيتعرّف المداخل والمخارج، مما يفرض نمواً جسدياً وفكرياً يطرح من خلال هذا النمو العواطف والانفعالات جانباً، أو يتجاوزها مهما تصاعدت ، مما يجعله الأقدر على القوامة، مادياً ومعنوياً، ومن هنا فُضِِّل في الميراث لأنه الذي تقع عليه تبعات المهر والنفقة ، ـ مهما تضاءلت قدراته ـ دون المرأة ـ مهما تصاعدت إمكاناتها ـ. وفُضِّل في غنيمة دار الحرب لتفرّغه للجهاد ، ومشاركته فيه رغم شدة خطره , فأدواره الحياتية ومهماته المفروضة، تستدعي نموّ طاقة العقل والتفكير والتدبّر لديه، أكثر من طاقة العاطفة وذلك ناتج عما تفرضه قسوة الأجواء العملية التي يواجهها، مما يفرض جانبية الواقع العاطفي في حياته، إذ إن واقع العمل والمواجهة يفرض عدم الوقوع تحت تأثير إيحاءات العاطفة، التي قد تسلبه قوة الموقف، والقدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
دون المرأة؟
وهذا يختلف كثيراً عن دور المرأة ومهماتها , فمهمة الإنجاب والحضانة تفرض توفّر قوة الجانب العاطفي لديها على غيره من الطاقات ، لأن مهماتها في إطار الحمل والولادة والإرضاع ، واحتضان الأبناء ورعايتهم، ـ فضلاً عن رعاية الجانب الشعوري لدى الزوج ـ تستدعي إحاطة كل ذلك برقة الإحساس، وقوة العاطفة، واتساع حقلها في تكوينها النفسي ، كي تؤدي مهمتها الطبيعية أفضل أداء .
مضافاً إلى أن حاجتها لفترات الحمل والإرضاع الطويلة، تحجبها نسبياً عن الواقع الاجتماعي وبعض تفصيلاته، مما يفرض قوة الانفعالات العاطفية لديها ، التي تحتاجها لإصلاح أدائها لوظيفتها الطبيعية المقرّرة.
لكل قاعدة شواذ:
وليس معنى هذا انعدام الجو العاطفي لدى الرجل، والعقلي المفكر لدى المرأة، بل معناه كون الأقوى لدى كل منهما، هو ما يتناسب مع مهمته ودوره الذي أعدّ له في الحياة.
كما أنه ليس معناه ، اطّراد هذا المقياس في كل أفراد النوع، بل هو تحقق ذلك في أغلب أفراده، وبذلك تسقط بعض المقولات والمناقشات، بأننا نلحظ نمو الدور العاطفي بشكل كبير لدى بعض الرجال بالنحو الذي يتجاوز واقعه عند المرأة، فيكون أكثر رقةً ولطفاً منها، أو نلحظ قوة العقل المفكر والتدبير لدى بعض النساء، بالنحو الذي تتجاوز فيه الكثير من الرجال، فتكون أعمق في فكرها ووعيها وتعقّلها للأمور، أو أقوى جسدياً، لكن ذلك لا ينفي فكرة تقديم الرجل، لأن المشرّع حين التشريع، يلاحظ الإطار العام، دون النظر إلى بعض المخالفات الشاذة، فإن لكل قاعدة شواذاً، فالمرأة إذاً حسب تركيبتها النفسية تمثل الرقة والعاطفة ورهافة الحس، بينما يبتني وجود الرجل في الغالب على قوة العقل والجسد، وصلابة المواقف مما يجعله أقوى أمام تحديات الحياة، ويؤهّله المهمة القيادة، ومسؤولية الإدارة.
وانطلاقاً من هذا نلاحظ أن التشريع الإسلامي، نظر إلى هذا الواقع في حكمه ( الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) النساء / 34 .
فأعطى الرجل حق القوامة والولاية، وأراد من المرأة ـ الطرف الثاني في الشركة ـ الالتزام بتلك الإدارة ومنهجيتها.. وانضباطها أمام قرار الإدارة التي تفرضها المصلحة الموضوعية لكلا الجانبين.
هل القوامة تحكّم سلطوي؟
وهنا نقف أمام مفهوم القوامة الذي يطرحه القرآن ليمكن تحديد الدور المطلوب من كل من الراعي والرعية.
ففي لسان العرب : ج12 ص142 - ( قيِّم المرأة زوجها، لأنه الذي يقوم بأمرها وما تحتاج إليه.. إلى أن يقول: وفي التنزيل العزيز ( الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ ) .. إنما هو من قولهم: قمت بأمرك فكان ـ والله اعلم ـ الرجال متكفّلين بأمور النساء، معنيين بشؤونهن).
فالقوامة إذاً تمثّل تحمّل مسؤولية الإنفاق على المرأة، وتكفُّل ما تحتاج إليه من ضروريات المعاش وكمالياته المتعارفة لمثلها، ورعاية واقع المتطلبات الزوجية في ما يتعلق بخصوصياتها التي لابدّ لها من الالتزام بحدودها الطبيعية ، بدون تجاوز إطارها الخاص ، ويدخل ضمن ذلك التزام البيت الزوجي ، وتعريض البيت لتعديات الآخرين ، أما في ما عدا ذلك ، فهو مما لا تفرضه الآية، (كما في مثل خدمات المهمات المنزلية، في الداخل فضلاً عن الخارج) وذلك هو ما تسالم عليه علماء المسلمين كحكم تشريعي ، من هنا لا مجال لاعتبار أن معنى القوامة هو سلب إرادة الزوجة ، وقهرها أمام القيم عليها ، بل الملحوظ أن الإسلام أعطاها حريتها في تحقيق ما تريد وتحب ، مما لا يتنافى مع الحق الزوجي الخاص، فمثلاً ليس له أن يفرض عليها ترك تناول أقراص منع الحمل إذا شاءت ذلك ، كما لا حق له بمنعها عن ارتداء الملابس التي تريد، إن لم تتنافَ مع الحد الشرعي المفروض، أو منعها من التعلّم والتعليم والاكتساب والتمريض والعلاج، وممارسة الهوايات المشروعة، مع عدم المنافاة المذكورة.
استيحاء مرفوض:
قد يحاول البعض أن يستوحي من النص القرآني: (... وَاللّاتِيْ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغَوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) النساء / 34 ـ الذي يظهر منه إباحة التعامل مع المرأة في حالة التمرّد والنشوز بالضرب، حين لا يؤدي البيان الواعظ أولاً، والهجران في المضجع ثانياً إلى التزامها بمفروضات الواقع الزوجي ـ أو يستوحي من النص المصرِّح بالقيمومة إطلاق يد الزوج في ضرب الزوجة، والإساءة إليها، وإهانتها، والاستهانة بها أمام كل حالة مخالفة له في أي أمر، أو حين تمسّ بعض مشاعره، أو تخالف شيئاً من مفروضاته، كما هي أساليب الكثير من الأزواج في تعاملهم مع زوجاتهم، حتى أصبح هذا المفهوم من المسلّمات التي لا تقبل الجدل والمناقشة في الكثير من مجتمعات المسلمين، بل تم تطبيع المرأة نفسها على التسليم بهذا المفهوم، فحين يصل الزوج من عمله ولا يجد طعامه حاضراً، وخدماته مهيأة، ومتطلباته ملبّاة، فإنه يرى أن له الحق في صبِّ جام غضبه على هذه الزوجة لتقصيرها فيما يجب، بل قد يعتبر ذلك مبرراً وجيهاً ومشروعاً ومقبولاً للتهديد بالطلاق والطرد وأمثال ذلك من وسائل الإيذاء!
واستيحاء منطقي سليم:
لكن ما يفهمه ويستوحيه الناظر المتأمّل هو أن الآية تختص بحالة إقدام الزوجة على تحدي واقع العلاقة الزوجية الخاصة، دون أي عذر.. وهذا التحدي يمثّل أهم أسباب تهديم البيت الزوجي، وتمزيق إطاره، وإزالة عامل الثقة بين طرفي العقد، وهو ما يحاول القرآن تفادي الوصول إلى مرحلته باستعمال أسلوب التوجيه والإرشاد الواعظ من خلال الكلمة الواعية بدون قسوة، وحين ترفض التجاوب بإبداء الاستهتار العملي بالموعظة، تنتقل المرحلة لأسلوب الشدّة المعنوية المتمثّل بهجران المضجع دون السماح بالتعامل مع الضرب إلاّ حين يستمر الاستهتار ويصل الأمر إلى درجة الإصرار على التمرّد والنشوز، فمن أجل حفظ البيت الزوجي واستمراره، يسمح التشريع باللجوء إلى الضرب غير القاسي، وغير المؤدّي إلى الجرح والكسر أو الإيذاء القريب من هذا المستوى، إلى أن يتمّ التراجع عن الخطأ الحاصل، وإعادة الأمور إلى طبيعتها داخل العشّ الزوجي.
إذاً فالسماح باستخدام هذا الأسلوب ينحصر بهذا العامل وضمن شروط خاصة دون غيره من العوامل التي يحّرمها التشريع ويمنعها بشدة، فليس للزوج أن يفرض ما يريد ويشتهي، ليتحوّل في أسلوبه التعاملي معها إلى الواقع الاستعبادي بفرض كل ما لا يكون من حقه.
نظرة تشريعية مثالية:
من هنا ورد في المرويات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ما يعطي هذا الإيحاء، حيث شدّدت الروايات على ضرورة التحبّب للمرأة الزوجة ، ومبادرة الزوج لها بحسن الخلق والمعاملة . فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في العديد من الأخبار:
(( خياركم خياركم لأهله )) .
كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (( ما زال جبرائيل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلا من فاحشة مبينة )) .
وكما جاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (( قول الرجل للمرأة إني احبك لا يذهب من قلبها أبدا )).
وجاء عن علي بن الحسين (عليهما السلام) في رسالة الحقوق: (( وأما حق الزوجة.. فأن تعلم أنّ الله عز وجلّ جعلها لك سكناً وأنساً .. فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك فتكرمها وترفق بها )).
كما تحدثت الروايات عن الحثّ على تعاون الرجل معها في الخدمات المنزلية، حيث ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (( لا يخدم العيال إلاّ صدّيق ، أو شهيد ، أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة ))، وقد مارست الرموز الأولى في الإسلام ذلك المنهج عملياً، فسيرة علي والزهراء (عليهما السلام) تحدثنا عن تقاسمهما الخدمات المنزلية، وتحدثنا عن ضرورة التوسعة على العيال.
كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إن المؤمن يأخذ بأدب الله، إذا وسَّع عليه اتسع )) .
وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (( من دخل السوق فاشترى تحفةً فحملها إلى عياله .. كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج )).
وعن زين العابدين (عليه السلام): (( إن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله )).
وتتطرق الأخبار أيضاً .. إلى التنديد بإيذائها بل تحريمه كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إن الله ورسوله بريئان ممن أضرَّ بامرأته حتى تختلع منه )).
وكما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إني لأعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها...))
وفي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( لا يكن أهلك أشقى الخلق بك...)).
التعامل بالمعروف.. منهج المؤمنين:
فمن خلال هذه الروايات والكثير الكثير من أمثالها الواردة عن مبلّغ الشريعة الأول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام) نلاحظ شدة تركيز الإسلام على احترام المرأة والرفق بها، وحسن معاشرتها، فكما يطلب منها تقديم ذلك لزوجها، فإنه يطلب منه ذلك إذ هي مثله في هذا المجال وإن كان يتقدمها بدرجة واحدة هي درجة القوامة والمسؤولية، كما تحدث القرآن: (... وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ ...) البقرة / 228، مما يوحي باستحقاقها ذلك الرفق، وتحريم القسوة عليها في التعامل فضلاً عن الضرب والإيذاء، فإنسانيتها مصانة، لابدّ أن تُعامل من خلالها، كشريك في دور البناء المتين للبيت العائلي، بكل تفرّعاته، وقد شدّد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يروى عنه على التنديد بضربها باليد التي يعانقها بها الزوج.
لقد نهى الإسلام في تعليماته عن الإساءة إليها من خلال ضربها، وشتمها، وإهانتها، والإعراض عنها، حين لا يكون هناك موجب مشروع لذلك، من أمر بمعروف واجب أو نهي عن منكر محرّم، ومن تحديها لمهمات العلاقة الزوجية الخاصة، وجعل الإساءة إليها ظلماً مرفوض الحدوث، بل جعله مبرراً مشروعاً لهربها من البيت الزوجي، حين يكون ضرورياً أو حرجياً شديداً غير مقبول عرفاً، ولا تعتبر ناشزاً بذلك، بل تبقى على استحقاقها للنفقة مع هذا الخروج، فالإسلام أعطى كل إنسانٍ حقاً في الدفاع عن النفس لرفع الظلم، شرط أن يكون ظلماً وتجاوزاً كبيراً للحدود التي رسمها التشريع.
على من تقع المسؤولية الشرعية في جانب الخدمات ؟
قد نتصور لزوم أداء المرأة ـ الزوجة ـ لمسؤوليات الخدمات المنزلية المطلوبة، لكن التفاتة إلى التشريع الرسالي ، توضح نفي صفة الإلزام في هذا المجال ـ إذا لم يشترط عليها الزوج ضمن عقد الزواج تحمّلها لهذه المسؤوليات ـ بل أراد لها الإسلام أن تؤدّيها من خلال مبادرتها الطوعية تتعاون وزوجها بطيب الخاطر في ذلك ، ليشعر بتضحياتها ومعروفها، فيبادلها بمعروف مقابل وتضحية مماثلة، ويردّ التحية بأحسن منها أو مثلها، لتتحول حياتهما إلى واحة طيب وسعادة، وحب وانسجام يستريح فيها كل منهما إلى صاحبه وعطفه وحنانه ليعطي العطاء الكبير، حين يقدم الأبناء المحرّرين من كل إشكالات العقد النفسية، ونقاط الضعف التي تحوّل البيت إلى بؤرةٍ للمشاكل، وتقدم نماذج مشوّهة للمجتمع.
إذاً الإسلام لم يلزمها القيام بخدمات البيت وأعماله سوى ما يتعلّق بنفسها.
أما ما يتعلّق بالزوج والأبناء ـ حتى مثل مهمة الإرضاع ـ فإن الإسلام جعل أمر تدبيرها ومهمتها من مسؤوليات الرجل، وذلك هو من ثمن القيمومة المجعولة له , أما ما تعارفنا عليه من اعتبار ذلك من مسؤولياتها (نظير التنظيفات، وتهيئة الملابس والمأكل والمشرب، والترتيبات المنزلية، ورعاية مشاعر الزوج والأبناء) فليست بأمور مفروضة عليها كي تستحق الضرب والتوبيخ والشتم والاهانة حين تقصّر في القيام بها. وإن كنا نرى ضرورة حرص المرأة نفسها على أداء هذه الأدوار، بل عدم السماح بمنعها عنها.
نماذج مثالية:
ومن الطريف أن بعض المتشرّعة وذوي الاحتياط في دينهم من العلماء أو المؤمنين ـ انطلاقاً من خشية تبرّم الزوجة من بعض طلباته منها في مجال الخدمات، مما يحوله إلى مشروع وجودٍ ظالم ـ حاول حلّ هذا الإشكال بالقيام بعملية عقد استئجار معها للقيام بالأدوار العملية الطبيعية المألوفة في المنزل، مقابل أجرةٍ رمزية، أو متعارفة كي لا يحسب في عداد الظالمين.
إن رعاية كرامة المرأة الزوجة، وحسن التعامل معها، يحمل في داخله إيجابيات كبيرة تنعكس إيجاباً على كل واقع البيت، وراحة أفراده، وعلى تربية الجيل الناشئ داخله، ليتحول المجتمع في ذلك إلى مجتمع سليم ، منسجم، متوازن، يحمل أجواء الحب والسعادة والطمأنينة والسلام.
وانطلاقاً من ذلك حثّ الإسلام المرأة على التبرّع بخدماتها وتعاونها، فقد ورد أن: (( جهاد المرأة حسن التبعُّل )) .
وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (( من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ، ولا حسنة من عملها ، حتى تعينه وترضيه ، وإن صامت الدهر ، وعلى الرجل مثل ذلك الوزر إن كان لها مؤذياً وظالماً )).
وورد: (( أي امرأة خدمت زوجها سبعة أيام أغلق الله عنها سبعة أبواب النار ، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أيها شاءت )) .
لقد خطط الإسلام وعمل من أجل حفظ واقع التعامل في البيت الزوجي بالنحو الذي يعطي الموقع قوةً وحركية وسلاماً ، فلا يعيش أي طرف فيه مشاعر الذل والقهر والعبودية، بل يحمل في داخله شعار المحبة العاملة في إيجاد واقع الطمأنينة والاستقرار.
ولنا عودة مع سلبيات العنف حين تتحرك في المجال التربوي .
المراجع والمصادر
ـــــــــــــــــ
(1) البحار/ ج79/ ص268.
(2) البحار/ ج103/ ص254.
(3) وسائل الشيعة/ ج14/ ص10.
(4) البحار/ ج74 / ص5.
(5) البحار / ج10 / ص132.
(6) البحار/ ج77 / ص157.
(7) البحار/ ج 104/ ص69.
(8) البحار / ج78 / ص136.
(9) البحار / ج76 / ص366.
(10) البحار / ج103 / ص349.
(11) البحار / ج77 / ص229.
(12) البحار / ج14 / ص116.
(13) المصدر نفسه.